عربي
Monday 23rd of December 2024
0
نفر 0

استثنا ما ورد فيه دليل عام

استثنا ما ورد فيه دليل عام

هـنـاك امـور عـامـة تناولتها تعاليم الشريعة الاسلامية , وتركت تشخيص مواردهاوموضوعاتها مـوكـولا الـى الـمـكلف نفسه , شريطة ان يضمن اتصاف عمله التفصيلي بعنوان ذلك العام المقطوع الورود.
وهذه النقطة في التشريع هي سر عمومية الرسالة , وشموليتها , وانطباقهاعلى مختلف موارد الحياة , ومستجدات الوجود , والا لو كانت موارد الاحكام الشرعية منحصرة في فترة زمنية محددة , او ظـرف حـيـاتـي خاص , لما بقي للشريعة الاسلامية اي اثر , ولما امتد وجودها الى آخر لحظات وجود الانسان على وجه هذه الارض .
وقد جات دلالات الكثير من الاحكام الشرعية الاسلامية عامة وكلية , يترك الامر لنفس المكلف في تطبيقها على مواردها , من خلال نصوص عديدة نستعرض ادناه قسما منها.
قال اللّه تعالى : ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه ) ((567)) .
وقال تعالى : ( ولا تاكلوا اموالكم بينكم بالباطل ) ((568)) .
وقال تعالى : ( ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلا ) ((569)) .
وقال تعالى : ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان ) ((570)) .
وقال تعالى : ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم اوليا بعض ) ((571)) .
وقال تعالى : ( ما على المحسنين من سبيل ) ((572)) .
وقال تعالى : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) ((573)) .
وقال تعالى : ( ان جاكم فاسق بنبا فتبينوا ) ((574)) .
وقال تعالى : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) ((575)) .
فـمـن الـواضح ان هذه الايات القرآنية تمتلك دلالات كلية عامة قابلة للانطباق على مختلف الازمنة والعصور , شريطة ان تتحقق موضوعات الاحكام المذكورة فيها على نحو الدقة , وتحرز على نحو اليقين .
كـما ان هناك مجاميع اخرى من الايات القرآنية الكريمة تمتلك شبيه هذه الدلالات ,لم ندرجها هنا مراعاة للاختصار.
وورد نـظير ذلك في الاحاديث الشريفة ايضا , فقد ذكرت قواعد كلية لمختلف القضايا التي تكتض بها حياة الانسان , ويحفل بها سلوكه الفردي والعام .
فمن هذه الاحاديث ما ورد عن رسول اللّه (ص ) انه قال :
(( رفع عن امتي تسعة : الخطا , والنسيان , وما اكرهوا عليه , وما لا يطيقون , ومالا يعلمون , وما اضـطـروا الـيـه , والـحـسـد , والـطـيـرة , والتفكر في الوسوسة في الخلق مالم ينطق بشفة )) ((576)) .
وعنه (ص ) :
(( ان الناس مسلطون على اموالهم )) ((577)) .
وعنه (ص ) :
(( لا ضرر ولا ضرار على مؤمن )) ((578)) .
وعنه (ص ) :
(( المسلمون عند شروطهم )) ((579)) .
وعنه (ص ) :
(( المغرور يرجع الى من غره )) ((580)) .
وعنه (ص ) :
(( الاسلام يعلو ولا يعلى عليه , والكفار بمنزلة الموتى , لا يحجبون , ولايورثون )) ((581)) .
وعن امير المؤمنين (ع ) :
(( من كان على يقين , فاصابه شك , فليمض على يقينه , فان اليقين لا يدفع بالشك )) ((582)) .
وعنه (ص ) :
(( ليس على المؤتمن ضمان )) ((583)) .
وعن موسى بن بكر قال :
(( قـلت لابي عبداللّه (ع ) : الرجل يغمى عليه اليوم او يومين او ثلاثة او اكثر من ذلك , كم يقضي مـن صلاته ؟, فقال (ع ) : الا اخبركم بما ينتظم هذا واشباهه , فقال (ع ) : كل ماغلب اللّه عليه من امر , فاللّه اعذر لعبده .
وزاد فيه غيره انه (ع ) قال : وهذا من الابواب التي يفتح كل باب منها الف باب )) ((584)) .
وعنه (ع ) :
(( لا سهو على من اقر على نفسه بالسهو )) ((585)) .
وعنه (ع ) :
(( انما علينا ان نلقي اليكم الاصول , وعليكم ان تفرعوا )) ((586)) .
وعـن محمد بن حكيم قال : سالت ابا الحسن (ع ) : ((عن القرعة في اي شي ؟ فقال لي : كل مجهول ففيه القرعة )) ((587)) .
وقد دلت الشواهد التاريخية على ان المسلمين كانوا يمارسون عملية تطبيق مثل هذه الاحكام الكلية العامة على الموارد المختلفة , فياتي التاييد من قبل الشارع المقدس على نحو الاقرار , او التشجيع , او الاستحسان , او الى غير ذلك من الحالات , التي توحي بان مثل هذه الممارسات نابعة من صميم الدين الاسلامي الذي يواكب الحياة على مرالازمنة والعصور.
فاذا حدث في حياة المسلمين امر معين لم يكن له وجود في عصر التشريع الاسلامي , فان وجد هذا الامر الحادث له عنوانا كليا عاما يندرج تحته من احكام الشريعة العامة , فانه يخرج بذلك عن دائرة ( الابـتـداع ) , ويكتسب شرعيته من خلال ذلك النص الكلي العام حتى لو لم يرد فيه نص خاص , يذكره على نحو الاستقلال والانفراد.
ومـن النماذج التاريخية التي اقرت الشريعة الاسلامية فيها هذا النمط من السلوك التطبيقي ما ورد في ( الطبراني ) بسنده :
(( ان الـنـبي عليه الصلاة والسلام مر على اعرابي وهو يدعو في صلاته ويقول : ( يامن لا تراه الـعـيون , ولا تخالطه الظنون , و لا يصفه الواصفون , ولا تغيره الحوادث , ولايخشى الدوائر , يـعلم مثاقيل الجبال , ومكاييل البحار , وعدد قطر الامطار , وعدد ورق الاشجار , وعدد ما اظلم عـليه الليل , واشرق عليه النهار لا تواري سما منه سما , ولاارض ارضا , ولا بحر ما في قعره , ولا جـبـل ما في وعره , اجعل خير عمري آخره , وخيرعملي خواتمه , وخير ايامي يوما القاك فيه ).
فـوكـل رسـول اللّه بالاعرابي رجلا , وقال : اذا صلى فائتني به , وكان قد اهدي بعض الذهب الى رسول اللّه , فلما جا الاعرابي , وهب له الذهب , وقال له : تدري لم وهبت لك ؟ قال الاعرابي : للرحم التي بيني وبينك قال الرسول الكريم : ان للرحم حقا , ولكني وهبت لك الذهب لحسن ثنائك على اللّه )) ((588)) .
فـنـرى هـنا ان هذا الاعرابي قد دعا بدعا رفيع , اخذ مضامينه السليمة والعالية من تعاليم الرسالة الاسلامية واحكامها العامة , وان لم تكن الفاظه وتراكيبه اللغوية مماوردت على نحو الخصوص في لسان الشرع .
ونظير هذا الحادث ما روي عن انس انه قال :
(( اقـيـمت الصلاة فجا رجل يسعى , فانتهى وقد خفزه النفس او انبهر , فلماانتهى الى الصف قال :
الحمد للّه حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه .
فلما قضى رسول اللّه (ص ) صلاته قال : ايكم المتكلم ؟, فسكت القوم , فقال : ايكم المتكلم , فانه قال خيرا , او لم يقل باسا.
قـال : يـا رسول اللّه انا , اسرعت المشي , فانتهيت الى الصف , فقلت الذي قلت ,قال : لقد رايت اثني عشر ملكا يبتدرونها ايهم يرفعها , ثم قال : اذا جا احدكم الى الصلاة , فليمش على هينته , فليصل ما ادرك , وليقض ما سبقه )) ((589)) .
فـهـذا الـحـديث ايضا على فرض صحته يدل على ما تمت الاشارة اليه من جوازابتكار اذكار معينة ودعـوات خاصة , لم تكن موجودة بتراكيبها اللفظية الخاصة في عصرالتشريع , ما دامت منسجمة مع مضامين التعاليم الشرعية العامة , وغير مخالفة لها.
فـكل امر حادث ورد بشانه الدليل العام ـ اذن ـ لا يعد من مصاديق ( الابتداع ) ,وانما هو منبثق من صـمـيـم الـسـنة والتشريع ومن هنا ندرك سذاجة التفكير الذي كان يحصر الامور الشرعية في خصوص ما ورد بشانه الدليل الخاص فقط , ويعد الزائدعلى ذلك من ( البدع ) الدخيلة على الدين , فقد مر معنا ان سعدا حينما سمع رجلا يقول : (لبيك ذا المعادج ) , علق على عبارته هذه بالقول : (( ((590)). وكـذلـك مـا روي عـن ( الشاذلي ) انه كان يقول : ((من دعا بغير ما دعا به رسول اللّه فهو مبتدع )) ((591)) .
وقـد اشـترك مع هذا النمط الخاطئ من التفكير مجموعة اخرى من علما العامة ,واتهموا من خلال ذلـك اتـبـاع مـدرسـة اهـل البيت (ع ) بشتى الوان التهم والافتراات ,واطلقوا على اغلب العبادات الـشـرعـيـة الـتي يمارسها الموحدون بقصد التقرب الى اللّه تعالى , ومن باب انسجامها مع مضامين الشريعة العامة , والامر بها من خلال الادلة الكلية اطلقوا على هذه العبادات لفظ ( البدعة ) بعفوية واسـتـرسال , ومن دون ان يكلفوا انفسهم النظر في خلفيات هذه الممارسات و دوافعها الشرعية , والـتـثـبـث عنداطلاق لفظ ( البدعة ) على مثل هذه الامور المنتسبة الى الدين عن طريق الادلة القطعية العامة اذا لم يكن واردا بشانها الدليل الخاص , كما هو الغالب في هذه الممارسات .
ولـكـي نستوعب هذا القيد بصورة افضل نحاول ان نذكر بعض النماذج والامثلة التوضيحية لبعض الامور الحادثة , التي لم يرد فيها دليل خاص , الا انها ترتبط بالدين عن طريق الدليل الشرعي العام :

ا ـ الاهتمام بالقرآن الكريم :

ان الـشـريـعة الاسلاميه قد ندبت المسلمين الى الاهتمام بالقرآن الكريم , وحفظه ,وتعاهد امره , وصـيـانـتـه , والاعـتـزاز بـه , وكان من موارد حفظه آنذاك ان يتدارسه المسلمون , ويتعاطوه باستمرار , ثم حدث ان شرع المسلمون بامر تدوينه , وكتابته ثم تطور الامر في الازمنة اللاحقة الى طباعته وتكثيره , بالاساليب الحديثة والاجهزة المتطورة , واخراجه بالحروف الفنية الرائقة , وقـد خـصـصت لاجل حفظ القرآن وتلاوته في الاونة الاخيرة مؤتمرات دورية عامة , ومحافل متنوعة , ومسابقات اقليمية وعالمية متتابعة , واتفق على قواعد عامة للتحكيم , وضوابط مشخصة لـلـمفاضلة بين القرا ,وخصصت هدايا لتكريم الفائزين في الحفظ والتلاوة وما الى ذلك من الامور التي تعكس الاهتمام الجدي والمشروع بالقرآن الكريم .
فـكـل هـذه الاهـتمامات تعبر عن مصاديق بارزة وجلية لتلك الاحكام العامة التي دعت الى الاهتمام بـالقرآن الكريم , والاعتزاز به , كمعجزة خالدة للاسلام العظيم , ولاتمت مثل هذه الامور الى ( الابتداع ) المصطلح باية نسبة تذكر.

ب ـ صيام يوم الخامس عشر من شعبان و قيام ليلته

حـثت الشريعة الاسلامية اتباعها على الاهتمام بالصيام , وندبت اليه طيلة ايام السنة , و استثنت من ذلـك يومي العيدين ( الفطر ) و( الاضحى ) , وعدت صيامهما محرما واما ما عدا ذلك فبابه مفتوح لمن يحب الاستزادة من فعل الخير والعمل الصالح .
وكـذلـك نـدبت الشريعة الاسلاميه الى الاهتمام بقيام الليل واحيائه , بالذكر ,والعبادة , والتهجد , والدعا , يقول اللّه تعالى :
( وما تفعلوا من خير يعلمه اللّه وتزودوا فان خير الزاد التقوى ) ((592)) .
ويتاكد هذان الامران في الايام والليالي الفاصلة في تاريخ الاسلام , كليلة القدر ,ويوم المبعث النبوي الشريف , وليلة الخامس عشر من شعبان , ويومه .
وعلى الرغم من وضوح هذا الامر , وجلا اتصاله بالشرع المبين , الا ان بعض علما العامة لم يرض لـنـفـسـه الا ان يدرج بعض مفردات هذا الامر العبادي , ضمن دائرة ( الابتداع ) وخصوصا تلك الـمـظـاهـر الـتـي يمارسها اتباع مدرسة اهل البيت (ع ) , فيقول ( الفوزان ) فيما يعد من النماذج المعاصرة للبدع على حد زعمه :
(( ومـن ذلك تخصيص ليلة النصف من شعبان بقيام , ويوم النصف من شعبان بصيام , فانه لم يثبت عن النبي (ص ) في ذلك شي خاص به )) ((593)) .
ويقول في موضع آخر تحت عنوان ( انواع البدع ) :
(( مـا يـكـون بـتخصيص وقت للعبادة المشروعة لم يخصصه الشرع , كتخصيص يوم النصف من شـعـبـان وليلته بصيام وقيام , فان اصل الصيام والقيام مشروع , ولكن تخصيصه بوقت من الاوقات يحتاج الى دليل )) ((594)) .
وقـد سـبق ( الفوزان ) الى ذلك بعض علما العامة ايضا , فقد نقل ( ابن وضاح )عن عبدالرحمن بن زيد بن اسلم انه قال :
(( لم ادرك احدا من مشيختنا وفقهائنا يلتفتون الى ليلة النصف من شعبان )) ((595)) .
وذكر ايضا عن ابن ابي مليكة انه قيل له :
(( ان زيـاد النميري يقول ان ليلة النصف من شعبان اجرها كاجر ليلة القدر , فقال ابن ابي مليكة : لو سمعته منه , وبيدى عصا , لضربته بها , وكان زياد قاضيا )) ((596)) .
ولا يـخفى على القارئ الكريم ان طبيعة النهج الاستدلالي الذي تم بموجبه اطلاق ( البدعة ) على صيام يوم النصف من شعبان و قيام ليلته , قد بني في الكلمات المتقدمة على اسس خاطئة و غير مقبولة , فنرى ان ( الفوزان ) يدعي عدم وجود النص الخاص بشان صيام هذا اليوم وقيام ليلته فهو يقول :
(( ولم يثبت عن النبي (ص ) في ذلك شي خاص به )).
ويقول : (( ولكن تخصيصه بوقت من الاوقات يحتاج الى دليل )).
وفي نفس الوقت يقر بان هذا العمل مندرج تحت العموميات الشرعية الثابتة التي حثت المسلمين على الصيام والقيام , فيقول : (( فان اصل الصيام والقيام مشروع )).
ونـحـن على الرغم من اننا سننقل ورود النص الخاص بهذا الشان والمروي من قبل الفريقين , ومن الـكتب الحديثية المعتبرة عند ابنا العامة على نحو الخصوص الا اننا نعودفنقول بانه يكفي لتصحيح العمل ورود النصوص العامة بشانه , وبامكان هذه النصوص ان تحرك المكلف نحو الاتيان بهذا العمل , وتحثه عليه , ويقع في النتيجة العمل مقبولاومرضيا , ويترتب الثواب الموعود عليه .
كـما ان بامكان المكلف نسبة هذا العمل الى الدين من خلال هذه النصوص الكلية الثابتة كما اوضحناه سـابـقـا , وامـا تـخصيصه بالعبادة والاتيان به بهذا العنوان الخاص , وانه مطلوب من قبل الشريعة بـعـنوانه المشخص , فهو ما وردت بشانه الادلة الوافية من قبل الفريقين , والتي سوف نتعرض لها بعد قليل ان شا اللّه تعالى .
فقصر النظر على ورود النص الخاص ـ اذن ـ ليس صحيحا على اطلاقه , اذ يمكن ان يوتى بالعمل مـن زاويـة كـونـه امـرا عباديا مندرجا تحت العموميات المتفق على ثبوتهاعلى حد قول الجميع , وتصحيح اعمال المسلمين وعقائدهم انطلاقا من هذا الاساس , ان كان هناك دوافع خيرة في النفوس نحو جمع شتات المسلمين , ووحدة كلمتهم , وان انطوت النوايا على تطلعات مخلصة لصالح رسالة , الاسلام واعلا كلمته في الارض .
عـلـى انـنـا نمتلك علاوة على ذلك النص الشرعي الخاص الذي يقطع النزاع , ولايدع للمنتحلين مسلكا آخر يركبوه .
فـسـوف ياتي بعد قليل ان اصل هذا الامر ( وهو صيام اليوم الخامس عشر من شعبان , وقيام ليلته ) مـشـمـول بـادلـة صريحة عامة مقطوعة الصدور , كما ان تخصيصه كذلك مما وردت فيه الادلة الصريحة من قبل الفريقين واما ما نقله ( ابن وضاح ) عن محمد بن زيد بن اسلم من انه لم يدرك احدا مـن مـشـايخه يلتفت الى ليلة النصف من شعبان , فهو مما لا نلتفت نحن اليه , ولا نعد له اية قيمة في الاستدلال , ولا نرى له اعتبارافي مقام الطرح العلمي مطلقا.
وقال ( ابو اسحق الشاطبي ) , فيما يذكر من البدع :
(( ومـنـها التزام العبادات المعينة في اوقات معينة , لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة , كالتزام صيام يوم النصف من شعبان , وقيام ليلته )) ((597)) .

وقـد حاول ان يؤطر القول بتحريم قيام ليلة النصف من شعبان , وصوم يومه ,وعده من ( البدع ) , عـن طـريـق عـناوين جانبية اخرى , التفاقا على اصل المطلب ,وتمويها لحقيقة الامر فيه بعد ان اتضحت حقيقة ارتباطه بالدين بشكل واضح وصريح ,فيقول ( الشاطبي ) بهذا الشان :
(( فنحن نعلم ان ساهر ليلة النصف من شعبان لتلك الصلاة المحدثة لا ياتيه الصبح الا وهو نائم , او في غاية الكسل , فيخل بصلاة الصبح , وكذلك سائر المحدثات )) ((598)) .
ومـن الواضح ان الاخلال بصلاة الصبح امر مستقل , لا علاقة له باصل احيا ليلة النصف من شعبان , واستحباب هذ الامر.
واذا ما حصل في مورد من موارد الاحيا حصول بعض حالات الاخلال بالواجبات بشكل نادر وغير مـطـرد , بـاعتبار ان الذي يندفع لممارسة هذه الاعمال العبادية المستحبة , ويحيي الليل بالتهجد , والذكر, والعبادة , والدعا غالبا ما يندفع الى التمسك بالامور الواجبة , فان حصول مثل هذه الموارد لا يـسـتـلزم القول بعدم استحباب الاحيا , ولا نظن ان هذا الامر يحتاج منا الى فريد من البيان , الا تـرى ان الانسان قد يتهجد بالليل , ويسهر بالعبادة والدعا , فتفوته في بعض الاحيان صلاة الصبح , افهل يقول احد هنا بان صلاة الليل ( بدعة ) لانـها اضرت بالصلاة الواجبة ,وادت الى فواتها , اوان الـنـهي يتوجه الى خصوص هذه المفردة من العبادة التي فوتت على الانسان ذلك الفرض الواجب كما هو معلوم في الشرع من النهي عن النوافل اذا ادت ممارستها الى ترك شي من الواجبات ؟؟.
ومـاذا يـقول ( الشاطبي ) بشان التهجد في ليلة القدر , واحيائها بالعبادة والدعااذا حصلت في بعض مواردها مثل هذه الحالات النادرة الوقوع , بل حتى لو حصلت فيهاحالات كثيرة من هذا القبيل , فهل يصفها بالابتداع , ويطلق القول بذلك كما صنع هنا ؟؟.
ومـا هـو دخـل اصل تشريع صلاة الليل او احيائه بما لو ادى ذلك الى فوات الفريضة , بعد ان قامت الادلـة عـلـى النهي عن النوافل التي تخل بالواجبات , وما دام بالامكان التفكيك بين اصل مشروعية العبادة , وبين اتصافها بوصف يخرجها عن طابع الندب او الجواز , ولا يؤثر على اصل مشروعيتها ويمتد الى قلع جذورها من الدين ,ويدرجها ضمن قائمة ( الابتداع ) ؟؟.
ان مـمـا يؤسف له ان هذا النمط من التمويه قد مارسه الكثير من الباحثين الذين تعرضوا لتطبيقات ( الـبـدعـة ) على موارد ادعائية تحكما , واضفوا عليها عناوين جانبية ,لا تمس اصل تشريع العمل ولولا ان يطول بنا المقام لاستعرضنا ما يشير الى هذه الحقيقة من اقوال الكثيرين , على انه تكفينا هذه الاشـارة التي سجلناها على كلام ( الشاطبي )المتقدم , و نستغني عن الخوض في هذا المطلب بما ستتم الاشارة اليه ايضا بين طيات الحديث .
وعلى اية حال فان من الطريف ان نجد ان قيام ليلة النصف من شعبان , وصيام نهارها الذي رماها هؤلا بـالابـتداع , من الموارد التي تندرج تحت كل من الدليل العام والدليل الخاص معا , وتتصل بالشريعة المقدسة عن هذين الطريقين معا , ومن خلال ذلك نرى ان المسلمين الموحدين من اتباع مدرسة اهل البيت (ع ) قد واظبوا على الاتيان بهذا الامر , واهتموا به اهتماما بالغا , لانـه نابع من صميم الدين .
وسوف نتناول كلا من الدليل الخاص والدليل العام على قيام ليلة النصف من شعبان , وصيام نهارها.
فـامـا بالنسبة الى قيام ليلة النصف من شعبان , فهو مشمول بالادلة العامة التي حرضت المسلمين على احـيـا الـليل بالعبادة , واكتساب اكثر ما يمكن اكتسابه واستثماره من ساعات الليل في هذا المجال , كرصيد روحى واخلاقي لتربية النفس وتهذيبها , والفوزبالنعيم الاخروي المقيم .
فمن ذلك قوله تعالى : ( ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى ان يبعثك ربك م قاما محمودا ) ((599)) .
وقوله تعالى : ( ان المتقين في جنات وعيون # آخذين ما اتاهم ربهم انهم كانوا قبل ذلك محسنين # كانوا قليلا من الليل ما يهجعون # وبالاسحار هم يستغفرون ) ((600)) .
وقوله تعالى : ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا وممارزقناهم ينفقون # فلا تعلم نفس مااخفي لهم من قرة اعين جزا بما كانوايعملون ) ((601)) .
وعن رسول اللّه (ص ) انه قال :
(( يـحشر الناس على صعيد واحد يوم القيامة , فينادي مناد فيقول : اين الذين كانوا تتجافى جنوبهم عـن الـمـضـاجـع ؟ فيقومون وهم قليل , فيدخلون الجنة بغير حساب , ثم يؤمر بسائر الناس الى الحساب )) ((602)) .
وعنه (ص ) :
(( عـليكم بقيام الليل , فانه داب الصالحين قبلكم , ومقربة لكم الى ربكم ,ومكفرة للسيئات , ومنهاة عن الاثم , ومطردة للدا عن الجسد )) ((603)) .
وعن علي (ع ) انه قال :
(( قيام الليل مصحة للبدن , ورضا الرب , وتمسك باخلاق النبيين , وتعرض للرحمة )) ((604)) .
وقد ورد علاوة على هذه الادلة العامة الدليل الخاص على الندب لاحياهذه الليلة المباركة على نحو الخصوص بالدعا , والعبادة , والاستغفار ايضا , وذلك من خلال طائفة معتد بها من الاحاديث الواردة في المصادر المعتبرة لدى ابنا العامة , وهذافضلا ـ بطبيعة الحال ـ عن مصادرنا وطرقنا الخاصة .
فمن ذلك ما ورد عن النبي (ص ) انه قال :
(( اذا كـانـت لـيلة النصف من شعبان , فقوموا ليلها , وصوموا نهارها , فان اللّه ينزل ((605)) فيها لـغـروب الشمس الى سما الدنيا فيقول : الا من مستغفر فاغفر له , الامسترزق فارزقه , الا مبتلى فاعافيه , الا كذا , الا كذا حتى يطلع الفجر )) ((606)) .
وروي عنه (ص ) انه قال :
(( ان اللّه لـيـطـلـع فـي لـيـلـة الـنـصف من شعبان , فيغفر لجميع خلقه الا لمشرك , اومشاحن )) ((607)) .
وروي عن عائشة انها قالت :
(( فـقـدت النبي (ص ) ذات ليلة , فخرجت اطلبه فاذا هو بالبقيع , رافع راسه الى السما, فقال : يا عـائشـة اكنت تخافين ان يحيف اللّه عليك ورسوله , قلت : ظننت انك اتيت بعض نسائك , فقال : ان اللّه تـعـالـى يـنـزل لـيـلـة الـنصف من شعبان الى سما الدنيا فيغفرلاكثر من عدد شعر غنم كلب )) ((608)) .
وفي كنز العمال عن علي (ع ) انه قال :
(( رايت رسول اللّه (ص ) , ليلة النصف من شعبان قام فصلى اربع عشر ركعة , ثم جلس بعد الفراغ فقرا بام القرآن اربع عشر مرة , و ( قل هو اللّه احد ) ((609)) اربع عشره مرة : و ( قل اعوذ بـرب الـفلق ) ((610)) اربع عشر مرة , و ( قل اعوذ برب الناس ) ((611)) اربع عشرة مرة , وآية الكرسي مرة , و ( لقد جاكم رسول من انفسكم الاية ) ((612)) فلما فرغ من صلاته , سالته عما رايت من صنيعه , قال : من صنع مثل الذي رايت كان له كعشرين حجة مبرورة , وصيام عشرين سـنـة مـقبولة , فان اصبح في ذلك اليوم صائما ,كان له كصيام سنتين : سنة ماضية , وسنة مستقبلة )) ((613)) .
وقال الدكتور الزحيلي في كتابه ( الفقه الاسلامي وادلته ) :
(( ويندب احيا ليالي العيدين ( الفطر ) و ( الاضحى ) , وليالي العشر الاخير من رمضان لاحيا ليلة الـقـدر , وليالي عشر ذي الحجة , وليلة النصف من شعبان , ويكون بكل عبادة تعم الليل او اكثره , للاحاديث الصحيحة الثابتة في ذلك )) ((614)) .
هـذا بـالـنـسـبة الى قيام ليلة النصف من شعبان , واما صيام يوم النصف من هذاالشهر , فهو مشمول بالنحوين من الادلة ايضا , اذ هو مندرج تحت ادلة الندب العامة ,كقوله تعالى :
( فمن تطوع خيرا فهو خير له ) ((615)) .
وقوله تعالى : ( وما تقدموا لا نفسكم من خير تجدوه عند اللّه هو خيرا واعظم اجرا ) ((616)) .
وورد عن رسول اللّه (ص ) انه قال :
(( لـو ان رجـلا صـام يوما تطوعا , ثم اعطي مل الارض ذهبا , لم يستوف ثوابه دون يوم الحساب )) ((617)) .
وعنه (ص ) :
(( مـن صـام يـومـا فـي سـبـيـل اللّه , جعل اللّه بينه وبين النار خندقا , كما بين السماوالارض )) ((618)) .
وعنه (ص ) :
(( من صام يوما تطوعا ابتغا ثواب اللّه , وجبت له المغفرة )) ((619)) .
وعنه (ص ) :
(( مـن صـام يـومـا فـي سـبيل اللّه في غير رمضان بعد من النار مائة عام , تسيرالمضمر الجواد )) ((620)) .
وعنه (ص ) :
(( من صام يوما في سبيل اللّه , باعد اللّه وجهه عن النار سبعين خريفا )) ((621)) .
واما الدليل الخاص الوارد في الندب لصيام اليوم الخامس عشر من شهر شعبان فقد اتخذ ثلاثة انحا :
الـنـحو الاول : الحث على صيام ايام شهر شعبان على الخصوص , فمن ذلك ماروي عن عائشة انها قالت :
(( مـا رايـت رسول اللّه استكمل صيام شهر الا رمضان , ومارايته اكثر صياما منه في شعبان , كان يصومه الا قليلا , بل كان يصومه كله )) ((622)) .
وروي عن ام سلمة انها قالت :
(( ما رايت النبي يصوم شهرين متتابعين الا شعبان ورمضان )) ((623)) .
وعن الامام الباقر(ع ) انه قال :
(( ان صوم شعبان صوم النبيين , وصوم اتباع النبيين , فمن صام شعبان فقدادركته دعوة رسول اللّه , لقوله (ص ) : رحم اللّه من اعانني على شهري )) ((624)) .
و عـن الـحلبي قال : (( سالت ابا عبداللّه (ع ) : هل صام احد من آبائك شعبان قط ؟قال (ع ) : صامه خير آبائي رسول اللّه (ص ) )) ((625)) .
النحو الثاني : الحث على صيام الايام البيض من كل شهر , وهي عبارة عن اليوم الثالث عشر والرابع عـشر والخامس عشر , ومن الواضح انها تنطبق على اليوم الخامس عشر من شهر شعبان , باعتباره واحدا منها :
فقد ورد عن النبي (ص ) انه قال :
(( صـيـام ثـلاثة ايام من كل شهر , صيام الدهر ايام البيض , صبيحة ثلاث عشرة ,واربع عشرة , وخمس عشرة )) ((626)) .
وعنه (ص ) :
(( ان كنت صائما فعليك بالغر البيض ثلاث عشرة , واربع عشرة , وخمس عشرة )) ((627)) .
وعنه (ص ) :
(( صوموا ايام البيض ثلاث عشرة , واربع عشرة , وخمس عشرة , هن كنزالدهر )) ((628)) .
وعنه (ص ) :
(( من كان منكم صائما من الشهر , فليصم الثلاث البيض )) ((629)) .
وعن ابن عمر قال :
(( ان رجـلا سـال الـنـبـي (ص ) عـن الصيام , فقال (ص ) : عليك بالبيض : ثلاثة ايام من كل شهر )) ((630)) .
وروى عن امير المؤمنين علي (ع ) انه كان ينعت صيام رسول اللّه (ص ) بالقول :
(( صام رسول اللّه الدهر كله ما شا اللّه , ثم ترك ذلك وصام صيام داود يوما للّه ويوما له ما شا اللّه , ثم ترك ذلك فصام الاثنين والخميس ما شا اللّه , ثم ترك ذلك وصام البيض ثلاثة ايام من كل شهر , فلم يزل ذلك صيامه , حتى قبضه اللّه اليه )) ((631)) .
وعنه (ع ) قال :
(( سئل رسول اللّه (ص ) عن صوم ايام البيض , فقال (ص ) : صيام مقبول غير مردود)) ((632)) .
الـنـحو الثالث : الحث على صيام يوم الخامس عشر من شعبان بخصوصه ,وتعيينه باسمه , كما ورد في الحديث المروي في ( سنن ابن ماجة ) من ان رسول اللّه (ص ) قال :
(( اذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها , وصوموا نهارها )) ((633)) .
وقال ايضا :
(( فـان اصـبـح فـي ذلـك الـيـوم صـائمـا , كـان لـه كصيام سنتين : سنه ماضية , وسنة مستقبلة )) ((634)) .
وقد مر ذكر الحديثين .
فـكـيف يمكن لمتشرع بعد ان يطلع على هذه النصوص الصريحة والواضحة من ان يحكم بالابتداع على قيام ليلة النصف من شعبان و صيام نهارها ؟.
وهـل يمكن لنا ان نفسر هذه المخالفة للنصوص الشرعية المتظافرة الا على اساس التعصب , وحب اثارة الفتن , والتفرقة بين المسلمين ؟.
واي ضـيـر فـي ان تـلـتـقـي ذكرى ولادة مهدي اهل البيت (ع ) مع هذا اليوم , فتتعانق الذكريات الاسلامية , وتتوافق في الاهداف والمعطيات ؟ انـنـا عـلـى يـقـيـن من ان هذا اليوم لو لم يقترن بهذه الذكرى المقدسة في حياة اتباع مدرسة اهل البيت (ع ) , لما قال ( الفوزان ) ومن سبقه ما قالوا , ولما نعتوا هذا العمل بالابتداع , ولكنهم عمدوا الـى تـشـويه معالم الشريعة الاسلامية المقدسة , وقلب حقائقهامن اجل النيل من مبادئ مدرسة اهل البيت (ع ) المعطا :
( ويابى اللّه الا ان يتم نوره ولو كره الكافرون ) ((635)) .

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

عصمة الأنبياء (عليهم السلام) عند المذاهب ...
الله ومنطق العلوم التجربية
شرح قول الإمام وفيك انطوى العالم الأكبر
سِمات الأنبياء :العصمة عن الذنوب
المُناظرة الثانية والعشرون /مناظرة الاِمام ...
فلسفة الحجاب في الإسلام
انقسام الأمة والقيادة
زيارة قبر النبي (ص ) ومراقد الائمة (ع ) :
ألاِیمان وعلامات المؤمن
المُناظرة الثالثة والسبعون /مناظرة الشيخ محمد ...

 
user comment