إذا أمعنا النظر في نظام عالم الوجود وسنن الخلق نجد أنَّ ثمة قانوناً يحكمها جميعاً ويضع كل شيء في مكانه المناسب.
في جسم الانسان نرى هذا النظام العادل قد ركّب فيه بدرجة من الدقة المتناهية بحيث إنَّ أقل اختلال في توازنه يؤدي به الى الأصابة بالمرض، أوالى الموت.
خذ مثلاً، تركيب القلب، أو العين، أو الدّماغ، تجد أنَّ كلّ جزء فيها قد ركب في مكانه المناسب بكل دقة وبالقدر اللازم. إنَّ هذا التنظيم المناسب العادل لا يقتصر وجوده في جسم الانسان، بل هو سائد في كلّ أجزاء عالم الخليقة، إذ: "بالعدل قامت السموات والأرض".
إنَّ حجم الذّرة من الدقة والصغر بحيث إنك تستطيع أنْ تضع ملايين منها على رأس إبره، فتأمل كيف يجب أنْ يكون تركيبها من الدقة والتنظيم بحيث يمكن لها أنْ تديم حياتها ملايين السنين.
إنَّ هذا ناشىء من العدالة في الحسابات الدقيقة لنظام الالكترونات والبروتونات، وما من جهاز صغير أو كبير يخرج عن دائرة هذا النظام العجيب.
فهل الانسان حقّاً كائن استثنائي؟ وأنَّه بقعة سوداء في جسد هذا العالم الكبير الأبيض؟ وانَّه لهذا السبب يجب أنْ يسرح ويمرح حراً، لا يلتزم نظاماً ويرتكب ما يشاء من ظلم واعتداء؟ أم أنَّ هناك سراً في هذا الأمر؟
حرية الإرادة والاختيار
الحقيقة هي أنَّ الانسان يختلف إختلافاً أساسياً عن سائر الكائنات في عالم الوجود، وهو أنَّه يملك حرية الإرادة والاختيار.
لماذا خلقه الله حراً، وأوكل اليه اتخاذ القرارات والقيام بما يشاء من أعمال؟
السبب هو أنَّه لو لم يكن حراً لما استطاع أنْ يحقق تكامله، فهذا الامتياز الكبير هو الذي يضمن تكامله الأخلاقي والمعنوي. لو أنَّ شخصاً أجبر بالقوة على إعانة المستضعفين والقيام بأعمال أُخرى تفيد المجتمع، فإنَّ هذه الاعمال قد تسير في طريقها، ولكنها لن تكون دافعاً لهذا الشخص على التكامل الأخلاقي والإنساني أبداً. أما إذا قام بعشر تلك الاعمال الخيرة بمحض ارادته يكون قد تقدم بالنسبة نفسها على طريق التكامل المعنوي والاخلاقي.
بناء على ذلك، فإنَّ أوّل شرط من شروط التكامل المعنوي والاخلاقي هو امتلاك حرية الارادة والاختيار حتى يقوم الانسان بالسير في هذا الطريق بمحض رغبته وارادته، لا بالجبر والاكراه، كما هي حال عناصر الطبيعة الاُخرى، فالله سبحانه وتعالى لم يهب الانسان هذه الهبة العظيمة إلاّ لهذا الغرض السامي.
بيد أنَّ هذه النعمة الكبرى أشبه بالورد الذي يحيط به الشوك، وهو سوء استغلال الناس لهذه الحرية والتلوث بالظلم والفساد والذنوب.
بديهي أنَّ الله تعالى لم يكن يمنعه شيء من أنْ يعاقب كل ظالم فوراً بعقاب يجعله يقتلع من رأسه كل فكرة عن تكرار ذلك، كأنَّ يشل يده، أو يعمي بصره، أو يخرس لسانه.
صحيح أنَّ أحداً، في هذه الحالة، لن يجرؤ على إساءة استعمال حريته ولن يقرب الإثم طوال حياته، غير أنَّ هذه العفة والتقوى تكون إجبارية قسرية، ولا تعتبر مدعاة لافتخار الانسان واعتزازه، بل تكون نتيجة الخوف من العقاب الصارم الفوري.
لذلك لابدّ أنْ يكون الانسان حراً وان يجتاز الامتحانات التي يقررها الله تعالى، وأن لا يعاقب فوراً، إلاّ في حالات استثنائية، لكي يستطيع أن يكشف عن قيمته في الوجود.
إلاّ أنَّ هناك موضوعاً آخر، وهو أنَّه إذا استمرت الحال على هذا المنوال واختار كل طريقاً، فإنَّ قانون العدالة الالهية الذي يسيطر على عالم الوجود يتعرض للخطر.
من هنا يتبين لنا ضرورة وجود محكمة ودار عدالة للبشر، وأن على الجميع الحضور فيها بدون استثناء لينال جزاء أعماله بموجب عدالة عالم الخلق.
أيصحّ أنْ يقضي أشخاص مثل نمرود وفرعون وقارون وجنكيز أعمارهم يظلمون ويعتدون ويفسدون، ثم لا يكون وراءهم حساب ولا عقاب؟
أيجوز أنْ يقف المجرمون والمتقون على قدم المساواة في كفة ميزان العدالة الإلهية؟
أو كما يقول القرآن: ﴿أفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالمُجْرِمِينَ * ما لَكُم كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾(القلم:35-36).
ويقول:﴿أمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالفُجَّارِ﴾(ص:28)
صحيح أنَّ بعض المجرمين ينالون عقابهم على أعمالهم في هذه الدنيا، أو جزءاً من ذلك العقاب، وصحيح إن مسألة محكمة الضمير مسألة مهمة، وصحيح أيضاً أنَّ نتائج الذنوب والظلم والتعسف تحيق احياناً بالانسان نفسه، ولكننا بامعان النظر في هذه الحالات الثلاث ندرك أنَّها ليست عامة شاملة بحيث تعم كل ظالم ومذنب فينال كل نصيبه من العقاب بما يتناسب وجريمته، وأنَّ هناك الكثيرين الذين يهربون من مخالب عقاب محاكمات الضمير ونتائج أعمالهم، أو لا ينالون من العقاب ما يكفي.
فلأمثال هؤلاء، ولكي تكون هناك محكمة عدل عامة لمحاسبة الناس حتى على مقدار رأس الابرة من العمل الحسن أو السيء، تقام محكمة العدل يوم القيامة، وإلاّ فإنَّ مبدأ العدالة لايمكن أن يتحقق.
بناء على ذلك، فان القبول "بوجود الله" و"عدالته" يستدعي القبول بالبعث ومحكمة يوم القيامة، ولايمكن الفصل بين هذين أبداً.
*سلسلة دروس في العقائد الاسلامية،آية الله مكارم الشيرازي ،مؤسسة البعثة،ط2.ص311-315
source : http://almaaref.org