أرض الوصال
من تلك الخرائب المظلمة الغارقة في أوحال الانحطاط، يهتف العقل ينادي بالهجرة والخلاص والرحيل الى أرض النور والمحبّة والعشق.
وينطلق صوت من اعماق الفطرة التي هي مستودع السرّ الالهي..
صوت يهتف للرحيل والهجرة الى أرض الانسان..
والانسان الى أرض الصدق والأمانة والحقيقة والصفاء..
الى أرض الحب والعبادة والشرف والكرامة الانسانية..
الى ارض الزهد والقناعة والصبر والاستقامة والتقوى والحرّية من أسر السلاسل والأغلال. قال تبارك وتعالى مباركاً الهجرة الى الحقيقة:
«وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ الله يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى الله وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا««230».
الـذكـر
ان الباء في ««بذكرك»»
تفيد السببية فيصبح المعنى يا الهي بسبب ذكرك اتقرب اليك.
ومعاني الذكر ثلاثة:
1 ـ الذكر القلبي.
2 ـ القرآن.
3 ـ الرسول «.
الذكر القلبي
وهو مضاد للغفلة، فالغافل من يبدد عمره ويبعثر سنوات حياته في المحرمات والمعاصي والخطايا بعيداً عن العبادة، التي ذكر الله فيما الغفلة استغراق في الحرام والشقاء.
ان القلب عندما يكون معبداً للرب ينبض بذكر الله ويسبح بحمده وثنائه ويشكر الله سبحانه أن ارسل له رسلاً وانزل عليه كتاباً وسراجاً منيراً، يهدي الضال ويرشد الحائر، ويهدي الى الخير ويبلغ بالانسان درجات الكمال.
وعندما يضيء القلب بالتقوى، فانه ينبض بحب الله تبارك وتعالى ويصبح في حالة فريدة من تلقي الاشراق والوعي ويبلغ بالمرء الى مرحلة الوصال والقرب من المحبوب الحق..
لقد غفل قوم يونس النبي « عن ذكر الله ثم منّ الله عليهم، أن أرسل اليهم نبياً منهم يذكّرهم بآيات الله فانتبهوا بعد غفلة واستيقظوا بعد رقاد.
وكاد العذاب أن ينقض عليهم ولكنهم استفاقوا في اللحظة الأخيرة، وهبّوا الى الفلوات يمرغون وجوههم بالتراب ويبكون نادمين ويسألون الله العفو والمغفرة فرحمهم الله وعفا عنهم وتجاوز عن خطاياهم.
وما أكثر الذين تمادوا في المعاصي والذنوب ثم تداركتهم رحمة من الله فتابوا فاغتسلوا بينابيع التوبة وتطهروا بدموع الندم، واشرق النور على قلوبهم؛ فاهتدوا بعد ضلال وسلكوا الطريق بعدطول تخبط في الظلمات.
وما يزال التاريخ يذكر وجوهاً مشرقة في الهجرة الى النور؛ فتلك آسية زوجة فرعون، وفتية آمنوا وهم أصحاب الكهف وبهلول النبّاش والحرّ الرياحي و..
ولكل منهم قصة فريدة في الانتقال من الظلمات الى النور ومن الباطل الى الحق.
القرآن الكريم
القرآن هو الذكر ـ قال تعالى:
«إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ««231».
والقرآن الكريم يشتمل على المعارف والاحكام التي تضمن لمن عمل بها وأخذها بقوّة خير الدنيا وسعادة الآخرة.
القرآن كتاب الحياة وفيه تفصيل وبيان كل شيء.
والقرآن يأخذ بالانسان ويسلك به طريق الكمال والهداية والصلاح.
ان التدبّر في آيات القرآن مع ما في ذلك من الثواب والأجر الجزيل؛ فانه شفاء من كل داء، فهو الدواء النابع لداء الجهل الذي يصيب القلب، ولكن القرآن يستطيع معالجة هذا المرض الخطير ويحرّره من الظلام الدامس فيستحيل القلب الى مركز اشعاع نوراني يشع بالمعرفة والعاطفة الانسانية النبيلة. ان العمل بالقرآن هو مصدر الحسنات ودافع السيئات والملاذ في الدنيا والشفيع في الآخرة، كما ان العمل بالقرآن يكفل للمجتمع حياة هادئة مطمئنة مفعمة بالفضيلة والقيم الأخلاقية الرفيعة.
وقد أثبت التاريخ كيف انقذ القرآن الكريم العرب في شبه الجزيرة من الضلال والضياع ووضعهم في طريق التقدّم الازدهار والحضارة والمدنية؛ كما وانقذهم من السقوط في هاوية جهنم وفتح لهم أبواب الخلود في جنات الفردوس.
يقول سيدنا محمد «:
««فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فانه شافع مشفّع وماحل مصدّق ومن جعله أمامه قاده الى الجنّة ومن جعله خلفه ساقه الى النار»» «232».
وعن الامام السجاد « قال:
««لو مات من بين المشرق والمغرب لما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي»»
«233».
وكيف يستوحش الانسان ومعه القرآن هدى ونور وطريق الى الله الرحيم الغفور.
وكيف يستوحش من معه القرآن وهو روح وريحان وروض وجنان.
يقول « أيضاً:
««آيات القرآن خزائن فكلما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر ما فيها»»
«234».
النبي « وأهل بيته «
يقول سيدنا باقر العلوم محمد بن علي « في ذيل رواية بالغة الاهمية حول مفاد الآية الكريمة من قولـه تعالى: «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ««235».
««نحن ذكر الله ونحن أكبر»» «236».
ولا ريب ان المقصود بالذكر هو ذكر النبي « وآله الاطهار « وهم اثنا عشر اماماً ورثوا عن النبي « ميراث الايمان والخلق العظيم.
وهم مفسرو القرآن ومن لهم القدرة على بيان احكامه. وهم كنوز الايمان ومظاهر صفات الله واسمائه، وهم عدل القرآن والثقل الذي أوصى به رسول الرحمان.
وقد تواتر عنه « قولـه: يوشك أن أدعى فاجيب واني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي«237».
ان الالتفات الى هذه الحقيقة وهي ان تطهير القلب من الرذائل وغسله من القبائح واستحضار المفاهيم المعنوية للاسماء الحسنى والصفات المثلى للحق تبارك وتعالى وصونها من وساوس شياطين الانس والجن واداء الفرائض في وقتها والمبادرة الى الاعمال الصالحة بشرط أن يكون كل ذلك لله سبحانه وفي سبيل الله وهذا هو الذكر، حيث لا أحد في قلب المؤمن سواه ولا يرى شيئا الاّ ورأى الله عزوجل ولا يحب شيئاً سوى الله.
لأن المؤمن «أشدّ حبّاً لله» «238»
والمؤمنون «رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله» «239».
وعندما يبلغ الانسان هذه المرحلة يكون في مأمن من همزات الشياطين، ولا توجد بعد ذلك قوّة يمكن أن تصرف الانسان عن ربّه وخالقه لأن كيد الشيطان كان ضعيفاً.
يقول مولى المتقين ويعسوب المؤمنين علي أميرالمؤمنين «ما رأيت شيئاً الاّ ورأيت الله قبله ومعه وبعده».
ومن يبلغ هذه المرحلة تغمره السكينة والطمأنينة والسلام؛ فتراه كالجبل في ثباته والندى في صفائه والريحان في عطره وعبيره وشذاه.
لأن العاشق لا يرى شيئاً سوى المعشوق ولا هم له سوى رضاه.
وهل هناك من هول أكبر من يوم عاشوراء وقد زلزلت الأرض زلزالها ولكن الحسين « سبط النبي « كان يقول في قلب الاعصار المجنون:
«الهي رضاً بقضائك صبراً على بلائك تسليماً لأمرك لا معبود لي سواك».
واستشفع بك الى نفسك
واستشفع بك الى نفسك
وهل هناك شفيع غيرك فلا شفاعة الاّ باذنك اشفع لي يا الهي.
ان هذا المقطع المؤثر من الدعاء يشير الى هذه الحقيقة وهي:
اولاً: ان الداعي قد بلغ ذروة الانقطاع الى الله عما سواه، وقد قطع أمله بكل شيء وبكل سبب الاّ الله عزوجل، فالقلب متجه بكلّيته الى الله وحده وقد بلغ الايمان به حالة من الشهود والحضور بحيث لا يشعر بشيء غيره.
فالشفاعة له من عنده والشفيع الذي لا شك في قبوله الشفاعه.
ثانياً: انه يعبر عن مشاعر انسان غارق في ذنوبه وآثامه بحيث لا تنفعه شفاعة الشافعين؛ فلا شفيع له سوى الله عزوجل ولن ينجيه من مصيره البائس الاّ الله عزوجل. وفي هذا منتهى التذلل لله تبارك وتعالى.
معنى الشفاعة
الشفاعة كما يقول أهل المعرفة نصرة القوي للضعيف العاجز وهذا الانسان الضعيف العاجز ينطوي على قدر من المعرفة والايمان والعمل الصالح والاخلاق الحسنة.
ولكن ضعفه هو الذي جعله ينزلق في المعصية، كما ان الذنوب التي اقترفها لم تطفئ حبه لله والايمان به والقيام بالعمل الصالح؛ بل انه اقترف بعض الذنوب التي حالت دون وصوله الى التكامل ومن ثم بلوغ رضوان الله ودخول الجنّة.
ولهذا ومن رحمة الله عزوجل للخاطئين والمذنبين أن جعل سبحانه الشفاعة لمن عصاه من أهل الايمان نافذة أمل كبرى للصفح يوم القيامة ودخول الجنّة.
فالشفاعة اذن يوم القيامة لا تنال الكافرين والمشركين والمعاندين والمنافقين وقد بين الله عزّوجل ذلك في كتابه الكريم:
«كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ««240».
الشفاعة مظهر عظيم من الرحمة الالهية حيث تقصر بالانسان الاعمال يوم القيامة؛ فهو لا يستحق الجنّة وربّما يستحق دخول النار وهنا تأتي الرحمة الالهية بالشفاعة للمذنبين والذين ارتكبوا بعض المعاصي والخطايا والذنوب، فتشملهم آخر دفعة من الشفاعة تزحزحهم عن النار وتدخلهم الجنّة.
شروط الشفاعة
من خلال الآيات القرآنية والروايات الواردة عن ائمة الهدى «
ان الشفاعة لا تنال الاّ من أوتي نصيباً من الايمان والعمل الصالح
فتكون الشفاعة جبراً لضعفه وزخماً جديداً في روحه فينجو من النار ويدخل الجنّة.
الشفعاء في الدنيا والآخرة
من خلال الآيات والروايات ان الشفعاء في الدنيا والآخرة حيث شفاعتهم سبب في الهداية والنجاة وعامل في النمو والكمال وباعث في بلوغ الانسان رحمة الله وغفرانه وعفوه كما يلي:
الايمان، العمل الصالح، التوبة، القرآن، الانبياء، الائمة، الشهداء، المؤمنون حقا، العلماء الربانيون، لأن كل ما ذكر هو من اهتداء الكفار والمشركين ونجاتهم في الدنيا من ظلمات الكفر والشرك فببركتهم اصبحوا مؤمنين وموحدين واصبحوا بعد الجهل عارفين.
من هنا فان ما ذكرناه من عوامل النجاة في الدنيا ستكون عوامل شفاعة يوم القيامة، يوم يقوم الناس لرب العالمين فالشفاعة لها مساحتها ودورها في التكوين والطبيعة والتشريع وهي من أصل أصول الاسلام من انكرها خرج عن دائرة الاسلام.
شفاعة الايمان
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ««241».
شفاعة العمل الصالح
«وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ««242».
شفاعة التوبة
عن معاوية بن وهب قال سمعت أبا عبدالله الصادق « قال: ««اذا تاب العبد توبة نصوحاً احبه الله فستر عليه، فقلت: وكيف يستر عليه؟ قال: ينسي ملكيه ما كانا يكتبان عليه ويوحي «الله»
الى جوارحه والى بقاع الارض ان اكتمي عليه ذنوبه فيلقى الله عزّوجل حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب»» «243».
شفاعة القرآن
««اذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فانّه شافع مشفّع وماحل مصدّق»» «244».
وأسألك بجودك ان تدنيني من قربك
وأن توزعني شكرك وأن تلهمني ذكرك
وأسألك بجودك أن تدنيني من قربك
الهي! خذني اليك حتى اكون قريباً منك وليكن اسمك في قلبي وشكرك على لساني يا رب!
وفي هذا المقطع من الدعاء يسأل أميرالمؤمنين ثلاث درجات في طريق السالكين الى الله عزوجل:
1 ـ الوصول الى منزلة القرب.
2 ـ بلوغ مرتبة الشكر.
3 ـ الوصول الى درجة الذكر.
ومن المؤكد ان بلوغ هذه المراتب الرفيعة لا يمكن تحقيقه الاّ من خلال الجود الالهي والكرم المطلق.
فمن دون الفيض الالهي الذي ينعكس في اعماق العبد شوقاً ورغبة لا يمكن أن يتقدم السالك الى الله تبارك وتعالى خطوة واحدة.
ان جود الله سبحانه وكرمه وسخاءه هو الذي يوفق العبد لاختراق الحجب الظلمانية وطوي المراحل في بلوغ المراتب العالية وما الدعاء الذي يطلقه الداعي من اعماق قلبه الاّ نفحة حب ازلية تغمر العبد المؤمن فيوفق للدعاء.
ان دعاء عرفة لسيدنا الحسين « سبط رسول الله « يزخر بهذه المعارف التي تبين الكرم والجود الالهي:
««فلك الحمد والشكر يا من أقال عثرتي ونفّس كربتي وأجاب دعوتي وستر عورتي وغفر ذنوبي وبلّغني طلبتي ونصرني على عدوّي وأن أعدّ نعمك ومننك وكرائم منحك لا أحصيها يا.
مولاي أنت الذي مننت أنت الذي أنعمت أنت الذي احسنت أنت الذي أجملت أنت الذي أفضلت أنت الذي أكملت أنت الذي رزقت أنت الذي وفقت أنت الذي أعطيت أنت الذي أغنيت أنت الذي أقنيت أنت الذي آويت أنت الذي كفيت أنت الذي هديت أنت الذي عصمت أنت الذي سترت أنت الذي غفرت أنت الذي أقلت أنت الذي مكّنت أنت الذي أعززت أنت الذي عضدت أنت الذي أيّدت أنت الذي نصرت أنت الذي شفيت أنت الذي عافيت أنت الذي أكرمت تباركت وتعاليت فلك الحمد دائماً ولك الشكر واجباً»» «245».
ان هذا المطقع من الدعاء الكريم يقطر اعترافاً بالكرم والجود الالهي.
ومن يقرأ دعاء أبي حمزة الثمالي وهو من أدعية الامام السجاد « يجد اشارة واضحة الى هذه الحقائق الساطعة:
««سيدي أنا الصغير الذي ربّيته وأنا الجاهل الذي علّمته وأنا الضال الذي هديته وأنا الوضيع الذي رفعته وأنا الخائف الذي آمنته والجائع الذي اشبعته والعطشان الذي أرويته والعاري الذي كسوته والفقير الذي اغنيته والضعيف الذي قوّيته والذليل الذي اعززته والسقيم الذي شفيته والسائل الذي اعطيته والمذنب الذي سترته والخاطئ الذي أقلته وأنا القليل الذي كثّرته والمستضعف الذي نصرته وأنا الطريد الذي آويته»» «246».
أجل لولا هذا الكرم المطلق والجود اللانهائي ما تمكن الانسان من السير الى الله في طريق القرب الالهي.
مقام القرب
وهو أعلى مرتبة وآخر درجة يمكن أن يبلغها السالك في طريقه الى الله وهذا لا يتحقق الاّ من خلال العمل الصالح واجتناب كل ما هو محرّم حيث التقوى والورع شعار الانسان في كل شؤون حياته والمحافظة على استقامته في كل الظروف والاحوال ان طاعة الله والانقطاع الى عبادته سبحانه هي التي تيسّر بلوغ العبد الى مقام القرب الالهي حيث تتجلّى حقيقة التوحيد في كل تفاصيل حياته ويصل المرء حالة الفناء فتكون ارادته هي ارادة الله عزوجل وهذا ما يصرّح به الحديث القدسي:
««عبدي أطعني حتى اجعلك مثلي تقل للشيء: كن فيكون»» «247».
وجاء في حديث آخر:
««أنا ملك حيّ لا أموت أبداً، عبدي اطعني اجعلك ملكاً حيّاً لا يموت أبداً»» «248».
ان اهل المعرفة يعتقدون ان الهدف من جميع الطاعات والعبادات سواء كانت طاعات بدنية أو قلبية، ظاهرية أو باطنية، انما هي الوصول الى مقام القرب الالهي، لأن العبد يقصد في كل اعماله القربة وانقياد ارادته الى ارادة الحق تبارك وتعالى؛ يعني فناء ارادته في ارادة الرب بحيث لا تبقى ارادة الاّ ارادة الله عزوجل.
والسالك يخطو في طريق الطاعة صوب الحق تغمره رحمة من الله وتعضده اسماؤه الحسنى واوصافه العليا ولهذا جاء في الحديث القدسي:
«من تقرّب اليّ شبراً تقرّبت اليه ذراعاً، ومن تقرّب اليّ ذراعاً تقرّبت اليه باعاً، من أتاني مشياً أتيت اليه هرولة» «249».
اجل ان غاية الطاعة والعبادة هو بلوغ العبد مولاه وقرب المولى من العبد وهو ما عبّر عنه في الروايات بـ««مقام القرب»».
ان أهل المعرفة والعاشقين يعتبرون كل افعال المقربين وصفاتهم قد ذابت تماما وفنيت في افعال الله عزوجل وصفاته وهذا ما نجده في مفاد الآيات القرآنية والاحاديث القدسية والروايات المعتبرة الواردة عن سيدنا محمد « وأهل بيته الاطهار:
««ان الله يقول: لا يزال عبدٌ يتقرّب اليّ بالنوافل حتى أحبّه فأكون أنا سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به وقلبه الذي يعقل به فإذا دعاني أحببته واذا سألني أعطيته»» «250».
وجاء في الأثر الشريف:
قال النبي «: ««كلام المتقين بمنزلة الوحي من السماء إذا وُجدتْ كلمةٌ على لسان بعضهم فقيل له: من حدّثك بهذه؟ فيقول: حدثني قلبي عن فكري عن سرّي عن ربّي»» «251».
ولقد بلغ سيدنا محمد « ذروة هذا المقام. من أجل هذا روي عنه أنه قال:
««من رآني فقد رآى الحق»» «252».
وعنه « أيضاً قال:
««لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل»» «253».
ويلي سيدنا محمد « في بلوغ هذه المرتبة الرفيعة وصيّه وخليفته من بعده سيدنا علي « وقد روي عنه قوله:
«معرفتي بالنورانية معرفة الله» «254».
كرامات المقرّبين
1 ـ كرامة للحاج السيد علي القاضي:
مرض استاذي الكبير المرحوم الحاج الشيخ ابو الفضل النجفي الخونساري وكنت اتتلمذ على يديه سنوات طويلة، فعدته وكان ذلك قبل وفاته رحمه بشهور وأنا جالس قرب فراشه طلبت منه أن يروي لي كرامة من كرامات استاذه السيد علي القاضي رحمه الله فقال:
ذات ليلة اصطحبني الاستاذ مع جمع من تلامذته ومريديه الى مسجد الكوفة للدعاء والمناجاة وطلب الحاجات من الله تبارك وتعالى.
وكنا الى جانب استاذنا مستغرقين في العبادة والصلاة ولمّا اوشكنا على الخروج ومغادرة المسجد ظهرت لنا أفعى مخيفة وفزعنا جميعاً الاّ استاذنا المرحوم فقد كان في طمأنينة كاملة والتفت جهة الأفعى وقال: موتي.
وفجأة رأينا الافعى تتصلّب كالخشبة في مكانها فغادرنا المسجد.
وبعد خطوات فكر أحد الاصدقاء بالعودة ليتأكد فيما يبدو من موت الأفعى فوجدها ميتة، والتحق بنا وانطلقنا عائدين الى النجف الاشرف.
فجأة التفت الاستاذ الى تلميذه الذي عاد وقال:
لقد ماتت الأفعى لحظة قلت لها موتى فلم عدت تتفحص ذلك وتتأكد من موتها؟!
2 ـ حكاية أخرى
حكى الميرزا طاهر التنكابني وهو من فلاسفة عصره قائلاً: خرجت من مدرسة ««سبهسار»»
الواقعة في ميدان ««بهارستان»»
بطهران لانجاز عمل ما فلما عبرت الى الجانب الآخر من الشارع رأيت وجهاً ليس غريباً علي فلما دققت فيه اذا هو أحد زملائي في المدرسة فيما مضى فبادرت اليه وعانقته بشوق وسألته: ماذا تفعل هنا؟
قال: كما ترى اتسكع!
قلت: اذن انت ضيفي هذه الليلة لنذهب الى حجرتي في المدرسة. ولبّى الدعوة وكان الجو بارداً فجلسنا إلى الكرسي«255».
ورحنا نرتشف الشاي ونتبادل اطراف الحديث، فقال لي اثناء ذلك: هل ترغب في الذهاب معي الى قم؟ قلت: الجو باردٌ جداً ثم من أين نحصل على من يأخذنا الى قم؟! ولكنه اصرّ فقلت: سآتي معك. فجأة قال: وهذه قم كما ترى!!
وجدت نفسي داخل مرقد السيدة فاطمة المعصومة وحتى اطمئن الى أن ما أراه حقيقة وضعت ««تربة الصلاة»»
في جيبي؛ وبعد أن زرنا قال: هذه طهران فوجدت نفسي جالساً الى الكرسي في حجرتي وكانت التربة في جيبي!
3 ـ كرامتان لجابر الجعفي:
جاء قوم الى جابر الجعفي وكان من أصحاب الامام الصادق « فسألوه أن يعينهم في بناء مسجدهم؟ قال: ما كنت بالذي أعين في بناء شيء يقع منه رجل مؤمن فيموت، فخرجوا من عنده وهم يبخلونه ويكذبونه؛ فلما كان من الغد اتمّوا الدراهم ووضعوا أيديهم في البناء، فلما كان عندالعصر زلّت قدم البنّاء فوقع ومات فعلموا حينئذٍ ان الرجل له كرامة عند الله«256».
ويروي العلاء بن يزيد عن رجل من جعفى قال: خرجت مع جابر لما طلبه هشام حتى انتهى الى السواد، قال: فبينا نحن قعود وراع قريب منا اذ لفتت نعجة من شائه الى حمل، فضحك جابر، فقلت ما يضحكك أبا محمد؟ قال: ان هذه النعجة دعت حملها فلم يجيء، فقالت له: تنح عن ذلك الموضع فان الذئب عاما أول أخذ أخاك منه.
فقلت لأعلمن حقيقة هذا أو كذبه، فجئت الى الراعي فقلت لـه: يا راعي تبيعني هذا الحمل؟ فقال: لا، فقلت ولم؟ قال: لأن أمّه أفره شاة في الغنم واغزرها درّة، وكان الذئب أخذ حملأ لها عند عام الأول من ذلك الموضع؛ فما رجع لبنها حتى وضعت هذا فدرّت؛ فقلت : صدق ثم اقبلت فلما صرت على جسر الكوفة نظر الى رجل معه خاتم ياقوت، فقال: يا فلان خاتمك هذا البراق أرنيه. قال: فخلعه فأعطاه، فلما صار في يده رمى به في الفرات، قال الآخر: ما صنعت؟ قال: تحب أن تأخذه؟ قال: نعم قال: فقال بيده الى الماء، فأقبل المال يعلو بعضه على بعض حتى اذا قرب تناولـه وأخذه«257».
مقام الشكر
وهو من المقامات الرفيعة العالية، والتي يحرص السالكون على بلوغها ولأهمية هذه الدرجة الرفيعة فقد بلغها قليلون جداً:
«وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ««258».
ويقول المحدّث العلامة المجلسي في الشكر:
««الشكر الاعتراف بالنعمة ظاهراً وباطناً ومعرفة المنعم وصرفها فيما أمر به»»
«259».
وعن الامام الصادق «:
««شكر النعمة اجتناب المحارم»» «260».
واختتم سيدنا الحسين خطابه في يوم عاشوراء الطويل قائلاً:
««فاجعلنا من الشاكرين»» «261».
ويقسم الراغب الاصفهاني الشكر الى ثلاثة أقسام:
قلبي، لساني وعملي.
فالقلبي معرفة المنعم والنعمة.
واللساني الاعتراف والاقرار بالنعمة.
والعملي صرفها فيما أمر به المنعم.
وروي عن الامام الصادق «: أن الله عزوجل أوحى الى موسى «:
««يا موسى! اشكرني حق شكري فقال: يا رب! وكيف اشكرك حق شكرك وليس من شكر الاّ وأنت أنعمت علي؟ قال: يا موسى! الآن شكرتني حيث علمت أن ذلك مني»» «262».
وجاء في دعاء سيدنا الحسين يوم عرفة:
««لو حصرت أنا والعادون من أنامك أن أودّي شكر واحدة من أنعمك ما استطعت الاّ بتوفيقك»» «263».
ويناجي داود النبي « الله عزوجل بقوله:
««يا ربّ! كيف اشكرك والشكر نعمة منك أحتاج اليها الى شكر آخر؟
فقال الله عزوجل: يا داود! إذا علمت أنّ ما بك من نعمة فمنّي فقد شكرتني»».
وهذا غيض من فيض من كثير من الروايات في بيان الشكر اللساني غير ان أعظم الشكر وأجلّه هو الشكر العملي من خلال تجسيد الايمان الحقيقي والقيام بالأعمال الصالحة والتحلّي بالأخلاق الكريمة والورع عن محارم الله.
عن مسمع بن عبدالملك قال: كنا عند أبي عبدالله بمنى وبين ايدينا عنب نأكله، فجاء سائل فسأله فأمر بعنقود فأعطاه؛ فقال السائل: لا حاجة لي في هذا إن كان درهم!
قال: يسع الله عليك، فذهب ثم رجع فقال: ردّوا العنقود فقال: يسع الله لك ولم يعطه شيئاً.
ثم جاء سائل آخر، فأخذ أبو عبدالله « ثلاث حبّات عنب فناولها إيّاه فأخذها السائل من يده ثم قال: الحمد لله ربّ العالمين الذي رزقني. فقال أبو عبدالله « مكانك فحثا ملء كفيه عنباً فناولها ايّاه، فأخذها السائل من يده ثم قال: الحمد لله الذي رزقني، قال أبو عبدالله مكانك ونادى على غلامه: يا غلام أي شيء معك من الدراهم؟ فإذا معه نحو من عشرين درهماً فيما حزرناه أو نحوها فناولها اياه فأخذها ثم قال: الحمد لله، هذا منك وحدك لا شريك لك فقال أبو عبدالله: مكانك فخلع قميصاً كان عليه؛ فقال: البس هذا، فلبسه فقال الحمد لله الذي كساني وسترني يا أبا عبدالله أو قال جزاك الله خيرا، لم يدع لابي عبدالله « الاّ بهذا ثم انصرف، فذهب قال: فظننا انه لو لم يدعُ له لم يزل يعطيه لأنه كلما كان يعطيه حمد الله أعطاه«264».
مقام الذكـر
ان الذكر الذي يُلهمه العبد بعد تطهير القلب يختلف عن الذكر الذي ورد في الدعاء. فالذكر الالهامي، هو أساس السعادة في الدنيا والآخرة والسبب في بلوغ الحقائق التي يقصر عن بلوغها الغافلون.
الذكر الالهامي، ذكر الحال لا ذكر القيل والقال، لأن ذكر القول هو لعب بالألفاظ وذكر الحال هو عروج القلب الى رحاب يعيده المنال الاّ لمن أراد الوصال.
ان ذكر الحال يفتح بصيرة الانسان فيرى جمال الحق وحينئذ يهيم العبد عشقاً من أجل لقاء المحبوب ومن أجل ذلك هتف سيدنا الحسين في الظهيرة العظمى من يوم عاشوراء:
تركت الخلق طُرّاً في هواكا
وأيتمت العيال لكي أراكا
فلو قطعتني بالحب ارباً
لما مال الفؤاد الى سواكا
الذكر الالهامي هو ما جعل سيدنا سيد الساجدين علي بن الحسين يناجي محبوبه ومعشوقه قائلاً:
وآنسنا بالذكر الخفي واستعملنا بالعمل الذكيّ والسعي المرْضيّ«265».
وهذا ما أشار اليه سيدنا محمد « في قوله:
««لا يزال المؤمن الذي يذكر الله في كل حال في أنوار خمس: مدخله نور ومخرجه نور، وكلامه نور، وغذاؤه نور، ومنظره يوم القيامة الى النور»»
«266».
وليس هناك شيء أحلى لأهل المعرفة والسالكين في طريق الحب الألهي من ذكر الله، وهذا لا يتيسر للعبد حتى يقطع علائقه الدنيوية ويخترق الحجب الحيوانية، ويتطهّر بالعبادات الظاهرية والباطنية ويجتنب المعاصي ويتنـزّه عن الاخلاق السيئة.
اللهم إنّي اسألك سؤال خاضع متذلل خاشع
أن تسامحني وتجعلني بقسم راضيا قانعاً، وفي جميع الأحوال متواضعاً
اللهم إنّي اسألك سؤال خاضع متذلل خاشع
أتذلل في حضرتك وكلّي خشوع.. أسألك العفو والرحمة والقناعة بنصيبي يا الهي!
ان الدعاء المنقوع بالدموع والخشوع، حيث القلب مفعم بالذكر وقد غمرت سكينة الليل كل الاشياء، يوشك أن يخترق الحجب ويصل حضرة الحق.
قال الله عزوجل: لنبيّه موسى بن عمران:
««يا بن عمران! هب لي من قلبك الخشوع ومن بدنك الخضوع ومن عينيك الدموع في ظُلَم الليل، وادعني فإنك تجدني قريباً مجيباً»» «267».
ويصل الداعي في هذا المقطع من الدعاء الى حالة روحية تتجسد فيها هذه المعاني السامية:
ـ الشعور بالأخوة ومدارة الناس.
ـ الرحمة والرأفة.
ـ القناعة بما رزقه الله.
ـ التواضع والخشوع والخضوع في كل ظروف حياته.
وعلى الداعي أن يدرك هذه الحقيقة دون أدنى شك أو ترديد: «إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأنفُسِكُمْ««268».
1 ـ الشعور بالأخوة:
حذر الدين السلامي الحنيف اتباعه والمؤمنين به من كل العلاقات السلبية والمشاعر غير السوّية، تجاه من هم في واقع الأمر اخوته في الدين والانسانية ودعاهم الى علاقات أخلاقية مفعمة بمشاعر الأخوة والرحمة والانسانية؛ فقد حث الجميع على أداء الحقوق والقيام بالواجبات المتبادلة معتبراً ذلك التزاماً أخلاقياً وشرعياً يتحمل منتهكها المسؤولية الكاملة؛ فيما يتعرض له من عواقب في الدنيا والآخرة.
ان ارساء آصرة الأخوة والعلاقة الروحية من ثمار تزكية النفس لأن الرذائل الأخلاقية من قبيل الغرور التكبر والأنانية والحرص والبخل والحسد سدود كبيرة، تقطع الطريق على ارساء آصرة الأخوة الإسلامية.
وقد جاء في الحديث النبويّ الشريف عن سيدنا محمد « قوله:
««لا تدابروا ولا تحاسدوا ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله اخواناً؛ المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحرمه ولا يخذله»» «269».
وعنه «:
««مدارة الناس نصف الايمان والرفق بهم نصف العيش»»
«270».
وعنه « أيضاً:
رحم الله امرءً سهل البيع سهل الشراء، سهل الاقتضاء»»
«271».
وعنه « كذلك:
««من أنظر معسراً أو ترك حاسبه الله حساباً يسيراً»»
«272».
وروي عن النبي «: إنّ رجلاً كان مسرفاً على نفسه حوسب فلم توجد له حسنة، فقيل له هل عملت خيراً قط؟ فقال: لا، الاّ أنّي كنت رجلاً أداين الناس، فأقول لفتياني سامحوا الموسرين، وأنظروا المعسرين ـ وفي لفظ آخر ـ تجاوز عن المعسر، فقال الله تعالى: فنحن أحق بذلك منك، فتجاوز الله عنه وغفر له»» «273».
والأخوة درجة عالية من العلاقات الانسانية وقد تصل في التزامتها الأخلاقية إلى أشدّ العقود الاجتماعية حساسية وهي عقد الزواج ««فكذا عقد الاخوة فلأخيك عليك حق في المال وفي النفس وفي اللسان وفي القلب بالعفو والدعاء وبالاخلاص والوفاء وبالتخفيف وترك التكلف وذلك يجمعه ثمانية حقوق:
الأوّل في المال: قال رسول الله «: ««مثل الأخوين مثل اليدين يغسل إحداهما الاخرى»»
وإنّما شبههما باليدين لا باليد والرِّجل لأنّهما يتعاونان على غرض واحد فكذا الأخوان إنّما تتمُّ أخوَّتهما إذا ترافقا في مقصد واحد، فهما من وجه كالشخص الواحد وهذا يقتضي المساهمة في السرَّاء والضرّاء والمشاركة في الحال والمال وارتفاع الاختصاص والاستيثار، والمواساة بالمال مع الإخوة على ثلاث مراتب:
أدناها أن تنزِّله منزلة عبدك وخادمك فتقوم بحاجته من فضل مالك فإذا طرأت له حاجة وكانت عندك فضلة على حاجتك أعطيته ابتداء ولم تحوجه الى السؤال فإن أحوجته إلى السؤال فهو غاية التقصير في الأخوة.
الثانية أن تنزِّلـه منزلة نفسك وترضى بمشاركته إيّاك في مالك ونزوله منزلتك حتّى تسمح بمشاطرته على المال؛ فقد قيل: كان أحدهم يشقُّ إزاره لأخيه نصفين.
الثالثة وهي العليا أن تؤثره على نفسك وتقدّم حاجته على حاجتك، فهذه رتبة الصدّيقين ومنتهى درجات المتحابّين، ومن ثمار هذه الرتبة الإيثار بالنفس أيضاً، كما روي أنّه سعي بجماعة من الصوفية إلى بعض الخلفاء فأمر بضرب رقابهم وفيهم أبو الحسين النوري فبادر إلى السيّاف ليكون هو أوّل مقتول؛ فقيل له في ذلك فقال: أحببت أن أؤثر إخواني بالحياة في هذه اللّحظة؛ فكان ذلك سبب نجاة جميعهم في حكاية طويلة.
فإن لم تصادف نفسك في رتبة من هذه الرّتب مع أخيك فاعلم أنّ عقد الاُخوة لم ينعقد بعد في الباطن وإنّما الجاري بينكما مخالطة رسميّة لا وقع لها في العقل والدّين، فقد قال ميمون بن مهران: من رضي من الإخوان بترك الإفضال فليواخ أهل القبول وأمّا الدرجة الدّنيا فليست أيضاً مرضية عند ذوي الدين«274».
وجاء في الحديث النبوّي الشريف:
«أمرني ربّي بمداراة الناس، كما أمرني بأداء الفرائض»» «275».
وجاء أيضاً:
««ثلاث من لم يكنّ فيه لم يتمّ له عمل: ورع يحجزه عن معاصي الله، وخلق يداري به الناس وحلم يردّ به جهل الجاهل»» «276».
وجاء أيضاً:
««إن الرفق لم يوضع على شيء الاّ زانه ولا نزع من شيء إلاّ شانه»»
«277».
وجاء أيضاً:
««لو كان الرفق خلقاً يرى ما كان ممّا خلق الله عزوجل شيء أحسن منه»» «278».
وفي رواية عن أميرالمؤمنين «:
««ثمرة العقل مداراة الناس»»
«279».
««مداراة الرجل من أفضل الاعمال»»
«280».
««دارِ الناس تستمتع بإخائهم والقهم بالبشر تمت اضغانهم»» «281».
وجاء عن سيدنا محمد « قوله:
««اسمح يسمح لك»» «282».
وروي عنه « أيضاً:
««تخلقوا بأخلاق الله»» «283».