مسألة الحسن والقبح من المسائل المهمة في بحث العدل الإلهي حيث رأى بعض المسلمين أنه لا فائدة للجدال والنقاش ولابد من الإيمان القطعي بعدالة الله دون النظر والتمحيص فهو سبحانه المدبر القدير العادل وما يفعله صحيح وحسن فلا نقاش ولا جدال بعد ذلك ومن المؤكد أن هذه الفئة من المسلمين تمتاز بالسطحية والسذاجة لذلك لا تتدخل في مواضيع تظن بأنها ستتورط فيها حينما يحتدم النقاش وربما تخشى أن ينفلت منها زمام الإيمان فتلجأ لهذا الحل أو أنها تعتقد بأن هذه الإثارة وهذه الاستفهامات هي في غنىً عنها لذلك لا تبحث عن صفة العدالة إلا كصفة عابرة موجزة نابعة عن قناعات مترسخة بطريقة ساذجة وهي بهذا الفعل تترك تراكمات الشبهات عالقة في ذهنية الناس دون جواب فمصيرها محدد على مفترق طريقين فإما أن تموت هذه التساؤلات موتاً بطيئاً عبر القناعات البسيطة - كما قلنا - وهذا هو إيمان العجائز ولدينا - عليكم بإيمان العجائز - ويبدو أن ذلك مهم في التقية والمسائل الأمنية خوفاً من الجائرين - وأما الطريق الثاني للشبهات فهو طريق النمو والاستفحال بالفعل فإنها ستنمو وتكبر في ذهنية الناس حتى تنفجر بالانحراف والالتواء السلوكي أحياناً كما حدث ذلك مع بعض الشباب. وفي تاريخنا الإسلامي تناولت مدرستان فكريتان هذه المسألة. ذهبت المدرسة الأولى إلى أن ميزان العدل والعدالة هو فعل الله سبحانه فكل ما يفعله الله هو عين العدالة وقالوا بوحدة الفاعلية لذلك رأوا كل الأعمال والأفعال في الكون صادرة عن الله عز وجل بما فيها إبداع الخلق والكائنات وافعال الإنسان والحيوان والحشرات كلها أفعال الله العادلة فلو أعطى الله سبحانه - مثلاً - للمظلوم حقّ الثأر أو لم يعطه حقه فهو عدل مطلق في كل حال لأنه من الله العادل فإذن لا يوجد مفهوم الظلم لديها على الإطلاق واستدلوا على رأيهم بأن القدرة الإلهية قدرة شاملة وعامة وغير عاجزة عن أداء كل أنواع الأفعال فلو لم يفعل الله تعالى الشر والظلم والفساد لكانت قدرته ناقصة وعاجزة عن بعض الأعمال فإذن كل الأفعال من الله سواء كانت خيراً أو شراً صلاحاً أو فساداً. فهم بفكرتهم هذه أرادوا تنزيه الله سبحانه من الشريك الفاعل ولكنهم نزهوا الطغاة والظالمين من ظلمهم وقبيح أعمالهم لأنهم نسبوا الأعمال كلها إلى الله القدير! - والعياذ بالله -. قال الشهيد المطهري في العدل الإلهي: (لا مفهوم للظلم وهؤلاء لا يعرفون علامة العدل غير أنه فعل الله فكل فعلٍ هو فعل الله فهو إذن عدل وليس كل ما هو عدل فهو فعل الله وحسب وجهة نظرهم لا يوجد للعدل ضابط... فقد أنكروا العدل عمليّاً ولهذا السبب عرف مخالفوهم - وهم الشيعة والمعتزلة باسم (العدلية) إشارة إلى أن تفسير الأشاعرة للعدل إنما هو إنكار في الحقيقة لمضمون العدل... وأدى هذا إلى إنكار صفتي الحسن القبح العقليين بصورة جذرية فقالوا لا يعني مفهوم العدالة سوى كون الفعل منسوباً إلى الله)(18). فعقيدة الأشاعرة أن الله خالق لعبده وما عمل، بينما مذهب المعتزلة إن العبد يخلق أفعال نفسه واستدل الأشاعرة على مذهبهم بالآية الكريمة في سورة الصافات، الآية 96: (والله خلقكم وما تعملون) فالله هو الذي خلق الخير وأراده من عباده وسهل لهم طريقه وخلق الشر ولم يرضه من عباده وحذرهم منه لقوله: (ولا يرضى لعباده الكفر). [سورة الزمر، الآية 7]. وللرد عليهم ببساطة نقول كيف يجيبون الله سبحانه وتعالى حيث نسب الظلم إلى العباد في اكثر من آية في القرآن المجيد فقال سبحانه: (وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) وفي آية أخرى يصف المنحرفين: (... ففسقوا فيها...) وما ندري كيف يواجهون هذه الآيات الواضحة في تحميل المظالم على العباد.. أما الآية الكريمة (والله خلقكم وما تعملون) سبقتها الآية (قال أتعبدون ما تنحتون) فهو استفهام معناه الإنكار والتوبيخ أي كيف يصح أن يعبد الإنسان ما يعمله بيده فإنهم كانوا ينحتون الأصنام بأيديهم (والله خلقكم وما تعملون) أي وخلق ما عملتم من الأصنام فكيف تدعون عبادته وتعبدون معمولكم؟ وهذا كما يقال فلان يعمل الحصير وهذا الباب من عمل فلان النجار، قال الحسن معناه وخلق أصل الحجارة التي تعملون منها الأصنام وهذا يجري مجرى قوله: (تلقف ما يأفكون) وقوله تلقف ما صنعوا في أنه أراد المنحوت من الجسم هنا دون العرض الذي هو النحت الذي كما أراد هناك المأفوك فيه والمصنوع فيه من الحبال والعصي دون العرض الذي هو فعلهم فليس لأهل الجبر تعلق بهذه الآية في الدلالة على أن الله سبحانه خالق لأفعال العباد لأن من المعلوم أن الكفار لم يعبدوا نحتهم الذي هو فعلهم وإنما كانوا يعبدون الأصنام التي هي الأجسام. وقوله ما تنحتون هو ما يعملون في المعنى على أن مبنى الآية على التقريع للكفار والازراء عليهم بقبيح فعلهم ولو كان معناه والله خلقكم وخلق عبادتكم لكانت الآية إلى أن تكون عذراً لهم اقرب من أن تكون لوماً وتجنياً. ولكان لهم أن يقولوا ولم توبخنا على عبادتها والله تعالى هو الفاعل لذلك؟ فتكون الحجة لهم لا عليهم ولأنه قد أضاف العمل إليهم بقوله تعملون فكيف يكون مضافاً إلى الله تعالى وهذا تناقض(19). أما المدرسة العدلية فذهبت إلى أن العقل يرى أن العدل حسن بذاته والظلم قبيح بذاته وبما أن الله سبحانه هو الخالق المدبر للكون بما فيه الإنسان، فقد أفاض على العباد نعمة العقل (فهو إذن لا يترك عملاً يحكم العقل بحسنه ولا يفعل عملاً يحكم العقل بقبحه)(20) فتحكم بأن الله عز وجل منزه عن الظلم وعن فعل القبيح والفساد. (ما الله يريد ظلماً للعباد). [سورة غافر، الآية 31]. (والله لا يحب الفساد)3. [سورة البقرة، الآية 205]. فهذه المدرسة لم تنف الفاعلية عن غيره تعالى ولم ينفوا الظلم الاجتماعي والفساد ورفضوا مبدأ الفاعلية الواحدة لجميع الأفعال واعتبروا الحسن والقبح عقليين ذاتيين. فقد قال النبي (صلى الله عليه وآله): (حجة الله على العباد النبي والحجة فيما بين العباد ونبي الله العقل)(21). وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (أما العدل فأن لا تنسب إلى خالقك ما لامك عليه)(22). فمن هنا ندرك معنى العدالة الإلهية في النظام المتوازن الدقيق في العالم من الذرات والالكترونات إلى المجرات ومن عالم النبات والحيوان إلى الحشرات والديدان فكل السنن الكونية والقوانين التي تسير عليها الطبيعة وهذا الإنسان المخلوق العجيب الذي يعتبر بحد ذاته معجزة فريدة فقد قال سبحانه: (.. وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات) يقول الدكتور كارل - لا شيء أقرب إلينا منا ومع ذلك فإن في هذا الجسم من الأسرار الكثيرة ما لا علم لنا بها - وأكثر من ذلك وضع قوانين العدالة الاجتماعية فردّ المظالم وقانون العقوبات الإسلامي من كفارات وديات وقصاص للمحافظة على توازن المجتمع خلقياً واجتماعياً وبعد كل ذلك هنالك يوم الحساب حيث المحاسبة الدقيقة التي تجريها محكمة العدل الإلهي إيجاباً أو سلباً - كل ذلك يجعلنا نؤمن بعدالة الله سبحانه وتعالى وأن الحسن والقبح ذاتيان عقليان. |
18 - المطهري، العدل الإلهي، ص50. 19 - مجمع البيان في تفسير القرآن للعلامة الطبرسي، المجلد 5، الجزء 23، ص70. 20 - المطهري، العدل الإلهي، ص52. 21 - أصول الكافي، ج1، ص25. 22 - أصول الكافي، ص442. |
قاعدة اللطف الإلهي |
هي العناية الإلهية العامة بعباده وتشمل جميع التسهيلات الربانية في العبادة والطاعة وجميع أنواع الرحمة والحنان لعموم البشر فقد قال سبحانه: (الله لطيف بعباده). [سورة الشورى، الآية 19]. (إن الله لطيف خبير). [سورة الحج، الآية 63]. (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر). [سورة البقرة، الآية 185]. (ما جعل عليكم في الدين من حرج). [سورة الحج، الآية 78]. (... ولكن الله حبّب إليكم الإيمان وزيّنه في قلوبكم وكرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون). [سورة الحجرات، الآية 7]. (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). [سورة الأنبياء، الآية 107]. وقال النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله): (جئتكم بالشريعة السمحة السهلاء) - (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) من خلال النصوص المقدسة يتضح لنا مدى لطف الله بعباده وعنايته المتميزة بالإنسان فيريد بنا اليسر ويحبب لنا الإيمان ولا يحملنا فوق طاقتنا من الحرج والعسر ويبعدنا عن ارتكاب المعاصي فهو لطيف وخبير. هذا الدعم الغيبي الملموس نسميه - قاعدة اللطف الإلهي - وتكون شاملة للحياة الشخصية والاجتماعية والنفسية... فالله تبارك وتعالى يوفّر مناخاً معيناً وأجواءً مناسبة تساعد الإنسان على معرفة دينه وإقامة أحكامه وأداء واجباته وإقامة عباداته وعلى المستوى الفكري تساعده الأجواء على التوصل بالبرهان لمعرفة الله وقدرته وعظمته ففي هذا الإطار الإيماني الساخن يندفع الإنسان لطاعة الله ويبتعد عن معاصيه وكل إنسان مؤمن يستطيع أن يحصي وقفات مهمة في حياته الشخصيّة ويتذكرها إنه كاد أن يقع فريسة في شراك الشيطان والعدو ولكن عناية الرحمن تتدخل في الوقت الصعب ليتم انقاذه. (وما أبرّئ نفسي، إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي). [سورة يوسف، الآية 53]. وفي بعض الأحيان تبرز هذه العناية الإلهية بشكل لا يقبل أدنى شك أنها عناية ملموسة يشعر بها الإنسان المؤمن في أحلك الظروف وأعسر الأوقات وأكثر من هذا نلاحظ نفس الشعور وبنفس الدرجة عند عموم الناس حتى غير المؤمنين من أولئك الذين يمرّون بمشاكل صحيّة ونفسية متأزمة ومفاجآت انتكاسية في حياتهم - هنا في اللحظة المهمة تتجسد أمامهم عناية الرحمن بأجلى صورها حيث يسبب الأسباب بتدبيره فينقذ الإنسان من أزمته ونقرأ في الدعاء (... يا مسبب الأسباب...) (ذلّت لقدرتك الصعاب، وتسببت بلطفك الأسباب) ومن أبرز صور العناية الإلهية إرساله الأنبياء (عليهم السلام) هداةً ومصلحين وختم رسالات السماء بالقرآن الكريم ومن عنايته لم يترك الأمة الإسلامية دون قيادة شرعية مستمرة بعد النبي (صلى الله عليه وآله) فنصب لنا الأئمة الأطهار قادةً وهداة كي تستقيم المسيرة الفكرية والتطبيقية العملية للشريعة الإسلامية، ومن ألطافه ومننه أنه شمل عباده بعطفه وحنانه مادياً وصحياً وروحياً كي يسعدهم في حياتهم الدنيوية ويوم يقوم الحساب ومن لطفه أن الدين الإسلامي دين السماحة واليسر والاستيعاب لكل الظروف القاسية إزاء أداء الواجبات الدينية كالعبادات بالتحديد فالصلاة واجبة بالصورة المألوفة شرطاً كالطهارة وأركاناً وأجزاءً فإذا مرّت ظروف لن تسمح باستخدام الماء في الطهارة يتحول المسلم للطهارة الترابية، وإن لم يستطع القيام في الصلاة فليجلس أو يستلق وإن كان خائفاً فهناك صلاة الخوف على ما موجود في الرسائل العملية لفقهاء الإسلام من تفصيل ومراعاة لكافة الظروف المتوقعة. وكذلك من ألطاف الله أنه يعطي للجميع فرص الاستقامة والخير والصلاح ويعطي للجميع البركات والأرزاق فنقرأ في الدعاء: (.. يا من يعطي من سأله ويا من يعطي من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنناً منه ورحمة...). وبهذه القاعدة - اللطف الإلهي - يتجاوز الله كثيراً عن المسيئين والمخطئين حيث رحمته المباركة تسع كل شيء فلذلك تعلمنا السنة بالدعاء التالي (اللهم عالمنا بلطفك ولا تعاملنا بعدلك). (اللهم إني اسألك برحمتك التي وسعت كل شيء...). فهو رحيم ورحمن ومنّان وحنّان والممتحن لعباده والآمر لهم بالطاعة بملء إرادتهم دون إكراه وقسر (لا إكراه في الدين) ليظهر واقع الإنسان المؤمن عن غيره ويكتشف قوة إيمانه والتزامه وحبه أو بالعكس - لا سمح الله -. يقول سبحانه: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً). [سورة الملك، الآية 2]. وجعل التكليف الإلهي من لطفه بعباده يسيراً بالإمكانيات المتوفرة فيقول (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها...) كي لا يدفع الإنسان إلى الزاوية الحرجة في تطبيق أوامره. |