أطوار التخلق الإنساني:
قال تعالى في سورة نوح: «مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا« [نوح: 13 ـ 14] يبين تبارك وتعالى أن تخلق الإنسان إنما يتم على اطوار متتالية، ثم يشير في سورة المؤمنين إلى أهم هذه الأطوار حيث يقول: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِين * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الْخَالِقِينٍَ« [المؤمنون: 12 ـ 15].
إن الناظر اليوم، في هذه الآيات البينّات وهو يضع في جعبته حقائق القرن العشرين عن علم الاجنة Embryology يشعر بأن الله تبارك وتعالى إنما خصه هو بهذه الآيات، وإن كانت قد نزلت منذ أربعة عشر قرناً من الزمان، لأنها تخاطبه باللغة التي يتباهى بها اليوم!!
فهذه الآيات تحوي على إيجازها أهمَّ أطوار تخلق الجنين في بطن أمه وهي «النطفة، والعلقة، والمضغة، ومرحلة تخلق الأجهزة، ثم الخلق الآخر»
هذه الأطوار التي استخدم لها القرآن ألفاظاً لم يستطع العلم الحديث إلا أن يستخدمها، وبذلك نجد أن الآيات القرآنية قد جاءت إضافة لإعجازها العلمي بإعجاز بلاغي فريد ومدهش. والآن لنسر مع آيات القرآن في تلك الأطوار التي أشار إليها:
ـ من النطفة الى العلقة: «ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً« [المؤمنون: 15] ما إن يتم التحام النطفة بالبيضة، حتى تباشر البيضة الملقحة بالإنقسام إلى خليتين، فأربع، فثمان، وهكذا.. دون زيادة في حجم مجموع هذه الخلايا عن حجم البيضة الملقحة،،وتتم عملية الإنقسام هذه والبيضة في طريقها إلى الرحم، تدفعها حركة أهداب البوق، والتقلصات العضلية المنتظمة لعضلات جدار البوق. حتى إذا وصلت إلى الرحم كانت كتلة من الخلايا الصغيرة الضلعة، يطلق عليها اسم التوتة Marula حيث تشبه ثمرة التوت بتقسيمها الخارجي، ثم لا تلبث الخلايا السطحية لهذه الكتلة أن تفترق عن الخلايا الداخلية، وتصبح بشكل خلايا أسطوانية، ومهمة هذه الخلايا تأمين الغذاء وتسمى بالخلايا المغذية ـ Troph blast وبذلك يصبح محصول الحمل قابلاً للتعشيش، فتغرس الخلايا المغذية استطالاتها في مخاطية الرحم، وتستمر عملية العلوق مدة «24»
أربع وعشرين ساعة، وبذلك تنتهي مرحلة تشكل العلقة. وقد لا يدرك روعة التصوير القرآني لهذه المرحلة بالعلقة إلا من شاهد تلك الكتلةالخلوية وهي عالقةٌ علوقاً ـ وليس التصاقاً ـ بواسطة تلك الاستطالات التي غرستها في مخاطية الرحم، وما أجدرنا هنا أن نعرج على هذه الآيات التي تذكر الإنسان بتلك اللحظات التي كان فيها مجموعة خلوية عالقة بجدار رحم الأم، تستمد منها الدفء والغذاء والسكن فيقول في أول سورة نزلت من القرآن، وأسماها الحق تبارك وتعالى بالعلق: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ« [العلق: 1 ـ 2].
ـ من العلقة الى المضغة: «فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً« [المؤمنون: 15].
بعد عملية العلوق تبدأ مرحلة المضغة في الاسبوع الثالث، بتشكل اللوحة المضغية، وذلك ابتداءً من الخلايا المضغية Embryoblast، وهي الخلايا التي بقيت بعد انفصال الخلايا المغذية، واللوحة المضغية هي عبارة عن قرص مؤلف في البدء من وريقتين: خارجية Ectoderm، وداخلية Endoderm، ثم تتشكل بينهما وريقة ثالثة هي الوريقة المتوسطة Mesoderm، وحتى نهاية الأسبوع الرابع لا يكون هناك أي تمايز لأي عضو أو جهاز، ويمكن أن نسمي هذه المرحلة بالمضغة غير المخلقة. ثم يمر الحمل في أدق مراحله وأصعبها، حيث يطرأ على اللوحة المضغية المؤلفة من الوريقات الثلاث جملة تغيرات نسيجية هادفة ومدهشة ابتداءً من الأسبوع الخامس، وتسمى بعملية التمايز Dcfferentiation، أو كما أسماها القرآن ««التخلق»»
، فكل زمرة من خلايا هذه الوريقات تأخذ على عاتقها تشكيل واحدٍ من أجهزة الجسم أو أعضائه، وذلك في إطار من التكامل والتنسيق بين هذه الأجهزة، وهي تنمو وتتطور، ليكون الإنسان في أحسن تقويم، وتنتهي عملية التخلق في نهاية الشهر الثالث تقريباً، ويكون طول الجنين عندها «10»
سم، ويزن حوال «55»
غم. ويمكن تسمية هذه المرحلة بمرحلة المضغة المخُلّقة. فطور المضغة يمر إذاً بمرحلتين: المرحلة الأولى حيث لم يتشكل فيها أي عضو أو جهاز وأسميناها مرحلة المضغة غير المخلقة، والمرحلة الثانية حيث تم فيها تمييز الأجهزة المختلفة وأسميناها مرحلة المضغة المخلقة، وهكذا يتضح جلياً إعجاز القرآن الكريم في وصفه لطور المضغة بقوله: «ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ« [الحج: 5].
اللغز المُحيِّر: لا بد أن يستوقفنا ونحن نتكلم عن عملية التخلق سؤال هام، وهو: كيف يمكن للخلايا المضغية Embryoblast المتماثلة تماماً في بنائها أن تعطي هذه الوريقات الثلاث «الداخلية والخارجية والمتوسطة»»
المختلفة عن بعضها البعض؟ ثم كيف يمكن لخلايا المتماثلة في كل وريقة على حدة أن تعطي الاجهزة المختلفة في بنائها ووظائفها وخصائصها؟«62»
... فالوريقة الخارجية مثلاً يتشكل منها: الدماغ، والاعصاب، وبشرة الجلد ولواحقه من الغدد والأشعار والأغشية المخاطبة بالفم والأنف. والوريقة المتوسطة يتشكل منها: القلب والأوعية الدموية، والدم، والعظام، والعضلات، والكليتين، وأدمة الجلد، وقسم من الغدد الصماء. أما الوريقة الداخلية، فيتشكل منها: مخاطية الجهاز التنفسي، والطريق الهضمي، والغدة الدرقية، والغدة جار الدرقية، والكبد، والبنكرياس.. وهكذا. أجل كيف تم ذلك؟ ومن الذي دفع هذه الخلايا المتماثلة الضعيفة لتعطي كل هذا من مراكز التفكير والشعور والإبداع؟ وكل هذا من مصانع الدم والسكاكر والبروتين؟ وكل هذا من أجهزة التكيف والراحة ومن وسائل الوقاية والحماية والأمن في الجسم؟ إنه اللغز الذي حيَّر وما زال يحير كل علماء الدنيا حتى يعلموا أن المبدع والموجه في هذه الحياة، هو الله... ويوم يصلون الى هذا اللغز فسيوقنون أكثر أنه «هُوَ الله الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ« [الحشر: 24].
ويتمالكنا العجب ونحن نرى أن القرآن قد اشار لهذا اللغز، في آيات تعد منارات هداية على طريق العلم، وبواعث تدفع للبحث والتحليل باستمرار، قال تعالى في سورة الحج: «ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ«، ثم يؤكد على هذه الناحية حيث يقول في سورة المؤمنون: «فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا« فهذه الآية تشير فقط إلى بدء تشكل العظام قبل تشكل اللحم ««العضلات»»
، كما لا تقتصر على الإبداع التعبيري الواقعي في تصوير علاقة العضلات بالعظام على أنها علاقة كساء، ومن يدرس التشريح يعلم تماماً كيف تحيط العضلات بالعظام كأنها كساؤها... أجل لا تقتصر الآية على ذلك فقط، وإنما تشير في تقديرنا إلى عملية التمايز والتخلق، التي تبتدئ من تلك المضغة الصغيرة: «فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا«.
ـ ثم أنشأناه خلقاً آخر ««طور الجنين»»
يميل محصول الحمل نحو الزيادة في الوزن بعد الشهر الثالث، وتسعى الأجهزة التي تشكلت نحو التكامل، حتى أن بعض الأجهزة تبدأ عملها أثناء الحياة الجنينية، كالقلب وجهاز الهضم، ويقوم نقي العظم بتكوين عناصر الدم.. وبشكل عام فإن أهم ما يطرأ على الجنين بعد الشهر الثالث هو: الحركة، ونبضان القلب، واستقلال إفراز المشيمة الغدي، والنمو المتسارع في حجم الجنين، وتكامل شكله الخارجي.
أما الحركة، فتبدأ في آخر الشهر الثالث وابتداء الرابع حيث تتم عملية إتصال الجهاز العصبي بالأجهزة، والعضلات، وتشعر الحامل بحركات جنينها الفاعلة في الشهر الرابع، أو قبل ذلك في المولودات. أما نبضات القلب فتبدأ بعد بداية الشهر الرابع، ويمكن سماعها أيضاً، وتكون واضحة في الشهر الخامس تذكر الدكتورة فلك الجعفري: ««أن أحد الأساتذة المصريين أراد تسجيل أول دقة للقلب، وعندما ابتدأ مشعر المسجل بالحركة، قال: هنا الله، أي: هنا قدرة الله»».
وبالنسبة لاستقلال المشيمة الغدي، فهو مباشرتها بإفراز الهرمونات اللازمة لاستمرار الحمل بعد أن أصبحت الكميات التي يفزرها المبيض غير كافية، ولان متطلبات الحمل من هذه الهرمونات تصبح أكبر بكثير من كفاءة المبيض.
أما نمو الجنين فيكون سريعاً في هذه المرحلة، فبعد أن كان وزنه في نهاية الشهر الثالث «55»
غم، وطوله «10»
سم، يصبح وزنه عند تمام الحمل حوالي «3240»
غم، وطوله «50»
سم، وخلال هذه الفترة، يتكامل شكله الخارجي، فيصبح لون الجلد أحمر، وتنبسط تجعداته، وتسقط عنه الاوبار، وتنفتح الجفون، وتتكامل الأظافر..
وبهذا الاستعراض السريع لأهم ميزات هذه المرحلة نجد أن تك المضغة قد أخذت بعداً آخر، اكتسبت فيه قدرة على الحركة، وابتدأ بها القلب بالنبضان بلا توقف، ولهذا البعد أشار القرآن بعد عرضه لسلسلة أطوار تخلق الجنين، حيث قال: «ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ«. ولعل أكثر الناس شعوراً بهذا البعد ليس الطبيب وإنما الأم الحامل التي ما إن تشعر بحركات جنينها حتى تحس بشيء لم تعهده من قبل، إنها تحس أن روحاً أخرى تدب في اعماقها، فتظهر علامات الارتياح على ملامحها، وتعلو البسمة محياها، وإذا ما غابت عنها تلك الحركات مدة بسيطة، قلقت وتأرقت.
وأبعد من هذا فقد وجد العلماء أن الجنين يبدأ في آخر الحمل بالسماع، ومما يسترعي سمعه وهو في بطن أمه، ذلك الصوت الحنون الخالد الذي لا يعرف إلا الحب والحنان والعطاء.. إنه صوت خفقان القلب الكبير... قلب أمه، وهكذا تنشأ صلات الحب والمسؤولية بين الأم ووليدها، في الوقت الذي تعاني فيه الأم من الوهن والعذاب ما لا يحتمله غيرها، ولذلك قال تعالى في سورة لقمان: «وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ« [لقمان: 14].
وبعد أن وقفنا على أطوار خلقنا البديعة المدهشة، هل لنا أن نقدر الله حق قدره؟، هل لنا أن نرجو لله وقاراً؟ ... «مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا« [نوح: 13 ـ 14].
تشخيص الحمل اليقيني والعدَّه:
ان الشعور بحركة الجنين، وسماع نبضات القلب، هما العلامتان اليقينيتان لتشخيص الحمل، وكل العلامات التي تسبقهما كانقطاع الطمث، وأعراض الوحام، وحتى إيجابية تفاعل الحمل الحيوي، لا تعتبر علامات يقينية نستطيع على أساسها القطع بحصول الحمل، فهناك حالات مرضية، يمكن أن تعطي نفس الأعراض، كالرحى العدارية، والورم الكوريوني البشري، والحمل الهيستريائي.
وكما لاحظنا أن هاتين العلامتين: شعور الحامل بحركة جنينها، وسماع الطبيب لدقات قلب الجنين، يحصلان بعد الشهر الرابع، وهذا ما بينه القرآن الكريم منذ ألف وأربع مئة عام، حيث قال تعالى:
«وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا« [البقرة: 234].
إن وجه الإعجاز في هذه الآية الكريمة ظاهر بلا شك، وهي تقرر ما يسمى بعدة المرأة التي توفي زوجها، حيث حددت وبالضبط المدة التي يصبح عندها أو بعدها تشخيص الحمل يقينياً.
أما عن الحكمة في هذه العدة فيعلمها الأطباء الشرعيون، إذ يجب أن يُعرف ما إذا كان الحمل من الزوج المتوفى أم لا، وحتى لا تنسب المرأة حملاً حملته سفاحاً لزوجها المتوفى، وحتى لا ينكر أهل الزوج المتوفى بنوّة الجنين الجديد لأبيه بغية التخلص من ميراثه، ويتهمون الام البريئة بأن حملها هذا سفاحاً أو من زوجها الجديد... وإلى آخر ما هنالك من المشاكل أو المظالم التي قد تقع.
البعد الإنساني ««الروح»»
:
البعد الإنسان، هو البعد الذي جعل من الطين الرخيص، بشراً كريماً تسجد له الملائكة المكرمون، قال تعالى: «إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ« [ص: 71]. وهو بعد الحياة الإنسانية ـ وليس الخلوية ـ الذي يمنحه الحق تبارك وتعالى للإنسان، وهو ما يزال في بطن أمه، عندما يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح. وقد بين ذلك أيضاً حديث الرسول «: ««ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح»»
. وذلك بعد «120»
يوماً، أي بعد أربعة أشهر، وهذا ما يطابق معطيات العلم الحديث.
وهكذا نفهم ذلك البعد الذي خص الله به الإنسان، فلم يعد مجرد عناصر أولية لا تساوي في قيمتها سوى دراهم معدودة في ميزان البيع والشراء، كما لم يعد مجرد مجمعة خلوية حية، بل ميزة عن باقي مخلوقاته يوم جمع بين المادة والروح في خلقه، وبذلك كان الإنسان خليفة الله في أرضه، ومهبط وحيه ورسالاته، وحامل أمانته، قال تعالى: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ« [الأحزاب: 72].
الظلمات الثلاث:
قال تعالى: «يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ« [الزمر: 6].
في الوقت الذي تعرض فيه الخلايا المضغية للاطوار التي
ذكرناها، يكون هناك ما يسمى بالخلايا المغذية التي تأخذ على عاتقها تأمين الغذاء والهواء لحصول الحمل، ثم يتشكل منها ملحقات الجنين والتي منها، هذه الأغشية الثلاثة التي تحيط ببعضها وهي من الداخل الى
الخارج:
1 ـ الغشاء الأمنيوسي Amniotic membrane: وهو يحيط بالجوف الأمنيوسي المملوء بالسائل الأمنيوسي، الذي يسبح فيه الجنين بشكل حر.
2 ـ الغشاء الكوريوني Chorionec membrane، الذي تصدر عنه الزغابات الكوريونية التي تنغرس في مخاطية الرحم.
3 ـ الغشاء الساقط Disidua memb، وهو عبارة عن مخاطية الرحم السطحية بعد عملية التعشيش ونمو محصول الحمل، وسمي بالساقط لأنه يسقط مع الجنين عند الولادة.
وبالنظر الى الآية السابقة «يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ«، واستناداً ألى المعطيات العلمية التي ذكرناها حول الأغشية الثلاثة، نجد أنفسنا مرة أخرى امام إعجاز قرآني جديد، إذ أشارت الآية الكريمة لأغشية الجنين الثلاثة بتصوير واقعي لجو الظلمة المحيطة بالجنين، فما أسميناه بالغشاء أسماه القرآن بالظلمة: ظلمة الغشاء الأمنيوسي، وظلمة الغشاء الكوريوني، وظلمة الغشاء الساقط. وشيء آخر في الآية الكريمة هو تبيانها أن عملية الخلق تتم على أطوار متلاحقة داخل هذه الظلمات الثلاث: «خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ«.
أجل ينبغي للداعي أن يهتف من أعماقه:
اللهم إني اسألك برحمتك التي وسعت كل شيء!
تجليّات مدهشة من رحمة الله الواسعة:
وإن شئت نظرت إلى جانب آخر ترى آثاراً مدهشة أخرى من رحمة الله الواسعة، فلعل الغبار الذي يكتنف مرايا القلوب فتسطع عليها الأنوار، ويتأجج الحب في ارواحنا فتهب الى العبادة الخالصة وتنفر من المعاصي والذنوب نفوسنا.
ان جهاز دماغ الانسان لهو من أعجب الاجهزة عندما تستعرض الاعمال والوظائف التي يؤديها ويقوم بها؛ إذ تقف اعظم الاجهزة التي صنعها الانسان عاجزة امام عظمته.
ان إحدى وظائف الدماغ هو تسجيله جميع الوقائع المختلفة ليشكل في مجموعه الذاكرة، والذاكرة البشرية وحدها ترتبط بجزء صغير من الدماغ واليك هذا المثال لتتصور قوّة الذاكرة:
لنفترض ان شخصاً امضى من عمره خمسين سنة واراد أن يدون ذكرياته من دون زيادة أو نقصان. انه يحتاج الى ذلك الى ما يعادل 160.000.000 صحيفة من القطع الكبير وبعشرين صفحة مليئة كلها بسطور وحروف ناعمة.
ان آلية الاستذكار أو استعادة الذكريات الماضية تشبه كثيراً شريط الكاسيت والفرق الوحيد ان القوة الكهربائية لشريط المخ هي من اعصاب البدن ولا تحتاج الى تدوير.
ولو أراد الانسان أن يجسد عمل المخ في جهاز آلي للزمه أن يركب جهازين متجاورين كناطحتي سحاب وأن يجهزهما بالقوة الكهربائية من خلال اعظم شلال في العالم وحتى لا تحدث كارثة بسبب الحرارة التي تشع من الاسلاك الساخنة بسبب جريان القوة الكهربائية؛ فانه يحتاج الى جميع ماء الشلال العظيم ذلك من أجل التبريد.
وحتى هذا الجهاز الخيالي المخترع لن يكون بامكانه اداء جميع ما يؤديه دماغ الانسان العادي في طريقة تفكيره فما بالك بالعباقرة!
ان الامر الذي يصدر عن مخ الطفل الرضيع الى الشفتين لامتصاص اللبن من ثدي الأم هو وراء هذه الحالة من الطمأنينة التي تستغرق الطفل في الحضن الرؤوم.
وهناك في جسم الأم أعظم مصنع كيماوي آلي يقوم بتحويل الدم القاني الى لبن ناصع سائغ غني بكل الفيتامينات اللازمة لنمو الطفل.
كل هذا الغذاء الغني والعذب يتدفق من مخزنين الى حلمتين الى فم الطفل وانظر الى ذلك الانسجام بين الحلمة وفم الطفل حيث الحلمة مجهزة بثقوب مناسبة تنفتح بمجرد ان يقوم الطفل بعملية المص ثم تنغلق حالما يرتوي ويكف عن العمل.
وهذا المصنع الهائل غارق في سبات عميق ما دام الطفل ما يزال جنيناً في بطن أمّه، حتى اذا حانت لحظة الميلاد وخرج الى الدنيا يستيقظ هذا المجمع الصناعي الكبير ويعمل بكل طاقته ألانتاجية، ليعمل وينتج لبناً غنياً بمادّته طيباً في مذاقه ومتناسباً مع نفس الطفل في ما يلزمه من أسباب النمو؛ والاعجب والاكثر إثارة أن المصنع يتطور كلما تقدّم الطفل في عمره فينتج بما يتوائم مع حالة الطفل الرضيع، حيث تتضاعف المواد الغذائية التي يزخر بها الحليب!
انها حقائق مدهشة ومحيّرة لا تعكس سوى تجليّات من رحمة الله الرحمن الرحيم هذه الرحمة المطلقة التي تغمر كل الوجود.
وما على الانسان الاّ أن يتأمل ما حولـه من الآيات وفي اعماقه من الأسرار المثيرة، ليعي الفيض الذي يغمره ويغمر العالم من حولـه، ومن ثم يعرف الطريق الى خالقه وحينئذ سيمد كفّيه باتجاه الأزلي الأبدي هاتفاً:
««اللهم اني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء»».
الجهاز التنفسي:
تقوم الرئتان في متوسط حياة الانسان العادية بما يناهز الخمسة مليون عملية من الشهيق والزفير. وتوجد في الجهاز التنفسي مئات الآلاف من الغدد تفرز السوائل اللزجة ووظيفة هذه الغدد هو اجتذاب الذرات الضارة الموجودة في الهواء في حالات الغبار عندما تلج حين التنفس.
وفي غياب هذه السوائل ولو لحظات فأن الانابيب التنفسية سوف تنسدّ وتؤدي بحياة الانسان.
وتزخر الانابيب «القصبات الهوائية»
تلك بالآلاف من الشعيرات التي تقوم بدور التنقية. وتقوم هذه الشعيرات في الثانية باثني عشر عملية كنس في الأنابيب ودفع الذرات الضارة الى الجهاز الهضمي وابطال آثارها السلبية.
وتقوم القصبات الهوائية بايصال 750 مليون كيس رئوي الى الهواء النقي واستبدال الكاربون والدم المؤكد بالاوكسجين النقي واهب الحياة. وهذه حقيقة أخرى وهي جزء من ««كل شيء»»
حيث كل شي مغمور برحمة الله.
الجلد:
للجلد منافع لا تحصى ومنها:
1 ـ انه مزود بمسامات غاية في الدقة حيث يمكن للانسان ان يتنفس منها قدراً مما يلزمه من الهواء ولولا هذه المسامات لاستحالت الحياة.
2 ـ انه مزود بالغدد التي تقوم بالتعرّق وتلطيف حرارة الجسم والمحافظة على درجة حرارة مناسبة لحياة الانسان.
3 ـ انه مجهز بالغدد الدهنية تجعل منه طريّاً ومن الشعر فتياً.
4 ـ انه الخط الأول في عملية الدفاع أمام هجوم الجراثيم.
5 ـ انه ومن خلال عملية التعرّق يقوم بطرد السموم من البدن وهذا ما يخفف الاعباء عن الكليتين.
6 ـ انه يحفظ السوائل اللازمة لحياة الانسان في الجسم ويمنع تسربها الى الخارج.
7 ـ انه مركز الحاسّة اللامسة، ومن خلاله يتحسس الانسان الحرارة والبرودة، النعومة والخشونة، المرونة والصلابة الرقة والضخامة ويرسل تقاريره الى مركز المحاسبات المنطقية.
انه بايجاز جزء آخر من تجلّيات الرحمة الالهية والفيض السماوي.
المنظومة الدفاعية:
ان الله عزوجل الذي خلق بدن الانسان جعل له برحمته خمسة خطوط دفاعية تصد عنه هجمات المغيرين وهي الجراثيم والفيروسات:
1 ـ الجلد الذي يحيط بالبدن احاطة القلعة بأسوارها.
2 ـ الانسجة اللمفاوية: وهي انسجة تشبه النسيج القطني الذي يلي الجلد ولونه حليبي وقد يتغير لونه ويكون في بعض الاحيان سميكاً وفي اجزاء اخرى رقيقاً، فإذا استطاع العدو اختراق الخط الاول تصدّى له النسيج اللمغاوي بالمقاومة.
3 ـ الاغشية المخاطية ولونها يتناسب مع العضو الذي تغطيه ووظيفتها الدفاع عن العضو.
ولبعض الاعضاء كالقلب غشاءان من هذه الاغشية المخاطية الأول خارجي ويحيط بالقلب من الخارج والآخر داخلي يغطي القلب من الداخل.
4 ـ الحامض المعدي: عندما يتمكن العدو من الوصول الى المعدة يتصدى له هذا الحامض بالمقاومة.
5 ـ الكريات البيض وهي الكريات التي تسبح في الدم وتشتبك مع الجراثيم الواردة في الدم ولا تكف عن القتال والصراع والمقاومة الى ان يتم القضاء على العدو،ولكنه من المثير أنها تشخص العدو من الصديق لأنها عندما تشعر بدخول جراثيم مفيدة فأنها سرعان ما تتعاون معها«63».
وهل هناك غير الرحمة الالهية والرأفة الرحمانية التي تغمر البشر وتحفظه من الآفات وتحميه في دروب سي الحياة؟!
حقاً انها رحمة مطلقة تغمر كل شيء.
النباتات وفوائدها المدهشة:
انها جزء من الرحمة التي تغمر كل شيء فالنباتات بأنواعها وما تنطوي عليه من فوائد كبرى تلعب دوراً في حياة الانسان واستمرار وجوده وبقائه.
ففي الهواء نسبة محدودة من غاز الاوكسجين هذا الغاز الذي لا يستطيع الكائن الحي أن يستغني عنه ابداً.
ان عملية الشهيق في التنفس تعني استنشاق قدر من الأوكسجين يرد الدم من خلال الرئتين لينتشر في انحاء البدن. والاوكسجين يحرق الغذاء في الخلايا المختلفة مخلفاً غاز الكاربون الذي ينتقل عبر الدم ايضاً الى الرئتين ليطرد خارج الجسم بعملية الزفير. وعملية التنفس بالشهيق والزفير تعني احراق الاوكسجين واطلاق غاز ثاني أوكسيد الكاربون.
وهنا يرد هذا السؤال لماذا لا ينضب اذن غاز الاوكسجين؟ ان نسبته في الهواء تبقى ثابتة بالرغم من وجود المليارات من البشر والكائنات الحية الاخرى وعلى امتداد آلاف السنين. ان الشخص الواحد وخلال 24 ساعة ينفث في الجو ما يعادل 250غم من الكاربون فان مجموع البشر ينفثون الى الجو حوالي 500.000.000 خمسمئة مليون طن من الكاربون.
وعليه يفترض انحسار نسبة الاوكسجين وتفاقم نسبة ثاني اوكسيد الكاربون!!
ولكن رحمة الله عزوجل حفظت للبشر والكائنات الحية حياتها ودفعت عنها الخطر الحتمي.
لقد خلق الله عزوجل كائنات حيّة أخرى تقوم في تنفسها بعكس ما يقوم به البشر يعني ان النباتات تستفيد من ثاني اوكسيد الكاربون وتطلق الى الجو والهواء الاوكسجين وهذا بالضبط ما تقوم به النباتات في عملية التركيب الضوئي في صنع الغذاء المعروفة.
ان هذا التوازن في نسب الغازات في الهواء يعكس جانباً من الرحمة الالهية المطلقة.
فيا حسرة على من لا يرى نعمة الله تبارك وتعالى رحمته ويا حسرة على من لا ينتبه من غفلته فيرى الآيات من حوله.
والنباتات في دورها الحياتي هذا هي ليست كل شيء وان الانسان ليرى الوانها المختلفة ويشم روائحها ويتلذذ باطعمتها المتنوعة.
دور الحشرات والحيوانات في الحياة:
الله سبحانه وحده الذي يعرف عدد الحشرات والحيوانات فهو الذي خلقها فلا يحصيها غيره، انها تملأ البحار والبراري والغابات وما أعظم فوائدها على الناس.
1 ـ حشرات تقوم بدور التلقيح: لقد خلق الله سبحانه الأشجار المثمرة زوجين ذكراناً وأناثا والاشجار؛ المثمرة تحتاج الى تلقيح من الاشجار الأخرى الشبيهة لها في الشكل ولا تثمر.
ولكن من يقوم بعملية التلقيح يا ترى؟ إنّ الله سبحانه سخّر لذلك بعض الحشرات التي تقوم بهذه المهمة على احسن وجه؛ فهي تنتقل بين زهور الاشجار ويلصق بأرجلها من اللقاح من هذه الزهرة لتحط على زهرة أخرى ويتم التلقيح وتحمل الاشجار الثمار!!
والمدهش هنا ان هذه الحشرات تقوم بهذه المهمات دون ان يصدر عنها خطأ فهي لا تنقل اللقاح من شجرة التفاح الى اشجار الخوخ ولا من أشجار الخوخ الى شجرة التفاح وانما يتم التنقل بين النوع الواحد من الاشجار، وتقوم الاشجار بتقديم المكافأة لهذه الحشرات فتقدم لها الرحيق والشهد.
2 ـ الابقار والغنم: يقول علماء الأحياء ان كل شيء موجود بالقدر المطلوب فاللبن الموجود في الثدييات موجود بقدر ما يحتاج الرضع من الصغار ولكن الله عزوجل جعل في هذه القاعدة العامّة استثناءً حيث نجد الابقار والأغنام خارجة عن هذا القانون الطبيعي لأن الله جعل من لبن الأبقار والاغنام ليس غداءً لصغارها فحسب بل يوجد فائض كبير يصل الى الانسان لأن حليب الابقار والاغنام غذاء غني بالفيتامينات وهي حيوية في حياة البشر«64».
أليس هذه رحمة من الله عزوجل للانسان ان سخر له هذه الأنعام، فهذه يركبها وتلك تحمل اثقاله من بلد الى بلد وثالثة يحلبها!!
وليتأمل الانسان في قطعان الغنم وهو يشرب لبنها ويتغذى بلحمها ويرتدي من أصوافها ما يدرأ عنه غائلة البرد في فصل الشتاء؛ أنها آثار رحمة الله وما على الانسان الاّ ان ينظر ويعتبر.
3 ـ النحل: يقول علماء النبات ان الازهار لا تنتج الرحيق على مدار اليوم بل انّ لها أوقاتاً محددة في اليوم؛ تقدّم فيها الرحيق وهي لا تعدو ثلاث ساعات في اليوم كما انها لا تعرضها في وقت متواصل في اليوم الواحد فهي تقدم جزءً من رحيقها في الصباح وعند الظهيرة وفي الأصيل.
ويعدّ النحل خبيراً متمرّساً في شؤون الأزهار كما انه يعرف الوقت المناسب والساعات التي تقدم فيها الازهار الشهد والرحيق وفي تلك الاوقات المحددة تنطلق النحلة لامتصاص الرحيق من مختلف الازهار«65».
وبعد ذلك يقوم النحل بتحويل الرحيق والشهد الى مادّة أخرى شهية طيبة المذاق وهي العسل المصفى بألوانه الرائقة وطاقاته ومادّته الغذائية الكبيرة، فالعسل كما هو معروف لا يعرف الفساد بل انه دواء ناجع لكثير من الامراض وقد قال الله عزوجل: «فيه شفاء للناس«.«66»
وقد ألف العلماء في النحل والعسل عشرات بل مئات الكتب وفي كل ورقة تجد آية من آيات الله ورحمته ورأفته.
الهداية نعمة كبرى:
وشاءت الرحمة الالهية الازلية ان يعيش الانسان مدّة من الزمن في مكان من صرح هذا الوجود الكبير؛ انه كوكب الارض حيث الرياح والغيوم والشجر وحيث الشمس والقمر، وقد سخر الله له كل شيء في هذا الكوكب ليعيش تجربته الانسانية في البناء والاعمار وقد منحه الله سبحانه نعمة العقل مصباحاً وسراجاً منيراً، يضيء له الطريق. ومنحه الله سبحانه الارادة والحرّية في الاختيار ومنحه الضمير والوجدان قانوناً اخلاقياً واودع فيه اسرار الفطرة الآدمية.
وحتى لا يضل الانسان طريقه في دروب الحياة؛ أرسل اليه الانبياء وانزل عليه الرسالات يحملها بشر بلغوا مراتب السمو والكمال، وكان كتاب الله العزيز القرآن المجيد، هو آخر الكتب السماوية فيه هدى للضالين ودليل للحائرين.
ولو تأمل الانسان في ما أنعم الله عليه من نعم مادّية وأخرى روحية معنوية، لأدرك ان الله رحمان رحيم غمر فيضه عوالم الغيب والشهادة والملك والملكوت.
فالمؤمن تغمره من الله رحمة واسعة ورأفة ويرفعه بعمله وسعيه الى مرتبة عالية لا يبلغها حتى الملك المقرّب.
وفي هذا العصر حيث تشع انوار المعرفة، اتضح الطريق الى الله فيسلك السالك درب الحب وطريق العشق، مستضيئاً بايمانه يشدّه شوق للقاء المحبوب فترى الوالهين يشدّون الرحال الى المعشوق قد تيّمهم الحب، لا يلتفتون الى شيء غيره، وقد أخذ العشق بألبابهم، فهم عن ذكر المحبوب لا يفترون.
ان الانسان المؤمن ينتخب الصراط المستقيم وطريق الهدى القويم يعمل الحلال من الاعمال ويجتنب الحرام من الافعال، يخدم الخلق لأنهم عيال الله، وقد وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات أجراً غير ممنون أجراً كريماً وكبيراً ورضوان من الله أكبر والخلود في جنات الفرودس.
رحمة الله:
الانسان وهو يطوي المسافات في دروب الحياة، لا بد وأن يخطئ ويعثر فالنسيان والجهل والعصيان أمور تعتور مسيرة الانسان.
وشاءت الرحمة الالهية ان يبقى باب التوبة والعودة مفتوحاً للانسان على مصراعيه.
فمهما انحرف الانسان عن جادة الصواب ومهما زلّ وضل ونأى عن الطريق القويم، فانّ باب الانابة الى الله مفتوح، وقد وعد الله عزوجل عباده النادمين التائبين بقبول التوبة والغفران والصفح، خاصّة اذا اقترنت توبته بتلاوة دعاء كميل في ليالي الجمعة، ليلة الرحمة والمغفرة.. إنّ هذا الدعاء الجليل بسمو معانيه لا بد وأن يستمطر الرحمة والقبول من لدن الله الغفور الرحيم. وكيف لا وقد وعد الله عزوجل عباده العصاة بالمغفرة إن هم تابوا وعادوا وأنابوا إليه.
«قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ««67».
وهذه طائفة من الآيات مفعمة بالرحمة والمغفرة بوعد الله عزّوجل الذي لا يخلف الميعاد.
ـ «إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ««68».
ـ «وَالله رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ««69».
ـ «وَالله يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ««70».
ـ «أَنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ««71».
ـ «وَالله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء««72».
ـ «وَالله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ««73».
ـ «إِنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا««74».
ـ «إِنَّ الله كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا««75».
ـ «وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ««76».
«إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ««77».
وأمام هذا الزخم من الآيات التي تزرع الأمل من النفوس، من المنطقي أن يكون اليأس من الكبائر التي يعاقب الله عزوجل عليها اشدّ العقاب.
وجاء في كتب الحديث عن ابي عبدالله الصادق «: انه يؤتى بالمؤمن المذنب يوم القيامة حتى يوقف بين يدي الله عزوجل، فيكون هو الذي يلي حسابه فيوقفه على سيئاته شيئاً فشيئاً، فيقول: عملت كذا في يوم كذا في ساعة كذا، فيقول: أعرف يا ربّ، قال: حتى يوقفه على سيئاته كلها، كلّ ذلك يقول: أعرف، فيقول عزوجل سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم، ابدلوها لعبدي حسنات، قال: فرتفع صحيفته للناس فيقولون: سبحان الله! أما كانت لهذا العبد سيئة واحدة؟! وهو قولـه الله عزوجل: «أُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ««78».
دعوات مستجابة:
كان في زمان منصور بن عمار وهو من العارفين رجل ثري وكان للثري مجلس كل ليلة ترتكب فيه المعاصي؛ وذات يوم أعطى الرجل غلامه أربعة دراهم وأمر أن يشتري ما يلزم المجلس من طعام وشراب.
وانطلق الغلام الىالسوق فمر بمجلس منصور بن عمار وهو يعظ من حولـه والجالسين اليه؛ فسمع منصور بن عمار يخاطب الناس من يهبني أربعة دراهم لهذا الفقير وأدعو له اربع دعوات؟
فقال الغلام في نفسه: ليس هناك ما هو أفضل من هذا أعطيه الدراهم واشتري منه أربع دعوات وان هذا لأفضل من اشتري طعاماً وشراباً لأهل المعاصي.
وتقدم الغلام الى منصور بن عمار وسلمه الدراهم فقال منصور ما تريد أن ادعو لك.
قال الغلام أريد أن تدعو لي بأن يطلق الله أساري فأكون حرّاً والثانية أن تدعو لمولاي بأن يوفقه الله للتوبة والثالثة: أن يعوضني الله بدل هذه الدراهم دراهم مثلها والرابعة أن يغفر الله لي ولسيدي وأصحاب مجلسه.
ودعا له منصور بن عمار الدعوات الاربع وعاد الغلام خالي اليدين فسأله سيده عن الطعام والشراب فقال: يا سيدي اشتريت بها دعوات أربع فسأله سيده عنهن فقال: الأولى أن أطلق من ربقة العبودية.
فقال له: أنت حرّ لوجه الله.
قال الغلام: والثانية: أن يوفقك الله للتوبة.
فقال الرجل الثري: لقد تبت الى الله ولن أعصيه بعد الآن أبداً.
قال الغلام والثالثة: أن يعوّضني الله بدل الدراهم الاربعة دراهم غيرها. فنقده الرجل أربعة دراهم في الحال.
فقال الغلام: والرابعة أن يغفر الله لك ولأصحاب مجلسك.
فقال الرجل: لقد قمت بما استطيع، أما هذه فليست لي ولا من شأني.
ولما أوى الرجل تلك الليلة الى النوم، سمع في عالم النوم هاتفاً من جانب الحق يقول له: يا عبدي أنت بفقرك ومسكنتك وقد قمت بالذي عليك فكيف لا أغفر لك ولأصحابك وأنا الكريم لقد غفرت لك ولغلامك ولأصحابك.
الورود على ربّ كريم
يروى أن رجلاً حكيماً مرّ يوماً بسكّة فرأى أقواماً أرادوا اخراج شاب من المحلة لفساده، وامرأة تبكي قيل انها أمّه؛ فاشفق الرجل الحكيم عليها فشفع له اليهم وقال هبوه منّي في هذه المرّة فإن عاد الى فساده فشأنكم فوهبوه منه فمضى به الرجل، فلما كان بعد أيام اجتاز بتلك السكة فسمع بكاء العجوز من وراء ذلك الباب فقال في نفسه لعل الشاب عاد الى فساده فنفي من المحلّة، فدّق عليها الباب وسألها عن حال الشاب؛ فقالت انه مات فسألها عن حاله، فقالت لما قرب أجله قال لا تخبري الجيران بموتي فلقد آذيتهم فانهم سيشتموني ولا يحضرون جنازتي؛ فإذا دفنتيني هذا خاتم لي مكتوب عليه بسم الله الرحمن الرحيم فادفنيه معي؛ فإذا فرغت من دفني فتشفعي لي الى ربي ففعلت وصيته، فلما انصرفت عن رأس القبر سمعت صوته يقول: انصرفي يا أماه فقد قمت الى ربّ كريم«79».