عربي
Saturday 2nd of November 2024
0
نفر 0

الاتّجاه الإِلهي في أعماق

الاتّجاه الإِلهي في أعماق

الوجود الإِنساني

للإِنسان خارج حدود جسمه أبعاد وسيعة من المساعي الحياتية التي لا تتحدد بحدود البدن أبداً ، ولمعرفة زوايا أبعاد الإِنسان خارج حدود جسمه والجوانب الفيزيكية يجب سلوك طريق التحقيق في أعماقه الروحية حتى نصل ما وراء نشاطاته الفيزيكية إلى الآفاق الوسيعة للظواهر الطبيعية والعواطف والغرائز الإِنسانية ، ومع مقارنة النشاطات والفعاليات الروحية والنفسية ومطابقتها لعالم الخارج يتضح لنا كثير من الأسرار والمسائل المعقدة .

إن للإِنسان سلسلة من الإِدراكات الخاصة لها عروق ذاتية تنشأ من طبيعة الإِنسان ، ولا يؤثر في تواجدها في الإِنسان أي عامل خارجي .

قبل أن يرد الإِنسان الطبيعي في المباحث العلمية بإمكانه أن يدرك حقائق بمعلوماته تلك الفطرية ، وبعد دخوله في المباحث العلمية والفلسفية واكتناز مخه من البراهين والاستدلالات المختلفة ، يمكن أن يصل به الأمر إلى نسيان أو تناسي تلك المعلومات الفطرية أو الشك والترديد فيها ، ولهذا نرى أن الإِنسان حينما يعزل فطرته عن معرفة العقيدة تبدأ الاختلافات .

إن الاعتقاد بالدين والإِيمان بالله ينبع في مراحله الأولى من الدوافع الغريزية والإِدراكات الفطرية ، ثم يتكامل بمساعدة العقل والفكر ، إن جذور

الإحساس الفطري في النفس الإِنسانية عميقة وفي نفس الوقت جلية واضحة إلى درجة أن لو غسل الإِنسان فكره وروحه عن كل تصور ديني ، وفكر مضاد للدين وتوجه إلى نفسه والعالم ، أدرك جيداً أن قافلة الكائنات تتحرك دائماً إلى هدف معين ولأجل مسمى ، وقد بدأت الحياة من دون إرادتها وتجري إلى نقطة معينة ـ وإن كانت مجهولة لها ـ بدون إرادتها أيضاً ، ويلاحظ هذا الواقع في جميع الموجودات في الطبيعة بأسلوب ونظم دقيقين .

إن الإِنسان الطبيعي حينما يرى الأوضاع والأحوال حوله يدرك جيداً وجود قدرة عظمى محيطة به وعلى جميع العالم ، إنه يرى العلم والقدرة والإِرادة في وجود ذاته التي هي جزء صغير جداً من هذا العالم الكبير ، ثم يفكر : كيف يمكن أن يفترض عدم وجود الإِرادة والقدرة والعلم في مجموع العالم ما عدا الإِنسان ؟ وبكلمة : إن الذي يلزم الإِنسان بالإِيمان بوجود حكيم مدبر لهذا العالم يجري نظامه الموجود بأمره وتقديره هو نفس هذا النظام والحركة الدائبة المحسوبة والمقدّرة بدقة خاصة ، إذ لا يمكن تفسير هذا النظام الموجود إلا بقبول وجود هذا الحكيم المدبر ، إن الإِنسان حينما يقدر موقعه في العالم يدرك أن هناك قوة خاصة تخلقه وتحركه وتذهب به إذا شاءت ، من دون أن تستمد منه أو تستجيز .

إن هذا الحكم فطري ، إذ لم ير البشر في أي مكان وأي زمان مصنوعاً بدون صانع ولا عملاً بدون عامل ، إن البحث عن علاقة العليّة ، ينبع من إحساس ذاتي ، وحيث لا يمكن فصل إدراك العليّة من أحد فإن الإِحساس الديني والبحث عن الخالق ، أيضاً لا يمكن فصله عن الإِنسان ، حتى الطفل الذي لم ير العالم حينما يسمع صوتاً أو يشاهد حركة يتوجّه إلى منبع الصوت ومنشأ الحركة بصورة طبيعية .

إن قبول نظام العليّة هو أساس حياتنا العلمية وأصولنا العلمية ، بل هي من النواميس العامة التي لا تتحمل الاستثناء حتى في مورد واحد ، فالعلوم

بما فيها علم الجيولوجيا ( طبقات الأرض ) والفيزياء العامة والكيمياء الطبيعية وعلم الاجتماع والاقتصاد والتحقيق في ظواهر الوجود . . . كلها محاولات لتعيين العلل والعوامل وتشخيص كيفية العلاقات فيما بين الأشياء ، وهكذا يتبين أن العلوم والمعارف ليست إلا سعياً لكشف العوامل والعلل ، وأن كل تقدم في ميادين العلوم والصناعات ليس إلا نتائج لتتبع العلماء حول علل الاشياء .

لو كان بإمكاننا أن نشاهد في زاوية من هذا العالم ، في موجود من موجودات هذا الوجود العام علامة على الوجود الذاتي كان لنا الحق في أن نعمم هذا بالنسبة إلى سائر الموجودات ، وليس من الضروري أن يبدو قانون العلية لنا بصورة الظواهر العادية ، إذ أن تنوع العلل من الكثرة بمكان يمكن أن يعجز الملاحظ عن تعيين جميعها حتى في حادث معين ، ولكن لا يمكن أن نجد في أي شأن من الشؤون البشرية الجزئية والكلية في الماضي والمستقبل في أمر فردي أو اجتماعي نقطة واحدة من الصدفة قط .

حينما تثبت العلوم التجريبية أن لا سبيل إلى الاستقلال في الوجود لعناصر الطبيعة ، وحينما تبلغ تجريباتنا وإحساساتنا واستنباطاتنا إلى نتيجة واحدة هي :

إنه لا يمكن أن يقع أي أمر في الطبيعة بدون علة خاصة ، وإن جميع الحوادث تتبع نظاماً وقوانين معينة ، غريب أن نرى أناساً يطرحون الأحكام العلمية والفطرية والعقلية وراء ظهورهم وينكرون وجود الخالق إطلاقاً ! .

ويمكننا أن نعبر عن الفطرة بالغريزة الإِنسانية المتكاملة والمتطورة التي تستطيع أن تعبر جدران المحسوسات إلى الأسرار المجهولة ، إن كل حكم لأي مسألة تنشأ من ضمير البشر لا من أثر الأنظمة العقائدية والتربوية فهي من الفطرة ، ولا فرق بينها وسائر الغرائز الإِنسانية كحب الذات وحب الوجود من حيث الأصالة والشمول .

ولكن التربية وعوامل البيئة والمحيط فهي من الأمور التي تحجب عن

تجلّي الفطرة أو تقوّيها ، يقول ( والتر اوسكار لندبرك ) العالم الفيزيولوجي المعروف :

« لعدم توجه بعض العلماء في المطالعات العلمية إلى درك وجود الخالق علل متعددة : منها : الأوضاع والأحوال السياسية المستبدة أو الوضعية الاجتماعية أو اليئة الحكومية والإِدارية ، تكون غالباً مما تسبب أو تؤثر في إنكار وجود الخالق »(1) ، إن ما ينشأ من مبدأ غريزي ، يكون من حيث الجمال كالنظام الطبيعي بالذات ، والذين بقوا أحراراً في المسير الأصيل لخلقتهم ولم يتقيدوا بقيود العادات والتقاليد ولم تصطبغ فطرتهم بصبغة اللغات والمصطلحات ، هؤلاء يسمعون نداء ضميرهم أحسن وأحسن من غيرهم ، ويدركون الحسن والسيّىء في أعمالهم ، والحق والباطل من معتقداتهم ، ولهذا لا تجد الإِلحاد عن التدين كتحريفه عن الفطرة عند هؤلاء إلا قليلاً ، وإذا قيل لهم : إن هذا العالم مخلوق صدفة وبلا نظام ، فلا يؤثر فيهم هذا الكلام حتى ولو كان مسبوكاً في قوالب المصطلحات الفلسفية ، إذ إنهم يردونه بفطرتهم .

وقد تجد أناساً مقيدين بين المنسوجات العلمية المصطلحة يترددون من أثر هكذا كلمات تصاحبها مصطلحات مصبوغة بزينة وجمال ، إن العلوم المصطلحة المحدودة الباعثة على الغرور كالقوارير الملونة تجعل أمام منافذ عقول وفطرة هؤلاء ، فيصبح أصحاب هذه العلوم يرون العالم بلون علومهم ومعارفهم وفنونهم ، ويتصورون أن ما يرونه من نافذة حواسهم وعقولهم المحدودة هو كل الواقعيات ، ولا نقصد بهذا الكلام أن يقف الإنسان عن التكامل العقلي كيما لا يبتلى بالتحريفات ، بل المقصود أن لا يبقى الإنسان مغروراً بفنونه ومحكوماً عليه من ناحية ثقافته المحدودة .

إن أكثر الناس بدل أن يجعلوا علومهم ومعارفهم سلالم تحت أقدام

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 إثبات وجود الخالق ص 60 . ( بالفارسية ) .

 

عقولهم ليصلوا بأنفسهم إلى مستوى أسمى ، يتوقفون حيث كانوا ، ويتقيدون بحدود مفاهيمهم ومصطلحاتهم محصورين محبوسين فيها .

إن الفطرة تسعف الإِنسان عند المخاطر أيضاً ، حينما يواجه الشخص ضغطاً قوياً ومشكلات شديدة ، وتعرض عنه العوامل المادية من كل ناحية ، وتقصر يداه عن جميع إمكانات الحياة ، ويصبح غريقاً كريشة أو عود من التبن في بحر الحوادث ويقرب من الموت حتى القدم الأخير ، حينذاك يهديه ذلك العامل الضمير إلى ملجأ غير مادي ويتمسك بمن تفوق قدرته جميع القوى ، ويدرك أن ذلك الوجود القدير الرحيم الرحمان هو القادر على انتشال يده بقدرته الفائقة ، فهو بهذا الإِدراك يستعين بساحته المقدسة للنجاة من الخطر بجميع وجوده ، ويحس في زاوية روحه قوته وقدرته على إنقاذه ونجاته ، حتى الأقوياء الطغاة العتاة المردة الماديون الذين يطغون ويستغنون عند السلطة والاقتدار عن القدرة الإِلهية الأزلية ، حينما يواجهون ضيق الهزيمة والفناء ينسون فجأة كل ما تعلموه من إنكار الخالق في المدارس أو البيئات المادية ، ويقبلون بكل قلوبهم وارواحهم على مبدأ الوجود ومنبع القدرات والطاقات .

وقد احتفظ التأريخ في ذاكرته بنماذج كثيرة من هكذا أناس زال عنهم غبار التلوثات المادية في الأحوال الشاقة التي تفوق الطاقة ، فتوجهوا إلى الخالق الوحيد من عمق قلوبهم .

( ديدرو ) أحد كبار الفلاسفة الماديين الفرنسيين ، له في آخر كتاب كتبه في أصالة المادة والمادية كلمات في المناجاة والاعتذار ، كتبها كرد فعل لوجدانه وفطرته يقول :

« يا إلهي ! بدأت بياني من الطبيعة التي يعتقد الربانيون الإِلهيون أنها من صنعك ، وأختم بياني هذا بك ، يا من يسميك أهل الأرض : الله ، إلهي أفترض أنك موجود وواقف على أعمالي وعالم بضميري ، لو أعلم أني فيما مضى قد عملت على خلاف حكمك وعقلي ، فأنا نادم من ذلك العمل

ومتألم ، ولكني غير متألم من المستقبل إذ باعترافي تغفر لي ، لا أطلب شيئاً منك في حياتي هذه إذ باعترافي تغفر لي ، لا أطلب شيئاً منك في حياتي هذه إذ ما يجب أن يكون إما بحكمك أو بقانون الطبيعة ، أما لو كان هناك عالم آخر فإني أرجو منك ثواباً ، وإن كنت عملت ما عملته لنفسي »(1) .

إضافة إلى المنابع الباطنية المودعة في روح الإِنسان والتي تساعده على فهم الحقائق ، كي ينتخب طريقه بكل حرية طبقاً للأصول الفطرية بعيداً عن المصوغات الفكرية والدعايات المظللة ، يجب أن يكون هناك إرشاد من خارج وجوده ، لهداية فطرته وعقله وتقويتهما ، ولكي يصلح الطبائع الطاغية والمتطرفة والمفرطة ، ويمنع العقل والفطرة عن الانحراف ويحررها من التوقف أمام المعبودات المصطنعة .

بعث الأنبياء ليوجهوا الإِدراكات الفطرية اللطيفة ، ويطهروها من قتام العقائد والعادات المكتسبة من المحيط والبيئة ، ويقودوا اتّجاهه الإِلهي في مسيره الواقعي ، ويربّوا اتّجاهاته السامية المتعالية .

وليست هذه الهداية بمعنى إطفاء شعلة الإِرادة الإِنسانية الخلاّقة ، حتى تسلبه حريته وقدرته على التفكير والانتخاب ، بل هى نوع من الإِمداد للاتجاهات والدوافع الإِنسانية الإِيجابية ، كي يقتدروا على الإِفادة من فطرتهم وطبيعتهم الفكرية ، ويتفتحوا على الحق والواقع .

إن أولى الناس باتباع دعوة الأنبياء أصحاب الضمائر الطاهرة ، وكان في الصف المخالف لهم أناس يستندون إلى ثروتهم أو قدرتهم البالية ، أو المغترون بعلمهم الضئيل وعقلهم الناقص والمختلط بأوهامهم حيث كان

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 عقائد وآراء بشرية ص 308 ( بالفارسية ) .

 

الغرور والنخوة الجاهلية تمنع عن تفتح استعداداتهم وتنور طبائعهم .

يقول أحد العلماء : إن قانون العرض والطلب يحكم حتى في المعنويات ، إذ لو لم تكن فطرة الناس تطلب العقيدة لكان عرض الأنبياء لدعوتهم الدينية يذهب هدراً ، والذي نشاهده أن عرض الأنبياء لم يبق بلا سوق رائج بل وجدت نظراتهم المثمرة والأصيلة أتباعاً وحماة كثيرين ، وهذا دليل على وجود طلب الدين في باطن ضمير الإِنسان .

إن دعوة الأنبياء كانت مبنية على التوحيد لا إثبات الصانع ، إنهم نفوا قابلية عبادة الاصنام ، والشمس ، والقمر ، والنجوم ، كي لا يروى العطش الروحي والفطري للبشر ، بمصاديق كاذبة للآلهة كالأوثان والنجوم والشمس ، والقمر ، بل يبحثوا عن الأهداف والقيم المستقيمة في الإِله الحق ، ويتقيدوا بالكمال اللامنتهي ، ويسرعوا إلى منبع جميع القيم والفضائل بإيمان متكامل من دون توقف ، ويصلوا في النهاية إلى الهدف النهائي .

إذن فالشرك واللادينية بجميع أنواعها المتقدمة ( المادية ) وغير المتقدمة ( الوثنية ) كلها من نتائج الانحراف عن الفطرة .

إن تقدم العلوم في خصوص التجربة الدينية التي لها اليوم مظاهر في كل زاوية من العالم ، أسفر عن كشفيات هامة نستطيع أن نحصل منها على نتائج قيمة لمورد بحثنا هذا .

إن تأريخ الأديان يحلل الإِحساس الديني والاتجاهات والعوامل المصيرية بأسلوب حديث يغاير التفسيرات السابقة بصورة عامة ، وذلك بالاستناد إلى أسناد ومدارك معتمدة لدى علماء الاجتماع والتاريخ .

إن علم النفس الذي بدأ بالتحقيق في النفس غير الشاعرة من ( فرويد) واستمر بمساعدة ( ادلر ) و( يونك ) قد توصل في أعماق روح الإِنسان إلى عالم جديد من القوى الخفية وأنواع المعارف والإِدراكات غير العقلية ، وفتح

للعوامل غير العقلية وماوراء الإِرادة كالإِحساس الديني ميادين للتتبع العلمي المنظم .

ويجري الآن بحث فكري يستلزم اعتقاد عدد أكثر من المفكرين من مختلف المدارس بهذا الأصل : وهو أن الأحساس الديني هو أحد العناصر الأولى الطبيعية والثابتة لروح الإنسان ، وأن الإدراك الفطري هو من نوع إدراك ما وراء العقل .

من حدود عام ( 1920 م ) استطاع أحد فلاسفة الألمان باسم ( روددلف ات ) أن يثبت وجود عناصر فطرية وراء العقل في الإحساس الديني إلى جنب العناصر العقلية الأخلاقية ، وأن جميع أوصاف الله القدرة والقداسة والأكبرية إنما هي لتفهيم أن مفهوم القدس لا يمكن أن يرجع إلى شيء من المدركات العقلية ، بل مفهوم مستقل لم ينشأ من مفهوم آخر ، ولا يمكن أن يعد مع أي مفهوم من المفاهيم العقلية وغير العقلية واحداً .

إن من إحدى خصائص هذا العصر كشف بعد رابع في عالم الطبيعية باسم ( الزمان ) مزيج بالأجسام كسائر الأبعاد ، وعلى هذا الأساس يقال : لا يوجد جسم في العالم فارغاً عن الزمان الناشيء من الحركة والتحول .

كذلك انتهت تحقيقات العلماء في هذا العصر إلى معرفة بعد رابع في الروح الإنسانية باسم ( الإحساس الديني )(1) .

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

المُناظرة الثاني والخمسون /مناظرة السيد محمد ...
قاعدة التسليط
البَضْعة الزكيّة
محبة الرسول واله صلى الله عليه وآله
سؤال القبرفي کلام امير المؤمنين
إبراهيم عليه السلام أول الموحدين
مما يهوِّن هول المحشر
مفهوم الإنتظار
نظرة متطورة الى الاقتصاد عند الطهطاوي
ما يصح السجود عليه

 
user comment