من دعاء أبي حمزة الثماليّ:
"سيدي! عليك مُعوّلي ومُعتمدي ورجائي وتوكّلي، وبرحمتك تعلّقي، تُصيب برحمتك من تشاء، وتهدي بكرامتك من تُحبّ. اللّهمّ فلك الحمد على ما نقّيت من الشرك قلبي، ولك الحمد على بسط لساني، أفبلساني هذا الكالّ أشكرك أم بغاية جهدي في عملي أُرضيك وما قدر لساني يا ربّ في جنب شكرك وما قدر عملي في جنب نعمك وإحسانك إلا أنّ جودك بسط أملي، وشكرك قبل عملي".
إنّ من الحقوق الإسلامية حقّ شكر الإنسان الّذي أكرمنا، فعن الإمام زين العابدين عليه السلام: "أمّا حقّ ذي المعروف عليك فأن تشكره وتذكر معروفه، وتُكسبه المقالة الحسنة، وتُخلص له الدعاء فيما بينك وبين الله عزّ وجلّ، فإذا فعلت ذلك كنت قد شكرته سرّاً وعلانية، ثمّ إنْ قدرت على مكافأته يوماً كافيته"(1).
بل شكر الناس على معروفهم وكرمهم من شكر الله تعالى، فعن الإمام الرضا عليه السلام: "من لم يشكر المنعم من المخلوقين لم يشكر الله عزّ وجلّ"(2).
إذا كان الإسلام العزيز أراد منّا أن نُعزّز العلاقة والمحبّة فيما بيننا عبر أداء واجب الشكر والثناء للمخلوقين عباد الله تعالى على إكرامهم لنا، فكيف إذا كان المنعم والمكرم هو ربّ العالمين وخالق الكون وهو الله جلّ جلاله، الّذي تعجز الخلائق عن إحصاء نعمه عليهم، فضلاً عن عجزهم عن الثناء والحمد عليها؟
وهذا الإمام زين العابدين عليه السلام يُعرّفنا بهذه الحقيقة في مناجاة الشاكرين: "إلهي أذهلني عن إقامة شُكرك تتابع طولك، وأعجزني عن إحصاء ثنائك فيض فضلك، وشغلني عن ذكر محامدك ترادف عوائدك... فآلاؤك جمّة، ضعُف لساني عن إحصائها، ونعماؤك كثيرة قصر فهمي عن إدراكها، فضلاً عن استقصائها"(3).
فهل سألنا أنفسنا ما هو مقدار شكرنا وثنائنا أمام عظيم نعمه وفضله تبارك وتعالى؟
يُجيبنا الإمام عليه السلام: "إلهي، تصاغر عند تعاظم آلائك شكري، وتضاءل في جنب إكرامك إيايّ ثنائي ونشري".
فبالرغم من شكرنا وثنائنا وحمدنا فلا بدّ أن نعترف بصغر ذلك، وأن نعترف بتقصيرنا وإهمالنا في شكر الله تعالى على عظيم نعمه: "وهذا مقام من اعترف بسبوغ النعماء وقابلها بالتقصير، وشهد على نفسه بالإهمال والتضييع". بل لا بدّ أن نسأل أنفسنا مجدّداً: أليس شكرنا لله تعالى يحتاج إلى شكره على نعمة التوفيق والقدرة الّتي وهبنا إيّاها للقيام بواجب الشكر له؟
فسيّد الساجدين عليه السلام يُرشدنا – أيضاً - إلى هذه الحقيقة: "فكيف لي بتحصيل الشكر، وشُكري إيّاك يفتقر إلى شكر؟! فكلّما قلت: لك الحمد وجب عليّ لذلك أن أقول: لك الحمد"(4). وهذا ما أسماه أمير المؤمنين عليه السلام شكر الشكر في قوله: "من شكر الله سبحانه وجب عليه شُكر ثانٍ، إذ وفّقه لشكره، وهو شُكر الشكر".(5)
ولكن بأيّ لسان نشكر الله سبحانه؟! "أفبلساني هذا الكالّ أشكرك..؟".
الله جلّ جلاله غفور شكور
من أسماء الله الحسنى الغافر والشاكر والمحسن لمن آمن به وشكر نعمه، الّتي هي في الحقيقة إحسانه إلى عباده. جاء في محكم كتابه العزيز قوله: ﴿ذلِك الّذِي يُبشِّرُ اللهُ عِبادهُ الّذِين آمنُوا وعمِلُوا الصّالِحاتِ قُل لّا أسْألُكُمْ عليْهِ أجْرًا إِلّا الْمودّة فِي الْقُرْبى ومن يقْترِفْ حسنةً نّزِدْ لهُ فِيها حُسْنًا إِنّ الله غفُورٌ شكُورٌ﴾(6)، وقوله: ﴿وقالُوا الْحمْدُ لِلّهِ الّذِي أذْهب عنّا الْحزن إِنّ ربّنا لغفُورٌ شكُورٌ)(7)
جلّ ثناؤه فقد عدّ الأعمال الصالحة إحساناً من العبد إليه، فجازاه بالشكر والإحسان، وهو إحسان على إحسان، وهو القائل: ﴿هلْ جزاء الْإِحْسانِ إِلّا الْإِحْسانُ﴾(8).
ولهذا يعتبر السيّد الطباطبائيّ- في تفسير الميزان- إطلاق (مسمّى الشاكر) عليه تعالى أنّ المراد منه حقيقة معنى كلمة (الشاكر) لا المعنى المجازيّ(9).
لذا نقرأ في الدعاء: "يا خير ذاكر ومذكور، يا خير شاكر ومشكور"(10).
كيف هي حقيقة شكرنا لله تعالى؟
إنّ شكر الله تعالى حقّ شكره على عظيم نعمه وخيره لا تكون فقط بتحريك اللسان، بل حقيقة الشكر لله سبحانه تنبع من علم العبد، الفقير في كلّ شيء، بأنّه بحاجة مستمرّة لتوالي النعم عليه من الغنيّ في كلّ شيء، وأن يقطع قطع اليقين بأنّ كلّ ما يتقوّم به هذا العبد الفقير من مقوّمات الحياة: المأكل والمشرب والملبس، قيامه وقعوده، نومه واستيقاظه.. إلخ، هي من مالك السموات والأرضين ربِّ العالمين.
قال الإمام الصادق عليه السلام: "أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: يا موسى اشكرني حقّ شكري.
فقال عليه السلام: "يا ربّ كيف أشكرك حقّ شكرك، وليس من شكر أشكرك به إلا وأنت أنعمت به عليّ"؟!
فقال (عزّ وجلّ): يا موسى شكرتني حقّ شكري حين علمت أنّ ذلك منّي"(11).
وعنه عليه السلام: "من أنعم الله عليه بنعمة فعرفها بقلبه، فقد أدّى شكرها"(12).
كما أنّه لا بُدّ أن يعلم هذا العبد الفقير أنّ تمام الشكر لا بُدّ أن يقترن بالاعتراف بالتقصير والعجز في القدرة على بلوغ أدنى درجات الشكر لله سبحانه، والعجز حتّى عن الثناء عليه برغم غناه عن شكرنا وثنائنا، قال الإمام الصادق عليه السلام: "تمام الشكر اعتراف لسان السرّ خاضعاً لله تعالى بالعجز عن بلوغ أدنى شكره، لأنّ التوفيق للشكر نعمة حادثة يجب الشكر عليها"(13).
هذا كلّه في جانب المعرفة القلبية، أمّا في جانب الممارسة العملية لكي يكون العبد شكوراً لله تعالى، ولكي لا يُبتلى ببلاء النفاق، فإنّه لا بدّ أن يترجم شكره عملياً ويظهره في سلوكه من خلال تجنّب محارم الله، وعدم اقتراف المعاصي والذنوب، قال الإمام علي عليه السلام: "شُكر المؤمن يظهر في عمله، وشُكر المنافق لا يتجاوز لسانه"(14).
وعنه عليه السلام: "شُكر كلِّ نعمة الورع عن محارم الله"(15).
وإذا أراد الإنسان أن يعصي الله تعالى- والعياذ بالله- فبماذا يعصي؟ وكيف له أن يجترئ على المولى عزّ وجلّ بذلك؟
فإنّ كلّ الأدوات والوسائل الّتي يُريد أن يعصي بها الإنسان ربّه هي من نعم الله سبحانه، فإن عصى بلسانه أو بيده أو بنظره أو بسمعه أو بأيّ جارحة من جوارحه فكلّ الجوارح هي نعم الله عليه، وهذا ما نبّهنا عليه أمير المؤمنين عليه السلام حينما قال: "أقلّ ما يلزمكم لله ألا تستعينوا بنعمه على معاصيه"(16).
ولذا رسم لنا الإمام عليّ عليه السلام منهجاً متدرّجاً وواضحاً لكي لا نخسر منزلة الشاكرين لله تعالى، حيث قال عليه السلام: "حقّ على من أُنعم عليه أن يُحسن مكافأة المنعِم.
فإن قصّر عن ذلك وِسْعه فعليه أن يُحسن الثناء.
فإنّ كلّ عن ذلك لسانه فعليه بمعرفة النعمة ومحبّة المنعِم بها.
فإن قصّر عن ذلك فليس للنعمة بأهل"(17).
من آثار شُكر المنعِم
هناك العديد من الآثار الحسنة الّتي تنعكس خيراً على الإنسان جرّاء أدائه واجب شُكر المنعِم والمفضِل عليه وهو الله عزّ وجلّ، وهذه الآثار الحسنة لا تقتصر على الدنيا فقط، بل تشمل حتّى الأخرى. ومن تلك الآثار الحسنة ما يلي:
1- الزيادة في النعمة والسعة في الرزق، قال تعالى: ﴿.. لئِن شكرْتُمْ لأزِيدنّكُمْ ولئِن كفرْتُمْ إِنّ عذابِي لشدِيدٌ﴾(18). وورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "ما أنعم الله على عبد من نعمة فعرفها بقلبه، وحمد الله ظاهراً بلسانه فتمّ كلامه، حتّى يؤمر له بالمزيد"(19).
وعن الإمام عليّ عليه السلام: "من أُعطي الشكر لم يُحرم الزيادة"(20).
ولذا فإنّ المزيد من عطاء الله وجوده وكرمه على الإنسان لا ينقطع، إلا إذا انقطع الشكر، كما يقول الإمام الباقر عليه السلام: "لا ينقطع المزيد من الله حتّى ينقطع الشكرعلى العباد"(21)، ولهذا يجب أن لا نعيش حالة العجز والإهمال في شكر الله تعالى، ثمّ نبتغي الزيادة في النعم والخير من الله، وهذا ما أشار له الإمام عليّ عليه السلام حينما يقول: "لا تكن ممّن يعجز عن شكر ما أُوتي، ويبتغي الزيادة فيما بقي"(22).
2- القطع بأنّ كلّ النعم والخير النازل علينا هي من الله وحده، يوجب الرحمة والمغفرة الإلهية على الإنسان قبل أن نبادر بالشكر والحمد والثناء عليه تبارك وتعالى، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "ما من عبد أنعم الله عليه نعمة فعرف أنّها من عند الله، إلّا غفر الله له قبل أن يحمده"(23).
3- نفي العذاب الإلهيّ عن الشاكر لله على نعمه والمؤمن بفضله وكرمه، إذ ورد في الآية الكريمة: ﴿مّا يفْعلُ اللهُ بِعذابِكُمْ إِن شكرْتُمْ وآمنتُمْ وكان اللهُ شاكِرًا علِيمًا)(24) بل الشاكر مأمون من غضب الله وحلول النقم، فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "شُكر النعمة أمان من حلول النقمة"(25).
4- إنّ الله غنيّ كلّ الغنى عن شكرنا وحمدنا وثنائنا له، بالتالي حتّى هذا الأمر أراده لنا عزّ وجلّ نعمة علينا، فالشاكر يشكر لنفسه واقعاً، كما جاء في الآية الكريمة: ﴿ومن شكر فإِنّما يشْكُرُ لِنفْسِهِ ومن كفر فإِنّ ربِّي غنِيٌّ كرِيمٌ)(26)وفي الآية: ﴿ولقدْ آتيْنا لُقْمان الْحِكْمة أنِ اشْكُرْ لِلّهِ ومن يشْكُرْ فإِنّما يشْكُرُ لِنفْسِهِ ومن كفر فإِنّ الله غنِيٌّ حمِيدٌ)(27)
وعن الإمام الصادق عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الطاعم الشاكر له من الأجركأجر الصائم المحتسِب، والمعافى الشاكر له من الأجر كأجر المبتلى الصابر، والمعطي الشاكر له من الأجر كأجر المحروم القانع"(28).
5- يتّصف الإنسان الشاكر لله بالقناعة والإيمان بالعدل الإلهيّ في توزيع النعم طبقاً لما تقتضيه المصلحة الإلهية، قال الإمام عليّ عليه السلام: "أشكر الناس أقنعهم، وأكفرهم للنعم أجشعهم"(29)، بل ينال الشاكر لله درجة أكرم الناس، فعن الإمام الصادق عليه السلام - لمّا سئل عن أكرم الخلق على الله - قال: "من إذا أُعطي شكر، وإذا ابتُلي صبر"(30).
أما في المقابل فإنّ عدم الشكر يجعل الإنسان متّصفاً بالجشع واللؤم وعدم القناعة بما يُنعم به الله عليه، فعن الإمام الحسن عليه السلام: "اللؤم أن لا تشكر النعمة"(31).
6- إنّ الشاكر لله تعالى يفوز بنعمة ذكر الله له، وما أعظمها من نعمة، وهنيئاً لمن يفوز بهذه النعمة الموعودة في قوله تعالى: ﴿فاذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ واشْكُرُواْ لِي ولا تكْفُرُونِ﴾(32)
فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "فإنّه تعالى أخبر عن نفسه فقال: أنا جليس من ذكرني"(33)، وعن الإمام الصادق عليه السلام: قال الله تعالى: "ابن آدم اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي، ابن آدم اذكرني في خلاء أذكرك في خلاء، أذكرني في ملأ أذكرك في ملأ خير من ملائك"(34).
وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال الله سبحانه: "إذا علِمتُ أنّ الغالب على عبدي الاشتغال بي نقلت شهوته في مسالّتي ومناجاتي، فإن كان عبدي كذلك وأراد أن يسهو حُلْت بينه وبين أن يسهو"(35).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى: "فاذكروني أذكركم بنعمتي، اذكروني بالطاعة أذكركم بالنعم والإحسان والراحة والرضوان"(36).
ولهذا لا بُدّ للمؤمن أن يكون شاكراً وذاكراً لله تعالى في كلّ الأحوال والظروف الحسنة منها أو السيّئة، لأنّ لطف الله غير بعيد في كلّ هذا، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كان يقول إذا ورد عليه أمر يسرّه: "الحمد لله على هذه النعمة. وإذا ورد عليه أمر يغتمّ به قال: الحمد لله على كلّ حال"(37).
ومن هذا المبدأ فإنّه لا بدّ أن يكون شعار المؤمن الشكر دائماً وأبداً، وهذا ما يؤيّده قوله تعالى: ﴿بلِ الله فاعْبُدْ وكُن مِّنْ الشّاكِرِين﴾(38).
عاقبة عدم شُكر النعمة
إنّ تكبُّر الفرد أو المجتمع على النِّعم الإلهيّة وعدم شُكر المنعِم والثناء عليه، يؤدّي إلى ترتُّب عواقب وخيمة وآثار سيّئة جداً على الجميع، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الله عزّ وجلّ أنعم على قوم بالمواهب فلم يشكروا فصارت عليهم وبالاً، وابتلى قوماً بالمصائب فصبروا فصارت عليهم نعمة"(39).
وعن الإمام الجواد عليه السلام: "نعمة لا تُشكر كسيّئة لا تُغفر"(40).
ونحن في عالم تتوالى النعم الإلهيّة عليه في الليل والنهار، في الحرب والسلم، في
الشدّة والرخاء، في المرض والعافية.. وغيرها، وكأنّنا لم نقرأ قوله تعالى: ﴿اللهُ الّذِي جعل لكُمُ اللّيْل لِتسْكُنُوا فِيهِ والنّهار مُبْصِرًا إِنّ الله لذُو فضْلٍ على النّاسِ ولكِنّ أكْثر النّاسِ لا يشْكُرُون﴾(41).
وقوله تعالى: ﴿ثُمّ لآتِينّهُم مِّن بيْنِ أيْدِيهِمْ ومِنْ خلْفِهِمْ وعنْ أيْمانِهِمْ وعن شمآئِلِهِمْ ولا تجِدُ أكْثرهُمْ شاكِرِين﴾(42).
وقوله سبحانه: ﴿ولقدْ مكّنّاكُمْ فِي الأرْضِ وجعلْنا لكُمْ فِيها معايِش قلِيلاً مّا تشْكُرُون﴾ ﴿وقلِيلٌ مِّنْ عِبادِي الشّكُورُ)(43)
هل هكذا جزاء الإحسان والنِّعم؟!
هل هكذا يُكرم المكرِم؟!ّ
هل هكذا يُردُّ الجميل بأجمله؟!
هل هكذا يُثنى على المعطي؟!
هل هكذا يُشكر المنعِم؟!
لعلّه تصعب علينا الإجابة!
ولكن هلمّوا لنستمع إلى وصية الأمير عليه السلام لنا:
"أوصيكم بتقوى الله... فما أقلُّ من قبِلها، وحملها حقّ حملها! أولئك الأقلّون عدداً، وهم أهل صفة الله سبحانه إذ يقول: ﴿وقلِيلٌ مِّنْ عِبادِي الشّكُورُ﴾"(44)
سجدة الشكر
إنّ من أكثر حالات القرب المعنوي من الله تعالى وأعظمها- كما يُروى- حينما يضع العبد خدّه على التراب ساجداً لله باكياً راجياً جزيل فضله ورحمته، يقول الإمام الباقر عليه السلام: "أقرب ما يكون العبد من الربّ عزّ وجلّ وهو ساجدٌ باكٍ"(45).
هذا وقد أجمع العلماء على استحباب السجود لله تعالى عند تجدُّد النعم أو عند دفع البلاء، والأفضل من هذه السجدة ما كان بعد الصلاة شُكراً لتوفيق الله تعالى لأدائها. روي عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "إنّ علي بن الحسين عليه السلام ما ذكر لله عزّ وجلّ نعمة عليه إلّا سجد، ولا قرأ آية من كتاب الله عزّ وجلّ فيها سجود إلّا سجد، ولا دفع الله عزّ وجلّ عنه سوءاً يخشاه إلّا سجد،
ولا فرغ من صلاة مفروضة إلّا سجد، ولا وفّق لإصلاح بين اثنين إلّا سجد"(46).
ولذا سُمّي الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام بـ (السجّاد) لكثرة سجوده في جميع المواضع، واتّخذ الله تعالى- كما يقول الإمام الصادق عليه السلام - إبراهيم خليلاً، لكثرة سجوده على الأرض.
وعن الإمام الصادق عليه السلام - أيضاً - قال: "إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان في سفر يسير على ناقة له، إذ نزل فسجد خمس سجدات، فلمّا أن ركب قالوا: يا رسول الله إنا رأيناك صنعت شيئاً لم تصنعه.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: نعم، استقبلني جبرائيل عليه السلام فبشّرني ببشارات من الله عزّ وجلّ، فسجدت لله شكراً لكلّ بُشرى سجدة"(47).
كما أنّه لا يُستحبّ فقط السجود لله شكراً وحمداً عند تجدُّد النعم أو عند دفع البلاء، بل يُستحب هذا حتّى عند- أو بمجرّد – تذكّرهما(48)، فقد روى هشام بن أحمر قائلاً: "كنت أسير مع أبي الحسن عليه السلام في بعض أطراف المدينة إذ ثنّى رجله عن دابته فخرّ ساجداً، فأطال وأطال، ثمّ رفع رأسه وركب دابته.
فقلت: جُعلت فداك قد أطلت السجود!
فقال عليه السلام: إنّني ذكرت نعمة أنعم الله بها عليّ فأحببت أن أشكر ربّي"(49)
ولهذا أوصانا الإمام الصادق عليه السلام بذلك عندما قال: "إذا ذكر أحدكم نعمة الله عزّ وجلّ فليضع خدّه على التراب شُكراً لله، فإن كان راكباً فلينزل فليضع خدّه على التراب، وإن لم يكن يقدر على النزول للشهرة فليضع خدّه على قربوسه، وإن لم يقدر فليضع خدّه على كفّه، ثمّ ليحمد الله على ما أنعم الله عليه".
أمّا منزلة الساجد لله شُكراً فهي منزلة عظيمة، ولا يعلم بجزيل أجر الشكر وثوابه إلّا الله سبحانه، ففي الخبر قال الإمام الصادق عليه السلام: "..إنّ العبد إذا صلّى ثمّ سجد سجدة الشكر فتح
الربّ تعالى الحجاب بين العبد وبين الملائكة.
فيقول: يا ملائكتي انظروا إلى عبدي أدّى فرضي وأتمّ عهدي ثمّ سجد لي شُكراً على ما أنعمت به عليه. ملائكتي ماذا قال؟
فتقول الملائكة: يا ربّنا رحمتك.
ثمّ يقول الربّ تعالى وتبارك: ماذا له؟
فتقول الملائكة: يا ربّنا جنّتك؟
فيقول الربّ تبارك وتعالى: ماذا؟
فتقول الملائكة: يا ربّنا كفاية مهمّة،
فيقول الربّ تبارك وتعالى: ماذا؟
قال عليه السلام: فلا يبقى شيء من الخير إلا قالته الملائكة،
فيقول الله تبارك وتعالى: يا ملائكتي ثمّ ماذا له؟
فتقول الملائكة: يا ربّنا لا علم لنا.
قال عليه السلام: فيقول الله تبارك وتعالى: أشكر له كما شكر لي، وأُقبِل إليه بفضلي، وأُرِه رحمتي العظيمة في يوم القيامة"(50)
المفاهيم الأساس
التوفيق لشُكر المنعِم هي نعمة عظيمة أنعمها الله سبحانه على الإنسان المؤمن، لكي يكون ذاكراً لله تعالى في كلِّ الأحوال والظروف الحسنة منها أو السيّئة.
إنّ شُكر المنعِم لا يكون فقط بالمعرفة القلبيّة، بل لا بُدّ أن يتعدّى ذلك إلى المستوى السلوكيّ لدى الإنسان المؤمن، أي تجنُّب معصية الله تعالى.
إنّ شُكر المنعِم له آثار عظيمة في الدنيا(كالزيادة في الرزق)، وفي الآخرة (كالنجاة من عذاب الله). أمّا عدم الشكر فله عواقب وخيمة منها حلول النقمة الإلهيّة على الإنسان.
كيفيّة سجدة الشكر:
يكفي في هذا السجود مجرّد وضع الجبهة على الأرض مع النيّة، والأحوط استحباباً فيه وضع المساجد السبعة، ووضع ما يصحّ السجود عليه، نعم يُعتبر أن لا يكون ملبوساً أو مأكولاً.
يُستحبّ فيه افتراش الذراعين، وإلصاق الصدر والبطن بالأرض، ولا يُشترط فيه الذكر، ويُستحب أن يقول: (شُكراً لله) أو (شُكراً شُكراً) مئة مرّة، ويكفي ثلاث مرّات، بل مرّة واحدة.
وأحسن ما يُقال فيه ما ورد عن مولانا الإمام الكاظم عليه السلام: "قل وأنت ساجد:
"اللّهم إنّي أُشهدك وأُشهد ملائكتك وأنبياءك ورسلك وجميع خلقك أنّك الله ربّي والإسلام ديني ومحمد نبيّي وعليّاً وفلاناً وفلاناً إلى آخرهم أئمّتي بهم أتولّى ومن عدوِّهم أتبرّأ، اللّهم إنّي أُنشدك دم المظلوم - ثلاثاً - اللّهم إنّي أنشدك بإيوائك على نفسك لأوليائك لتظفرنّهم بعدوك وعدوّهم أن تصلّي على محمّد وعلى المستحفظين من آل محمّد اللّهم إنّي أسألك اليُسر بعد العُسر" ثلاثاً، ثمّ تضع خدّك الأيمن على الأرض وتقول: "يا كهفي حين تُعييني المذاهب وتضيق عليّ الأرض بما رحبت ويا بارئ خلقي رحمة بي وقد كان عن خلقي غنيّاً صلّ على محمّد وعلى المستحفظين من آل محمّد".
ثمّ تضع خدّك الأيسر وتقول: "يا مذلّ كلّ جبّار ويا معزّ كلّ ذليل قد وعزّتك بلغ بي مجهودي" ثلاثاً، ثمّ تقول: "يا حنّان يا منّان يا كاشف الكُرب العظام" ثلاثاً.
ثمّ تعود للسجود فتقول مائة مرة: "شُكراً شُكراً" ثمّ تسأل حاجتك إن شاء الله تعالى"(51).
29- الإرشاد، ج 1، ص 304
30- التمحيص، الإسكافي، ص 68، ح 163.
المصادر :
1- الخصال، الشيخ الصدوق، ص 568، ح 1.
2- عيون أخبار الرضا عليه السلام ، الشيخ الصدوق، ج1، ص 27، ح 2.
3- مفاتيح الجنان، الصحيفة السجّاديّة.
4- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج91، ص 146.
5- ميزان الحكمة، الريشهري، ج2، ص 1487، ح 1.
6- الشورى:23.
7- فاطر:34.
8- الرحمن:60.
9- تفسير الميزان، ج 1، ص 386.
10- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 91، ص 396.
11- قصص الأنبياء للراوندي، ص 164، ح 178.
12- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 96، ح 15.
13- بحار الأنوار، للعلّامة المجسليّ، ج 68، ص 52، ح 77.
14- ميزان الحكمة، الريشهري، ج 2، ص 1488، ح 2.
15- مشكاة الأنوار، علي الطبرسي، ص 77.
16- نهج البلاغة، الحكمة 330.
17- أمالي الطوسي، ص 501، ح 4.
18- إبراهيم:7.
19- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 95، ح 9.
20- نهج البلاغة، الحكمة 135.
21- ميزان الحكمة، الريشهري، ج 2، ص 1487.
22- نهج البلاغة، حكمة، 15.
23- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 427، ح 8.
24- النساء:147.
25- ميزان الحكمة، الريشهري، ج2، ص 1484.
26- النمل:40.
27- لقمان:12.
28- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 94، ح 1.
31- تحف العقول، الحراني، ص 233.
32- البقرة:152.
33- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 90، ص 163.
34- المحاسن، البرقي، ج 1، ص 39، ح 44.
35- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 90، ص 162.
36- م. ن، ص 163.
37- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 97، ح 19.
38- الزمر:66.
39- أمالي الصدوق، ص 379، ح 4.
40- أعلام الدين، الديلمي، ص 309.
41- غافر:61.
42- الأعراف:17.
43- الأعراف:10.
44- نهج البلاغة:الخطبة 191.
45- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 483، ح 20.
46- مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج 3، ص 304.
47- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 98.
48- تحرير الوسيلة، ج1، ح 8، ص 161.
49- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 98.
50- الوسائل، الحر العامليّ، ج 4، ص 1071.
51- الكافي، الشيخ الكليني، ج3، ص 325.
source : rasekhoon