عربي
Friday 15th of November 2024
0
نفر 0

محدودية الإنسان وعجزه

محدودية الإنسان وعجزه

لو أمعن الإنسان النظر وعمق الفكر وأبصر الواقعيات بنظرة أوسع أدرك أنه لا ينبغي أن يحسب لقدراته وطاقاته وقواه حساباً أمام جغرافيا الوجود العظيمة ، وأن المعلومات التي حصل عليها الإنسان عن نظام الخلقة بمساعيه المتاصلة ليست إلاّ في حدّ الصفر ، فإن العلوم وإن كانت قد تقدمت خطوات وسيعة إلاّ أنه لا يمكن قياس ما لا نعلم بالذي تعلمناه بأيّ نسبة من مقدار أو عدد ، من يدري ـ مثلاً ـ لعل آلافاً بل ملايين من أنواع البشر أو أسمى منه جاءت إلى هذه الدنيا ومضت ، ولعل في المستقبل يكون هكذا .

إن الذي يسميه هواة العلوم اليوم علوماً ومعارف ويحسبونه مرآة لجميع الواقعيات ، إنما هو مجموعة قوانين تتعلق بناحية من نواحي هذا العالم ، ونتيجة كل هذا السعي والتجارب معلومات تلقي الضوء على نقطة معينة كشمعة صغيرة ضئيلة في ليلة ظلماء في وسط صحراء مترامية الأطراف لا يعلم منتهاها .

لو رجعنا ملايين السنين إلى الوراء لكان غبار الأوهام يغطي فضاء ذلك القديم ممّا يؤكّد الضعف البشري أمام عظمة جهاز الطبيعة .

ولعل ملايين السنين لاتشكل بالنسبة إلى مجموع عمر عالم الوجود إلاّ

لحظة واحدة ، ومع ذلك فنحن بهذه المدّة نرد محيط العدم بالنسبة إلى الإنسان ، فإنه محيط مظلم لم يكن فيه من الإنسان أيّ عين أو أثر .

وعلى أيّ حال فلا علم لنا عن بداية مسيرتنا هذه ولا عن مستقبلها ، ومن جانب آخر لا يمكننا أن نصدق أن تكون شروط الحياة محصورة في هذه الكرة الترابية الأرضية ، في حين يرى كثير من العلماء اليوم أن منطقة الحياة أوسع بكثير ، وأن ملايين الكرات غير المعدودة التي يمكننا أن نراها ولو بالعين المسلحة هي في الشبه كنملة صغيرة .

يقول ( كاميل فلا ماريون ) العالم المعروف في كتابه في الهيئة الفضائية بعد افتراضه سفرة فرضية خيالية إلى العالم اللانهائي :

« ونتقدّم أيضاً بنفس هذه السرعة وبدون تقليل سرعة الوسيلة الناقلة ألف سنة ، أحد عشر ألف عام ، مئة ألف سنة ، بسرعة ثلاثمئة ألف كيلومتر في الثانية ، مدة مليون سنة ، فهل نصل إلى حدود هذا العالم المرئي ؟ . .

كلا ، فإن هناك فضاءً عظيماص مظلماً يجب أن نعبره ، وهناك أيضاً نجوم جديدة تضيء في نهاية السماء الأخرى ، نسير إليها فهل نصل إليها ؟ . . ثم مئات أخرى من ملايين السنين ، واكتشافات جديدة وعظمات جديدة ، وعوالم جديدة ، وكرات وأراض جديدة وموجودات وأشياء جديدة ، ثم ماذا ؟ . . إن الأفق لا يغلق ولا سماء تمنعنا ، ففضاء دائماً ، ثم أين نحن ؟
وأي طريق نكون قد قطعناه ؟ كلاً نحن بعد في بداية الطريق بل في نفس نقطة البداية ، فكل مكان مركز هذه الموجودات ، وليس لدائرتها محيط متوسط .

أجل ، هذا هو العالم اللانهائي المفتوح أمامنا والذي لم نبدأ النظر فيه ، بل لم نره أبداً ! بل نتقهقر عنه خوفاً ونرجع من هذه السفرة بلا نتيجة متعبين ، أين نقع للاستراحة ؟ بإمكاننا أن نقع في مدة أبدية في دوامة غير منتهية لا نصل إلى قعرها ، كما لم نصل إلى قمم الجبال .

أينما نظرنا فالعالم إلى ما لا نهاية ، شرقاً وغرباً جنوباً وشمالاً ، إن دنيانا في هذه المجموعة اللانهائية كجزيرة في مجموعة كبيرة من الجزائر وسط محيط لا نهاية له ، وإن عمر البشرية جميعها بكل ما لها من زهو بتأريخها السياسي والديني ، بل وحتى عمر هذه الأرض بكل عظمتها لا تقابل إلاّ لحظة من حلم عابر » .

إذا أردنا أن نعيد كتابة جميع العلوم والآثار التحقيقية البشرية التي كتبها ملايين العلماء من ملايين الكتب ، كفى لذلك أقل من ظرفية ناقلة نفط صغيرة من الدواة والحبر ، في حين أنه قد لا يكفي كل البحار لتنظيم صورة عن جميع الموجودات في الأرضين والسماوات فيما مضى ويأتي وجميع أسرار الوجود .

وكما يقول البروفيسور ( روايه ) : « من أجل أن تتكون لديكم صورة كاملة عن هذا العالم يكفيكم أن تعلموا أن عدد المجرات في هذا الوجود اللانهائي أكثر من مجموع الأتربة الساحلية فيى جميع سواحل هذه الأرض »(1) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 الفا عالم في البحث عن الخالق العظيم : ص 13 ( بالفارسية ) .

 

الخداع العلمي

يدعي الماديون أن ظهور المدرسة المادية في القرن الثامن عشر والتاسع عشر له علاقة مباشرة بالتطورات العلمية ، وأن الديالكتيك ثمرة مقطوفة من شجرة العلوم .

إنهم يعدون كل فلسفة سوى الفلسفة المادية ، فلسفة وهمية غير علمية ، يرون مدرستهم مدرسة علمية متطورة ، إنهم يرون أن الواقعية هي الإعراض عن حقائق الميتافيزيقا ، والبناء على أساس المنطق الحسي والتجريبي والفلسفة المادية .

إلاّ أن هذه الدعوى ظنون متعصبة مبنية على نظريات لا دليل عليها ولا ثبات لها ، وأن مصطلحات من هذا القبيل نتائج أفكار أصبحت المادية مركز التفكير لها ، بحيث لا تنظر إلى شيء إلاّ بقياسه إلى المادية .

لا شك أن الاعتقاد بوجود المعبود أحد المنابع العظيمة للثقافة والمعارف البشرية ، وأن معرفة الله كنظرة شمولية إلى العالم ، أوجدت تطوراً عميقاً في الأصول الاجتماعية ، وتغييراً أساسياً في أفكار الإنسانية في مختلف الأدوار ، ولازالت طبقة وسيعة من العلماء يعتقدون بالأديان في عصر العلم والتكنولوجيا والفضاء ، وقد تواصلوا إلى وجود الخالق ، ومبدأ الوجود من طريق المنطق والبرهان بعد القلب والوجدان .

ولو كان تفسير الماديين صحيحاً واقعياً ، ولم يكن عن فقر وضعف في معرفة تاريخ الفكر المادي ، للزم أن يكون بين العلم والمادية علاقة خاصة ، ولا تظهر في المحيط العلمي إلاّ العقائد المادية ، فهل أن الفالسفة والعلماء في كل عصر كانوا ذوي نظرة إلحادية ومن أنصار المادية ؟ بل لو نظرنا في آثار وأحوال المفكرين محققين لظهر لنا أن معسكر الأديان لم يخل ، ولا يخلو من المفكرين الواقعيين والحقيقيين ، بل إن كثيراً من المفكرين وذوي الأصوات العلمية ومؤسسي كثير من العلوم والمعارف المعاصرة كانوا من حملة رايات التوحيد .

إن العقيدة المادية الإلحادية لا تتعلق بدون تطور العلوم وتقدمها وتكاملها ، بل إن الماديين كانوا يظهرون بإلحادهم أمام صفوف أهل الإيمان المتحدة من العهد الأول وفي طول التأريخ .

أصبح العلم اليوم عند الماركسيين العوام وسيلة للتضليل أكثر من أيّ شيء آخر وأكثر من أيّ جماعة أخرى ، هؤلاء الذين كان ينبغي لهم أن يجدوا السبيل بمساعدة الأضواء العلمية ، ويحققوا المسائل لينالوا فهم الحقائق بعيداً عن غبار العصبية والأحكام المسبقة المستعجلة وبإدراك عميق منطقي في طريق التحقيق فقط . . هؤلاء مصابون بالجمود والتقليد العقيدي ، وينكرون بكل غرور كل القيم الأسمى من العقل والتفكير ، ثم هم يباهون بإنكارهم هذا ! .

يقولون : جاء العلم فنسخ وجود الله ! وهذا الكلام أشبه بالشعار وهتافات المظاهرات الحماسية منه إلى المنطق ، إذ لا يكفي آلاف التجارب العلمية لإثبات عدم وجود أيّ عامل غير مادي للوجود ، بل إن العقيدة المادية عقيدة ميتافيزيقية ، إذ لا تثبت ولا تنفي إلات بالطرق الفلسفية ، إذن فلا يمكن بقبول المادية أن ننفي الميتافيزيقا ، وفي النهاية لا معنى لهكذا تحليل للمدرسة المادية، فليس لها أيّ أساس علمي، بل إن هذه العقيدة الظنية

ليست إلاّ تحريفاً للحقائق ، وليس وصف هذه المدرسة بالعلمية إلاّ خيانة للعلم والحقيقة .

صحيح أن البشر لم يكن يعرف العلل والعوامل الطبيعية حتى يوم أمس ، ولم يكن يعرف كثيراً من أسرار الحوادث حوله ، إلاّ أن إيمانه لم يكن نابعاً من الجهل ، إذ كان من اللازم على هذا أن ينهار أساس معرفة الله مع كشف كثير من حقائق العالم ، بينما نرى اليوم أن الاعتقاد بالمعبود أصبح يتجلى كثيراً بعد كشف كثير من أسرار الوجود .

إن العلم لا يضيء إلاّ فضاء محدوداً ، وإن النظرة العلمية إلى العالم معرفة جزئية لا كلية ، فإن العلم يعجز عن رؤية الصورة الكاملة للعالم ، ولكن المعرفة العلمية دقيقة وقوية ، ولذلك فإن معرفة الله كلما توسعت العلوم تكتسب صورة أكثر علمية ومنطقية ، حيث يزداد وعي الإنسان عن طريق معرفة الأسباب والعلل والمعاليل والحوادث ، فهو عند ذلك لا يتغاضى عن دور العامل الأصيل والعلة الأولى وراء هذه العلل والعوامل .

بل كما يقول البروفيسور ( روايه ) : « إن العلم البشري يعلن لأول مرة ـ لا عن عجز أو ضعف بل على أساس طريقته الدائمة يعني التجربة والتحقيق ـ أن لا وظيفة له سوى معرفة ذات الباري وتجلياته في عرصة الوجود ، ويجب أن يصرف كل تلك المساعي في سبيل تربية الإيمان العلمي والمعرفة المنطقية الصحيحة عن الصانع الكبير لهذا العالم ، وليس صحيحاً أن نقول إن العلم يصالح الإيمان أو العكس ، إذ أن جميع الكتب الدينية والأنبياء والمفكرين الدينيين يرون أن العقل أولى وأفخر موهبة إنسانية ، وقد دعوا البشر إلى الاستفادة الأكمل من معطياته .

هذه الدعوة هي التي عاق جهل الأكثرية والعصبيات غير الصحيحة والحساسيات الجوفاء طوال قرون مديدة عن ظهور تجليات استجابتها ، والآن حينما يرد الإنسان عصر العلم والعقل ويوسع مهما أمكن وسائله وإمكاناته في حياته ، يجب عليه أن يعتني بتربية الألباب والأفكار ، ويعني

بالعلم الذي يقع مورد الاستفادة بالطريقة الصحيحة »(1) .

إن الإنسان الأمس كان يرى لنفسه جسداً موزوناً ومتناسباً منسجماً ، ولكنه كان لا يعي من الأسرار المعقدة المودعة فيه ، ولكنه اليوم اكتشف معلومات محيّرة ووسيعة عن جسمه هذا الصغير ، وأنه قد اشترك في بناء جسمه هذا عشرة ميليارات من الخلايا ، بحيث لا يمكن قياص العظمة المدركة عن هذه الصناعة العجيبة بهذه المواد الغريبة .

هل من المعقول أن نقول إن الاعتقاد بالله يخص غير الواعين لكيفية خلقة الإنسان ، أما العالم الخبير بالعلل والعوامل الطبيعية للخلقة وتطور الإنسان ، والذي يعلم بسيادة القانون والمحاسبات الدقيقة في جميع مراحل الوجود ، أما هذا فيجب أن يعتقد بأن منشأ قوى الطبيعة المحيرة إنما هي المادة غير الشاعرة وغير المدركة ؟ .

فهل أن هذه الاكتشافات والثقافات هي التي بلغت بهذا العالم مرحلة من التفكير يرى فيها خالقه وجميع الموجودات مادة غير عالمة وغير مدركة ؟ إن الثقافة المادية التي لا تنظر إلى العالم إلا بعين غير مبصرة تبقي لنا كثيراً من السؤالات بلا أجوبة .

إن العلماء الإلهيين أبدوا أن الوجود أوسع من دائرة المادة ، وأن عالم الموجودات غير المادية أغنى وأوسع بكثير من دنيا الماديات ، إن هؤلاء بينما هم يذعنون لنظام الطبيعة يعتقدون بالتالي بصورة من الوجود المجرد عن المادة لا يعرف بالعلوم التجريبية وإنما تحكي قوى وظواهر وحوادث الطبيعة عن حقيقة ذاته ، فهل أن هذه الفكرة التوحيدية دليل على فقدان هذه المدرسة للجانب العلمي ؟ ! .

إن العلم لا إجابة له على مسائل من قبيل : هل أن العالم ينقسم إلى
المادة والمعنى ؟ أو هل أن للعالم هدفاً ؟ إذ ليست هذه الأسئلة علمية

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ألفا عالم في البحث عن الخالق العظيم : ص 229 ( بالفارسية ) .

 

بالمعنى المصطلح ، ثم إن المعرفة العلمية إنما تخبرنا عن بعض ما هو موجود ؟ ولا يمكنها أن توجهنا وجهتنا الصحيحة في الحياة ولا قدرة لها على إلهامنا بالطريق الأصوب الذي يجب علينا أن نختاره .

ويقول ( برتراند راسل ) : « لو كانت الحضارة العلمية حضارة مفيدة للزم أن يزيد عقل البشر مع زيادة العلم وتقدمه ، وأعني من العقل إدراك غايات الحياة ، وهذه ثمرة لا تأتي بها الحضارة الحديثة ، إذن فتقدم وزيادة العلوم وإن كانت ضرورة لتقدم الإنسان ، إلاّ أن العلوم نفسها لا تضمن التقدم الصحيح للإنسان »(1) .

إذن فالمعرفة العلمية لا تستطيع أن تصبح مستنداً لأيديولوجية إنسانية ،
إذ المعرفة العلمية لها قيمة علمية أكثر من أن يكون لها قيمة عملية أيديولوجية ، وهي تسلط الإنسان على الطبيعة وتمكنه منها ، في حين أن الذي يمكنه أن يكون مستنداً للإيمان والعقيدة هي القيمة النظرية الواقعية لا العلمية فقط .

إن العلوم مبنية على التجارب والملاحظات والتحقيقات ، والقوانين المستندة على التجربة متزلزلة متغيرة وغير ثابتة ، في حين أن الإيمان بحاجة إلى مستند له صفة الدوام والخلود بعيد عن التزلزل والتغيير ، ويكون بإمكانه أن يجيب على الأسئلة المطروحة عند التفتيش عن النظرة الشمولية للعالم والتي تتعلق بماهية وصورة مجموع العالم ، إجابة خالدة معتمدة ، تقضي حاجة الإنسان إلى التفسير العام للوجود .

إن الإنسان الكامل ، يحتاج إلى الاعتدال الفكري والروحي ، وإذا لم يكن له هدف معين ضاع وهلك ، إنه إن لم يجد الهدف من طريق المذهب والدين ذهب ليختار لنفسه هدفاً من صنع نفسه ، وهذا خروج على نظام الطبيعة ويؤدي إلى جمود في الفكر .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 رؤية علمية للكون ( بالفارسية ) .

 

إن الاكتشافات العلمية في العصر الحاضر جعلت الإنسان يعتقد بالقوانين والأنظمة الحاكمة على العالم ، ثم أفرط في هذا حتى أذعن للعنصر المادي نفسه بالأصالة والحاكمية ، ورآها أنها هي الأزلية واعترف عملاً بألوهية وقاهرية الطبيعة أو التأريخ ، ووصف الإنسان بأنه مكتوف الأيدي أمام جبر الديالكتيك ، ولا اختيار له أمام ذلك .

والآن ومع التقدم التدريجي للعلوم تتجه المعرفة والنظرة العلمية الشمولية للعالم نحو الوحدة التوحيدية ، وتتقارب الظواهر والحوادث التي كانت تبدو للنظر غير مرتبطة ، وترتبط برباط واحد وترجع إلى منشأ واحد ، وبالتالي تعقد العلاقة بين الظواهر المختلفة والمتناثرة . وحينما تلاحظ الفاعلية من منبع واحد تفسر جميع الظواهر بالإرجاع إلى ذلك المبدأ ، وحينذاك تنتهي جميع الظواهر مجتمعة حول ذلك المحور والمركز وترتوي في وجودها منه .

 

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

أصدقاء السوء
معني الإيمان اصطلاحاً
عالمية رسالة الإسلام
التربية بين الأسرة والمدرسة
الدين والعقل :
ظاهر الانسان وباطنه
اثبات نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله
الرد على نظرية إثبات الحد لله تعالى، ق(5)
الدور الوجودي لمقام الإمامة في القرآن الكريم (4)
إرادته الأزلية المتعلقة بأفعال العباد

 
user comment