توبة بعد توبة:
يروي ««العطار»»
في كتابه ««منطق الطير»»
ان رجلاً وُفّق للتوبة بعد أن استغرق في الذنوب والمعاصي ولكنه بعد أن تاب عاد مرّة أخرى الى المعصية ثم تاب ايضاً وسرعان ما كسر توبته وارتكب الاثم، حتى عاقبه الله ببعض ما جنت يداه حتى أدرك أن فرّط في عمره وضيّع سنوات حياته بدداً وأوشك على الرحيل فأراد التوبة، ولكنه اعرض عنها خجلاً وحياءً وكان يتقلقل تقلقل حبّة القمح عندما تسقط فوق الجمر؛ حتى حل السحر سمع نداءً من الغيب: لقد تبت عليك يوم تبت أول مرّة ولمّا نقضت العهد لم انتقم منك فأمهلتك حتى تبت مرّة أخرى وقبلت توبتك فلما نقضت ذلك في الثالثة واستغرقت في المعاصي والذنوب أمهلتك والآن إن أردت التوبة فتب فإني سأغفر لك«80».
يا من يجيب دعوة الحائرين
ويروي العطار أيضاً ان جبريل الأمين سمع من على سدرة المنتهى نداء الحق تعالى يقول: لبيك فنظر الى السموات السبع وفي عالم الناسوت فلم ير من يليق بنداء الله عزوجل؛ فقال يا رب إنّي نظرت فلم أجد من يليق بندائك يا رب؛ فقال الحق تعالى انطلق الى الارض تر في معبد الروم عبداً من عبادي يبكي؛ فلما رأى ذلك قال: يا رب ازح عني بصري الحجب لأني وجدته من الضالين، قال الله عزوجل ألم تره يبكي ويبحث عني وهو قد ضل الطريق ويستنجد بي، من أجل هذا قلت له لبيك فيشرق على قلبه الايمان ويهتدي الى الطريق«81».
وبقوتك التي قهرت بها كل شيء
وبقوتك التي قهرت بها كل شيء
وأسألك يا الهي بقوتك وحكومتك، التي خضع لها واستجاب لها كل شيء في هذا الوجود.
إنّ قدرته سبحانه هي عين ذاته لا نهاية لها ولا حدود؛ انها مطلقة مطلقة، وانه لا قدرة ولا قوة يمكن مقارنتها بقدرته؛ انها قدرات وهمية تجسّد الضعف التام أمام قدرة الله عزوجل.
وكل ما نراه من قدرات ما هي إلاّ شعاع من قدرته إذ ««لا حول ولا قوة إلاّ بالله»».
ان ««كل شيء»»
يعني كل الكائنات، التي ظهرت الى الوجود بإرادته هو سبحانه ولا يحيط بما خلق غير الذي خلق.
هذا الوجود المترامي وتلك السموات البعيدة والنجوم والمجرّات في اغوارها السحيقة وهذه الأرض بكل غاباتها الكثيفة ومجاهلها والحيوانات التي تنتشر في أنائها في البراري وفي البحار والمحيطات من الفيروسات المتناهية في الصغر الى الحيتان الكبيرة.. ترى من الذي يمكنه احصاءها بل وحتى استكشافها.
الله وحده هو الذي خلقها، فهي طوع قدرته ورهن ارادته سبحانه، اذا قال للشي كن فيكون.
ان هذا الوجود بنظامه الدقيق والحياة في مسيرتها منذ ملايين السنين تجسد عظمة القانون الذي يحكمه والقدرة التي تسيطر عليه وتسير الى غاياته واهدافه.
وخضع لها كل شيء
وخضع لها كل شيء
إنّ كل شيء ينحني أمام قدرته وسلطانه مستسلماً لإرادته إذ لا قدرة الاّ قدرته ولا سلطان الاّ سلطانه سبحانه ان كل الكائنات في عوالم الغيب والشهود. من الذرات الصغيرة الى المجرّات الكبيرة الكبيرة إنّ كل شيء في هذا الوجود الفسيح اللامتناهي، خاضع لارادته تبارك وتعالى شأنه.
اللهم يا ملاذ اللائذين ويا معاذ العائذين، ويا منجي الهالكين ويا عاصم البائسين، ويا راحم المساكين، ويا مجيب المضطرين ويا كنز المفتقرين، ويا جابر المنكسرين، ويا مأوى المنقطعين، ويا ناصر المستضعفين ويا حصن اللاجئين.
إن لم أعد بعزّتك فبمن أعوذ؟
وإن لم ألذ بقدرتك فبمن ألوذ؟
الهي ليس لي وسيلة اليك الاّ عواطف رأفتك.
ولا لي ذريعة اليك الاّ عوارف رحمتك.
الهي كسري لا يجبره الاّ لطفك وحنانك.
وفقري لا يغنيه الا عطفك واحسانك.
وروعتي لا يُسكنها الاّ أمانك.
وذلّتي لا يُعزّها الا سلطانك.
وامنيتي لا يبلّغنيها الاّ فضلك.
وخلّتي لا يسدّها الاّ طولك.
وحاجتي لا يقضيها غيرك.
وكربي لا يفرجه سوى رحمتك.
يقول الامام زين العابدين في الدعاء الثالث عشر من الصحيفة السجادية:
اللهم يا منتهى مطلب الحاجات!
ويا من عنده نيل الطلبات!
ويا من لا يبيع نعمه بالاثمان!
ويامن لا يكدّر عطاياه الامتنان!
ويا من يُستغنى به ولا يُستغنى عنه!
يا من يُرغب اليه ولا يُرغب عنه !
ويا من لا تُفني خزائنه المسائل!
ويا من لا تنقطع عنه حوائج المحتاجين!
ويا من لا يعنّيه دعاء الداعين!
تمدّحت بالغنى عن خلقك.
وأنت أهل الغنى عنهم.
ونسبتهم الى الفقر وهم أهل الفقر اليك
فمن حاول سدّ خلّته من عندك، ورام صرف الفقر عن نفسه بك فقد طلب حاجته في مظانّها، واتى طلبته من وجهها. ومن توجه الى أحد من خلقك أو جعله سبب نجحها دونك؛ فقد تعرّض للحرمان، واستحق من عندك الحرمان.
هذه الكائنات.. وهذا الوجود لم يكن ذات يوم ثم كان وهذه المخلوقات هي كلمات الله عزوجل جاءت من ديار العدم الى عالم الوجود.. إنّها لا شيء لا قدرة مستقلة لها ولا حياة ذاتية؛ فكل شيء مبدأه من الله الخالق واستمراره في البقاء انما هو بالله تبارك وتعالى.. الارض جميعاً قبضته والسماوات مطويّات بيمينه.
لا مجال لأي كائن ان يتمرد أو يخرج عن قدرته؛ فكل الكائنات خاضعة في مملكته.
وما على الانسان الذي منحه الله الحرية الاّ ان ينظر ما حوله فيعتبر والاّ ينفخ في نفسه الغرور فيغترّ.
الانسان قادم من قلب التراب والطين والماء المهين، كائن خرج من الارض كما النبات وسيعود اليها بعد مدّة من الزمن فيتحلل ويصبح جزءً من عناصر الأرض كما بدأ أول مرّة.
فأيّة قدرة للانسان وهو محكوم بالميلاد والموت وما حياته في الارض الاّ امتحان واختبار وتجربة انسانية؛ يتوقف عليها مصيره، امّا سعادة خالدة أو شقاء أبدي.
وبجبروتك التي غلبت بها كل شيء
وبجبروتك التي غلبت بها كل شيء
واسألك يا الهي بجبروتك الذي تقهر به الاشياء.. جميع الاشياء والكائنات مغلوبة أمامك.
الجبروت صفة مبالغة، وتعني تعويض كل ما ينقص في الوجود في عالم الامكان حيث تتدفق النعم والخيرات وكل ما من شأنه أن يسد النقص الحاصل الى حدّ الفيض.
لم تكن المخلوقات في بداية خلقها شيئاً يذكر فصورها الأولية ذرّية أو بذور صغيرة وحبّات أو نطف لا وزن لها.
الله الرحيم يجبر النقص
لو نظرت بإمعان الى ما حولك لرأيت عجباً فهذه الشمس الساطعة التي هي جزء صغير جداً يضيع في عالم الشموس.. هذه الشمس التي تبعث لنا النور والدفء من وراء ملايين الأميال.. هذه الشمس هي الجحيم المستعر حيث تبلغ درجة الحرارة في سطحها أكثر من ستة آلاف درجة مئوية «6093»
أما أعماقها فلا يمكن تصوره.
هذه الشمس تبعثر في كل ثانية اكثر من 12.400.000 طن من الطاقة ولو أردنا معادلة تلك الطاقة بالفحم الحجري لبلغ هذا الرقم 679 مليون مليارد طن!!
ان وزن ما تستهلكه الشمس من الطاقة يبلغ أربعة ملايين طن في الثانية الواحدة حيث يصبح مجموع ذلك في السنة 126.144.000.000.000. فلماذا اذن لا تخبو الشمس وتنطفئ ولو كانت مكونه من الفحم الخالص لانتهى أمرها بعد 60 قرناً فقط.
لا جواب الاّ جبروت الله عزوجل لأن الشمس انما هي كتلة من الغاز وانها الطاقة المتفجرة فيها وهذه الحرارة والنور انما يعودان الى انها اشبه بمفاعل نووي عملاق وان ما يحصل فيها انما هو سلسلة من الانفجارات النووية الهيدروجينية حيث تجتمع اربعة ذرّات هيدروجين لتكوين ذرّة هليوم ولكن مع فائض ذرّي يستحيل الى طاقة كبرى، فانظر الى آثار جبروت الله عزو جل وجلاله.
المدّ والجزر:
ان سطح بحر من البحار الحرّة هو ادنى في حدود 27.6م ثم ينحسر الى اكثر من ذلك؛ فبحر الخزر لا يرتبط ولا يتصل بالبحار الحرّة ولهذا لا يتبع المد والجزر في المحيطات، ومن هنا فهو لا يتأثر بجاذبية القمر بالشكل الكافي لصغره، ولذا يجب الاّ يكون فيه مدّ وجزر ومن ثم فانه يتعفّن وتموت فيه الكائنات الحيّة من اسماك وغيرها وبالتالي تحوّله الى مستنقع آسن ملوث ويصبح مصدر تهديد يهدد البيئة بخطر التلوث! فلماذا اذن لم يتلوث حتى الآن ولن يتلوّث أبداً؟!
إنّ مصدر الفيض والبركة وخالق الوجود هو الذي خلق هذا البحر وغمره بفيض رحمته وجبروته؛ ولذا ترى مختلف الرياح تعصف عليه، فهناك تلاث رياح هي ««سرنوك»»
و««خزرى»»
و««ميانوا»»
سخرها الله سبحانه لتعصف على ماء البحر وتضغط بشدّة على سطح البحر، الى الحدّ الذي يرتفع منسوب الماء في الانهار التي تصب فيه حيث ترتفع وتنخفض في الانهار.
ومن شدّة ضغط الرياح أن يثور الموج العالي الى الحدّ الذي تستطيع القوارب المقاومة.
وتقوم الرياح بعمل آخر هو أنها تسوق الغيوم والسحب من الشمال الى السواحل الجنوبية حيث تهطل هناك في المروج والسهوب فتخضر الارض وتعشب؛ وهذه الرياح تدفع المياه الى مستنقع ««انزلي»»
لاحداث عملية تنظيف.
اما الانهار في ««كَيلان»»
فانها تفيض بسبب غزارة الامطار فتحمل معها الاوحال المليئة بالجذور وبذور الاشجار في الغابات لتترسب في المستنقع فتنمو وبسبب ذلك يجف المستنقع ويستحيل الى وحل ولكنه لم يجف ابداً حتى بعد مرور آلاف السنين.
وتسوق الرياح الثلاث القوية مياه البحر المالحة لمواجهة السيول فيتمتزج مع مياه الوحل الملوّثة وتعمل في القضاء على الجذور.
وعندما تهدأ تلك الرياح الثلاث تهب رياح ثلاث أخرى هي ««كراموا»»
، ««كناروا»»
و««آفتاب بوشو»»
لتدفع مياه الأوحال ويعمل على إخلائها في البحر وتنظيفه.
وتساعدها رياح ««كَيلوا»»
و««درشتوا»»
لتضغط على مياه الوحل من الشرق الى الغرب وتؤثر على مزج المياه«82».
تعويض النقص في بذور الفاكهة:
لا توجد فائدة أبداً من بذور الفاكهة ما لم تزرع في التربة ويفيض عليها مصدر الفيض بالبركة والنمو؛ فتصبح أشجاراً مثمرة حيث الثمار تنطوي على نفس البذور التي تنبت منها هذه الاشجار.
فاكهة التفاح.. هذه الفاكهة اللذيذة كانت ذات يوم مجرّد بذرة غافية قبل ان تدس في التربة لتنبت وتصبح شجرة تحمل فاكهة التفاح.
فالتربة التي حباها الله تبارك وتعالى بمختلف الاملاح ساعدت البذرة في النمو وتضافرت العوامل الأخرى من نور شمس ساطعة وهواء وماء لتنمو وتكبر وتهب الثمار.
إنّ فاكهة التفاح التي نراها تتألق في لونها ونكهتها والشهية في طعمها والغنية في مادتها الغذائية تشتمل على المركبات والمواد التالية؟
المركبات الآزوتية: «بروتينات، الحوامض الامينية، ليزين، ارجنين، هيستيدين، تيروزين».
المواد المعدنية: «يود، بوتاسيوم، فسفور، كالسيوم، حديد، نحاس، صوديوم، منغنيز..»
السكريات والنشوية: «دكستروز، سلولوز، نشا».
المواد البكتيثية: «حامض البكتيك، بكتين، حامض البكتينيك، بروتوبكتين».
الدهنيات والحوامض: «حامض الماليك، حامض السيتريك حامض الاغزاليك، حامض الاسكوربيك، حامض اللاكتييك».
المركبات اللونية: «انتوسيانين، كلروفيل».
الفيتامينات: «G - C - B - A».
الانزيمات: «كاتالاز، اكسيداز».
الماء: 84%.
فانظر الى آثار قدرة الله عزوجل والى كيفية تعويض النقص في عناصر الطبيعة.
وبعزّتك التي لا يقوم لها شيء
وبعزّتك التي لا يقوم لها شيء
إنّها عزّة الله التي لا عزّة غيرها وهي مصدر العزّة المطلق خلق كل شيء بقدرته وغمره برحمته؛ فالاشياء خاضعة في رحابه مستسلمة لارادته، تتلقى الفيض منه والا لا نعدم وجودها وزالت آثارها. واذا كان الأمر كذلك فهل يقوم شيء أمام عزّته أو يقف في قبال جبروته؟
وما الأشياء الاّ ظلّه وليست الاّ انعكاساً لجلاله وفيضاً من وجوده المطلق.
فكيف يمكن الوقوف أمام عزّته الممتدة من الأزل الى الأبد؟!
العزّة هي القدرة، وما القوى التي نشاهدها في كائنات الطبيعة الاّ بصيص من قدرته المطلقة؛ فكيف لشعاع شمعة ان يقارن بنور السموات والأرض؟ الله اكبر «فله العزّة جميعاً««83».
اجل إنّ آيات القرآن الكريم تهتف أنّ لله العزة جميعاً فهو مصدر العزّة والقوّة والمقدرة، يمنح سبحانه العزّة لمن يشاء وكيف يشاه إن العزّة منه سبحانه وله ولا يوجد عزيز في هذا الوجود الاّ به تبارك شأنه فهو قوي متعال، غالب غير مغلوب.
وبعظمتك التي ملأت كل شيء
وبعظمتك التي ملأت كل شيء
واسألك يا الله بعظمتك التي تغمر الوجود وما الوجود بجلاله الاّ تجسيد لعظمتك.. أنت الله ملأت الأشياء بجلالك.
الفعل يدل على الفاعل:
إنّ عظمة الفاعل انما تدرك من فعله ان مهندس ناطحات السحاب تكشف عن عبقرية ذلك المهندس وخبرته وعلمه.
ومؤلف مثل صدر المتألهين الذي ألف ««الأسفار الأربعة»»
و««العرشية»»
و««الحكمة المتعالية»»
و««أسرار الآيات»»
تكشف عن عظمة هذا الفكر الثاقب والعقل الكبير.
وذلك العالم الذي اكتشف الطاقة الكهربائية وأضاء ليل الأرض بالمصابيح الكشّافة تدلّ على عبقرية وذهن متوقد.
عظمة الله عزّوجل هي العظمة الحقيقية؛ عظمة لا تضاهيها عظمة بل لا توجد عظمة حقيقية غيرها عظمة طرفاها الأزل والابد، وهل يستطيع الانسان ان يتصور الأزل والأبد واللانهائي والمطلق؟!
فما السبيل اذن لادراك عظمة الله غير التأمل في أفعاله ومخلوقاته ـ إن عظمة الله تتجلّى من خلال عظمة خلقه وابداعه.
عوالم عديدة:
في كتابه الفريد ««الاسلام والهيئة»»
يروي العالم المصلح السيد هبة الدين الشهرستاني عن كتاب ««الخصال»»
للصدوق و««بحار الانوار»»
للمجلسي و««الأنوار النعمانية»»
وشرح الصحيفة وتفسير نور الثقلين باسناد قوي عن الامام الصادق « قال: ««ان لله عزوجل إثني عشر ألف عالم؛ كل عالم منهم اكبر من سبع سماوات وسبع أرضين ما يرى عالم منهم أنّ لله عالماً غيرهم»» «84».
يقول علماء الفلك اليوم إنّ عالم الوجود يتألف من آلاف العوالم ولكل عالم سماؤه وكواكبه التي تفوق سماءنا وكواكبنا.
ان استخدام العدد في القرآن الكريم ليس لبيان حسابي وانما لبيان الوفرة والكثرة، ولذا ينبغي الاّ نتصور أن عدد العوالم يبلغ اثني عشر الف عالم.. ان عدد العوالم هو اكثر مما نتصوره.
القناديل المعلّقة:
جاء في شرح الصحيفة السجادية للسيد نعمة الله الجزائري عن رسول الله « والأئمة الطاهرين من أهل بيته « أن الله عزوجل خلق مئة ألف قنديل كلّها معلقة بالعرش وان السماوات والأرض في قنديل واحد منها وحتى الجنة والجحيم؛ ولا يعلم الاّ الله ما في سائر القناديل الأخرى!!
ويورد العلامة الشهرستاني في شرحه بعض أوجه الشبه بين هذه الرواية وحقائق المنظومة الشمسية:
الوجه الأول: ان القنديل يشتمل على جسم لطيف ينبعث من قلبه واطرافه نور ونار وما الشمس الاّ كرة من الغاز الملتهب تنبعث مها الانوار وألسنة النار وتسطع بالضوء على سائر الكواكب التي تدور حولها في مسارات ومدارات بيضوية.
الوجه الثاني: ان شكل القنديل بيضوي وكذا شكل المنظومة الشمسية.
الوجه الثالث: ان القنديل معلق في الفضاء فلا يوضع على رف أو جدار وكذا المنظومة الشمسية في قلب الفضاء معلقة هي الاخرى.
الوجه الرابع: ان الجزء الذي يسطع في القنديل لا يوجد في المركز تماماً فهو أقرب الى جانب من الزجاجة التي تحيط به! وكذا المنظومة الشمسية؛ حيث الشمس لا توجد في المركز وأنها أقرب الى جانب من المدارات التي حولها.
وهكذا نرى مدى النسبة بين هذه الرواية ومعطيات العلم الحديث وتضادها مع الفلسفة القديمة؛ فهي تصرح بوجود آلاف المنظومات الشمسية الأخرى التي تزخر بالشموس والكواكب السيارة والاقمار ولا يعلم الاّ الله ما في تلك الكواكب من ديار وعوالم«85».
الشموس لا يمكن احصاؤها!
مع بدء القرن العشرين وبدء الكشوفات الفلكية أصيب العالم بالذهول بعد أن أعلن علماء الفلك أن مجرّتنا تشتمل على ثلاثين مليون شمس ولكن الحقيقة كانت أكبر من ذلك بكثير؛ فمع تقدم المراصد أعلن عن رقم كبير وهو عشرة آلاف ملايين شمس أو نجم اننا نرى المجرّة صغيرة بالعين المجرّدة بل ان سحب الشتاء وغيوم الربيع تحجبها عن أبصارنا ونواظرنا. ولكن المشهد السماوي يصيب الانسان بالذهول التام اذا ما اطل عليه من خلال مرصد فلكي كالذي يوجد على جبل ««ولسون»»
أو على جبل ««باليمار»»
حيث يبلغ قطر المرآة فيهما خمسة أمتار.
ان الشموس المتناثرة في مجرّتنا لا يمكن احصاؤها بشكل دقيق ولم يستطع عالم فلكي أن يقدم احصاءً دقيقاً بعددها وما يقولـه علماء الفلك مجرّد تخمينات فقط.
ان منهج العلماء في ذلك هو انتخاب مساحة محدودة واحصاء النجوم فيها ثم تخمين العدد الكلي الذي تشتمل عليه المجرّة.
وربما يجتاز الرقم الحقيقي الرقم التخميني الكثير، لأن التركم النجمي من الكثافة بحيث تحجب النجوم ما وراءها تماماً؛ يكفي ان نتصور وجود شموس تفوق في حجمها شمسنا عشرة ملايين مرّة!!
وقد ذكرنا فيما مضى كيف ان المسافة التي تفصل بين مجرّة وأخرى تبلغ مليوني سنة ضوئية «النسة الضوئية هي مقدار المسافة التي يقطعها الضوء بسرعته الهائلة: 300.000 كم في الثانية في سنة كاملة!!».
ان أقوى المراصد في الوقت الحاضر هو مرصد ««باليمار»»
في امريكا حيث بامكانه رصد طيف المجرّات الواقعة على بعد الف سنة ضوئية ومع ذلك فالعلماء يلمحون بصيص أضواء قادمة ابعد من تلك المسافات المذهلة!!
ان وزن شمسنا يبلغ بليون طن ومجرتنا التي تعدّ مجرّة صغيرة بالمقارنة مع المجرّات الاخرى يبلغ وزنها حدود 165.000 مليون مرّة وزن الشمس!!!
ومع هذا فان الفضاء الخارجي يعدّ خالياً تقريباً. ان أقرب نجم الى الأرض يبعد عنا بمسافة اربعين مليون مليون كيلومتر«86».
ان هذه الزاوية من العالم المترامي هي ما استطاعت المراصد الفلكية المحدودة بامكاناتها وقدراتها ان ترصدها لنا. ان عظمة الوجود لا يمكن تصورها ولهذا لا يمكن ان نتصور أبداً عظمة الخالق العظيم.
ان هذا الكون الفسيح هو كتاب الله العظيم الذي ينبغي ان نقرأ فيه الآيات العظيمة لكي تنطلق من اعماقنا هذه الصرخة المدوية: ««الله أكبر من أن يوصف»» «87».
إنّ أقوى الواصفين هم عاجزون وأبلغ اللغات خرساء وان الفكر الحادّ والخيالي الوثاب والاوهام المحلّقة الطائرة تتهافت أمام تصوير عظمة الله عزوجل.
اجل يجب علينا أن نردد وراء سيدنا محمد سيد الكائنات وهو يقول: ««ما عرفناك حق معرفتك»» «88».
وبسلطانك الذي على كلّ شيء
وبسلطانك الذي على كلّ شيء
هذه المملكة الواسعة وهذا السلطان العريض، الذي يطال كل جزء من هذه المملكة اللهم إنّي اسألك به.
تلك هي مملكة الوجود الفسيح التي لا نعرف عنها الاّ قليلاً ولكنّا ندرك مدى عظمتها واتساعها المذهل، وندرك سلطان الله القاهر حيث كل الاشياء منقادة اليه سبحانه.
وفي هذه المملكة الواسعة نرى قوى الطبيعة هنا وهناك؛ انها فيض من القدرة المطلقة منحها سبحانه وهو قادر على سلبها متى يشاء.
وعلى الحاكمين ان يدركوا ان سلطانهم شعاع من سلطانه وحكومتهم جزء من حاكمتيه وممالكهم من مملكته وانهم مأمورون بالعدل والاحسان ومن لم يفعل ذلك فاولئك من الظالمين وان ربّك للظالمين لبالمرصاد.
وتلك آيات القرآن تنبؤنا بمصير الطغاة وهذه تجارب التاريخ تشرح لنا المصير الذي لقوه وكيف انتقم الله عزوجل منهم فاصبحوا عبرة لمن يعتبر.
فكم من طاغية جبار اذاق شعبه سوء الهوان حتى اذا امعن في طغيانه أخذه الله أخذ عزيز مقتدر فما هي الاّ سويعات واذا بهذا الطاغية يمرغ وجهه في وحل الذلّة والهوان تطارده الى الأبد لعنات اللاعنين«89».
وهكذا أخذ الله سبحانه للظالم؛ يمهله ولا يهمله؛ فإذا حان حينه أخذه عزوجل وقذفه في نار جهنم وبئس المصير.
وفي مطلع تاريخ البشرية ماذا فعل الله بالجبابرة الطغاة الذين اعرضوا عن دعوة سيدنا نوح « وسخروا منه وقد ظل يدعوهم عدّة قرون حتى اذا ارادا الله أن ينتقم منهم تفجرت الأرض مياه غاضبة وانهمرت السماء أمطاراً عاصفة فالتقت المياه على أمر قد قدر.
وألم تر كيف فعل ربّك بجيش ابرهة وفيله وقد جاء لتدمير بيت الله الحرام! فدمّرهم واصبحوا كالعصف المأكول؛ وما فعل ربك بقوم عاد اذ عصفت بهم الرياح القارسة لتحيلهم الى اعجاز نخل خاوية.
وألم تر كيف فعل ربك بفرعون وقد طغا وتجبر؛ حتى قال انا ربكم الأعلى فأخذه الله وقذفه في البحر الأحمر واصبح عبرة للأجيال وها هي جثته اليوم ومومياؤه في احد المتاحف في مصر هامدة بعد حراك وساكنة بعد تجبر وتكبر وطغيان.
وبوجهك الباقي بعد فناء كل شيء
وبوجهك الباقي بعد فناء كل شيء
اجل لا شيء يبقى الكل الى زوال ويبقى وجه ربك ذو الجلال؛ إنّ ذاته هي عين الوجود، ووجوده ازلي سرمدي؛ فهو الدائم الباقي ولا شيء معه، وهو الذي خلق الاشياء بارادته خلقها وهو غني عنها، ثم ستزول الاشياء وتفنى ويبقى هو عزوجل.
لا شيء في الوجود يملك استقلالاً ذاتياً ان حياة كل شيء رشحة من الحياة المطلقة ونفخة الله عزوجل.
واذن فكل الاشياء تنطوي على القابلية للفناء، والفناء من صفات النقص، والبقاء من صفات الكمال.
والكمال المطلق له البقاء المطلق. أما الفناء فمكتوب على جبين الكائنات يوم خلق السماوات والأرض.
وباسمائك التي ملأت اركان كل شيء
وباسمائك التي ملأت اركان كل شيء
تباركت اسماؤك يا رب؛ انها تملأ أركان الوجود.
الأسماء في هذا الكلام الملكوتي والافق العرشي ليست أسماء لفظية تتألف من الحروف، بل ان المراد منها الحقائق والمصاديق التي تدلّ عليها الاسماء.
الرحمة الحقيقية، اللطف الحقيقي، العلم الذاتي، العدل العيني القدرة الفعلية انها تملأ كل شيء بعبارة أخرى إنّ كلّ شيء هو تجلٍّ للخالقية والبارئية والمصوريّة والعلم والعدل والحكمة والرحمة والرأفة الحقيقية للحق تبارك وتعالى.
يقول الامام المعصوم في دعاء يعرف بالسمات:
اللهم اني اسألك باسمك العظيم الأعظم الاعزّ الأجلّ الأكرم، الذي اذا دُعيت به على مغالق أبواب السماء للفتح بالرحمة انفتحت،واذادعيت به على مضائق أبواب الأرض للفرج انفرجت، واذا دعيت به على العسر لليسر تيسّرت، واذادعيت به على الاموات للنشور انتشرت، واذا دعيت به على كشف البأساء والضرّاء انكشفت«90».
علنيا ان ندرك من خلال هذا الدعاء ان مفردة القدرة التي تتألف من: ««القاف»»
، ««الدال»»
، ««الراء»»
، و««التاء»»
هي حقيقة القدرة وعينها.
ان الاسماء التي ملأت أركان كل شيء انما هي الحقائق الموجودة التي عبّر عنها القرآن الكريم بالأسماء.
ومن مظاهر حقائق الأسماء هي الائمة الاطهار من أهل البيت « لما اتصفوا به من الصفات الكريمة واختصّوا به من الخصائص النبيلة فأضحوا بذلك انعكاساً للفيض الالهي الذي يغمر البشرية؛ فهم رموز الرحمة والهداية واللطف والرأفة والكرم والغفران؛ ومن هنا وجب على المؤمنين موالاتهم.
يروي الحكيم الكبير الفيض الكاشاني في تفسيره القيم ««الصافي»»
عن الامام الصادق « قولـه: ««نحن والله الاسماء الحسنى الذي لا يقبل الله من العباد عملاً الاّ بمعرفتنا»».
واذن فان الالتفات الى اللفظ فقط لا يوصل الانسان الى شيء ولا تتجلّى له الحقيقة فيه.
يجب مغادرة دنيا الألفاظ والولوج الى عالم الحقيقة حيث تتألق على صفحة الوجود الأسماء في حقيقتها وعينها:
««وبالاسم الذي خلقت به العرش، والاسم الذي خلقت به الكرسي، وبالاسم الذي خلقت به الروح»».
وبعلمك الذي احاط بكل شيء
وبعلمك الذي احاط بكل شيء
علمك يا الهي ينفذ في كل شيء ويحيط بجميع الأشياء. الله عزوجل هو خالق كل شيء وفاطر جميع الاشياء نفذ علمه الى مكنونها وأحاط بأسرارها والغازها فهو يعلم عدد الذرات وجميع الكائنات ويعلم مستقر ملايين ملايين البذور ويعلم عدد قطرات المطر وأوراق الشجر ونجوم السموات ويعلم ذرّات الرمال ويعلم عدد انفاس الخلائق، لا يغيب عنه شيء حتى من الأسرار التي في الصدور ويعلم ماضي وحاضر ومستقبل الوجود بأسره.
«يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ««91».
«وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ««92».
«وَالله يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ««93».
«يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ««94».
هذا الوجود الذي يزخر بتفاصيل الأشياء واسرار الكائنات انظر في ليلة صيف سماؤها صافية.. انظر الى السماء المرصعة بملايين النجوم واصغ الى أصوات آلاف الحشرات والهوام واستنشق نسائم الهواء لتدرك عظمة هذا الوجود الزاخر بالاسرار.. اسرار واسرار لا يحيط بها علماً الاّ الواحد القهار«95».
وبنور وجهك الذي أضاء له كل شيء
وبنور وجهك الذي أضاء له كل شيء
اللهم وأسألك بنور ذاتك الذي اشرقت له الاشياء.. كل الاشياء.
معنى النور
لقد عبر القرآن عن الكمال والقيم الرفيعة بالنور، والمراد من النور الهداية«96».
والنور هو التوفيق الذي يتلقاه الانسان في المسير نحو الايمان«97».
وهو الاسلام حيث الاسلام معرفة النور، والنور هو العلم حيث يعني استضاءة القلب، والقرآن نور: «قَدْ جَاءكُم مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ««98».
والنور هي الاحكام الالهية والقيم الاخلاقية والحقائق الاعتقادية التي تضيء للانسان طريقه الى الله تبارك وتعالى:
«إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ««99».
ومن هنا يمكن أن ندرك ان المراد من النور هو ذات الكمال والصفات والاسماء الحسنى للحق تعالى شأنه، التي فاضت على تفاصيل هذا الوجود كل حسب طاقته وقابليته وسعته وهذاما يؤهله الى الحياة في نور الوجود بعيداً عن الظلمات.
فالانسان المؤهل هو من ينتقل من ظلمات العدم الى نور الوجود، ومن ظلمات النقص الى نور الكمال، ومن ظلمات الجهل إلى نور المعرفة، ومن ظلمات الظلم الى نور العدالة ومن ظلمات الكفر الى نور الايمان ومن ظلمات الضلال الى نور الهداية ومن ظلمات المادّة الكثيفة الى شفافية النور؛ وحينئذ يسطع فجر الاسماء وتشرق صفات الحق، التي هي النور المحض والسطوع النقي الشفاف.
ومن خلال ما ورد في الآيات الكريمة ومعارف أهل البيت « يمكن القول ان نور وجه الله عزوجل هي الحقائق الالهية والكمال وهذا ما نجده في دعاء الجوشن الكبير.
وأما مفردة النور فلأنها تشتمل على جميع الصفات العليا والاسماء الحسنى وهي عين ذاته تبارك وتعالى وصفاته عزوجل هي عين ذاته.
ولعل استخدام مفردة النور للهداية في المعارف الالهية وفي الادعية الكريمة، فلعلها تعني:
يا الهي اسألك بهداك يا دليل الكائنات.
وعلى كل حال ان كلمة ««نور»»
تحمل جميع المعاني السماوية والمفاهيم الملكوتية التي تشرق على القلب فتضيء دنياه وينكشف له الطريق.
يا نور يا قدّوس يا أول الأولين ويا آخر الآخرين
يالله يا أيّها النور الذي يملأ انحاء الوجود انت الاول بلا بداية والآخر بلا نهاية.
ويا مصدر الكمال يا من لا يحتاج الى دليل يدلّ عليه.
ايها الظهور المحض، ايها النور الذي يغمر عرفات.
الهي هامت بحبك القلوب العاشقة وطافت بنورك الارواح المتيمة. اصغ الى كلمات سيدنا الحسين على جبل الرحمة في عرفات:
««أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك؟! متى غبت حتى تحتاج الى دليل يدلّ عليك؟
ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل اليك»» «100».
يا الهي وخالقي! ان قلبي يتفتح لتلقي النور الذي يغمر القلوب بالهداية والرحمة.
ها أنا قادم اليك.. ها أنا أرى تألق جمالك وبهاء جلالك والأنوار التي ملأت بها خلقك.
اللهم خذ بيدي ولا تكلني الى نفسي.. انت دليلي والسراج الذي يضيء طريقي.
ايها المنزّه من كل عيب والعالم بكل غيب.
أيها الكمال الذي تجلّى والنور الذي يملأ أركان الوجود يا نور يا قدوس يا أول الأولين ويا آخر الآخرين.
ايها الموجود منذ الأزل والموجود الى الأبد.. انت الأزلي السرمدي والباقي بعد فناء كل حيّ.
انت الأول بلا ابتداء والآخر بلا انتهاء.
يا رب!
اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم
الذنوب لعنات تطارد الانسان وتعذبه.. يا الهي اغفرها لي وخلصني من لعناتها.
الـذنـوب
ان مسير الانسان مجموعة تجاربه وأفعاله واعمال هوأقواله ومواقفه وأخلاقه.
وكل ما يعدّ انتهاكا للشرائع الالهية والفطرة الانسانية هو اثم وعصيان وتمرّد على ناموس السماء.
ان بعض المعاصي والذنوب ما يعد ارتكابها انتهاكاً خطيراً يؤذن بحرب من الله عزوجل: «فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله««101».
وهناك من الذنوب ما يستحيل الى نار مستعرة تحرق الانسان وتحيل مصيره الى شقاء دائم لا يزول «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا««102».
وما أعجب بعضهم يأكل في مائدة الوجود ويتلذذ بألوانها وأشكالها ثم يعبث في الأرض ناشراً فيها الخراب والدماء أليس هذا عدواناً على ناموس العدل والانصاف؟!
حكاية من التاريخ
الذين قرأوا تاريخ العباسيين لابد وأن يعرفوا يعقوب بن الليث بن الصفار الذي كان يحكم اجزاء واسعة من أقاليم ايران يومئذ.. والذين قرأوا تاريخ الثورات في تلك الفترة سمعوا بثورة الصفاريين.
وكان يعقوب أحد اولئك الذين تألق اسمهم في الثورة على الظلم الذي نشره العباسيون في ربوع البلاد الإسلامية.
كان في بداية شبابه صفاراً التف حولـه شباب في مثل سنّه لشهامته وسخائه، ولاسباب ترك عمله واندفع في دروب الثورة، فكان أول عمل قام به هو التفكير في الاستيلاء على خزانة حاكم اقليم سيستان.
ونظراً للحراسة المشدّدة والأبواب المنيعة فقد قاده التفكير في النهاية الى حفر نفق تحت الأرض من مكان مناسب والوصول الى مكان الخزانة.
واستمر العمل في حفر النفق مدة ستة شهور وفي منتصف ذات ليلة نقب المكان ووصل يعقوب مع رجاله الى الخزانة وكانت عبارة عن غرفة كبيرة مليئة بالذهب والفضة والمجوهرات الثمينة، اضافة الى آلاف الدنانير والدراهم وتم جمع الأموال في اكياس لنقلها عبر النفق الى خارج المدينة.
وفي غمرة الظلام وقعت عينا يعقوب على شيء يتألق في احدى الزوايا، فأخذه وأراد ان يعرف طبيعته فجسّه بلسانه وفمه فإذا هو فص ملح وهي عادة ما يعثر عليها في الممالح وهو فص شفاف جداً كالبلور، واسقط في يده لقد ذاق ملح الأمير. وهنا أمر أنصاره بترك الاموال ومغادرة الخزانة فوراً
وكان رجاله يطيعونه طاعة مطلقة لكنهم سألوا عندما خرجوا من النفق عن سرّ ذلك، سيما وانهم استغرقوا في عمل مضني مدّة شهور طويلة!!
وفي اليوم التالي فوجئ الحرس بالنفق وسلامة الاموال كلّها ووصل خبر الحادثة العجيبة الى الأمير الذي أمر باذاعة اعلان مفاده ان يعرّف الفاعل نفسه لدى الأمير لمكافأته على شهامته ورجولته وانصافه.
وقد سرّ امير سيستان بوجود هذا الشاب الشجاع ونصبه قائداً لجيشه ومنذ ذلك الوقت تألق نجمه في سماء التاريخ بعد أن ثار على الحكم العباسي الغاشم.
ان الذنب قذارة معنوية تلوث الروح وتملأ صدر الانسان قيحاً وتستحيل الذنوب الى ادران تحجب القلب عن تلقي النور.. النور القادم من الله عزوجل مصدر النور.
الذنوب تمزق الاستار التي تحفظ الانسان من السقوط في هاوية الجحيم..
الذنوب هي التي تمزق الستر الذي يستر الانسان من الفضائح يوم تنكشف الأسرار والآثام هي التي تحرم الانسان من لذائذ العبودية لله عزوجل حيث تكمن فيها الحرّية الحقيقية.
وهي التي تبعد الانسان عن فيوض الرحمة والمغفرة.
والذنوب قسمان كما نفهم ذلك من مفاد الآيات الكريمة وما ورد في الروايات الواردة عن أهل البيت «.
فهناك صغائر وكبائر«103».
وعلى الانسان ان يجتنب الكبائر من الذنوب لأنها ذنوب غاية في الخطورة وتهدد حياة الانسان ومصيره، لأنها ذنوب لا تشملها المغفرة الالهية:
«إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا ««104».
وفي الكتاب القيم ««عيون أخبار الرضا»»
ان الكبائر كما يلي:
1 ـ قتل النفس التي حرّم الله. 2 ـ الزنا. 3 ـ السرقة. 4 ـ شرب المسكرات. 5 ـ عقوق الوالدين. 6 ـ الفرار في الزحف. 7 ـ اكل أموال اليتامى. 8 ـ أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أحلّ لغير الله به. 9 ـ الربا. 10 ـ أكل المال الحرام. 11 ـ المقامرة. 12 ـ التطفيف في الكيل والميزان. 13 ـ البهتان. 14 ـ اللواط. 15 ـ اليأس من رحمة الله. 16 ـ عدم الخشية من عذاب الله. 17 ـ معاونة الظالمين. 18 ـ الرضا بعمل الظالمين. 19 ـ القسم زوراً وكذباً. 20 ـ احتباس حقوق الناس دون عذر وهو ضيق ذات اليد. 21 ـ الكذب. 22 ـ الكبر. 23 ـ الاسراف. 24 ـ التبذير. 25 ـ الخيانة. 26 ـ الاستخفاف بالحج. 27 ـ الحرب على أولياء الله. 28 ـ الاستغراق في الملاهي. 29 ـ الاصرار على المعاصي.
آثار الذنوب
ارتكاب الذنوب له من النتائج والآثار الخطيرة ما يهدد مستقبل الانسان وحياته في الدنيا والآخرة. فالذنوب تمحق الاعمال الصالحة.
والذنوب نار مجنونة تحرق الاعمال الخضراء الصالحة وتحيلها الى رماد تذروه الرياح.
الذنوب تحجب استجابة الدعاء، وتحرم المرء من شفاعة الشافعين يوم القيامة.
الذنوب تجعل من القلب قاسياً كالحجارة أو أشدّ قسوة.
وهي تحجب القلب عن تلقي النور فيغرق في ظلمات بعضها فوق بعض.
انها تدمّر الايمان، الذي هو شعلة متوقدة تضيء للانسان حياته وطريقه.
انها تجعله ضعيفاً خائراً وعبداً ذليلاً للشيطان.
ارتكاب الذنوب يحرم الانسان الرزق الحلال الزاخر بالبركة، الذنوب والاستغراق في ارتكابها يخرج الانسان من عبودية الله ليصبح عاصياً وهذا ما يجعله منقاداً للشيطان فيقوده الى هاوية الجحيم.
الذنوب تدمّر المجتمع؛ فهي تفتك بالأسرة وتجعل من الدفء العائلي صقيعاً وزمهريراً يهددها بالموت.
ان ارتكاب الذنوب يدمّر الثقة المتبادلة بين أفراد المجتمع وهذا ما يجعل من الحياة الاجتماعية جحيماً لا يطاق.
انها تميت قلب الانسان وتصعب عملية انتقال الانسان الى العالم الآخر وتجعل من سكرات الموت عذاباً وألماً رهيباً وتكون رحلته في البرزخ كابوساً مخيفاً.
عن الامام الصادق «:
««أما انه ليس من عرق يضرب ولا نكبة ولا صداع ولا نكبة ولا مرض الاّ بذنب وذلك قول الله عزوجل في كتابه: «وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ««105»»»
«106».
وعنه « أيضاً:
«ان الرجل يذنب الذنب فيحرم صلاة الليل، وانّ العمل السيّئ اسرع في صاحبه من السكّين في اللحم» «107».
وعن الامام الرضا « قال:
«أوحى الله عزجل الى نبيِّ من الانبياء اذا أُطعتُ رضيت وإذا رضيتُ باركت وليس لبركتي نهاية، واذا عُصيتُ غضبتُ واذا غضبتُ لَعَنتُ ولعنتي تبلغ السابع من الورى» «108».
وقد أثبتت التجارب ذلك فقد يتعرض الابناء والاحفاد للبلاء من مرض وعجز وضيق في الرزق، بسبب ما ارتكبه الآباء والاجداد وتلك حكمة الله ورحمته حتى ينتبهوا الى انفسهم فلا يطغوا.
وحول الاصرار على الذنب والاستغراق في المعاصي روي عن امير المؤمنين « قولـه: ««ما من عبد الاّ وعليه جنّة حتى يعمل اربعين كبيرة، فإذا عمل أربعين كبيرة انكشفت عن الجنّة فيوحي الله اليهم ان استروا عبدي باجنحتكم، فتستره الملائكة بأجنحتها، قال فما يدع شيئاً من القبيح الاّ قارفه حتى يمتدح الى الناس بفعله لقبيح. فيقول الملائكة: يا ربّ هذا عبدك ما يدع شيئاً الاّ ركبه وإنّا لنستحي مما يصنع، فيوحي الله عزوجل اليهم ان ارفعوا اجنحتكم عنه فإذا فعل ذلك أخذ في بغضنا أهل البيت فعند ذلك ينهتك ستره في السماء وستره في الارض. فيقول الملائكة: يا رب هذا عبدك قد بقي مهتوك الستر فيوحي الله عزجل اليهم لو كانت لله فيه حاجة ما أمركم أن ترفعوا اجنحتكم عنه»» «109».
ان الانسان الصالح التقي الذي يذكر الله ويخشى الحساب يوم المعاد وينفر من المعاصي في السرّ والعلن هو الانسان الحيّ والانسان العاصي المستغرق في المعاصي، لأنه غافل عن يوم القيامة ومن عواقب ذنوبه يوم الحساب وهذا ما صرحت به الروايات الواردة عن ائمة الهدى من أهل البيت «.
الحجـاب
المحدث الكبير الشيخ الصدوق في كتابه معاني الاخبار يروي أحاديث كثيرة حول الذنوب وأثرها في تكوين الحجب ومن الذنوب التي تصنع الحجب هي: 1 ـ شرب الخمر. 2 ـ لعب القمار. 3 ـ اللهو والتهريج. 4 ـ تسقّط عيوب الناس وفضحها. 5 ـ مجالسة أهل المعاصي.
شرب الخمر
يعتبر الامام موسى بن جعفر ونجله وحفيده « شرب الخمر من الكبائر.
وقد اثبت العلم الحديث الآثار الضارة المدمّرة من جرّاء شرب الخمر والمسكرات حيث يصاب المخ باضرار فادحة والمعدة والكبد والقلب والكلية والجهاز التنفسي والدورة الدموية وقد يصبح علاج بعضها في غاية الصعوبة.
ان شيطان هذه القناني شيطان خطير وعدو ضار وكائن قذر ونجس.
وقد عدّه القرآن الكريم من عمل الشيطان وان ضرّه لأكثر من نفعه ومن أجل هذا حرّم القرآن الكريم وحذّر من شرب الخمر وان شارب الخمر سيطاله العذاب الشديد يوم القيامة اذا لم يتدارك ذلك بالتوبة.
عن أبي جعفر الباقر « قال:
يأتي شارب الخمر يوم القيامة مسودّاً وجهه مدلعاً لسانه، يسيل لعابه على صدره؛ وحق على الله أن يسقيه من بئر خبال، قيل وما بئر خبال؟
قال: بئر يسيل فيها صديد الزناة»» «110».
وعن الامام الصادق «: ««شارب الخمر كعابد الوثن»» «111».
وجاء عن الامام الباقر «: ««ان شارب الخمر يحشر كافراً«112»
وأنه رأس المعاصي»» «113».
وسئل أميرالمؤمنين « عن قوله في أن شرب الخمر أسوأ من السرقة والزنا فقال ان الزاني قد لا يرتكب ذنباً آخر ولكن شارب الخمر اذا سكر يزني ويقتل النفس ويترك الصلاة «114».
عن أبي عبدالله الصادق « عن آبائه عن رسول الله « قال:
«من شرب الخمر بعد ما حرّمها الله على لساني فليس بأهل أن يزوّج إذا خطب، ولا يشفَّع إذا شفع، ولا يُصدّق إذا حدّث، ولا يؤتمن على أمانة، فمن ائتمنه بعد علمه فليس للذي ائتمنه على الله ضمان، وليس له أجر،
ولا خلف» «115».
القمار
ومن كبائر الذنوب والمعاصي القمار.
يقول تعالى: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ««116».
ان صنع آلات وأدوات القمار وأخذ أجرة ذلك وشراءها وبيعها حرام.
وقد اتفق كبار فقهاء الشيعة على الافتاء بحرمة لعب القمار حتى بدون أن يكون خاسر ورابح.
ولذا فان الاحتفاظ بهذه الوسائل حرام واتلافها لازم.
وكذا فان حضور مجالس المقامرة والتفرج على المتقامرين حرام وترك مثل هذه المجالس واجب شرعي اكيد
اللهو والتهريج
ان اتلاف العمر وهو رأسمال الانسان باللهو والتهريج، بعيداً عن استثمار الطاقات الانسانية في العمل المثمر والانتاج، هو من الانشطة العابثة التي لا طائل من ورائها.
ان تضييع العمر في العبث واللهو والتهريج يعد من موارد كفران النعم.
فالعمر من اكبر النعم الالهية والشكر على هذه النعمة واجب على الانسان؛ ولهذا لا ينبغي للانسان ان يضيع لحظة واحدة من عمره وان يجعل كل وقته في عبادة الله وذكره والعمل بأوامره، من طلب العلم وخدمة الناس.
يروي المحدث القمي في كتابه ««منازل الآخرة»»
عن رجل يدعى ابن صمد وكان يحاسب نفسه كثيراً، وذات يوم عدّ أيام عمره وقد مضى عليه ستون سنة فعدّ أيامها؛ فكانت واحداً وعشرين ألف وتسعمئة يوم؛ فصاح الويل لي لو أني أذنبت في كل يوم ذنباً فألقى الله بواحد وعشرين ألف وتسعمئة ذنب صاح ذلك وهوى مغشياً على الارض؛ فحرّك فإذا هو قد فارق الحياة.