الوجه الثاني: إنّ مفاد الآية يرجع إلى أشراط الساعة، وأنه قبل قيام البعث يغشى الناس دخان مبين. ويؤيّد ذلك أنّ الآية تتضمن ذكر يومين:
1- يومٌ تأتي السماء فيه بدخان مبين .
2- ويوم يبطش فيه الرب تعالى البطشة الكبرى.
وبما أنّ البطشة الكبرى راجعة إلى يوم البعث الّذي يأخذ فيه الله تعالى الظالمين والكافرين بشدة وقدرة، يكون ذلك قرينة على أنّ ما يقع في اليوم الأول، من أشراط الساعة، فيومٌ تظهر فيه آية الساعة وعلامتها، ويوم تتحقق فيه نفس الساعة.
وأما على التفسير الأوّل، فلا مناص، من جعل اليوم الأوّل يوم طروء الجوع في مكة، واليوم الثاني غلبة النبي على قريش في بدر، ولا يخفى أن تفسير اليومين بهذا النحو يحتاج إلى دليل.
ويؤيّد المعنى الثاني ماروي عن حذيفة بن اليمان، مرفوعاً: أوّل الآيات الدّجال ونزول عيسى، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر. تُقيل معهم اذا قالوا، والدّخان. قال حذيفة: يارسول الله، وما الدّخان؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وآله الآية: (فارتقب يوم تأتى السّماء بدخان مبين...)، يملأ مابين المشرق والمغرب، يمكث أربعين يوماً وليلةً، أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكام، وأمّا الكافر بمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره1.
نعم بقي هنا شيء وهو أنّه لو كان صدر الآيات راجعاً إلى أشراط الساعة، فما معنى قوله سبحانه:(إنّا كاشفوا العذاب قليلاً إنّكم عائدون). فإنّه بالمعنى الأوّل ألصق.
ولكن يمكن أن يقال: إنّ الجملة الخبرية متضمنة لقضية شرطية، وهي أنه حتّى لو كشفنا عنهم العذاب، لعادوا لما كانوا عليه من العصيان نظير قوله سبحانه: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)(الأنعام:28).
د- نزول المسيح
يقول سبحانه: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلاَئِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)(الزخرف:57-61).
روى المفسرون أنه لما نزل قوله سبحانه: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ)(الأنبياء:98)، أحدثت قريش ضجة، وقاموا يجادلون النبي فقالوا: قد رضينا بأن تكون آلهتنا كذلك، حيث يكون عيسى أيضاً مثلهم، وقالوا "كما يحكيه سبحانه عنهم": (ءآلهتنا خيرٌ أم هو)، فليست آلهتنا خيراً من عيسى، فإن كان عيسى في النار، فكذلك آلهتنا.
فأجاب سبحانه بأنهم ماضربوا هذا المثل إلا للمجادلة والمخاصمة، وأنهم قوم خصمون لا يتطلبون الحق. ثم أخذ بتوصيف عيسى بن مريم وتبيين مقامه فقال: (وانّه لعلمٌ للسّاعة)، أي إنّ وجود عيسى في ظرف من الظروف، يعلم به قرب الساعة، فلا تكذبوا بها.
فالآية تدل على أنّ وجود عيسى في ظرف من الظروف يعلم به دنوالسّاعة، وأما ظرفه، فالظاهرمن الروايات هو نزوله بعد خروج الإمام المهدي عليه السَّلام2.
وللآية تفسيرآخر، يطلب من مظانّه3.
هـ- إخراج دابة من الأرض
قال تعالى: (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ)(النمل:82).
وتوضيح الآية يتوقف على إيضاح أُمور:
1- ماهو المراد من قوله: (وإذا وقع القول عليهم)؟.
2- ماهو المراد من الدا بة المخرجة من الأرض؟
3- بماذا تتكلم هذه الدابة، وماذا تقول؟
4- ماهو موضع قوله سبحانه في الآية: إنّ الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون؟ فهل هو يحكي قول الدابة، أوهو تعليل لصدر الآية (وقوع القول عليهم).
5- ما هو المراد من الآيات ؟
6- ما هو الهدف من إخراج الدابة؟
7- ما هو زمان إخراجها؟
والحقّ أنّ هذه الآية، إحدى الآيات التّي يحيق بها الإبهام من جهة أوجهات، وليس لها في القرآن ما يشابهها في المضمون، حتى يستعان به على تفسيرها، فلا مناص من الإمعان فيها نفسها، أواللجوء إلى الروايات الواردة حولها، فنقول:
أما السؤال الأوّل: فالمراد من وقوع القول عليهم، هو استحقاقهم للعذاب، يظهر ذلك من قوله تعالى: (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لاَ يَنْطِقُونَ)(النمل:85). وليس المراد من القول، القول اللفظي،بل القول التكويني المساوق لتحقّق العذاب، وحصوله في الخارج. وقد عرفت أنّ العالم فعل الله سبحانه، وفعله كلامه، والآيتان نظير قوله سبحانه: (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ)(الزمر:19).
وأما الثاني: فالدابة في اللغة والقرآن تطلق على كل ما يدبّ على الأرض، يقول سبحانه:(وَمَا مِنْ دَابَّة فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا)(هود:6). ولا يظهر من نفس الآية أنّه من أي نوع من الدواب، أهوإنسان أو حيوان، فلا مناص من الرجوع إلى الروايات التي نشير إلى مصادرها آخر البحث.
غير أنّه يمكن أن يقال إن "الدابة" استعملت في القرآن كثيراً في المعنى العام، فإطلاقها على نوع خاص منه كالإنسان، يحتاج إلى قرينة.
أضف إلى ذلك أنّه ربما استعمل في مقابل الإنسان، يقول سبحانه: (... وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ)(الحج:18). وفي آية أُخرى: (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ)(فاطر:28). وهذا يدفعنا إلى القول بأنّ المراد من الدابة هو غير الإنسان.
وأما الثالث: فلا يظهر من الآية شيء في جوابه إلاّ احتمال أن يكون مقول كلامها هو ما جاء في ذيل الآية من قوله: (إنّ النّاس كانوا بآياتنا لا يوقنون). وقد ورد في بعض الروايات مضمون كلامها الّذي تتكلم به.
وأما الرابع: فيحتمل أن يكون قوله: (إنّ النّاس) مقولاً لكلامها، كما يحتمل أن يكون تعليلاً لفرض العذاب عليهم، الّذي يدل عليه صدر الآية، فكأنه يقول :حق عليهم العذاب لأنهم كانوا بآياتنا لا يوقنون، ويؤيّد هذا الوجه قراءة (إنّ) بالكسر، التي تجعلها جملة مستأنفة، واقعة موقع التعليل.
وأما الخامس: فيحتمل أن يكون المراد من الآيات هو الآيات الكونية والأنفسية الواردة في قوله سبحانه: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْء شَهِيدٌ)(فصلت:53).
كما يحتمل أن يكون المراد من الآيات، المعاجز وخوارق الآيات التي جاءت بها الأنبياء، وإطلاق الآية على المعجزة في القرآن، كثير.
ويحتمل أن يكون المراد، الكتب السماوية، فإنها آيات إلهية.
ولا يظهر من الآية شيء في تعيين أحد هذه الاحتمالات، إلاّ أنّه يمكن تأييد الاحتمال الثالث بقوله سبحانه في آية سابقة عليها: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(النمل:76).
وأما السادس: وهو الهدف من إخراج الدابة، فيمكن أن يكون إعلام دنوّ السّاعة، كما يمكن أن يكون لأجل تمييز المؤمن من الكافر، وغيرذلك من الأهداف التي وردت فيها الروايات.
وأما السابع: وهو زمان الإخراج فسياق الآيات يثبت أنّها تقع قبل يوم القيامة، عند دنوّها لقوله سبحانه بعدها: (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّة فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ)(النمل:83). فبما أنّ الثانية تقع قبل القيامة، فسياق الكلام يقتضي كون الأُولى كذلك.
الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني
---------------------------------------------
الهوامش:
1- تفسير الطبري، ج 25 ، ص 68. والدر المنثور، ج6 ، ص 29.
2- لاحظ ما أوردناه من الروايات في بحث الإمامة.
3- لاحظ مجمع البيان،ج5،ص358.
source : تبیان