عربي
Friday 27th of December 2024
0
نفر 0

درجات الايمان

جعل الله سبحانه وتعالی بدء الإيمان شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، صلى الله عليه، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بعد النبوة عشر سنين أو بضع عشر سنة يدعو إلى هذه الشهادة خاصة، وليس الإيمان المفترض على العباد يومئذ سواها، فمن أجاب إليها كان مؤمنا، لا يلزمه اسم في الدين غيره، وليس يجب عليهم زكاة ولا صيام ولا غير ذلك من شرائع الدين، وإنما كا
درجات الايمان

جعل الله سبحانه وتعالی بدء الإيمان شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، صلى الله عليه، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بعد النبوة عشر سنين أو بضع عشر سنة يدعو إلى هذه الشهادة خاصة، وليس الإيمان المفترض على العباد يومئذ سواها، فمن أجاب إليها كان مؤمنا، لا يلزمه اسم في الدين غيره، وليس يجب عليهم زكاة ولا صيام ولا غير ذلك من شرائع الدين، وإنما كان هذا التخفيف عن الناس يومئذ فيما يرويه العلماء رحمة من الله لعباده ورفقا بهم، لأنهم كانوا حديث عهد بجاهلية وجفائها، ولو حملهم الفرائض كلها معا نفرت منه قلوبهم، وثقلت على أبدانهم، فجعل ذلك الإقرار بالألسن وحدها هو الإيمان المفترض على الناس يومئذ، فكانوا على ذلك إقامتهم بمكة كلها، وبضعة عشر شهرا بالمدينة وبعد الهجرة، فلما أثاب الناس ألى الإسلام وحسنت فيه رغبتهم، زادهم الله في إيمانهم أن صرف الصلاة إلى الكعبة، بعد أن كانت إلى بيت المقدس فقال( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ )(1)
ثم خاطبهم وهم بالمدينة باسم الإيمان المتقدم لهم، في كل ما أمرهم به أو نهاهم عنه، فقال في الأمر( يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا )(2)و( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ)(3)
وعلى هذا كل مخاطبة كانت لهم فيها أمر أو نهي بعد الهجرة وإنما سماهم بهذا الاسم بالإقرار وحده إذ لم يكن هناك فرض غيره، فلما نزلت الشرائع بعد هذا وجبت عليهم وجوب الأول سواء، لا فرق بينها، لأنها جميعا من عند الله وبأمره وبإيجابه، فلو أنهم عند تحويل القبلة إلى الكعبة أبوا أن يصلوا إليها وتمسكوا بذلك الإيمان الذي لزمهم اسمهم، والقبلة التي كانوا عليها، لم يكن ذلك مغنيا عنهم شيئا، ولكان فيه نقض لإقرارهم، لأن الطاعة الأولى ليست بأحق باسم الإيمان من الطاعة الثانية، فلما أجابوا الله ورسوله إلى قبول الصلاة كإجابتهم إلي الإقرار، صارا جميعا معا هما 3/2 يؤمئذ الإيمان، إذ أضيفت الصلاة إلى الإقرار.
والشهيد على أن الصلاة من الإيمان قول الله عز وجل: (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيم ) (4) وإنما نزلت في الذين توفوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وهم على الصلاة إلى بيت المقدس، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، فنزلت هذه الآية. (5)
فأي شاهد يلتمس على أن الصلاة من الإيمان بعد هذه الآية ؟. فلبثوا بذلك برهة من دهرهم، فلما أن داروا إلى الصلاة مسارعة، وانشرحت لها صدورهم، أنزل الله فرض الزكاة في إيمانهم إلى ما قبلها، فقال: (أَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ) (6) وقال: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا) (7) فلو أنهم ممتنعون من الزكاة عند الإقرار وأعطوه ذلك بالألسنة. وأقاموا الصلاة غير أنهم ممتنعون من الزكاة كان ذلك مزيلا لما قبله، ناقضا للإقرار والصلاة كما كان إيتا الصلاة قبل ذلك ناقضا لما تقدم من الإقرار. والمصدق لهذا جهاد أبي بكر الصديق رحمه الله عليه بالمهاجرين والأنصار على منع العرب الزكاة، كجهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الشرك سواء، لا فرق بينها في سفك الدماء وسبي الذرية واغتنام المال، فإنما كانوا ما نعين لها غير جاحدين بها، ثم كذلك كانت شرائع الإسلام كلها، كلما نزلت شريعة صارت مضافة إلى ما قبلها لاحقة به، ويشملها جميعا اسم الإيمان فيقال لأهله مؤمنون.
وهذا هو الموضع الذي غلط فيه من ذهب إلى أن الإيمان بالقول، لما سمعوا تسمية الله إياهم مؤمنين، أوجبوا لهم الإيمان كله بكماله، كما غلطوا في تأويل حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الإيمان ما هو ؟ فقال: أن تؤمن بالله وكذا وكذا، (8) وحين سأله الذي عليه رقبة مؤمنة عن عتق العجمية فأمر بعتقها وسماها مؤمنة،(9) وإنما هذا على ما أعلمتك من دخولهم في الإيمان ومن قبولهم وتصديقهم بما نزل منه، وإنما كان ينزل متفرقا كنزول القرآن.
والشاهد لما نقول والدليل عليه كتاب الله تبارك وتعالى، وسنة رسول الله صلى الله عليه، فمن الكتاب قوله( وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)(10) وقوله (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)(11) في مواضع من القرآن مثل هذا.
أفلست ترى أن الله تبارك وتعالى لم ينزل عليهم الإيمان جملة كما لم ينزل القرآن جملة ؟ فهذه الحجة من الكتاب، فلو كان الإيمان مكملا بذلك الإقرار ما كان للزيادة إذا معنى، ولا لذكرها موضع.
وأما الحجة من السنة والآثار المتواترة في هذا المعنى من زيادات قواعد الإيمان بعضها بعد بعض، ففي حديث منها أربع، وفي آخر خمس، وفي الثالث تسع، وفي الرابع أكثر من ذلك.
فمن الأربع، حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أن وفد عبد القيس قدموا عليه فقالوا يا رسول الله إنا هذا الحي من ربيعة، وقد حالت بيننا وبينك كفار مضر، فلسنا نخلص إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر نعمل به وندعو إليه من وراءنا، فقال آمركم بأربع، وأنهاكم عن أريع، الإيمان، ثم فسره لهم: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنتم .
وإن كان زائدا في العدد فليس هو بخلاف ما قبله، وإنما تلك دعائم وأصول، وهذه فروعها زائدات في شعب الإيمان من غير تلك الدعائم. فنرى والله أعلم أن هذا القول آخر ما وصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان، لأن العدد إنما تناها به، وبه كملت خصاله. والمصدق له قول الله تبارك وتعالى( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي)(12)
ومنه حديث عمار: " ثلاث من الإيمان: الإنفاق من الإقتار، والإنصاف من نفسك، وبذل السلام على العالم ". ثم الأحاديث المعروفة عند ذكر كمال الإيمان حين قال: " أي الخلق أعظم إيمانا ؟ فقيل الملائكة، ثم قيل نحن يا رسول الله، فقال بل قوم يأتون بعدكم، فذكر صفتهم. ومنه أيضا قوله: " إن أكمل، أو من أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا " وكذلك قوله: " لا يؤمن الرجل الإيمان كله حتى يدع الكذب في المزاح، والمراء وإن كان صادقا " وقد روى مثله أو نحوه عن عمر بن الخطاب وابن عمر. (13)
ثم من أوضح ذلك وأبينه حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة حين قال: " فيخرج من النار من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، ومثقال ذرة وإلا صولب، ومنه حديثه في الوسوسة حين سئل عنها فقال " ذلك صريح الإيمان " وكذلك حديث علي عليه السلام: " إن الإيمان يبدأ لمظة في القلب فكلما ازداد الإيمان عظما ازداد ذلك البياض عظما في أشياء من هذا النحو كثيرة يطول ذكرها تبين لك التفاضل في الإيمان بالقلوب والأعمال، وكلها يشد أو أكثرها أن أعمال البر من الإيمان، فكيف تعاند هذه الآثار بالإبطال والتكذيب "! (14)
ومما يصدق تفاضله بالأعمال قول الله جل ثناؤه ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * * أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا)(15) فلم يجعل الله للإيمان حقيقة إلا بالعمل على هذه الشروط، والذي يزعم أنه بالقول خاصة يجعله مؤمنا حقا وإن لم يكن هناك عمل فهو معاند لكتاب الله والسنة.
ومما يبين لك تفاضله في القلب قوله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ)(16) ألست ترى أن هاهنا منزلا دون منزل ( اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ ) كذلك ومثله قوله( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ)(17). فلولا أن هناك موضع مزيد، ما كان لأمره بالإيمان معنى، ثم قال أيضا : ألم*أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ *وَلَقَد فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)(18). وقال: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ )(19)وقال (وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ)(20)
أفلست تراه تبارك وتعالى، وقد امتحنهم بتصديق القول بالفعل، ولم يرض منهم بالإقرار دون العمل، حتى جعل أحدهما من الآخر ؟ فأي شيء يتبع بعد كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومنهاج السلف بعده الذين هم موضع القدوة والإمامة ؟!
فالأمر الذي عليه السنة عندما ما نص عليه علماؤنا ؟ مما اقتصصنا في كتابنا هذا أن الإيمان بالنية والقول والعمل جميعا، وأنه درجات بعضها فوق بعض، إلا أن أولها و أعلاها الشهادة باللسان: كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي جعله فيه بضعة وسبعين جزءا، فإذا نطق بها القائل، وأقر بما جاء من عند الله لزمه اسم الإيمان بالدخول فيه بالاستكمال عند الله، ولا على تزكية النفوس، وكلما ازداد لله طاعة وتقوى، ازداد به إيمانا.
المصادر :
1- البقرة /144
2- الحج /77
3- المائدة /6
4- البقرة /143
5- أخرجه البخاري من حديث البراء، والترمذي من حديث ابن عباس وصححه
6- البقرة 83/110
7- التوبة /103
8- الحديث (119) من " كتاب الإيمان " لابن أبي شيبة
9- رواه مسلم،وانظر " ابن أبي شيبة " رقم 84
10- التوبة /124
11- الأنفال /2
12- المائدة /3
13- أخرجه أحمد (2/352-353، 364)
14- أخرجه ابن أبي شيبة في كتابه ( رقم 8)
15- الأنفال /2-4
16- الممتحنة /10
17- النساء /136
18- العنكبوت 1-3
19- العنكبوت /10
20- آل عمران /


source : rasekhoon
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الشفاعة عند الشيعة الإمامية
استدراك خائب
الاسلام دين الفطرة
الأثر التربوي للبداء
ما فائدة البحث عن إمامة عليّ في هذه الأزمان؟
حركة الإمام المهدي «عجل اللّه فرجه» والحتمية ...
الخروج من القبر
القوانين المحدودة والحاجات غير المتناهية
عدلُ اللهِ الشّاملْ
قلب المؤمن عرش الله

 
user comment