إن زیارة القبور من المسائل الفرعیة الفقهیة ، وهذه المسألة شأن سائر المسائل یرجع فیها إلى الکتاب والسنة حتى یعلم جوازها أو عدم جوازها ، ولا یتهم القائل بجوازها بالشرک .
إن زیارة القبور تنطوی على آثار أخلاقیة وتربویة هامة ، لأن مشاهدة المقابر التی تضم فی طیاتها مجموعة کبیرة من رفاة الذین عاشوا فی هذه الحیاة ، ثم انتقلوا إلى الآخرة ، تؤدی إلى الحد من الطمع والحرص على الدنیا ، وربما یغیر سلوک الإنسان فیترک الظلم والمنکر ویتوجه إلى الله والآخرة . لذا یقول الرسول الأعظم صلى الله علیه وآله وسلم :( زوروا القبور فإنها تذکرکم بالآخرة ) . ( 1 )
نعم یستفاد من بعض الأحادیث أن النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " نهى یوما عن زیارة القبور ثم رخصها ، ولعل النهی کان لملاک آخر ، وهو أن أکثر الأموات - یومذاک - کانوا من المشرکین ،
فنهى النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " عن زیارتهم ، ولما کثر المؤمنون بینهم رخصها بإذن الله عز وجل ، وقال :( کنت نهیتکم عن زیارة القبور فزوروها فإنها تزهد فی الدنیا وتذکر فی الآخرة ) . ( 2 )
وقالت عائشة : إن رسول الله رخص فی زیارة القبور ، وقالت : إن النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " قال : أمرنی ربی أن آتی البقیع وأستغفر لهم . قلت : کیف أقول یا رسول الله " صلى الله علیه وآله وسلم " ؟ قال : قولی : السلام على أهل الدیار من المؤمنین والمؤمنات یرحم الله المستقدمین منا والمستأخرین ، إنا إن شاء الله بکم لاحقون . (3 )
وجاء فی الصحاح والمسانید صور الزیارات التی زار بها النبی صلى الله علیه وآله وسلم البقیع . قال مؤلف کتاب " الفقه على المذاهب الأربعة " : زیارة القبور مندوبة للاتعاظ وتذکر الآخرة وتتأکد یوم الجمعة ، وینبغی للزائر الاشتغال بالدعاء والتضرع ، والاعتبار بالموتى ، وقراءة القرآن للمیت فإن ذلک ینفع المیت على الأصح ، وبما ورد أن یقول الزائر عند رؤیة القبور : " السلام علیکم دار قوم مؤمنین وإنا إن شاء الله بکم لاحقون " ولا فرق فی الزیارة بین کون المقابر قریبة أو بعیدة (4 ) بل یندب السفر لزیارة الموتى خصوصا مقابر الصالحین .
زیارة القبور
هذه کلمات فقهاء المذاهب الأربعة حول زیارة القبور . (5 )
زیارة قبر النبی صلى الله علیه وآله وسلم هذا کله حول زیارة قبور المسلمین ، وأما زیارة قبر النبی وأئمة الإسلام والشهداء والصالحین فلا شک أن لزیارتهم نتائج بناءة نشیر إلیها ، کما نشیر إلى الأحادیث الواردة حول زیارة قبورهم لیکون البحث مرفقا بالتحلیل وجامعا للدلیل .
أما التحلیل : إن زیارة مراقد هذه الشخصیات هو نوع من الشکر والتقدیر على تضحیاتهم وإعلام للجیل الحاضر بأن هذا هو جزاء الذین یسلکون طریق الحق والهدى ، والفضیلة والدفاع عن المبدأ والعقیدة ، وهذا لا یدفعنا إلى زیارة قبورهم فحسب ، بل إلى إبقاء ذکریاتهم حیة ساخنة ، والمحافظة على آثارهم وإقامة المهرجانات ، فی ذکرى موالیدهم ، وعقد المجالس وإلقاء الخطب المفیدة فی أیام التحاقهم بالرفیق الأعلى ، وهذا شئ یدرکه کل ذی مسکة .
ولأجل ذلک ترى أن الأمم الحیة یتسابقون فی زیارة مدفن رؤسائهم وشخصیاتهم الذین ضحوا بأنفسهم وأموالهم فی سبیل نجاة الشعب ، وإنقاذه من مخالب المستعمرین والظالمین ، ویقیمون المجالس لإحیاء معالمهم ، دون أن یخطر ببال أحد أن هذه الأمورعبادة لهم ، فأین التعظیم للشخصیات من عبادتهم ، فإن التعظیم تقدیر لجهودهم ، والعبادة تألیههم واتخاذهم أربابا . أفهل هناک من یخلط بین الأمرین منا أو من غیرنا ؟ ! کلا ، لا ، شریطة الإمعان فی مقومات العبادة وتعریفها الماضیتین فی الفصلین السابقین .
إذا وقفت على الآثار البناءة لزیارة مطلق القبور وزیارة قبور الأولیاء والصالحین ، نذکر خصوص عندما ورد من الروایات التی جاء فیها الحث على زیارة قبر النبی الأعظم صلى الله علیه وآله وسلم .
أخرج أئمة المذاهب الأربعة وحفاظها فی الصحاح والمسانید أحادیث جمة فی زیارة قبر النبی " صلى الله علیه وآله وسلم " نذکر شطرا منها :
1 . عن عبد الله بن عمر مرفوعا : من زار قبری وجبت له شفاعتی .
2 . عن عبد الله بن عمر مرفوعا : من جاءنی زائرا لا تحمله إلا زیارتی کان حقا علی أن أکون له شفیعا یوم القیامة .
3 . عن عبد الله بن عمر مرفوعا : من حج فزار قبری بعد وفاتی کمن زارنی فی حیاتی .
4 . عن عبد الله بن عمر مرفوعا : من حج البیت ولم یزرنی فقد جفانی .
5 . عن عمر مرفوعا : من زار قبری أو من زارنی کنت له شفیعا أو شهیدا .
6 . عن حاتم بن أبی بلتعة مرفوعا : من زارنی بعد موتی فکأنما زارنی فی حیاتی .
7 . عن أبی هریرة مرفوعا : من زارنی بعد موتی فکأنما زارنی وأنا حی ، ومن زارنی کنت له شهیدا أو شفیعا یوم القیامة .
8 . عن أنس بن مالک مرفوعا : من زارنی فی المدینة محتسبا کنت له شفیعا .
9 . عن أنس بن مالک : من زارنی میتا فکأنما زارنی حیا ، ومن زار قبری وجبت له شفاعتی یوم القیامة ، وما من أحد من أمتی له سعة ثم لم یزرنی فلیس له عذر .
10 . عن ابن عباس مرفوعا : من زارنی فی مماتی کمن زارنی فی حیاتی ، ومن زارنی حتى ینتهی إلى قبری کنت له یوم القیامة شهیدا ، أو قال شفیقا .
فهذه أحادیث عشرة أخرجها الحفاظ من المحدثین ، وقد جمع أسانیدها وطرقها وصححها تقی الدین السبکی ( المتوفى سنة 756 ه ) فی کتاب شفاء السقام فی زیارة خیر الأنام فمن أراد التفصیل فلیرجع إلیه . (6)
ونظم الشیخ شعیب الحریفیش فی " الروض الفائق " هذا المعنى فی قصیدة مطلعها :
من زار قبر محمد * نال الشفاعة فی غد
بالله کرر ذکره * وحدیثه یا منشدی
واجعل صلاتک دائما * جهرا علیه تهتدی
فهو الرسول المصطفى * ذو الجود والکف الندی
وهو المشفع فی الورى * من هول یوم الموعد
والحوض مخصوص به * فی الحشر عذب المورد
صلى علیه ربنا * عندما لاح نجم الفرقد (7)
المصادر :
1- شفاء السقام : 107 .
2- سنن ابن ماجة : 1 / 117 ، باب عندما جاء فی زیارة القبور .
3- صحیح مسلم : 2 / 64 ، باب عندما یقال عند دخول القبور .
4- إلا الحنابلة فقالوا إذا کانت القبور بعیدة فزیارتها مباحة لا مندوبة .
5- الفقه على المذاهب الأربعة : 1 / 540 .
6- شفاء السقام فی زیارة خیر الأنام ، الباب الأول ، ولاحظ أیضا وفاء الوفاء بأحوال دار المصطفى : 4 / 1336 .
7- الروض الفائق : 2 / 238 .
source : rasekhoon