مما وصف الله به نبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم هو أن جعله رحمة للعالمين قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِين﴾1.
ومما اختصه به أن جعله خاتم النبيين ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم﴾2.
ميزتان للدعوة النبوية اجتمعتا فيها وهما تعنيان أن الرسول هو للبشرية كافة وأن هذه الرسالة هي رسالة رحمة أي إن فيها سعادة البشرية كافة في الدنيا والآخرة، ولذا كانت هذه الشريعة ناسخة لكافة الشرائع التي سبقتها ولن تأتي بعدها أي شريعة.
وتتجلى رحمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه في أمور عديدة
أولاً: إن هذا النبي هو الذي يضع عن أهل الكتاب الأغلال التي كانت عليهم ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِم﴾3.
وذلك لأنَّ أحبارهم ورهبانهم ابتدعوا أحكاماً قيدوا بها أتباعهم وهي ليست أحكاماً إلهيةً فيها مصلحة البشرية، بل هي أحكام تتسم بالقسوة أراد الله تعالى أن يخلصهم منها من خلال نبيه الخاتما ولعله من هنا كان وصف الشريعة الإِسلامية بالشريعة السهلة السمحاء وقد روي عنالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "لم يرسلني الله تعالى بالرهبانية ولكن بعثني بالحنيفة السهلة السمحة"4.
وثانياً: إن النبي هو الذي جاء بالشريعة التي فيها تفصيل كل شيء بما تقتضيه مصلحة هذا الإنسان ﴿وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِث﴾5.
ثالثاً: أنَّه تعالى يعفو عن أمته بسبب شفاعته.
رابعاً: انه دعا الله إن يرفع عن أمته عذاب الإستئصال الذي كان يحيق الأمم السابقة التي تكفر بالرسالات وتستهزى بالأنبياء عليهم السلام، قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾6.
وسوف نتحدث عن نموذجين من رحمة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم
1 - رحمة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بغير المسلمين
لقد تحمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سبيل الإسلام وهداية الناس الكثير من الأذى، ورغم كل هذا الأذى الذي لاقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قلبه يمتلأ بالشفقة حتى على غير المؤمنين، طمعاً منه في هدايتهم، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان حريصاً على هدايتهم.
قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾7.
وتتحدث الآية بوضوح عن حسرةِ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشديدة لعدم اهتدائهم إلى طريق الهدى وليس ذلك إلا رحمة منه بهم لما يجده من مصير سيء لهم ببقائهم على شركهم.
وأعظم مواقف الرحمة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقومه كان يوم فتح مكة بعد أن دخلها فاتحا لم يهرق دما، وأذل مشركي قريش وأصبحوا أسرى بين يديه وانتظروا أمره وحكمه عليهم، فقال لهم كلمته الشهيرة "اذهبوا فانتم الطلقاء" واستبدل الشعار الانتقامي الذي كان قد نادى بعضهم به إلى شعار (اليوم يوم المرحمة).
2- رحمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين
لما أراد الله عزَّ وجل التعريفَ برسوله محمدا في القرآن خصَّه بصفتين وهما الرأفة والرحمة. ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيم﴾8.
والعنت هو التعب والمشقة، والحرص شدة طلب الشيء وأما "رؤوف" فهي في حق المطيعين من المؤمنين وأما الرحيم فهي بحق العصاة منهم.وذلك لأن معنى الرؤوف الرحيم وإن كان متقارباً ولكن إذا وردتا في كلام واحد اختلف معناهما.
فالمقصود بالآية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتأذى ويتألم لكل مشقة وأذى تصل إلى المؤمنين وهو يسعى لهدايتهم إلى طرق الخير بكل ما له من قدرة وهو رؤوف بهم ورحيمٌ بالعصاة منهم.
النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل الكتاب
أ- دعوة النبي لليهود
كانت بداية الهجرة بداية انطلاق دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لليهود لأنهم كانوا يجاورونه في المدينة ولكن طباع اليهود لم تتبدل إنها العداوة الشديدة لهذا النبي ولمن آمن معه قال تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُو﴾9.
وتمثلت عداوتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم طيلة إقامتهم في المدينة إلى أن أخرجهم الله منها ويحدثنا القرآن عن بعض نماذج هذه العداوة
1- تآمرهم لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم
لقد كان بين النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ويهود بني النضير حلفاً، وكان يقضي أن يقوم اليهود بمعونة المسلمين عند الحاجة، ولما حلّت الحاجة إليهم كلمهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك فأظهروا الالتزام بذلك ولما جاءهما كانوا قد حاكوا مؤامرة لقتله تقضي بأن يقوم أحدهم وهو (عمرو بن جحاش) برمي حجر من فوق سطح أحد البيوت عليه. ولكن الله عز وجل أخبر نبيه بما خطط له اليهود فخرجا لنبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكانه مسرعاً إلى المدينة وتبعه المسلمون بعد ذلك، فأخبرهم بمؤامرة اليهود هذه، وسار جيش المسلمين إليهم فحاصروهم فتحصنوا داخل قلاعهم فشدد النبي الحصار عليهم وأمر بأن تقلع الأشجار القريبة من تلك القلاع واستمر الحصارُ لعدَّةِ أيامٍ، إلى أن حقن النبي دماءهم شرط أن يخرجوا من المدينة وأن لا يحملوا من الأموال إلا ما تحمله الدواب وهذا ما قصه القرآن بقوله: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللَّهِ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْالرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ*وَلَوْلاَ أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ*ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقَّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب﴾10.
2- تآمرهم على المسلمين في غزوة الخندق
لما حاصرت قريش وحلفاؤها المدينة اشترك اليهود في هذه المؤامرة، وما إن هزم الله الأحزاب حتى أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين بالتوجه مباشرة إلى حيث يقيم يهود بني قريظة شركاء الأحزاب الذين نقضوا عهدهم معه، وحاصرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكعادة اليهود في جبنهم وخوفهم من القتال رضوا بالنزول على حكَمٍ حليفٍ سابق لهم قبل الإسلام وهو سعد بن معاذ وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان حكمه عليهم بما يستحقونه فقد حكم عليهم بأن يقتل رجالهم وتقسم أموالهم وتسبى ذراريهم ونسائهم.
قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِم﴾11 ﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً*وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً﴾12.
ب- دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للنصارى
يصف الله عز وجل النصارى بأنهم أصحاب لينٍ في قبول الدعوة ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ*وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾13.
يذكر الله عز وجل صفات ثلاث تميز النصارى عن اليهود وهي أن فيهم علماء وأن فيهم رهبان وأنهم لا يستكبرون.
ولكن رغم ذلك تجد قصة المباهلة حيث إن حوارا دار بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين وفد من نصارى نجران ولما لم يثمر هذا الحوار طلبوا من النبي اللجوء إلى الملاعنة أي الدعاء بأن يلعن الله الكاذبين واستجاب لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَانَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾14.
وخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم المباهلة ومعه علي بن أبي طالب عليه السلام وابنته فاطمة الزهراء عليها السلام والحسن والحسين عليهما السلام سبطا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولما رأى النصارى ذلك خضعوا لحكم النبي وقبلوا بدفع الجزية دون أن يباهلوه.
* أولو العزم، سلسلة الدروس الثقافية,جمعية المعارف الثقافية، تموز 2006م ، 1426 هـ، ص 97 - 102
1- الأنبياء: 107.
2- الأحزاب: 40.
3- الأعراف: 157.
4- الكافي، الشيخ الكليني، ج5، ص 494.
5- الأعراف: 157.
6- الأنفال: 33.
7- فاطر: 8.
8- التوبة: 128.
9- المائدة: 82.
10- الحشر: 2-4.
11- الصياصي هي القلاع المحكمة.
12- الأحزاب: 26-27.
13- المائدة: 82-83.
14- آل عمران: 61.
source : http://almaaref.org