ینقسم القضاء والقدر بالنسبة إلى الانسان إلى قسمین:
فقسم منه یتسم بطابع الحتمیة والجبریة حیث یجری من غیر إرادة الانسان واختیاره، وقسم آخر جعله الله تعالى طوع إرادتنا وخاضعاً لاختیارنا.
ولنأخذ مثلاً على ذلک: اللسان، فهو عضو من أعضائنا وجزء من بدننا وله مقدرات کثیرة. فأحد تلک المقدرات جریان الدم فی عروقه. ومنها أیضاً تکلمه. أما جریان الدم فی عروق اللسان فهو خارج عن إرادتنا وإختیارنا، فالدم یجری فی الأوعیة الدمویة الموجودة فی اللسان سواء شئنا أم أبینا. وهنا (فی دوران الدم فی اللسان) قضاءان: الأول جریان الدم فی عروق اللسان بالتقدیر الالهی. والثانی جبریة هذا الدوران وحتمیتة فی اللسان بالتقدیر الالهی أیضاً حیث لا مجال لارادتنا واختیارنا فیه.
هذا هو أحد المقدرات بالنسبة إلى اللسان، وقد عرفنا التقدیر الالهی فیه.
وأما المقدر الآخر فهو صدور التکلم منه. ولکن الواضح أن التکلم نفسه خاضع لارادتنا، فبامکاننا أن نتکلم، وبإمکاننا أن نسکت. کما أننا نستطیع أن نصدق فی کلامنا، ونستطیع أن نکذب. فهنا أیضاً (فی تکلم اللسان) قضاءان: الأول صدور التکلم من اللسان بالتقدیر الالهی. والثانی اختیاریة التکلم، وإرادیته أیضاً بالتقدیر الالهی.
ومن هنا یتضح جلیاً أن القضاء والقدر قد یجریان بصورة جبریة.
وأحیاناً یقع القضاء الحتمی بواسطة قدر اختیاری لنا. فمثلاً نجد أن الموت أمر مسلم وحتمی على جمیع البشر بحکم القضاء الالهی، وهو صریح قوله تعالى: ﴿کُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ﴾ (1). ولکن هذا القضاء الحتمی قد یتم بنحو الموت الطبیعی وانقطاع النشاط الحیوی. کما یمکن أن یتم بإرادة واختیار من قبل شاب یملک من القوة وسلامة البدن ما تجعل باستطاعته أن یعیش سنین طوالاً فیقدم على الانتحار.
وهکذا فالشیخ الذی عمر مائة سنة حتى مات حتف أنفه، والشاب الذی لم یعش أکثر من عشرین سنة حتى انتحر بإرادته واختیاره متساویان فی أنهما ماتا بقضاء الله وقدره، مع فارق واحد وهو أنه فی الصورة الأولى کان القضاء والقدر حتمیین غیر اختیاریین، بینما فی الصورة الثانیة إستغل الشاب حریة الاختیار بالنسبة إلى القضاء والقدر وأنهى بذلک حیاته.
وعلى هذا یجب أن لا نستغرب من قول الراوی عن الرضا علیه السلام حیث یقول: (سمعت الرضا علیه السلام یقول: کان علی بن الحسین علیهما السلام إذا ناجى ربه قال: أللهم إنی قویت على معاصیک بنعمک)(2) ومعنى هذه الروایة أن الذی یقدم على المعصیة إنما یستغل نعمة الحریة والاختیار التی وهبها الله له بالقضاء والقدر استغلالاً سیئاً، فیصاب بالانحراف.
إرادتنا واختیارنا
النقطة التی تزل علیها الأقدام غالباً هی أن الناس متى سمعوا إسم القضاء والقدر ظنوا أنه حتمی وجبری. فی حین أن الحق لیس کذلک، فقد یتمثل القضاء والقدر الالهی فی اختیار الناس وإرادتهم. وهناک حدیث عن الامام علی بن أبی طالب علیه السلام یؤید هذا الموضوع بوضوح:
(عن أمیر المؤمنین أنه قال لرجل سأله بعد انصرافه من الشام فقال: یا أمیر المؤمنین أخبرنا عن خروجنا إلى الشام أکان بقضاء وقدر؟ قال علیه السلام: نعم یا شیخ، ما علوتم تلعة ولا هبطتم وادیاً إلا بقضاء الله وقدره...".
"فقال الشیخ: عند الله احتسب عنائی یا أمیر المؤمنین؟" أی: فلیس لأتعابنا التی تحملناها فی سفرنا هذا من أجر عند الله...؟
فیجیب الامام علیه السلام: "مه یا شیخ، فان الله قد عظم أجرکم فی مسیرکم وأنتم سائرون، وفی مقامکم وأنتم مقیمون، وفی انصرافکم وأنتم منصرفون، ولم تکونوا فی شیء من أمورکم مکرهین ولا إلیه مضطرین، لعلک ظننت أنه قضاء حتم وقدر لازم؟! لو کان ذلک لبطل الثواب والعقاب، ولسقط الوعد والوعید )(3)
فنجد الامام علیه السلام فی هذا الحدیث ینسب جمیع الأفعال الارادیة للبشر إلى القضاء والقدر الالهی. ولکنه مع ذلک یقول: إن هذا القضاء لم یکن حتمیاً والقدر لم یکن لازماً. وبنفس المضمون ورد حدیث آخر عن الامام الرضا علیه السلام یسأل فیه الراوی عن معنى الأمر بین الأمرین فیقول:(فما أمر بین أمرین؟ فقال: وجود السبیل إلى إتیان ما أمروا وترک ما نهوا عنه )(4)
الأمر بین الأمرین
وهنا یسأل الراوی:(فقلت له: فهل لله عز وجل مشیة وإرادة فی ذلک؟ فقال: أما الطاعات فإرادة الله ومشیته فیها: الأمر بها، والرضا لها، والمعاونة علیها، وإرادته ومشیته فی المعاصی النهی عنها، والسخط لها، والخذلان علیها" فهذه الفقرة تبین إرادة الله فی أعمال البشر وکیفیة التأثیر علیها..."قلت: فلله عز وجل فیها القضاء؟! قال: نعم، ما من فعل یفعله العبد من خیر وشر إلا ولله فیه قضاء. قلت: فما معنى هذا القضاء؟! قال: الحکم علیهم بما یستحقونه على أفعالهم من الثواب والعقاب فی الدنیا والآخرة )(5)
فنجد أن الامام الرضا علیه السلام یسند جمیع الأفعال الصالحة والطالحة للبشر إلى القضاء الالهی بکل صراحة فإن قضاء الله فی أعمال البشر هو حریتهم... تلک الحریة، وذلک الاختیار اللذین یستحق بهما الثواب فی الطاعة والعقاب فی المعصیة.
الثالثة تقف موقفاً وسطاً بین الافراط فی حق الارادة الانسانیة والتفریط فیها وهی التی ترى أن (لا جبر ولا تفویض بل أمر بین الأمرین) وهؤلاء هم (الامامیة). وأول من عبر عن هذا الاصطلاح عندهم إمامهم السادس جعفر بن محمد الصادق (رئیس المذهب الجعفری). ولقد کثر البحث والنقاش فی الاستدلال على صحة أحد هذه المذاهب الثلاثة، ولکن المثال الآتی یؤید صحة استناد أفعالنا إلى إرادتنا وحریتنا، فی حین کونها مسیرة بإرادة الله أیضاً ویثبت حقانیة مذهب الأمامیة فی الموضوع. لنفرض إنساناً کانت یده شلاء لا یستطیع تحریکها بنفسه. وقد استطاع الطبیب بأن یوجد فیها حرکة إرادیة وقتیة بواسطة قوة الکهرباء بحیث أصبح الرجل یستطیع تحریک یده بنفسه متى وصلها الطبیب بسلک الکهرباء وإذا انفصلت عن مصدر القوة لم یمکنه تحریکها أصلاً. فتحریک المریض یده والطبیب یمده بالقوة فی کل آن یوضح الأمر بین الأمرین، حیث لا تستند الحرکة إلى الرجل مستقلاً لأنها موقوفة على إیصال القوة إلى یده، وقد فرضنا أنها بفعل الطبیب. ولا تستند إلى الطبیب مستقلاً، لأن التحریک قد أصدره الرجل بإرادته، فالفاعل لم یجبر على فعله لأنه مرید ولم یفوض إلیه الفعل لأن المدد من غیره، وهکذا فالأفعال الصادرة منا بمشیئتنا، ولکننا لا نشاء شیئاً إلا بمشیئة الله. ولتفصیل الموضوع یراجع کتب العقائد والکلام المفصلة.
القضاء الالهی
ولأجل أن یتضح الموضوع للقراء الکرام بصورة أحسن نضرب مثالاً على الانتحار. فلو أن شخصاً رمى بنفسه من فوق سطح العمارة إلى الأرض المبلطة بالرخام، وقال فی نفسه: لو کان المقدر لی أن أموت فانی ألاقی حتفی وإن لم أرم بنفسی من فوق السطح، وإن کان المقدر أن أبقى حیاً فانی سأستمر على الحیاة وإن رمیت نفسی من على السطح... ففی ذلک خطأ فظیع. لأن لله تعالى عدة مقدرات جبریة بهذا الشأن، ومقدر اختیاری واحد. أما المقدرات الجبریة فهی عبارة عن:
1- إن القضاء والقدر الالهیین قد جعلا الرخام الذی یغطی ساحة هذه القاعة صلباً وقویاً.
2- خلقت جمجمة الانسان بموجب القضاء والقدر من عظم دقیق قابل للتهشم.
3- القضاء والقدر أکسب الأرض قوة الجاذبیة، حیث تجذب الأجسام التی فی الفضاء، إلیها.
4- إن القضاء والقدر الالهیین یحکمان بأن کل من یرمی بنفسه من مکان شاهق إلى أرض صلبة تتکسر جمجمته ویتلاشی مخه.
5- القضاء والقدر الالهیین یقضیان بموت الانسان عند تلاشی مخه. هذه هی الأقدار الالهیة الحتمیة والجبریة بالنسبة إلى حادثة الانتحار.
6- القضاء والقدر الالهیان یحکمان بأن للانسان الارادة والاختیار الکاملین، فله أن یرمی بنفسه من السطح ویموت أو یمتنع عن ذلک فینزل من السلم درجة درجة.
إذن، یجب أن نقول لذلک الشخص الواقف على السطح لغرض إلقاء نفسه إلى الأرض: إن القضاء الالهی بالنسبة إلى موتک وحیاتک یتبع إرادتک واختیارک. فإن اخترت الالقاء بالنفس من السطح فالمقدر أن تموت. وإن اخترت الهبوط على السلم فالمقدر لک أن تبقى حیاً. وعلى کلتا الصورتین تجری القضیة بموجب القضاء والقدر.
ومن خلال الحدیث الثانی، نتبین حریة الارادة الانسانیة، بالرغم من جریان القضاء والقدر على جمیع الأمور، لأن للانسان تمام الاختیار فی سلوک الطریق المؤدی إلى الخیر أو الشر. فإن سلک أحدهما وصل إلى النتیجة بلا شک:
(عن ابن نباتة قال: أن أمیر المؤمنین عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر. فقیل له یا أمیر المؤمنین تفر من قضاء الله؟ قال: أفر من قضاء الله إلى قدر الله عز وجل )(6)
حریة البشر
إن أهم ما یمتاز به الانسان على غیره من الموجودات على وجه الأرض هو حریته التی وهبها الله تعالى إیاه. فجمیع الترقیات وأوجه التکامل التی حصل علیها البشر لحد الآن ترجع إلى هذه المیزة. تمر قرون مدیدة على النحلة ولا تزال تبنی بیتها على شکل سداسی وستستمر تبنی بیتها على هذا الشکل فی القرون المقبلة، لأنها مجبرة فی هذا العمل ولا تملک عقلاً أو تفکیراً. تقودها غریزتها التی أودعها الله تعالى فیها. ولکن الانسان الحر لا یزال یتکیف لبیئته وظروف حیاته، فقد انتقل من سکنى الکهوف إلى تکوین الأکواخ، ومنها إلى إنشاء القصور الضخمة التی نراها الیوم.
للانسان أن یقرر مصیره
إن جانباً من القضاء والقدر یرجع إلى إرادتنا واختیارنا. وان الرسالات السماویة تدور حول أفعالنا الارادیة. ولهذا فان الثواب والعقاب من قبل الله نظیر الجزاء والعقاب البشری فی أنه یرجع إلى إرادة البشر واختیارهم.
وهکذا فإن لکل منا أن یقرر مصیره بیده. وما أکثر أولئک الذین یدفعهم الکسل وحب الذات إلى التقصیر فی اداء الواجبات الاجتماعیة اللازمة، ثم ینسبون الشقاء الذی یلاقونه إلى القضاء والقدر، فی حین أنهم کانوا یملکون الحریة الکاملة، ولم یستغلوا هذه الحریة استغلالاً حسناً بل أساؤا التصرف إلیها وجلبوا الشقاء لأنفسهم .
إن الله تعالى یقرر فی القرآن الکریم أن الذین یرثون الأرض ولهم الحق فی أن یقودوا بزمامها هم الرجال الصالحون فقط: ﴿وَلَقَدْ کَتَبْنَا فِی الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّکْرِ أَنَّ الْأَرْضَ یَرِثُهَا عِبَادِیَ الصَّالِحُونَ﴾ (7).
والعباد الصالحون هم الذین وصلوا إلى جمیع مدارج الکمال المادی والمعنوی بفضل الایمان والعلم. وفی ظل الفضائل الخلقیة والملکات الطاهرة ونتیجة الجهد والجد... وبذلک صاروا یستحقون إسم الانسان الحقیقی.
إن القضاء الحتمی والذی لا یقبل التخلف فی هؤلاء الرجال الصالحین هو أن یرثوا حکومة الأرض ولکن الوصول إلى مقام الصلاح واستحقاق تلک الدرجة (قدر) إختیاری یتعلق به ذلک القضاء الحتمی... وهؤلاء هم الذین یتمکنون أن یتبعوا النبی صلى الله علیه وسلم بإرادتهم واختیارهم ویصلوا إلى المقام الذین یستحقون معه وراثة الأرض. وهم الذین إن استغلوا حریتهم التی وهبها الله إیاهم استغلالاً سیئاً هووا إلى هوة سحیقة من الجهل والالحاد والفساد والکسل والأنانیة.
نستنتج مما سبق أن العالم کله یدار بواسطة القضاء والقدر. أی أن السنن الآلهیة هی التی تحکم فی هذا الکون. وکذلک الأمور التی ترتبط بالإنسان. فانها خاضعة للقضاء والقدر، غایة ما هناک أن جانباً من القضاء والقدر المتعلق بالبشر یکون مصیراً حتمیاً لا أثر لاختیارنا وإرادتنا فیه کدقات القلب ودوران الدم... وجانباً منه تابع لارادتنا واختیارنا، ولنا أن نستغله إما استغلالاً حسناً أو سیئاً.
المصادر :
1- آل عمران:185
2- بحار الأنوار للمجلسی ج 3-ص:3.
3- تحف العقول ص:468.
4- بحار الأنوار ج 3ص:5.چ
5- بحار الأنوار ج 3ص:5.
6- بحار الأنوار ج 3-33.
7- الأنبیاء:105
source : .www.rasekhoon.net