لما كانت شريعة الإسلام هي الشريعة الخاتمة، كانت الشريعة الكاملة أيضاً أي التي تكفل حياة الإنسان الفردية والاجتماعية.ولذا فان الإسلام كما اشتمل على الأحكام التي تكفل بناء الحياة الفردية للإنسان بما يضمن له مصالحه اشتمل على الأحكام التي تكفل بناء المجتمع الصالح وقوام هذا وجود قائد لهذا المجتمع يقوم بضمان تطبيق هذه الأحكام هو النبي الذي أعطاه الله عز وجل الولاية على المؤمنين فقال: "النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِم"1.
وأمرهم بطاعته فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾2 وامتزجت شريعة الإسلام بالسياسة لأن تطبيق الجزء الرئيسي من أحكام هذه الشريعة يتوقف على وجود سياسة إسلامية تكفل عملية التطبيق هذه، وهذه السياسة تعتمد على إقامة الدولة وإداراتها من الأجهزة التنفيذية.
يقول الإمام الخميني قدس سره: "الإسلام دين، خلافاً للمذاهب والأديان غير التوحيدية، يتدخل في جميع الشؤون الفردية، والإجتماعية والمادية والمعنوية والثقافية والسياسية والإقتصادية والعسكرية ويشرف عليها، ولم يهمل أيَّة ملاحظة ولو كانت بسيطة لها دور في تربية الإنسان والمجتمع وتقدمهما المادي والمعنوي"3.
تأسيس النبي صلى الله عليه وآله وسلم للدولة
لم يكن تأسيس النبي لدولة الإسلام لمجرد أن الفرصة سنحت له بذلك بل لأن بناء الدولة الإسلامية كان هدفاً رئيسا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولذا كان أول ما قام به النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عندما هاجر إلى المدينة هو تأسيس نواة الدولة الإسلامية الأولى وفي السنة الأولى للهجرة قام النبي بخطوات تمثلت بالأمور التالية
أ- المعاهدة مع أهل الكتاب
لقد كان مجتمع يثرب (المدينة) مختلفاً عن مجتمع مكة، لأن طوائف من أهل الكتاب كانت تعيش في المدينة وهم اليهود وقد قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإبرام معاهدة تعايش بين المسلمين واليهود ليأمن جانبهم ويحفظ أمن أفراد الدولة الإسلامية وينصرف لبناء الثلة الصالحة.
ب- التكافل الاجتماعي
لقد كانت قصة المؤاخاة من الحوادث الخالدة في تاريخ الإسلام، فقد هاجر مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم طائفة من المسلمين وتركوا أموالهم وكل ما لديهم في مكة وأصبحوا غرباء في تلك المدينة فما كان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن آخى بين المهاجرين والأنصار وبهذا العمل أوجد الألفة والمحبة بين المسلمين كما أوجد للمهاجرين فرصة للحياة في هذه الدولة الإسلامية بالعزة والكرامة.
ج- أول فرقة مقاتلة في الإسلام
في الشهر الثامن من السنة الأولى للهجرة أسس النبي صلى الله عليه وآله وسلم أول فرقة مقاتلة وأوكل أمرها إلى بطل الإسلام حمزة بن عبد المطلب وكانت مهمة هذه الفرقة حماية دولة الإسلام وإيصال رسالة إلى قريش بأنَّ النبي أسس الدولة وان لهذه الدولة القوة على مواجهة قريش بكل ما تملكه من عظمة وتجبر، لا سيما أن طريق تجارة قريش كان يمر قرب المدينة وهذه الطريق كانت في متناول يد المسلمين.
د- بناء اقتصاد الدولة الإسلامية
لقد تضمنت شريعة الإسلام نظاماً إقتصادياً منسجماً في أحكامه بالنحو الذي يلبي حاجات المجتمع الإسلامي، وهذه الأحكام على أنواع: فمنها الأحكام التحريمية والتي شملت تحريم الربا لا سيما مع إدمان المجتمع اليهودي في المدينة عليه والذي كان وسيلتهم الأساسية لسلب أموال أهل المدينة، وتحريم أموال السحت وهي الأموال التي تجمع من الحرام كالغناء والتطفيف في الكيل، ومنها الأحكام الإلزامية أي الواجبات كالزكاة التي فرضها الإسلام على أصناف محددة كانت تشكل غالب الأموال المتعارفة بين الناس، ومنها الأحكام المستحبة كالحث على الصدقة والإنفاق في سبيل الله، ومنها أموال الغنائم الحربية.
خصوصيات دولة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
بناء المسجد
أول مسجد بني في الإسلام هو مسجد قبا، وهو الذي وصفه القرآن بقوله: ﴿الَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِين﴾4.
ففي هذا المسجد رجال يسعون للطهارة، والمراد منها طهارة النفوس وهي التزكية التي كانت هدف بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وللمسجد في دولة الإسلام الأولى دور أساسي تمثل في أمور متعددة فهو مكان اجتماع المسلمين ولقائهم ليسأل بعضهم عن بعض ويطلع المسلم على ما يجري حوله من أحداث وهو مكان التعليم فقد كان المسلمون يجتمعون فيه لتلقي أحكام دينهم وتلقي معالم الإسلام وتعلم القرآن، وكان المسجد هو محل القضاء وفصل الخصومات بين الناس من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان النبي إذا أراد أمراً ما من المسلمين كالتهيؤ للقتال ناداهم ليجتمعوا في المسجد، وقد أراد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من جعل هذه المكانة للمسجد أن يعلن للناس أن دين الإسلام لا يختص بالأمور المعنوية فقط، بل يتصل بالحياة الإجتماعية ويهتم لقضايا الناس ويعمل على إصلاح أمورهم.
الإرتباط بالغيب والحياة الآخرة
الإيمان بالمعاد واليوم الآخر هو من ضروريات دين الإسلام، وللاعتقاد بالمعاد أثره البالغ على الحياة الفردية والإجتماعية للمسلم، ويتجلى ذلك في العمل الذي يقوم به المسلم وله نماذج متعددة:
أ- الجهاد والشهادة
لو أن القتال ارتبط بأهداف دنيوية محدودة فلن يوجد الدافع القوي ليقدم الإنسان عليه، ولكن تربية المسلم لما كانت على وجود عالم آخر كان الجهاد هدفاً لنيل إحدى الحسنيين، إما النصر في هذه الدنيا والحياة بعزة ، وإما الشهادة والجزاء الأخروي الذي أعده الله تعالى للشهداء.
ب- الإنفاق في سبيل الله وعمل الخير
يرتبط الإنفاق وعمل الخير بالآخرة لأن من يقدم على الإنفاق في سبيل الله ويعتقد باليوم الآخر فانه سوف يرى لعمله ثمرة في الآخرة وسوف يبدله الله خيراً منه في يوم الجزاء، وهذا الإرتباط بالغيب في كل عمل خير يقوم به الإنسان دون أن ينتظر جزاء في هذه الدنيا يخلق في نفس المسلم شعوراً نحو أخيه المسلم مما يعزز دور التكافل الإجتماعي بين أفراد المجتمع الواحد، ومما يربط الإنسان بالآخرة عوضاً عن ربطه بالمصالح المادية الضيقة.
﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم﴾5.
ج- الصبر على الأذى وتحمل الشدائد
لقد تحمل المسلمون الأوائل أشد أنواع العذاب من قريش وتحملوا الشدائد من الهجرة والفقر والجهاد وكل ذلك لأنهم ارتبطوا بالله عز وجل في كل ذلك، وعلموا أن في الصبر على ذلك كله جزاءاً لا يضيع عند الله تعالى.
د- الصمود والثبات
﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾6.
الإيمان بالغيب عنصر ثبات لدى الإنسان فالإنسان المؤمن هو من لا يخاف من الشدائد ولا يتأثر بالتخويف والحرب النفسية التي قد يقوم بها أعداء المسلمين لتثبيط العزائم، لأنه يعلم أن كل ما في الكون بيد الله تعالى ولا يجري في الكون أمر إلا بأمره وإرادته، وأن الإيمان والإخلاص لله تعالى من شأنه أن يقلب كل الحسابات الدنيوية، حيث تتدخل اليد الغيبية لنصرة الدين وأوليائه.
* أولو العزم،سلسلة الدروس الثقافية, جمعية المعارف الثقافية، ط 1، تموز 2006 م، 1431هـ، ص 105 - 109
1- الأحزاب: 6.
2- النساء: 59.
3- كتاب البيع، الإمام الخميني، ج 2، ص472.
4- التوبة: 108.
5- البقرة: 261.
6- آل عمران: 173 - 174.
source : http://almaaref.org