لا شكَّ أنَّ نظام الكون يحكمه قانون العليَّة ، أي أنَّ كلَّ معلول لا بدَّ وأن تكون له علَّة وسبب ، فأبى الله أن يُجري الأمور إلاّ بأسبابها، وهذا الحكم يجري على جميع الحوادث الطبيعيَّة ، فهناك تأثير وتأثُّر في الحوادث ، والاعتقاد بمثل هذه القدرة العادية المتعارفة ليس من الشرك أصلاً ، بل ينسجم مع الروح التوحيديَّة ، و هو من صميم الإيمان بالله تعالى .
ويبقى سؤال في هذا المجال وهو:
الاعتقاد بما فوق الطبيعة
أفهل الاعتقاد بقدرة ما فوق الطبيعة و ما وراء القوانين العادية كالقدرة عند بعض الملائكة أو الناس ، كالنبي صلى الله عليه وآله والإمام عليه السلام ، يعدُّ من الشرك بالله ؟
ثمَّ ، هل الاعتقاد بقدرة الإنسان المتوفى ، و تأثيره على الأشياء يسوق إلى الشرك ، مهما كانت هذه العقيدة ؟ وذلك لأنَّ الميت جمادٌ يفتقد الشعور القدرة والإرادة ، و بالنتيجة فالاعتقاد بأن الميت يُدرك ويسمع ويرى وأيضاً السلام عليه ، واحترامه ، وتعظيمه ، ونداؤه ، والتوسل إليه ، وطلب الحاجة منه ،كل ذلك شركٌ بالله تعالى ! لأنَّه يستلزم الاعتقاد بقوة ما وراء الطبيعة لغير الله تعالى ؟
وأيضاً:
هل الاعتقاد بتأثير تراب ما كتراب قبر سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام في شفاء المريض ، أو تأثير مكان خاص كحرم الرسول صلى الله عليه وآله ، في استجابة الدعاء ،كلُّ ذلك من الشرك بالله تعالى ؟ وهل هناك دليلٌ شرعيٌّ من الكتاب والسنَّة يمنع من هذه الأمور ؟
أقول:
إن القائل بأن تلك الأمور من الشرك ، متورِّط في أخس مظاهر الشرك !
وذلك لأنَّ الذي يعتقد بأنَّ العلل الطبيعيَّة لها التأثير في معلولاتها وقع (ومن حيث لا يشعر) في ظلمات الشرك وتورَّط في الانحراف حيث اعتقد بأنَّ الأشياء الطبيعيَّة لها استقلالها الذاتي وهذا يعنى أنه شكَّل قطباً مستقلاً في قبال الله تعالى وقدرةً منعزلة عن قدرته تعالى !
بإذن الله؟
فالموجود المرتبط به تعالى بجميع هويته الذي ليس له حيثية وهويَّة مستقلةٌ ، فتأثيره غير الطبيعي كتأثيره الطبيعي لا يُستند إلى نفسه بل كل ما يصدر منه فهو مستند إلى الحق تعالى وليس له دور ومهمَّةٌ مستقلَّة إلاّ أنَّه يكون مجرىً لمرور فيوضات الحق إلى الأشياء الأخرى وشأنه شأن الملائكة في أداء مهمَّتهم ؟ فهل الاعتقاد بأنَّ جبرئيل واسطة فيض الوحي والعلم و ميكائيل واسطة الرزق واسرافيل واسطة الأحياء وعزرائيل واسطة قبض الأرواح هو شرك بالله تعالى؟
الوهَّابيَّة والشرك بالله تعالى:
إنَّ عقيدة الوهابية هي المشتملة على أقبح أنواع الشرك وذلك حيث أنَّهم قد قسَّموا الأعمال بين الخالق وبين المخلوق ، فالأمور التي هي ما وراء الطبيعة خصَّصوها بالله تعالى والأمور الطبيعية جعلوها للمخلوقات!
فكون المخلوقات لها نطاقٌ معيَّنٌ من الأفعال غير النطاق الإلهي هو نوع من الشرك في الفاعلية !!
فما يتوهمه هؤلاء لا يعارض أصل الإمامة فحسب بل هو يعادى ويتعارض مع أصل التوحيد و الإنسان.
أمّا تعارضه مع أصل التوحيد فلأنَّهم قد قسَّموا الأعمال بين الخالق وبين المخلوق حيث اعتقدوا أنَّ هناك من المخلوقات (وهي الموجودات الطبيعية) ما لها التأثير المباشر والمستقل في أعمالها وآثارها .
وأما تعارضه مع الإنسان فحيث أنَّهم قد نزَّلوا من مستوى الاستعداد الذاتي للإنسان فأوصلوه إلى حضيض الحيوانيَّة.. علماً بأنَّ الإنسان هو خليفة الله في الأرض وقد نفخ الله سبحانه فيه من روحه وأمر الملائكة بالسجود له فهو أفضل من جميع الملائكة.
مضافا إلى أن التفكيك بين الميت والحي و توهُّم الفرق بينهما يعني أن كلَّ شخصية الإنسان هو بدنه الذي ينقلب إلى جماد وهي فكرة مادية بحتة تعارض المعتقدات الإلهية.
ومن هنا نصل إلى عمق كلام رسول الله صلى الله عليه وآله كما في الحديث التالي:
{ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم : إن الشرك أخفى من دبيب النمل على صفوانه سوداء في ليله ظلماء }(بحار الأنوار ج 1 ص 158 باب 1).
ما هو الميزان في التوحيد والشرك؟
ثم ينبغي أن يعلم أن الميزان في التوحيد والشرك هو:
إنّا لله:
1-أنَّه لو اعتقدنا أن الموجودات في ذاتها وصفاتها وأفعالها هي من الله (إنا لله) فنحن قد عرفناها من منظار التوحيد الحقيقي سواء كان ذلك الشيء له أثرٌ أو آثارٌ أو لم يكن كذلك وسواء كانت الآثار طبيعيةً أو كانت ما فوق الطبيعة ، فالله هو ليس إله الملكوت والجبروت فحسب بل هو إله العالمين فهو قريب إلى الطبيعة بنفس المقدار (إن صحَّ التعبير) الذي هو قريب إلى ما وراءها وله معيَّةٌ قيوميَّةٌ على الطبيعة وعلى ما وراء الطبيعة قال تعالى
{ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي }(المائدة/ 110) فهذا هو التعلق المحض وحقيقة "إنا لله" حيث لا استقلالية لأعمال الأنبياء ما وراء إرادة الله تعالى فالاعتقاد بموجود ليس راجعاً إليه تعالى هو الشرك الحقيقي كما أن الاعتقاد بتأثير موجود من غير إرادته تعالى أيضاً فهو من الشرك سواء كان الأثر أثرا طبيعياً أم كان ما فوق الطبيعة فلا فرق بين خلق السماوات والأرض وبين حركة ورق الشجر فكلُّها بإذن الله تعالى ومن هنا نشاهد التأكيد في كثير من الآيات على هذه الحقيقة، قال تعالى:
{تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}(إبراهيم/25)
{يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ}(الأعراف/ 58)
وقال تعالى:
{وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ[1]}(آل عمران/ 166)
وقال تعالى:
{ فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ }(الأنفال/66)
وقال تعالى:
{وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}(الرعد 38)
وإنّا إليه راجعون:
2-وأيضا من حدود التوحيد والشرك هو "إنا إليه راجعون" فلو نظرنا إلى موجود ما أعم من النظر الظاهري أو النظر المعنوي وكان نظرنا لأجل أن يكون ذلك الشيء وسيلةً للوصول إلى الله تعالى لا انه هو المقصد والغاية فهذا هو عين التوجه إلى الله تعالى.
فالأئمة المعصومون عليهم السلام هم السبيل إليه وقد ورد في الزيارة الجامعة الكبيرة:
{ أنتم السبيل الأعظم و الصراط الأقوم وشهداء دار الفناء وشفعاء دار البقاء والرحمة الموصولة والآية المخزونة والأمانة المحفوظة والباب المبتلى به الناس من أتاكم فقد نجى ومن لم يأتكم فقد هلك إلى الله تدعون وعليه تدلُّون}(بحار الأنوار ج 102 ص 129 رواية 4 باب 8) وهم علامات للمسير إلى الله {ومنارا في بلاده وأعلاما لعباده}(بحار الأنوار ج 102 ص 17 رواية 10 باب 2) {السلام على الأدلاء على الله}(بحار الأنوار ج 102 ص 8 رواية 1 باب 2) وهم الهداة والدعاة إلى الله {السلام على الدعاة إلى الله } (بحار الأنوار ج 102 ص 8 رواية1 باب 2)
النتيجة: إن التوسل بهم عليهم السلام وزيارتهم واستصراخهم والإستشفاع بهم والتوقُّع منهم الكرامات التي هي أمور ما وراء الطبيعة ليس من الشرك في شيء بل هي عين التوحيد.
وذلك:
أوَّلاً: إنَّه ينبغي أن نعلم بأنَّ الأنبياء والأولياء قد وصلوا إلى مستوى من القرب الإلهي بحيث أن الله تعالى قد خصَّهم بهذه الموهبة الربانية؟ كما يدلُّ على ذلك القرآن الكريم
وبالنسبة إلى أهل البيت عليه السلام قال تعالى:
{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا}(الإنسان/ 6)
حيث أنَّ الآية تدلُّ على قدرتهم الإلهية المعنوية حيث أنَّهم وبإرادتهم قد فجَّروا العين وذلك لوصولهم إلى مستوى من العبودية لله والتحرر من جميع القيود حيث
{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا}(الإنسان/ 21)
قال في مجمع البيان: {يطهرهم عن كلِّ شيءٍ سوى الله ، إذ لا طاهر من تدنَّس بشيءٍ من الأكوان ، إلاّ الله رووه عن جعفر بن محمَّد عليه السلام}(تفسير مجمع البيان ج10 ص 223)
ثانيا: إنَّ الذين يتوسلون بهم ويطلبون منهم قضاء حوائجهم إنَّما ينطلقون من الرؤية التوحيدية أي من منطلق "إنا لله" فلاشك أنَّهم لا يتوسلون بهم إلاّ وهو موحدُّون فالتوسُّل بهم عليهم السلام هو من شئون التوحيد وطاعة الله تعالى ، فهم الحبل المتصل بين الأرض والسماء وهم العروة الوثقى التي لا انفصام لها وفي دعاء الندبة:
{أين باب الله الذي منه يؤتى أين وجه الله الذي يتوجه إليه الأولياء أين السبب المتصل بين الأرض و السماء} (بحار الأنوار ج 102 ص 107 رواية 2 باب 7)
وقال تعالى:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }(المائدة/ 35)
وفي تفسير علي بن إبراهيم القمِّي :
{ تقربوا إليه بالإمام }(بحار الأنوار ج 70 ص 271 باب 56)
فمن تأمَّل في حقيقة التوسُّل عرف أنَّه هو المنطبق مع النظام الكوني وفطرة الإنسان ، فالذي ينكره إنما هو في ضلال بعيد ومنحرف عن الصراط المستقيم ومن هنا نشاهد بني إسرائيل يقولون
{ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا }(البقرة /61)
فيطلبون من موسى أن يدع لهم وكذلك أولاد يعقوب عليه السلام يطلبون من أبيهم أن يستغفر لهم
{ قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }(يوسف 97-98)
وفي خصوص الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلَّم قال تعالى:
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا }(النساء/64)
فالرسول له دورٌ رئيسي في قبول توبة العباد لوجاهته عند الله تعالى وقربه المعنويِّ وهذا لا يختص بحال حياته بل يشمل حال مماته أيضاً بل في هذه الحال يكون المجيء إليه آكد ، فلا فرق بين حضوره وغيبته وفي زيارته صلى الله عليه وآله
{ اللهم و إني اعتقد حرمه نبيك في غيبته كما اعتقد في حضرته واعلم إن رسلك و خلفاءك أحياء عندك يرزقون يرون مكاني في وقتي هذا و زماني و يسمعون كلامي في وقتي هذا و يردون على سلامي و انك حجبت عن سمعي كلامهم و فتحت باب فهمي بلذيذ مناجاتهم }(بحار الأنوار ج 100 ص 160 رواية 41 باب 2) فالمشكلة راجعة إلينا نحن المحجوبون لا إليهم عليهم السلام.
وأمّا بالنسبة إلى الاعتقاد بتأثير تراب قبر سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام في شفاء المريض ، أو تأثير مكان خاص كحرم الرسول صلى الله عليه وآله في استجابة الدعاء فالحديث عنه يتطلب بحثاً آخر إلاّ أننا نشير إلى ذلك بإيجاز فنقول:
إنَّه ليس للتراب كتراب هذا التأثير ولا القبر كقبر بل الأثر كل الأثر يرجع إلى صاحبهما وليسا هما إلاّ وسيلة للتقرُّب إلى من يرتبط بهما وهذا يعني التقرب إلى الله الشافي الذي الفاض هذا الاسم في أوليائه فصاروا وجهاً له ومرآةً ينعكس فيها ذلك الاسم.
وما أحسن ما قيل: هنيئاً لمن زارَ خير الورى وحطَّ عن النفس أوزارها فإن السعادة مضمونةٌ لمن حلَّ طيبة أو زارَها . وما أحسن ما قيل: أمرُّ على الديار ديار ليلى اقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما حبُّ الديار شغفن قلبي ولكن حبّ من سَكن الديارا .
والحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله على محمَّدٍ وآله .
الكويت 9-3-1997 29 شوال 1417.
إنتهيت من كتابة هذه الكلمة في يوم 2ربيع الأوَّل 1418
الهداة إلى الله
قال الإمام قدِّس سرُّه حول شخصية عليٍّ عليه السلام:
{ هل عليٌ عليه السلام هو إنسان مُلكي ودنيويٌّ حتّى يتحدّث عنه المُلكيّون أم أنّه موجود ملكوتيّ كي يُقيِّمه الملكوتيون . فكلُّ من تحدّث عنه إنّما تحدّث عنه من منظاره الخاص وقيّمه من منطلق نفسانيّته المحدودة ، وأمير المؤمنين غير ذلك }
عليٌّ عليه السلام عبدُ الله
{ فالأولى أن نجتاز هذا الوادي ونقول أنّ الإمام علي عليه السلام إنّما هو عبدٌ من عباد الله وهذه أبرز مميزاته عليه السلام ، وأيضاً أنّه قد تربّى على يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم وهذا من مفاخره العُظمى }
وقال قدِّس سرُّه في التعريف على شخصيَّة الزهراء عليها السلام:
{ لم تكن الزهراء امرأة عاديَّة، بل كانت امرأة روحانيَّة ، امرأة ملكوتيَّة ، إنساناً بكلِّ ما للإنسان من معنى ، إنَّها موجود ملكوتي ظهر في عالمنا على صورة إنسان ، بل موجود إلهي جبروتي ظهر بصورة امرأة }
أقـــول
حيث أنَّ هذه الكلمة جديرة بالدِّقة والتأمُّل من ناحية ، ومن ناحية أخرى لها دور كبير في عقيدة الإنسان المؤمن في مجال فهم الإمام عليه السلام بل الإمامة بنحو عام بل المعصومين عليهم السلام فنرى من اللازم أن نفصِّل في الحديث حول الإنسان الملكوتي بل الجبروتي وصفاته المميَّزة عن الإنسان المُلكي الناسوتي .
السموات والأرض وغيبهما
إنَّ الله سبحانه وتعالى بعد أن أنبأ آدم بأسمائهم وهم المعصومون الأربعة عشر و قد أثبتنا هذا الأمر في محلِّه(راجع كتابنا ثمَّ الرجوع إلى جنة آدم) خاطب الملائكة :
{ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُون}
والظاهر أنَّ غيب السموات والأرض المذكور هنا هو نفس العلم الذي جاء في قوله تعالى :
{إنِّي أَعَلمُ مَا لا تَعْلَمُونْ }
ومن هنا يُعلم أنَّ الأسماء هي أمور غيبية عن عالم السماوات والأرض .
و الظاهر أن غيب السموات والأرض هي أرواح أئمتنا الأطهار عليهم السلام حيث أنَّها فوق السموات والأرض وفوق جميع الموجودات حيث أنَّ جميع الموجودات تُعدُّ من عالم الخلق وهي من عالم الأمر والمشيئة وتفصيله في كلمتنا حول المشيئة(راجع أهل البيت مظهر مشيئة الله)
هبوط آدم وبنيه إنّ آدم وحواء عليهما السلام عندما خلقهما الله سبحانه جعلهما في الجنَّة يعيشان فيها حيث شاءا رغداً قال تعالى :
{فَكُلا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمَا رَغَدَاً}
وكان المفروض أن يعيش الإنسان في تلك الجنَّة لا يخرج منها أبداً، وكانت تلك الجنة لها مميّزات غير متوفرة في هذه الدنيا على رغم أنها لم تكن من جنّات الآخرة ، ومن تلك المميزات ما ذكرها سبحانه:
{إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى}(طه/118).
ومن الطبيعي أنه لم يكن الإنسان هناك مكلفاً بتكاليف من نوع تكاليفنا حيث لم يكن بحاجة إلى مثل هذه التكاليف ما دام هو يعيش في جوار ربّه إنسانا نورانياً لا يفتقر حتى إلى اللباس حيث لم تبدُ عورته ليسترها وشأن الإنسان النوراني يختلف عن شأن الإنسان الجسماني بادي البَشرة خَشِن الأعضاء والبُنْية ، فلا تزاحم في عالم النور ولا تضارب ولا تصادم بين الأنوار ومع عدم التضارب لا حاجة إلى القانون والنظام بنحو السالبة بانتفاء الموضوع .
الشيطان وإغواء آدم
النجاح الأوَّل للشيطان في إغواء آدم وإن لم يكُن بمثابة سائر إغوائاته لبني آدم و لكن الوسوسة الأولى أعني تحريض آدم عليه السلام على الأكل من الشجرة كانت هي أساس لسائر وساوسه الشرِّيرة وتزيينا ته و تسويلاته ، بل لم يكن يخرج آدم من الجنَّة لولا إطاعته للشيطان في وسوسته الأولى ، فبعد خروجه من تلك الدار النورانيَّة انبسطت أيادي الشيطان في عالم المُلك والدنيا ، فتضاعفت التكاليف الإلهيَّة وتنوَّعت لأجل الخلاص من شرِّه و العروج إلى جوار الله سبحانه و تعالى .
فإذاً التكاليف بما لها من السعة إنما نشأت بعد خروج آدم عليه السلام من الجنة و بعد هبوط بَنِيه منها : {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا}
وهذا الوضع أعنى العيش في الدنيا هو وضع طارئ على بنى آدم لم يكن ضمن المخطَّط الإلهي الأوَّل و إن كان هو معلوماً للّه سبحانه، ولا منافاة بينهما لأن العلم أمرٌ و الإرادة أمرٌ آخر وتوضيح ذلك موكول إلى محله.
المسلِّمون أمرهم إلى الله
هناك تساؤلات كثيرة تدور في الأذهان وتتداول بين الألسن حول موقف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قبال أولئك الذين تقمَّصوا الخلافة بعد ارتحال رسول الله صلى الله عليه وآله .
وهى تتلخص في:
1-عليٌّ عليه السلام ذلك الرجل الذي قتل أبطال العرب و ناوش ذؤبانهم ، هو الذي قدَّ مرحباً وعمرو بن عبد وُدّ وهو صاحب الضربات الوتر ، كيف يمكننا أن نتصور استسلامه للغاصبين ومن ثم إخراجه من البيت قهراً ، وتهديده بالقتل؟
2-هل يمكننا أن نتصور أن الزهراء و هي بنت رسول الله و فِلذة كبده و بضعته أن تُضربَ و يُكسرَ ضِلعُها ويُسقط جنينها بمرأى ومنظر من زوجها أمير المؤمنين عليٍ عليه السلام ؟ من غير أن تكون هناك أيّةُ ردَّة فعل منه عليه السلام في قبال هذه الجريمة الكبرى ؟
ثم إن المسلمين عامَّةً هم الذين انتخبوا علياً خليفةً عليهم فلِم أكبُّوا بعد ذلك على مخالفته فخالفُوه وقاتلوه ثمَّ قتلوه في محرابه ظلماً؟
4-وأخيراً ما هي حصيلةُ السنوات الخمس التِّي استلم فيها عليٌّ إمرةَ المسلمين من الزاويتين العملية و النظرية ؟
5-وما هو سرُّ سكوت الإمام المجتبى عليه السلام وصلحه مع معاوية من ناحيةٍ وصراخِ الإمام الحسين عليه السلام وخروجه على حكومة يزيد من ناحية أخرى ؟ وكذا مواقف سائر أئمَّتنا عليهم السلام السلميَّةِ ظاهراً.
وأيضاً: عشرات من الأسئلة في هذا المجال التي تخطر بالبال ؟
ومن الطبيعي أنَّ حلَّ هذه الشبهات له الدور الحيويّ المهمّ في مسيرة الإنسان المؤمن ومواقفه الرساليَّة ..فهل يمكننا الإجابة عليها وعلى غيرها من الأسئلة التي تدور حول نفس المحور؟
أقول:
إنَّ الغرض من كتابةِ هذه الكلمة المتواضعة هو الوصول إلى حلٍّ مناسب بالنسبة إلى مثل هذه الشبهات ودفعها منطقيّاً كي نكون على بصيرة في ديننا ومذهبنا فنعانقه من دون أيّ تزلزل وتشكيك .
فأقول:
قبل الورود في البحث ينبغي تقديم مقدمات:
الأولى:
الإسلام مدرسة متكاملة و مترابطة
الإسلام أطروحة متكاملة تتركَّز على أسس و تشتمل على قوانين إلهية ثابتة لا يمكن أن يعتريها أيُّ خلل و ترديد ، والهدف من الإسلام هو نفس الهدف من خلق الإنسان أعني العبودية والرجوع إلى الله سبحانه وهو إيصال الإنسان إلى الكمال المطلوب أعني القرب من الكمال المطلق وهو الله سبحانه. فالإسلام ليس هو إلاّ تجلٍّ من تجليات الحق المطلق جلَّ وعلا فلا بدَّ أن يظهر على جميع أصعدته وزواياه وهذا من لوازمه غير المنفكة عنه.
الثانية:
أبعاد الإ نسان الثلا ثة
وحيث أن للإنسان أبعاداً ثلاثة البعد العقلي والبعد النفسي (الجوانحي) والبعد العملي (الجوارحي) فالإسلام أيضاً قد ركَّز في توجيهاته على هذه الجهات الثلاث في الإنسان و لاحظها بعين الاعتبار فطرح لها أطروحات وبرمج لكل واحدة منها برنامجاً يتناسب معه وهي:
عقائد الإسلام التِّي تعالج الجانب العقلي للإنسان.
الأخلاق وهي ما تتعلق بشئون النفس الإنسانيَّة.
الأحكام العمليَّة وهي القوانين المختصة بجوارح الإنسان وما يصدر منه من خير و شر.
ولا يخفى على من له أدنى معرفة و اطِّلاع على الإسلام أنَّ هناك ترابطاً قوياً وعلاقةً موثقة بين هذه الجوانب الثلاثة بحيث يستحيل التحلِّي بجانب مع غضِّ النظر عن الجانب الآخر.
مثال:
إعطاء الزكاة كواجب عملي يتوقَّف على قصد التقرب إليه تعالى كعقيدة وفي أسلوب العطاء والأخذ لا بدّ من التوجُّه إلى الجانب الروحي للمعطي والمعطى إليه (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم بها).
وعلى هذا الأساس نقول إنه لابد وأن يُطبَّق الإسلام بحذافيره وبأكمله من دون فصلٍ بين الأبعاد الثلاثةِ أصلاً ومن يُفكِّر في تطبيق جانبٍ واحدٍ من الإسلام مع غضِّ النظر عن الجوانب الأخرى فتفكيره شطط ليس له أساس قويمٌ بل يبتني على الوهم والخيال.
وبعبارة أخرى: (الإسلام وَحدَةٌ شاملة ومتكاملة ومتكاتفة ومنسجمة لن تتفرق ولن تتفكك أبداً ،وتفكُّكها يعني فناءها بالمرَّة وتغيُّر ماهيتها إلى ماهيَّة أخري بل لو اختلفت الكمِّية والكيفيَّة في قبول أو ردّ معالمه لتغيَّرت الماهية أيضاً فلا بد من مراعاة الكميَّة والكيفيَّة في تلك الأبعاد الثلاثة لئلاّ ينجرّ الأمر إلى تضخَّم جانبٍ و ضعف جانب آخر).
وذلك كالأوكسجين والهيدروجين فمن الضروري أن يتحدا معاً ليُشكِّلا الماء كما أنّه لا بدَّ من رعاية النسبة بينهما كمّاً وكيفاً حصولاً على النتيجة فمع بروز أدنى اختلاف بين العنصرين سوف لا يبقى شيءٌ يُطلق عليه اسم الماء.
ومن هذا المنطلق نشاهد التأكيد البالغ على الإيمان بالكلِّ لا بالبعض سواء الكتاب أو الرسل أو أيّ شيء يرتبط بالدين
قال تعالى:
{ أَ فَتؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }(البقرة 85)
وقال تعالى:
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ، أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا }(النساء 150-151)
الثالثة:
الدولة الإسلاميَّة العالميَّة مضافاً إلى أنه لا بدَّ من وجود دولة مقتدرة بأجهزتها القويَّة ورجالها المؤمنين، تستهدف التنسيق بين هذه الجوانب الثلاثة من الإسلام كي تُركِّز هذه الشجرة الطيِّبة جذورها فيرتفع أساسها فتتوزَّع وتنتشر أغصانها فتثمر فيأكل من ثمرها. فإذا يستحيل أن نطبق الإسلام في حياتنا بمعنى الكلمة إلاّ مع تأسيس دولة عالميَّة تستوعب أو بالأحرى تتسلَّط على جميع أرجاء البسيطة من غير استثناءٍ لمنطقة دون أخرى فكلُّ الأرض تكون تحت سلطة الإسلام وهذا لا ينافي وجود كفّار فيها مادام الحكم للإسلام . فلا معنى لطرح دولة إسلامية في هذا المكان وذاك كدولة مستقلة تستهدف تطبيق بعض أو كلِّ جوانب الإسلام عملاً ولا تحمل إيدولوجية الإسلام العالمي أو تجعل هذه الغاية في المراحل المتأخرة من أفكارها . بل لو نظرنا نظرة شاملة إلى الكون وعرفنا خالقه لوصلنا إلى حقيقة أخرى وهي أنَّ الإسلام لا ينظر إلى البشرية منحصرة بل يستوعب ويُخيِّم على كلَّ زوايا الكون وجميع العوالم من الإنس والجن حتى عالم الجمادات والنباتات والحيوانات وحتى في الكواكب الأخرى حيث أنّ كلّ تلك العوالم لها نوعٌ من العلاقة بالإنسان.
{ الرسول صلى الله عليه وآله وسلَّم و دولة إسلاميّة عالميَّة }
ومن هذا المنطلق شرع رسولنا محمد صلى الله عليه و آله في تأسيس دولة إسلامية من البداية تستهدف تطبيق الإسلام بجميع جوانبه و أبعاده وإزالة جميع الظواهر الزائفة الموروثة من الجاهليَّة فكتب إلى ملكي الفرس و الروم آن ذاك كتباً لأجل أن يهتديا وقومهما إلى الدين الإسلامي ويتحررا من عبودية غير الله . وقد استطاع الرسول صلى الله عليه وآله -بسعيه المتواصل ودعمٍ من أخيه ووزيره عليٍّ عليه السلام وعدد قليل من الصحابة المخلصين - أن يكتسب النجاح في المدَّة القليلة على رغم كلّ ما عاناه من مصاعبَ ومشاكل وأذى (ما أوذي نبيٌّ بمثل ما أوذيت) سواء من الكفّار الملحدين أو من المنافقين الحاقدين. فقد انبثق نور الإسلام وانتشر صيتُه وتوسعت دولته إلى أقصى العالم حتى دخل الفرس والروم والحبشة وذلك لا على مستوى عامّة الناس فحسب بل شمل حتّى رجال الدولة وأصحاب المناصب المختلفة.
{ الإسلام كان غريباً غير مألوف }
بعد ما كان الإسلام غريباً وذلك لأنَّ القيَم الإسلامية بطبيعتها لا تنسجم مع الوضع الذي كان يسود الجاهلية وذلك لاشتمال الإسلام على الجانب التعبدي الذي لا يلائم تلك الذهنيات التّي لم تترسخ فيها سوى الدنيا وسوى المادة وما يحوم حول المادة ، فقد انتشر الإسلام المحمَّدي في أنحاء البلاد وأخذت الأفكار الإسلامية تتمركز في الأذهان وتعثر على مكانتها في المجتمع وأخذ المسلمون يستأنسون بالإسلام شيئاً فشيئاً حتّى صار تنفيذ حكم الله في مجتمعهم أمراً مألوفاّ وصار المسلمون يتعاملون مع الإسلام تعاملاً طبيعياً بعد ما كان غريباً عندهم غير مأنوس به .
{ المفروض والواقع }
المفروض أن يستلم الخلافة عليٌّ عليه السلام ويسير على نفس الأسلوب الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وينتقل الحكم من إمامٍ إلى إمام حتَّى يأتي دور المهدي المنتظر عجلَّ الله تعالى فرجه الشريف فيملأ الله به الأرضَ قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظُلماً وجوراً. ولكن الواقع كان خلاف ذلك حيث تسلَّم زمام الأمر من لا يليق به ولا أهليَّة له.
{ البداية المظلمة } فبعد ارتحال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم و استيلاء أول الخلفاء على الدولة الإسلامية الفتيَّة وفي أوائل خلافته كان الوضع نوعاً ما كسابقه ولكن بمجرد أن رُسخت قواعد تلك الخلافة اللاشرعيَّة بدأ الوضع يتغيّر شيئاً فشيئاً وبدأت المعادلات تنعكس وتتغير واستمرَّ الوضع الجديد إلى أن وصل إلى مرحلة خطيرة حيث أخذ حكُّام المسلمين الثلاثة ينسقون أفكارهم وأعمالهم مع الحضارات الدخيلة وعلى رأسها الروم والفرس فحاول الخلفاء تكييفَ أنفسهم مع المجتمعات المحاطة بهم وأخذوا في تنسيق برامجهم طبقاً لتلك الحضارات المزيّفة ، وذلك في جميع أبعادها حتى العقائديّة والأخلاقية !! (والناس على دين ملوكهم ) وهؤلاء الثلاثة نسَوا أو تغافَلوا عن أن للإسلام حضارةً و إيدئولوجية مميزة تنبثق من الوحي والغيب وترتبط بالله الواحد القهار. وتدريجياً انقلب الإسلام الغريب عند المِلل غير المسلمة ، المأنوس لدى المسلمين إلى إسلام مأنوسٍ لدى الكلّ ، حتى الكفار والمنافقون لا يستوحش منهم أحد إلاّ المسلمُ الحقيقيّ!!
والحاصل أن الجــوّ الــعام الذي أوجده الخلفاء بين المسلمين كان مصبوغاً بصبغةٍ خاصَّــة تتلاءم والواقعَ المعاش آن ذاك وذلك بقيمة تضحية الإسلام ومسخه تماماً بل قلبه وجهاً على عقب وحينئذٍ تحققت مصداقيَّة قوله تعالى :
{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ }(آل عمران/ 144).
فانحرف الإسلام وتغيَّرت السنن وقلبت القيم ومن ثَمَّ خَسِر المسلمون تلك الفرصة الذهبية التي أوجدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم وضحّى من أجلها بأبرز أنصاره وكانت هي الخسارة العظمى التي جرَّت العالم الإسلامي إلى الخسارات المتوالية.
والتأريخ الإسلاميّ خير دليل على ما ندعيه فمن أراد أن يتطلَّع على جزئيّات الأمر فليراجع التأريخ .
السقيفة وآثارها
فهاهنا وقعت الجريمة العظمى وهي جريمة الانحراف والإغفال ومن ثَمّ إحراف المُغفَلين وإغوائهم من زاوية وغرس شجرة النفاق ورعرعتها من زاوية أخرى ..ويالها من جريمة غبراء قاسية !! تلك الفجيعة الفظيعة التي نشأت من السقيفة السخيفة كانت مبدأ كلِّ عثرة وزلّة حدثت بعدها ، فجميع الفروع الخبيثة ليست هي إلاّ من تلك الشجرة المشؤومة.
البناء المعوج
يقول أحد الشعراء الفرس:(خِشت أول جون نهاد معمار كج تا ثريّا ميرود بنيان كج) أي أنَّ البنّاء حيث وضع الأساس للبناء وضعاً معوجّاً فسوف يعوج البناء مهما يُرتفع إلى الثريا) ومن الواضح أنَّ الذنب والعتاب كلُّه يُوجَّه إلى أوَّل من أسس أساس الظلم والجور ومن هذا المنطلق نشاهد التأكيد البالغ في الأحاديث(كالأحاديث التِّي تتحدَّث حول يوم الاثنين وأنَّه يوم نحس قبض الله عز و جل فيه نبيه وما أصيب آل محمد إلاّ في يوم الاثنين فيتشاءم أئمتنا عليهم السلام به و تتبرك به عدوُّهم) وأيضاً الزيارات خصوصاً زيارة عاشوراء، وأشعار كبار شعراء الإماميّة كدعبل الخزاعي وكبار العلماء كالعلامَّة الشيخ محمَّد حسين الإصفهاني قدس سرُّه بل حتّى بعض علماء العامَّة على هذه الحقيقة وتفصيل هذا الأمر سوف نذكره في موضع آخر.
أمير المؤمنين عليه السلام والخلافة
وهذا الوضع أو بالأحرى الجريمة استمرت ربع قرن -وليس بقليل-إلى أن استلم الحكم ، وبعد اللتيا والتي ، أميرُ المؤمنين علي عليه السلام . استلمها بعد ماذا؟؟ بعد أن تغيرت جميع القيم والأسس التي بناها الإسلام .
فماذا يصنع عليُّ إذاً ؟؟
غير أن يصرخ في وجه المسلمين الذين أرادوا أن يبايعوه:
{دعوني والتمسوا غيري فإنا مستقبلون أمرا له وجوه و ألوان لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول وإن الآفاق قد أغامت والمحجة قد تنكرت و اعلموا إني أن أجبتكم ركبت بكم ما اعلم و لم أَصغَ إلى قول القائل و عتب العاتب و إن تركتموني فأنا كأحدكم ولعلى أسمعكم و أطوعكم لمن وليتموه أمركم و إنا لكم وزيرا خير لكم منى أميرا}(نهج البلاغة ابن ابي الحديد ج 7 باب 91 ص 33)
قال ابن أبي الحديد:
ومعنى قوله: الآفاق قد أغامت والمحجة قد تنكرت ان الشبهة قد استولت على العقول و القلوب و جهل أكثر الناس محجة الحق أين هي فأنا لكم وزيراً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أفتى فيكم بشريعته و أحكامه خير لكم منى أميراً محجوراً عليه مدبراً بتدبيركم فإني اعلم انه لا قدرة لي أن أسير فيكم بسيره رسول الله صلي الله عليه وآله في أصحابه مستقلاً بالتدبير لفساد أحوالكم وتعذر صلاحكم
أقول:
بقيت تلك الجذور الخبيثة متركّزة رغم محاولات أمير المؤمنين في أيام خلافته، وحيث قد عوّدوا المسلمين على نمطٍ خاص من العيشة فلم يمكنهم أن ينسِّقوا معيشتهم وأفكارهم مع ما أراده أمير المؤمنين بل لم يكونوا يستوعبون أسلوب عليٍ في الحكم ، الذي كان هو أسلوب رسول الله صلى الله عليه وآله فلم يتقبلوا عدالة عليٍ وقسطه وكما قال أحدهم عدلُ عليٍّ قتله .
التكليف المزدوج بعد ارتحال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم (السكوت والصراخ)
مثال:
لو وقعت سرقه كبيرة في بيت فيه أطفال و فيه أموال كثيرة تهمُّ السارقين لأنهم قد خطَّطوا تخطيطاً مستقبلياً شاملاً لبناء مشروع يبتنى على هذه الأموال.. ولا يمكنهم الغضّ والتغافل عنها أبداً ، ومن ناحية أخرى تلك الأموال لها أهمية لصاحبها وتشكل العصب الرئيسي في حياتهم مضافا إلى الأشياء الأثرية الثمينة التي لا يمكنهم التخلِّي عنها.
فيدور الأمر بين حالات ثلاثة لها نتائج مختلفة:
الصراخ وإخبار الناس عن السرقة من أهل البيت جميعاً وبالنتيجة حرق البيت ومن فيه وما فيه. التزام السكوت والهدوء من جميع العائلة وإسكات الآخرين وأيضا خلق جو إعلامي يؤكِّد للناس أن البيت وما فيه لم يسرق بل قد بِيع على هؤلاء في مقابل ثمن فالبيت إذا هو حقُّهم الشرعي و القانوني و ليس لصاحبه الأول المطالبة به أصلا.
التزام الهدوء من صاحب البيت و تحريض الأولاد على السكوت حفاظاً على البيت علماً بأن هناك من يُعلن عن السارقين (وهي الأم) و يصرخ في وجههم لأجل أخذ وثائق البيت ليس إلاّ.. (والمفروض أنَّ الوثائق مسجله باسمها).
فهاهنا نواجه ازدواجية المواقف موقف الوالد والأولاد و موقف الأم و المفروض على الوالد أن يُهدِّئ الكل ولكن الأم لا تسكتُ حيث تطالب بحقِّها وهي الوثائق والمستندات ولن تسمح بأن يسجَّل البيت باسم الغاصبين و إن أدَّى ذلك إلى موتها حيث يترجَّح ذلك الأهم على هذا المهمّ ، حيث أنَّه من الطبيعي أن يرجع البيت بالأخير إلى صاحبه و إن طال الأمد عليه.
الحفاظ على الولاية
مادام الخلافة قد انحرفت عن المسير الأساسي الذي أكد عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم في مواطن كثيرة ومادام قد اغتصبت بطريقة شيطانية محتالة فلا يمكن إرجاعها بالسكوت والتسليم لما حدث لأن العدو سوف يكتسب هذا السكوت لصالحه إعلامياً وسوف يدَّعي أن هذا السكوت دليل على الرضا ومن ثم سوف يكون الغاصب وكأنَّه هو المالك الحقيقي ومن ثم يكتسب الشرعية في الوسط المسلم لا هو فحسب بل كل من يسير على خطاه إلى يوم القيامة!! وهذا هو التدمير الواقعي للإسلام أصلاً وفرعاً ولكن باسم الإسلام وإمرة المسلمين ، ومن ناحية أخرى هناك خطورة ثانية لأصل الإسلام وهذا يتطلب السكوت والهدوء والتساير وفي نفس الوقت الإشراف والتطلع على ما سيحدث ومحاولة دفع الانحرافات الأساسية التي ترجع إلى أصل الإسلام بدقة ، تلك الانحرافات التي يخطط لها النظام الحاكم بين آونة وأخرى.. من غير مساس وتعرض للجهاز الحاكم.. لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ، وذلك حفاظا على الإسلام ولا بدَّ له من السكوت والتساير الظاهري معهم مادام الإسلام في أمان من شرهم.
اللهم إلاّ إذا اشتد الخطر وصعب فحينئذ سوف يتطلب الشدة نوعا ما..
صعوبة الموقف و حسّاسيته
عند ملاحظة جوانب الشخصيتين ، شخصيَّة الصدِّيقة الزهراء سلام الله عليها وشخصيَّة أمير المؤمنين عليه السلام وأيضاً عند ملاحظة مدى الارتباط و التعلق بينهما نعرف شدة البلاء الذي ابتليا به وعظمة الامتحان الإلهي ومستوى التكليف السماوي الموجه إليهما.
فلو أرادا أن يتحقق الهدف الذي هو الحفاظ على ظاهر الإسلام (وهو تكليف علي عليه السلام) والحفاظ على واقع الولاية (وهو تكليف الزهراء عليها السلام) فلا بد وأن تتوفر أمورٌ كثيرةٌ لو اختل أحدها سوف لن يتحقق الهدف
فمن ناحية أمير المؤمنين لا بد من:
خلق جو إعلامي واضح ينادى بصريح القول أن عليا ليس من المعارضين و إن كان فهو من المسالمين الذين يبتعدون عن تعكير الجو و تزعزع الرأي.. و هذا يتطلب:
التزام الهدوء والسكوت الكامل وعدم التعرض للحكم أصلا.
التساير والتنسيق مع الخليفة وربما يقتضي ذلك الصلاة خلفه والجلوس في مجلسه.
ومن ناحية الزهراء عليها السلام ينبغي لها:
أن تخلق جواً مناقضاً تماماً لما أوجده علي عليه السلام.. فتصرخ في وجه الطغاة وتقف أمامهم وتفضحهم وتبين مثالبهم وتكشف عن جريمتهم العظيمة وفى نفس الوقت تدافع عن علي عليه السلام كخليفةٍ للمسلمين فتُبيِّن للناس فضائله ومناقبه ومواقفه وذلك من غير أن يكون ذلك أعني ولاية عليٍّ هو الأساس في قضيَّتها ظاهراً (وهو الأساس بالفعل) ولكن يبقى هنا أمرٌ مهمّ ينبغي أن تراعيه الزهراء عليها السلام وهو عدم إثارة عليٍّ أصلاً لأنَّ ذلك سوف يؤدِّي إلى فشل عليٍّ في موقفه ومن ثمَّ انتصار العدوّ ونجاحه وذلك سوف يؤدِّي إلى الرجوع إلى الجاهليَّة الأولى أعاذنا الله من شرِّها.
والوصول إلى ذلك إذاً صعبٌ يتطلَّب أموراً:
الخروج من البيت و لا مانع مادام هي من المطهرين الذين أذهب الله عنهم الرجس.
2-خلق أجواء مثيرة للأحاسيس (بكاؤها وأنينها راجع الخطبة).
3-كتمان ما تواجهه من الضرب وكسر الضلع وسقط الجنين وغيره عن عليٍّ عليه السلام .
4-أن لا يشترك العدو المتظاهر بالإسلام في تشييع جنازتها ودفن الجنازة سراً .
5-أن تكون مجهولة القدر والقبر.
المعاناة:
وأمّا أمير المؤمنين عليه السلام فهل يمكنه أن يتغافل عمّا سيحدث على بضعة الرسول الزهراء عليها السلام ؟ وهل يمكن للإنسان أن يتصور شدة المعاناة التي كان يعانيه أمير المؤمنين عليٌ عليه السلام و كذلك مستوى صبره عليه السلام ؟ كيف وهو يرى تراثه المنهوب! ويعرف عن ضلع زوجه المكسور؟
يقول سلام الله عليه:
{ أما و الله لقد تقمصها ابن أبي قحافة و انه ليعلم إن محلى منها محل القطب من الرحى ينحدر عنى السيل و لا يرقى إلى الطير فسدلت دونها ثوبا وطويت عنها كشحا و طفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء أو اصبر على طخية عمياء يهرم فيها الكبير و يشيب فيها الصغير و يكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى فصبرت و في العين قذى و في الحلق شجا أرى تراثي نهبا}(نهج البلاغة لابن أبي حديد ج 1 باب 3 ص 151)
ويقول في موضع آخر:
{فنظرت فإذا ليس لي رافد و لا ذاب و لا مساعد إلاّ أهل بيتي فضننت بهم عن المنية فأغضيت على القذى و جرعت ريقي على الشجى و صبرت من كظم الغيظ على أمر من العلقم و آلم للقلب من وخز الشفار}(نهج البلاغة لابن أبي حديد ج 11 باب 211 ص 109)
الكفـؤ:
أعتقد أن التكافؤ بين الزهراء عليها السلام وعليٍّ سلام الله عليه الوارد في الأحاديث الكثيرة كالحديث التالي:
{عن يونس بن ظبيان عن أبي عبد الله عليه السلام قال سمعته يقول لولا أن الله خلق أمير المؤمنين لفاطمة ما كان لها كفؤ على الأرض}(بحار الأنوار ج 43 ص 97 رواية 6 باب 5)
إن الحديث لا يعنى التكافؤ في الحيوة الزوجية فحسب و لا يعني أيضاً أنهما مجمع النورين و البحرين بعد تفرقهما في عبد الله وأبي طالب حيث ورد في تفسير قوله تعالى:
(كنز العمّال محمد بن العباس عن محمد بن احمد عن محفوظ بن بشر عن ابن شمر عن جابر عن أبي عبد الله قال عليه السلام في قوله عز و جل مرج البحرين يلتقيان قال على و فاطمة.. )(بحار الأنوار ج 24 ص 97 رواية 1باب 36) وهناك أحاديث كثيرة في هذا المجال راجع مضانِّها.
بل هناك أمر أهم من ذلك و أرفع مستوى و هو التكافؤ في أداء التكليف الإلهي بحيث كل يكمل الآخر.. و كل يؤدى تكليفه المتناقض مع تكليف الآخر ظاهراً و المطابق معه واقعا فهو تكليف واحد ولكن قد تجلّى وظهر في موقفين متضادين تماماً. و من هنا نعرف السر في الحديث القدسي حيث يقول: ( لو لا علي لما خلقت فاطمة الخ..)
فدك هو المبرر لهذا الموقف
و مبرِّر ثورتها هي فدك وهذه فدك لها بعدان رئيسيّان:
أحدهما: أنَّها قرية في الحجاز، بينها و بين المدينة يومان، و قيل ثلاثة و هي أرض يهودية ، و كان يسكنها طائفة من اليهود، و لم يزالوا على ذلك حتى السنة السابعة حيث قذف الله بالرعب في قلوب أهليها فصالحوا رسول الله (صلى الله عليه و آله) على النصف من فدك، و روي أنه صالحهم عليها كلها. و ابتدأ بذلك تاريخها الإسلامي، فكانت ملكاً لرسول الله صلى الله عليه و آله و سلم، لأنها مما لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب، ثم قدمها لابنته الزهراء، وبقيت عندها حتى توفى أبوها (صلى الله عليه و آله) فانتزعها الخليفة الأول و أصبحت من مصادر المالية العامة و موارد ثروة الدولة يوم ذاك حتى تولى عمر الخلافة)
ثانيهما : أنَّها هي الولاية بعينها أو من لوازمها التي قد تجسَّدت في ذلك اليوم وهى عصب حياة الخلافة الإسلامية لا يمكن الاستقرار على منصة الحكم بدونها.. ومن حكمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أنه منح فدك لابنته الزهراء وذلك حين نزل قوله تعالى (وآت ذا القربى حقَّه)
{مصباح الأنوار عن عطية قال لما نزلت و آت ذا القربى حقه دعا رسول الله صلى الله عليه وآله فاطمة فأعطاها فدك}
{ عن أبان بن تغلب عن أبي عبد الله عليه السلام قال قلت أكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أعطى فاطمة فدك قال كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم وقفها فانزل الله و آت ذا القربى حقه فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم حقها قلت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أعطاها قال بل الله تبارك و تعالى أعطاها}(نهج البلاغة ج 16 باب 45 ص 213)
فلو لم يفعل رسول الله ذلك ماذا ترى سيحدث بعد ارتحاله ؟
كان الحاكم هو الذي يصطحبها و ذلك على مبرر شرعي لا غبار عليه و هو أنَّ فدك من بيت مال المسلمين الذي هو تحت تصرف الخليفة المنصوب من قبلهم فليس لأحد أن يطالب بها أصلا ،وحينئذ لم يتواجد أيُّ مبرر لصراخ الزهراء و مواجهتها الحكم إلاّ دفاعاً عن زوجها و هذا يعنى أن موقف زوجها هو موقفها لا فرق بينهما أصلاً وحينئذ يمكن للخليفة أن يسكتها و يرغمها بحجة أنها امرأة لا حق لها أن تتدخل في شئون الحكم أو يجبر علياً على إسكاتها و تهدئتها وإلاّ سوف يتخِّذ أيَّ قرار أراد ضدّ عليٍّ وضدّ فاطمة، وعلى فرض ما لو طلب منها عليٌّ السكوت والتراجع فلا بد لها إذاً أن تهدأ لأنه حسب الفرض أنَّ صاحبَ الحق قد تراجع عن حقه فلا معنى للصراخ و المجابهة منها بعد ذلك ، و إن أصرت على ذلك فيمكن التعامل معها بالشدة و سوف لا يثير ذلك أحاسيس المسلمين لأن هذا التعامل له مبرر شرعي و هو الحفاظ على الوحدة الإسلامية والوقوف دون شق عصا المسلمين.
وهل بإمكان الخليفة إعطائها فدك؟ كلا؟ لأن ذلك يعنى نجاح عليٍّ عليه السلام ولقد عرف أبو بكر هذا الأمر ولهذا لما سمع خطبتها شق عليه مقالتها فصعد المنبر و قال أيها الناس ما هذه الرعة إلى كل قاله أين كانت هذه الأماني في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم إلاّ من سمع فليقل و من شهد فليتكلم إنما هو ثعالة شهيدة ذنبه مرب لكل فتنه هو الذي يقول كروها جذعه بعد ما هرمت يستعينون بالضعفة و يستنصرون بالنساء..)(نهج البلاغة ج 16 باب 45 ص 213)
أقول:
أما الرعة بالتخفيف أي الاستماع والإصغاء والقالة القول وثعالة اسم الثعلب.
ولكن:
كل ذلك يتعاكس مع الفرض الآخر و هو مطالبة فدك (وهو المطالبة للولاية في لباس آخر) فإرجاع فدك إليها يعنى التخلي عن الولاية والخلافة وهو المطلوب الأول..
وعدم إرجاعها إليها يعنى أنهم غصبوا حقها المسلم والواضح عند كل المسلمين أنَّ الغاصب لا يليق بالحكم فكيف لو كان من ابنة رسول الله
أخلست الزهراء !
إنَّ الكلمة الآتية كلمة عليٌّ عليه السلام عند دفنه الزهراء عليها السلام.
ويظهر للمتأمِّل فيها أمورٌ كثيرةٌ وحوادث جليلة وكأنَّه عليه السلام أراد بيانها ضمن السلام لتبقى مدى الدهر. ونحن ننقل النصّ الذي نقله المحدِّث الكليني رضوان الله تعالى عليه حيث يقول:
(احمد بن مهران رحمه الله رفعه و احمد بن إدريس عن محمد بن عبد الجبار لشيباني قال حدثني القاسم بن محمد الرازي قال حدثنا على بن محمد الهرمزاني عن أبي عبد الله الحسين بن على عليه السلام قال لما قبضت فاطمة عليها السلام دفنها أمير المؤمنين سراً وعفا على موضع قبرها ثم قام فحول وجهه إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم فقال السلام عليك يا رسول الله عنِّي وعن ابنتك و زائرتك... إلى أن قال:
قد استرجعت الوديعة وأُخذت الرهينةُ وأُخلست الزهراء فما اقبح الخضراء والغبراء يا رسول الله أمّا حزني فسرمد وأما ليلى فمسهد وهم لا يبرح من قلبي أو يختار الله لي دارك التي أنت فيها مقيم كمد مقيح وهم مهيج سرعان ما فرق بيننا وإلى الله أشكو وستنبئك ابنتك بتظافر أمتك على هضمها فأحفها السؤال واستخبرها الحال فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثه سبيلا وستقول ويحكم الله وهو خير الحاكمين سلام مودع لا قال ولا سئم فان انصرف فلا عن ملالة وإن أقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين واه واها والصبر ايمن واجمل ولو لا غلبه المستولين لجعلت المقام واللبث لزاما معكوفا ولأعولت اعوال الثكلى على جليل الرزية فبعين الله تدفن ابنتك سرا وتهضم حقها وتمنع ارثها ولم يتباعد العهد ولم يخلق منك الذكر وإلى الله يا رسول الله المشتكى وفيك يا رسول الله احسن العزاء صلى الله عليك وعليها السلام والرضوان)(الكافي ج 1 ص 458 رواية 3)
{ مرضت فاطمة عليها السلام مرضا شديدا و مكثت أربعين ليله في مرضها إلى أن توفيت صلوات الله عليها فلما نعيت إليها نفسها دعت أم ايمن وأسماء بنت عميس ووجهت خلف على وأحضرته فقالت يا ابن عم انه قد نعيت إلى نفسي وإني لا أرى ما بي إلاّ إنني لاحق بأبي ساعة بعد ساعة وأنا أوصيك بأشياء في قلبي قال لها على عليه السلام أوصيني بما أحببت يا بنت}(بحار الأنوار ج 43 ص 191 رواية 20 باب 7)
مفـاجـأة:
فما هي الحيلة التي ينبغي أن يتخذها الخليفة لإسكات بنت رسول الله ليس هناك حل إلاّ الضرب والجرح والحرق ومن ثم القتل ولشهادة وهذا الأمر هو الذي سوف يفضح الخليفة ومن تبعه وشايعه كما فضحهم بين الأشهاد حين مارسوا ذلك فضيحة لا خلاص منها إلى يوم القيامة.
{الهدف= السكوت + الصراخ}
وبالفعل قد تحقق الهدف المطلوب من هذا السكوت وذلك الصراخ فبقي الإسلام والقرآن كأطروحة حديثة في صون من شر الجاهلية الثانية وانكشفت جرائم من أراد بالإسلام سوءا ، وذلك بعد استشهاد بنت الرسول على أيديهم وهي مبغضة لهم غير راضية عنهم بصريح الأحاديث الكثيرة التّي نقلها الجمهور منها:
{حدثني محمد بن رافع أخبرنا حجين حدثنا ليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أنها أخبرته أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر فقال أبو بكر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا نورث ما تركنا صدقة إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المال وإني والله لا أغير شيئا من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة شيئا فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك قال فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت وعاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر فلما توفيت دفنها زوجها علي بن أبي طالب ليلا ولم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها علي الخ}(صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير الحديث 3304)
بقيت أطروحة الولاية ثابتة كأطروحة ليس إلاّ ، وأخذ الخلَّص من الموالين لأهل البيت يترصدون الفرصة المناسبة لتنفيذ تلك الأطروحة المباركة أعنى الولاية ، وبدأ مفهوم الانتظار يترسخ في قلوب الشيعة المخلصين حتى صار أفضل عبادة . وكان هو المطلوب
هذا: وقد استمرت غربة الإسلام المحمدي الأصيل أي إسلام الغدير قروناً متوالية ومرّت على المؤمنين وفي طليعتهم أئمة الشيعة عليهم السلام ظروفٌ صعبة للغاية، وضحّوا ما ضحّوا من الأموال والأنفس الطاهرة ،كل ذلك لأجل الحفاظ على أصالة الإسلام المحمدي (الذي هو إسلام الرفض) ومن منطلقه تبلورت مدرسة الانتظار والترقب، تلك المدرسة التي تمتلك روحية الانتقام وأخذ الثأر إلى أن يأتي صاحبه ولي العصر عليه السلام.
ومن الواضح أنَّ أئمتنا عليهم السلام كلهم كانوا يعيشون منتظرين للفرج ويحرضون أصحابهم أيضاً على ذلك وهم مع ذلك كانوا يسعون عملا للتمهيد لتلك الدولة المباركة المأمولة أعني دولة المهدي الموعود عجّل الله تعالى فرجه الشريف . ولأجل تثبيت هذه النظرية الإسلامية في ضمائر المؤمنين كنظرية يجب الاعتقاد بها ويجب الترصدّ لها حتَّى يخرج من يُحقِّقها ويجتني ثمارها ،مرّت على المؤمنين ظروفٌ صعبة للغاية.
وقد حقق أئمتنا عليهم السلام ذلك الهدف ضمن مجالين :
الأول: تربية نخبة من المؤمنين الخُلّص في كل عصر لا أعني من الخُلَّص ما يستنبطه البعض من الكلمة بل أعني أولئك الذين قد فهموا الإسلام- بمعنى الكلمة -حقّاً فهم بطبيعة الحال الغرباء بين الصديق والعدوّ وهم الحجة علي الآخرين وإن كان عددهم لا يتعدّى أصابع اليد في أكثر الأزمنة ، والجدير أن التأريخ يذكرهم بأسمائهم وأوصافهم
الثاني: تثبيت الإسلام الخالص صريحا أو إيماء اً ضمن التراث العظيم من الأحاديث الذي حافظ عليها السلف الصالح بقدر الإمكان حرفاً بحرف وحيث لم يكن بإمكانهم فهمها فضلاً عن العمل بها لربما غفلوا عن محتواها أو فسروها تفسيرا غير مرضيٍّ.
هذا واستمرَّ هذا الوضع إلى أن انتهى عصر الغيبة الصغرى للمهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف وبدأت الغيبة الكبرى وهو عصر اليُتم وانتظار فرج آل محمَّد عليهم السلام.
نبتهل إلى الله سبحانه أن يجعلنا من المنتظرين الحقيقيين لوليِّه المهدي المنتظر أرواحنا لتراب مقدمه الفداء.
انتهيت من كتابة هذه الكلمة في ليلة الأربعاء 8ربيع الأوَّل 1417ليلة الإمام الحسن العسكري عليه أفضل الصلاة والسلام .
عطاء الله
العلاقة بين الآيات والسور:
إنّ المتحدِّث للآخرين مهما كان عندما يتحدَّث عن أيِّ موضوع نراه يسترسل الكلام حول ذلك الموضوع ضمن فقرات مختلفة بحيث يكون لكل فقرة من الفقرات معنيً مستقلٌ بنفسه ولا يجوز للإنسان أن يتحدث عن آية وكأنها نزلت مستقلِّة حتَّى لو ربطها بآيات أخر تفسِّرها.
ارتباط الآيات:
المثال الأول :
قال عز من قائل وهو يتحدَّث عن الوجوه التِّي تنظر إلى ربِّها في يوم القيامة :
{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ }(القيامة/22-23)
فيا ترى ما هو المقصود من هذه الوجوه هل العيون !! وكيف يمكن ذلك ؟
فهل الله جسم يُرى أم ماذا ؟
الجواب أنَّ المقصود من الوجوه ليست العيون بدليل قوله تعالى مباشرة:
{ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ، تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ }(القيامةـ24-25)
وهذا دليل على أنَّ الرؤية هي بالقلب لا بالعين كما قال سبحانه
{ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى }(النجم/11)
وفي الحديث :
لم يره بالبصر و لكن رآه بالفؤاد.
وفي الحديث :
(عن الأصبغ في حديث قال قام إليه رجل يقال له ذعلب فقال يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك فقال ويلك يا ذعلب لم اكن بالذي اعبد ربا لم أره قال فكيف رايته صفه لنا قال ويلك لم تره العيون بمشاهده الأبصار و لكن رأته القلوب بحقائق الإيمان)
مثال2:
{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً }(الإسراء/70)
{ يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً }(الإسراء72)
{ وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً}(الإسراء72)
ارتباط السُوَر:
وأيضاً هناك ارتباط وعلاقة بين أكثر السُور فكأنَّ بعضها يُكمِّل بعضها الآخر وهذا الأمر يظهر كثيراً في السُور القصار والعلاقة ربَّما تصل إلى مستوى تُعدُّ السورتان وكأنَّها سورةٌ واحدة ، كالعلاقة المتواجدة بين سورة الفيل وسورة قريش وأيضاً سورة الضحى وسورة الانشراح.
وفي الحديث المنقول عن المعتبر و المنتهى نقلا من جامع احمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي عن المفضل قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول لا تجمع بين سورتين في ركعة واحدة إلاّ الضحى و ألم نشرح و سوره الفيل و لإيلاف قريش
ففي سورة الفيل يقول سبحانه :
{ أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيل ، أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ }(الفيل 1-5)
وكأنَّ السائل يسأل عن السرّ في حدوث هذه المعجزة المباركة والحادثة العظيمة فيجيبه الله سبحانه:
{ لإيلافِ قُرَيْشٍ ، إيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ }(قريش/ 1-4)
وكذا بالنسبة إلى سورتي الضحى والانشراح يقول سبحانه وتعالى:
{ وَالضُّحَى ، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ، وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ الأولَى ، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ، أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ، وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى ، وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ، فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ ، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ }ا(الضحى/1-11)
والسؤال الذي يطرح نفسَه هو: ما هي النعمة التِّي ينبغي أن أُحدُّث عنها قبل مماتي ؟ ولماذا ؟ يجيبه سبحانه بقوله:
{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ، وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ، الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ، وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ، فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ، فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ ، وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ }ا(الشرح /1-8)
في تفسير علي بن إبراهيم القمي وتفسير فرات الكوفي والمناقب لابن شهر آشوب عن أبي عبد الله عليه السلام (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ) علياً للولاية.
(عن كتاب كشف اليقين بإسناده.. عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله و الذي بعثني بالحق بشيرا ما استقر الكرسي و العرش و لا دار الفلك و لا قامت السماوات و الأرض إلاّ بان كتب عليها لا اله إلاّ الله محمد رسول الله على أمير المؤمنين و إن الله تعالى لما عرج بي إلى السماء واختصني اللطيف بندائه قال يا محمد قلت لبيك ربى و سعديك قال أنا المحمود و أنت محمد شققت اسمك من اسمي و فضلتك على جميع بريتي فانصب أخاك عليا علما لعبادي يهديهم إلى ديني...)(بحار الأنوار ج 27 ص 8 رواية 16 باب 10)
والملاحظ في السور القصار الأخيرة أنها تتحدَّث عن أمور تخص النبي صلى الله عليه وسلم أو أنَّها تخاطبه.
فتبدأ بالماعون ثم الكوثر ثم الكافرون ثم النصر ثم المسد ثم الإخلاص ثم الفلق ثم الناس والقارئ لهذه السور يرى العلاقة الوثيقة بينها فبعد بيان حال المرائين في سورة الماعون وبخلهم المفرط نشاهد العطاء الإلهي والكثرة في الخير ثم الصلاة للرب والنحر في سورة الكوثر وأنّ الشانئ هو الأبتر الذي يقوِّي روحيَّة الرسول ويُضاعف في قوَّته فيمكنه أن يواجه الكفّار بصلابة فيقول سبحانه: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)
والوعد بالفتح في النصر وهلاك العدو في المسد ثمَّ الإخلاص فالاستعاذة من شرِّ المخلوقات ومن قطّاع الطريق الموسوسين في صدور الناس.
أسرار سورة الكوثر
هذا ونشرع في بيان سورة الكوثر الذي هو من أعظم المعاجز الإلهيَّة فنقول:
إنّ سورة الكوثر مع أنَّها أقصر سورة في القرآن الكريم ولكن على اختصارها و قصرها تشتمل على لطائف كثيرة نشير إلى بعضٍ منها:
إنَّ هذه العطيَّة من الله سبحانه فالعطاء كبير حيث أن المعطِي كبير تعالى شأنه مضافاً إلى ابتداء الكلام بكلمة (إنّا) أعني بالجملة الإسميَّة مع ذكر ضمير المتكلم أعطيناك تدل على عظمة العطية.
قوله إنا أعطيناك يدل على أنه لن نسترجعها خصوصاً أنه سبحانه طلب منه الصلاة والنحر كعوض وهذا مثل ما لو أعطى أحدٌ ألف دينارٍ لشخص وأراد منه أن يقرأ الفاتحة على روح والده كعوض فلن يسترجعها منه.
قوله إنا أعطيناك ولم يقل سنُعطيك وهذا إن دلَّ على شيء فإنَّما يدلُّ على أنَّ هذا الأعطاء كان حاصلا في الماضي كيف لا و الكوثر (الزهراء) كانت محوراً للأنوار (هم فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها) وكأنه يقول نحن قد هيأنا أسباب سعادتك قبل دخولك في الوجود فكيف نهمل أمرك بعد وجودك و اشتغالك بالعبودية. و أيضاً نحن لم نقدمك ولم نفضلك لأجل طاعتك فأعطيناك قبل إقدامك للصلوة و النحر.
قوله أعطيناك و لم يقل أعطينا الرسول أو النبي و هذا يدل على أن العطية لمحمد(صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة كشخصيَّة مميَّزة.
قوله أعطيناك لا آتيناك وهو يدلُّ على التفضل الدائم المستمر في الدنيا مضافاً إلى الشفاعة في الآخرة حيث قال تعالى { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى }(الضحى/ 5)
قوله الكوثر مضافاً إلى هذه الصيغة (فوعل) جاءت بنحو الجمع المحلَّى باللام الدال على الكثرة الشاملة من غير حدٍّ ، فالله أعطى كلَّ شيء قدره وخلقه { قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى }(طه/50) لاّ الرسول حيث لا حدَّ للعطاء الإلهي له. { هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}(ص39)
وأيضاً إنّ كلمة الكوثر التِّي هي صفة قد جاءت من غير موصوف هذا يدل على الإبهام و الشياع.
في حين أن الكثرة في سائر الموارد قد وردت بالموصوف:(فئة كثيرة - مغانم كثيرة - مواطن كثيرة - فواكه كثيرة - منافع كثيرة - خيرا كثيرا - مراغما كثيرا - ذكرا كثيرا)
قوله تعالى فصل وكأنَّه يقول لا تُبالِ ولا تهتم بقول العاص ابن وائل بل اشتغل بالصلاة.
قوله لربك وانحر(لربك) إشارة إلى انهم لا يصلون لله و لا ينحرون له.
و أشار إلى نوعين من العبادات البدنية والمالية .
قوله فصلِ أي اشتغل بأحسن ما تحبُّه وهو الصلوة وفيه إشارة إلى أنه صلى الله عليه وآله وسلم يحبُّ الصلوة حيث أن الصلوة قرةُ عينه (وقرة عيني الصلوة).
قوله لربك و صرف الكلام عن لفظ المضمر إلى لفظ المظهر دال على و فيه إظهار لكبرياء شأنه تعالى.
قوله إن شانئك يدل على عدم الاهتمام بشنئانه وذكره بصفته لا باسمه يشمل كل من كان في مثل حاله وأيضاً إشارة إلى أن الشنئآن هو الباعث للتهمة ، والبغضاء هي الدافع للمحاربة.
وأمّا الأبتر فمأخوذ من البتر وهو في اللغة يعنى استئصال القطع يقال:
بترته أُبتره بَترا .. صار أبتر وهو مقطوع الذنب والأبتر يعنس من لا عقب له.
ولا يخفى أنَّ جعل الكوثر في قبال الأبتر يدلُّ على أنَّ الكثرة المرادة هي الكثرة في النسل وهي أكبر مُعجزة إلهيَّة حيث النسل الكثير للرسول صلى الله عليه وآله وسلَّم من أولاد فاطمة الزهراء عليها السلام في جميع أرجاء العالم وقد برز واحد منهم في الآونة الأخيرة حيث هزَّ عرش الطواغيت وهو الإمام الخميني قدس سره الشريف.
والحمد لله ربِّ العالمين كتبه إبراهيم الأنصاري ليلة 15 رمضان المبارك 1416
الكويت
(9)
سـر الله
اسم فاطمة اسم جامع لاسم الزهراء
{ أمالي وخصال الشيخ الصدوق... عبد العظيم الحسنى عن الحسن بن عبد الله بن يونس عن يونس بن ظبيان قال قال أبو عبد الله عليه السلام لفاطمة عليها السلام تسعه أسماء عند الله عز و جل فاطمة و الصديقة و المباركة و الطاهرة و الزكية و الراضية و المرضية و المحدثة و الزهراء ثم قال عليه السلام ا تدرى أي شيء تفسير فاطمة قلت أخبرني يا سيدي قال فطمت من الشر قال ثم قال لو لا أن أمير المؤمنين عليه السلام تزوجها لما كان لها كفو إلى يوم القيامة على وجه الأرض آدم فمن دونه كتاب دلائل الإمامة للطبري عن الحسن بن احمد العلوي عن الصدوق مثله }(بحار الأنوار ج 43 ص 10 رواية 1 باب 2)
أقول :
إنّ الحديث يركّز على أسمائها عند الله وهذا المقام أعني مقام عند هو مقام عظيم لا يناله أحد إلاّ الأنبياء والأولياء.
وهو نفس المقام المذكور في الآيات الآتية:
{ وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى }(الليل/19)
وهي نفس عنده في قوله :
{ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ }(لأنعام/ 59)
{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}(الحجر/ 21)
{ فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا }(الكهف/65).
{ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ }(البقرة /255)
وأيضاً هناك تأكيد في الحديث على كلمة فاطمة خاصّة ووجه تسميتها بها بأنّها فطمت عن الشرّ وهذا مفهوم عام يستوعب جميع ما ذكر في وجه تسميتها بهذا الاسم .
وهناك نقطة في الحديث لها غاية الأهميّة وهي قوله عليه السلام: (لو لا أن أمير المؤمنين عليه السلام تزوجها لما كان لها كفو إلى يوم القيامة على وجه الأرض آدم فمن دونه)
وفي حديث آخر:
((عن يونس بن ظبيان عن أبي عبد الله عليه السلام قال سمعته يقول لو لا أن الله خلق أمير المؤمنين لفاطمة ما كان لها كفو على الأرض)) (بحار الأنوار ج 43 ص 97 رواية 6 باب 5)
وهذه الجملة تبيّن عظمة كلّ من فاطمة وعليٍّ عليه السلام فهي عليها السلام أفضل من جميع نساء العالمين وهو عليه السلام أفضل من جميع الرجال آدم ومن دونه .
ثمّ إنّ كلمة فاطمة من تجلّيات اسم الله سبحانه وتعالى وهي مشتقة بالاشتقاق الأكبر من فاطر
وفي هذا المجال هناك أحاديث كثيرة نذكر ثلاثة منها كنماذج :
( .. سلمان الفارسي رضى الله عنه في حديث طويل قال قال النبي صلي الله عليه وآله يا سلمان فهل علمت من نقبائي ومن الاثنا عشر الذين اختارهم الله للإمامة بعدي فقلت الله ورسوله اعلم قال يا سلمان خلقني الله من صفوه نوره ........إلى أن قال: والله الفاطر وهذه فاطمة والله ذو الإحسان وهذا الحسن والله المحسن وهذا الحسين)(بحار الأنوار ج 15 ص 9 رواية 9 باب 1)
(عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم لعلى بن أبي طالب عليه السلام لما خلق الله عز ذكره آدم و نفخ فيه من روحه و اسجد له ملائكته وأسكنه جنته وزوجه حواء أمته فرفع طرفه نحو العرش فإذا هو بخمسه سطور مكتوبات قال آدم يا رب من هؤلاء قال الله عز وجل هؤلاء الذين إذا تشفع بهم إلى خلقي شفعتهم فقال آدم يا رب بقدرهم عندك ما اسمهم قال أما الأول فأنا المحمود وهو محمد والثاني فأنا العالي الأعلى وهذا علي والثالث فأنا الفاطر وهذه فاطمة و الرابع فأنا المحسن وهذا حسن والخامس فأنا ذو الإحسان وهذا حسين)(بحار الأنوار ج 15 ص 14 رواية 18 باب 1)
(العجلي عن ابن زكريا عن ابن حبيب عن ابن بهلول عن أبيه عـن عبد الله بن الفضل الهاشمي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عليه السلام قال كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم ذات يوم جالسا وعنده على وفاطمة والحسن والحسين عليه السلام فقال والذي بعثني بالحق بشيرا ما على وجه الأرض خلق احب إلى الله عز وجل ولا أكرم عليه منا إن الله تبارك وتعالى شق لي اسما من أسمائه فهو محمود وأنا محمد وشق لك يا على اسما من أسمائه فهو العلي الأعلى وأنت على وشق لك يا حسن اسما من أسمائه فهو المحسن وأنت حسن وشق لك يا حسين اسما من أسمائه فهو ذو الإحسان وأنت حسين وشق لك يا فاطمة اسما من أسمائه فهو الفاطر وأنت فاطمة ثم قال اللهم إني أشهدك إني سلم لمن سالمهم وحرب لمن حاربهم ومحب لمن أحبهم ومبغض لمن أبغضهم وعدو لمن عاداهم وولى لمن والاهم لأنهم منى وأنا منهم )(بحار الأنوار ج37 ص47 رواية 23 باب50)
كلا م حول الاشتقاق وأنواعه
فإذا كان المشتق والفرع مشتملين على حروف الأصل على الترتيب والنسق يسمّى اشتقاقاً صغيراً كضرب ونصر من الضرب والنصر.
2-وإن جمع الفرع حروفَ الأصل ولكن لم يُلحظ فيه الترتيب يسمّى بالاشتقاق الكبير مثل: فسر وسفر.
3-وإن لم يشتمل على جميع الأصل ولكن فيه أكثر حروف الأصل يسمّى بالاشتقاق الأكبر كهضم وخضم، ونبع ونيع،وقصم وفصم، وفطم وفطر.
قال صاحب المفردات:
أصل فطر الشق طولاً يقال: فطر فلان كذا فطْراً وأفطر هو فطوراً،وانفطر انفطاراً قال تعالى {هل ترى من فطور}
قال الإمام (قدس سرّه):
وفي الصحاح: الفطرة بالكسر "الخلقة" ويمكن أن تكون الكلمة مأخوذة من "فطر" أي "شقّ" كأنّ الخلق أشبه بشق ستار العدم وحجاب الغيب، وبهذا المعنى يكون إفطار الصائم: فكأنّه شق استمراريّة الإمساك.
أقول: وقد أستعمل القرآن هذه الكلمة ومشتقّاتها في عشرين مورداً.
الوجه في تسميتها بهذا الاسم
وبعد وضوح معنى فاطر يتّضح لنا الوجه في تسميتها فاطمة .
وذلك:
أنّ الله سبحانه وتعالى لم يخلق امرأة بهذه المواصفات العظيمة التي منها أنّها حوراء إنسيّة ، ففطر العدم هذا بخلق فاطمة وتجلّى معنى فاطر في شخصيّتها عليها السلام ومن هذا المنطلق سمّيت فاطمةُ فاطمة.
قال الإمام (قدس سرّه): (جميع الأبعاد المتصوّرة للمرأة وللإنسان قد تجلّت في الزهراء سلام الله عليها وكانت متواجدة فيها. لم تكن الزهراء امرأة عاديّة، هي امرأة روحانيّة، هي امرأة ملكوتيّة،هي إنسان بجميع معنى الكلمة، إنّها جميعُ نسخة الإنسانية، جميعُ حقيقة المرأة ، جميع حقيقة الإنسان . إنّها ليست امرأة عاديّة، إنّها موجود ملكوتي قد ظهرت في العالم على صورة إنسان ....إنّها امرأة قد اشتملت على جميع خواص الأنبياء ،هي امرأة لو كانت رجلاً لكانت نبيّاً، امرأة لو كانت رجلاً كانت في موقع رسول الله صلي الله عليه وآله ....المعنويات، التجلّيات الملكوتية والإلهيّة والجبروتيّة والملكيّة والناسوتيّة كلّها قد اجتمعت في هذا الموجود...إنّ الإنسان موجود متحرّك من مرتبة الطبيعة إلى مرتبة الغيب وإلى الفناء في الألوهيّة. وقد حصلت للصديقة الطاهرة هذه المعاني هذه المسائل. فهي بالحركة المعنوية من مرحلة الطبيعة وبقدرة الله وباليد الغيبيّة وبتربية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم استمرت في طيّ المراتب إلى أن وصلت إلى مرتبة لم ينلها أحد من الخلق)
ثمّ: إنّ هناك جانبين في خصوص هذا الاسم (أعني فاطمة):
الأول : الجانب السلبي أو الجلالي .
الثاني : الجانب الإيجابي أو الجماليّ.
وكلا الجانبين قد بُينّا في الحديث الشريف ولكنْ بنحو كلّيٍّ فقوله عليه السلام (أتدرى أي شئ تفسير فاطمة قلت أخبرني يا سيدي قال فطمت من الشر) يشير إلى جانب الجلال في شخصيّتها. وقوله عليه السلام :(لو لا أن أمير المؤمنين عليه السلام تزوجها لما كان لها كفو إلى يوم القيامة على وجه الأرض آدم فمن دونه) يبيّن جانب الجمال في وجودها عليها السلام.
الكفء
أعتقد أن التكافؤ بين الزهراء عليها السلام وعليٍّ سلام الله عليه الوارد في الأحاديث الكثيرة كالحديث التالي:
((عن يونس بن ظبيان عن أبي عبد الله عليه السلام قال سمعته يقول لو لا أن الله خلق أمير المؤمنين لفاطمة ما كان لها كفء على الأرض }(بحار الأنوار ج 43 ص 97 رواية 6 باب 5)
لا يعنى التكافؤ في الحياة الزوجية فحسب و لا يعني أيضاً أنهما مجمع النورين والبحرين بعد تفرقهما في عبد الله وأبي طالب حيث ورد في تفسير قوله تعالى:
(كنز العمّال محمد بن العباس عن محمد بن احمد عن محفوظ بن بشر عن ابن شمر عن جابر عن أبي عبد الله قال عليه السلام في قوله عز و جل مرج البحرين يلتقيان قال على و فاطمة..)(بحار الأنوار ج 24 ص 97 رواية 1باب 36) وهناك أحاديث كثيرة في هذا المجال راجع مضانِّها.
بل هناك أمر أهم من ذلك وأرفع مستوى وهو التكافؤ في أداء التكليف الإلهي بحيث كل يكمل الآخر.. وكل يؤدى تكليفه المتناقض مع تكليف الآخر ظاهراً والمطابق معه واقعا فهو تكليف واحد ولكن قد تجلّى وظهر في موقفين متضادين تماماً. ومن هنا نعرف السر في الحديث القدسي حيث يقول: ( لو لا على لما خلقت فاطمة الخ.. )
فهذا الحديث هو الأصل مرتكز فيه جميع المفاهيم المذكورة في الأحاديث الأُخر بنحو التفصيل.
خلاصة الوجوه للاسم (فاطمة):
1-لأنّ الله فطم محبيها من النار.
2-لأنّها فطمت عن الطمث.
3-لأنّها فطمت بالعلم (أي من الجهل).
والمستفاد من الأحاديث أنّها عليها السلام فاطمة فطمت عن جميع العيوب والنقائص وهذا يعني طهارتها المطلقة وهي العصمة.
والمهمّ ما في الحديث:( محمد بن القاسم بن عبيد معنعنا عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال إنا أنزلناه في ليلة القدر الليلة فاطمة والقدر الله فمن عرف فاطمة حق معرفتها فقد أدرك ليلة القدر وإنما سميت فاطمة لان الخلق فطموا عن معرفته)(بحار الأنوار ج 43 ص 65 رواية 58 باب 3)
المــقارنة بين ليلة القدر و فاطمة الزهراء عليها السلام
1-إنّ ليلة القدر مجهولة للناس من حيث القدر والمنزلة والعظمة كذلك بضعة المصطفى .
2-أنّه كما أنّ ليلة القدر يفرق فيها كلّ أمر حكيم، كذلك بفاطمة يفرق بين الحقّ والباطل.
3-كما أنّ ليلة القدر صارت ظرفاً زمانيّاً لنزول الآيات والسوَر كذلك فاطمة أرضيّة مكانية لنزول جبرئيل.
4-ليلة القدر معراج الأنبياء والأوصياء، وكذلك ولايتها مرقاة لهم (ما تكاملت النبوّة لنبيٍّ حتّى أقرّ بفضلها ومحبَّتها).
5-إنّ ليلة القدر منشأ للفيوضات والكمالات، كذلك التوسّل بها وسيلة للبركات ودفع البليّات.
6-إنّ ليلة القدر خير من ألف شهر فهي عليها السلام خير نساء الأولين والآخرين ، بل إنّ فاطمة خير أهل الأرض عنصراً وشرفاً وكرماً.
7-إنّ ليلة القدر هي بداية سنة العرفاء بالله كما في الأحاديث الكثيرة وهي منطلق السير إلى الله فكذلك فاطمة هي منطلق الورود في الولاية والتعلّق بأهل البيت عليهم السلام .
مقتطفات من أرجوزة المحقق الأصفهاني في شأن الزهراء عليها السلام:
جوهرة القدس من الكنز الخفي بدت فأبدت عاليات الأحرف وقد تجلى من سماء العظمة من عالم الأسماء أسمى كلمة بل هي أم الكلمات المحكمة في غيب ذاتها نكات مبهمة أم الأئمّة العقول الغرّ بل أم أبيها وهي علّة العــــــلل روح النبي في عظيم المنزلة وفي الكفاء كفؤ من لا كفؤ له تصوّرت حقيقة الكمال بصـــورة بديعةِ الجـــــمال فإنّها الحوراء في النزول وفي الصعود محور العقول يمثل الوجوب في الإمكان عيانها بأحســــــن البيان فإنّها قطب رحى الوجود في قوسي النزول والصعود وليس في محيط تلك الدائرة مدارها الأعظم إلاّ الطاهرة مصونة عن كلّ رسم وسمة مرموزة في الصحف المكرمّة وحبّها من الصفات العالية عليه دارت القرون الخالية تبتلت عن دنس الطبيعة فيا لها من رتبة رفيعة مرفوعة الهمّة والعزيمة عن نشأة الزخارف الذميمة في أفق المجد هي الزهراء للشمس من زهرتها الضياء بل هي نور عالم الأنوار ومطلع الشموس والأقمار رضيعة الوحي من الجليل حليفة المحكم والتنزيل مفطومة من زلل الأهواء معصومة عن وصمة الأخطاء راضية بكل ما قضى القضا بما يضيق عنه واسع الفضا زكيّة من وصمة الوجود فهي غنيّة عن الحدود.
يا قبلة الأرواح والعقول وكعبة الشهود والوصول من بقدومها تشرّفت منى ومن بها تدرك غاية المنى وبيتها المعمور كعبة السما أضحى ثراه للثريّا ملثما وخدرها السامي رواق العظمة وهو مطاف الكعبة المعظّمة حجابها مثل حجاب الباري بارقة تذهب بالأبصار
تمثّل الواجب في حجابها فكيف بالإشراق من قبابها لك الهنا يا سيد الوجود في نشئات الغيب والشهود
بمن تعالى شأنها عن مثلِ كيف ولا تكرار في التجلّي بشراك يا أبا العقول العشرة بالبضعة الطاهرة المطهرة مهجة قلب عالم الإمكان وبهجة الفردوس والجنان غرّتها الغراء مصباح الهدى يعرف حسن المنتهى بالمبتدى بشراك ياخلاصة الإيجاد بصفوة الأمجاد والأنجاد أم الكتاب وابنة التنـزيل ربّة بيت العلم بالتأويل بحر الندى ومجمع البحرين قلب الهدى ومهجة الكونين واحدة النبيّ أوّل العدد ثانية الوصيِّ نسخة الأحد ومركز الخمسة من أهل العبا ومحور السبعة علوا وإبا لك الهنا يا سيد البريّة بأعظم المواهب السنية أتاك طاووس رياض القدس بنفحة من نفحات الأنس من جنّة الصفات والأسماء جلّت عن المديح والثناء فارتاحت الأرواح من شميمها واهتزّت النفوس من نسيمها.
والحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله على محمّد وآله الطاهرين
ليلة الثلاثاء 20 جمادي الثانية 1416 ليلة ولادة الصدّيقة الزهراء عليها السلام.
source : كتبه الشيخ إبراهيم الأنصاري