محدودية الإنسان وعجزه
لو أمعن الإنسان النظر وعمق الفكر وأبصر الواقعيات بنظرة أوسع أدرك أنه لا ينبغي أن يحسب لقدراته وطاقاته وقواه حساباً أمام جغرافيا الوجود العظيمة ، وأن المعلومات التي حصل عليها الإنسان عن نظام الخلقة بمساعيه المتاصلة ليست إلاّ في حدّ الصفر ، فإن العلوم وإن كانت قد تقدمت خطوات وسيعة إلاّ أنه لا يمكن قياس ما لا نعلم بالذي تعلمناه بأيّ نسبة من مقدار أو عدد ، من يدري ـ مثلاً ـ لعل آلافاً بل ملايين من أنواع البشر أو أسمى منه جاءت إلى هذه الدنيا ومضت ، ولعل في المستقبل يكون هكذا .
إن الذي يسميه هواة العلوم اليوم علوماً ومعارف ويحسبونه مرآة لجميع الواقعيات ، إنما هو مجموعة قوانين تتعلق بناحية من نواحي هذا العالم ، ونتيجة كل هذا السعي والتجارب معلومات تلقي الضوء على نقطة معينة كشمعة صغيرة ضئيلة في ليلة ظلماء في وسط صحراء مترامية الأطراف لا يعلم منتهاها .
لو رجعنا ملايين السنين إلى الوراء لكان غبار الأوهام يغطي فضاء ذلك القديم ممّا يؤكّد الضعف البشري أمام عظمة جهاز الطبيعة .
ولعل ملايين السنين لاتشكل بالنسبة إلى مجموع عمر عالم الوجود إلاّ
لحظة واحدة ، ومع ذلك فنحن بهذه المدّة نرد محيط العدم بالنسبة إلى الإنسان ، فإنه محيط مظلم لم يكن فيه من الإنسان أيّ عين أو أثر .
وعلى أيّ حال فلا علم لنا عن بداية مسيرتنا هذه ولا عن مستقبلها ، ومن جانب آخر لا يمكننا أن نصدق أن تكون شروط الحياة محصورة في هذه الكرة الترابية الأرضية ، في حين يرى كثير من العلماء اليوم أن منطقة الحياة أوسع بكثير ، وأن ملايين الكرات غير المعدودة التي يمكننا أن نراها ولو بالعين المسلحة هي في الشبه كنملة صغيرة .
يقول ( كاميل فلا ماريون ) العالم المعروف في كتابه في الهيئة الفضائية بعد افتراضه سفرة فرضية خيالية إلى العالم اللانهائي :
« ونتقدّم أيضاً بنفس هذه السرعة وبدون تقليل سرعة الوسيلة الناقلة ألف سنة ، أحد عشر ألف عام ، مئة ألف سنة ، بسرعة ثلاثمئة ألف كيلومتر في الثانية ، مدة مليون سنة ، فهل نصل إلى حدود هذا العالم المرئي ؟ . .
كلا ، فإن هناك فضاءً عظيماص مظلماً يجب أن نعبره ، وهناك أيضاً نجوم جديدة تضيء في نهاية السماء الأخرى ، نسير إليها فهل نصل إليها ؟ . . ثم مئات أخرى من ملايين السنين ، واكتشافات جديدة وعظمات جديدة ، وعوالم جديدة ، وكرات وأراض جديدة وموجودات وأشياء جديدة ، ثم ماذا ؟ . . إن الأفق لا يغلق ولا سماء تمنعنا ، ففضاء دائماً ، ثم أين نحن ؟
وأي طريق نكون قد قطعناه ؟ كلاً نحن بعد في بداية الطريق بل في نفس نقطة البداية ، فكل مكان مركز هذه الموجودات ، وليس لدائرتها محيط متوسط .
أجل ، هذا هو العالم اللانهائي المفتوح أمامنا والذي لم نبدأ النظر فيه ، بل لم نره أبداً ! بل نتقهقر عنه خوفاً ونرجع من هذه السفرة بلا نتيجة متعبين ، أين نقع للاستراحة ؟ بإمكاننا أن نقع في مدة أبدية في دوامة غير منتهية لا نصل إلى قعرها ، كما لم نصل إلى قمم الجبال .
أينما نظرنا فالعالم إلى ما لا نهاية ، شرقاً وغرباً جنوباً وشمالاً ، إن دنيانا في هذه المجموعة اللانهائية كجزيرة في مجموعة كبيرة من الجزائر وسط محيط لا نهاية له ، وإن عمر البشرية جميعها بكل ما لها من زهو بتأريخها السياسي والديني ، بل وحتى عمر هذه الأرض بكل عظمتها لا تقابل إلاّ لحظة من حلم عابر » .
إذا أردنا أن نعيد كتابة جميع العلوم والآثار التحقيقية البشرية التي كتبها ملايين العلماء من ملايين الكتب ، كفى لذلك أقل من ظرفية ناقلة نفط صغيرة من الدواة والحبر ، في حين أنه قد لا يكفي كل البحار لتنظيم صورة عن جميع الموجودات في الأرضين والسماوات فيما مضى ويأتي وجميع أسرار الوجود .
وكما يقول البروفيسور ( روايه ) : « من أجل أن تتكون لديكم صورة كاملة عن هذا العالم يكفيكم أن تعلموا أن عدد المجرات في هذا الوجود اللانهائي أكثر من مجموع الأتربة الساحلية فيى جميع سواحل هذه الأرض »(1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الفا عالم في البحث عن الخالق العظيم : ص 13 ( بالفارسية ) .
الخداع العلمي
يدعي الماديون أن ظهور المدرسة المادية في القرن الثامن عشر والتاسع عشر له علاقة مباشرة بالتطورات العلمية ، وأن الديالكتيك ثمرة مقطوفة من شجرة العلوم .
إنهم يعدون كل فلسفة سوى الفلسفة المادية ، فلسفة وهمية غير علمية ، يرون مدرستهم مدرسة علمية متطورة ، إنهم يرون أن الواقعية هي الإعراض عن حقائق الميتافيزيقا ، والبناء على أساس المنطق الحسي والتجريبي والفلسفة المادية .
إلاّ أن هذه الدعوى ظنون متعصبة مبنية على نظريات لا دليل عليها ولا ثبات لها ، وأن مصطلحات من هذا القبيل نتائج أفكار أصبحت المادية مركز التفكير لها ، بحيث لا تنظر إلى شيء إلاّ بقياسه إلى المادية .
لا شك أن الاعتقاد بوجود المعبود أحد المنابع العظيمة للثقافة والمعارف البشرية ، وأن معرفة الله كنظرة شمولية إلى العالم ، أوجدت تطوراً عميقاً في الأصول الاجتماعية ، وتغييراً أساسياً في أفكار الإنسانية في مختلف الأدوار ، ولازالت طبقة وسيعة من العلماء يعتقدون بالأديان في عصر العلم والتكنولوجيا والفضاء ، وقد تواصلوا إلى وجود الخالق ، ومبدأ الوجود من طريق المنطق والبرهان بعد القلب والوجدان .
ولو كان تفسير الماديين صحيحاً واقعياً ، ولم يكن عن فقر وضعف في معرفة تاريخ الفكر المادي ، للزم أن يكون بين العلم والمادية علاقة خاصة ، ولا تظهر في المحيط العلمي إلاّ العقائد المادية ، فهل أن الفالسفة والعلماء في كل عصر كانوا ذوي نظرة إلحادية ومن أنصار المادية ؟ بل لو نظرنا في آثار وأحوال المفكرين محققين لظهر لنا أن معسكر الأديان لم يخل ، ولا يخلو من المفكرين الواقعيين والحقيقيين ، بل إن كثيراً من المفكرين وذوي الأصوات العلمية ومؤسسي كثير من العلوم والمعارف المعاصرة كانوا من حملة رايات التوحيد .
إن العقيدة المادية الإلحادية لا تتعلق بدون تطور العلوم وتقدمها وتكاملها ، بل إن الماديين كانوا يظهرون بإلحادهم أمام صفوف أهل الإيمان المتحدة من العهد الأول وفي طول التأريخ .
أصبح العلم اليوم عند الماركسيين العوام وسيلة للتضليل أكثر من أيّ شيء آخر وأكثر من أيّ جماعة أخرى ، هؤلاء الذين كان ينبغي لهم أن يجدوا السبيل بمساعدة الأضواء العلمية ، ويحققوا المسائل لينالوا فهم الحقائق بعيداً عن غبار العصبية والأحكام المسبقة المستعجلة وبإدراك عميق منطقي في طريق التحقيق فقط . . هؤلاء مصابون بالجمود والتقليد العقيدي ، وينكرون بكل غرور كل القيم الأسمى من العقل والتفكير ، ثم هم يباهون بإنكارهم هذا ! .
يقولون : جاء العلم فنسخ وجود الله ! وهذا الكلام أشبه بالشعار وهتافات المظاهرات الحماسية منه إلى المنطق ، إذ لا يكفي آلاف التجارب العلمية لإثبات عدم وجود أيّ عامل غير مادي للوجود ، بل إن العقيدة المادية عقيدة ميتافيزيقية ، إذ لا تثبت ولا تنفي إلات بالطرق الفلسفية ، إذن فلا يمكن بقبول المادية أن ننفي الميتافيزيقا ، وفي النهاية لا معنى لهكذا تحليل للمدرسة المادية، فليس لها أيّ أساس علمي، بل إن هذه العقيدة الظنية
ليست إلاّ تحريفاً للحقائق ، وليس وصف هذه المدرسة بالعلمية إلاّ خيانة للعلم والحقيقة .
صحيح أن البشر لم يكن يعرف العلل والعوامل الطبيعية حتى يوم أمس ، ولم يكن يعرف كثيراً من أسرار الحوادث حوله ، إلاّ أن إيمانه لم يكن نابعاً من الجهل ، إذ كان من اللازم على هذا أن ينهار أساس معرفة الله مع كشف كثير من حقائق العالم ، بينما نرى اليوم أن الاعتقاد بالمعبود أصبح يتجلى كثيراً بعد كشف كثير من أسرار الوجود .
إن العلم لا يضيء إلاّ فضاء محدوداً ، وإن النظرة العلمية إلى العالم معرفة جزئية لا كلية ، فإن العلم يعجز عن رؤية الصورة الكاملة للعالم ، ولكن المعرفة العلمية دقيقة وقوية ، ولذلك فإن معرفة الله كلما توسعت العلوم تكتسب صورة أكثر علمية ومنطقية ، حيث يزداد وعي الإنسان عن طريق معرفة الأسباب والعلل والمعاليل والحوادث ، فهو عند ذلك لا يتغاضى عن دور العامل الأصيل والعلة الأولى وراء هذه العلل والعوامل .
بل كما يقول البروفيسور ( روايه ) : « إن العلم البشري يعلن لأول مرة ـ لا عن عجز أو ضعف بل على أساس طريقته الدائمة يعني التجربة والتحقيق ـ أن لا وظيفة له سوى معرفة ذات الباري وتجلياته في عرصة الوجود ، ويجب أن يصرف كل تلك المساعي في سبيل تربية الإيمان العلمي والمعرفة المنطقية الصحيحة عن الصانع الكبير لهذا العالم ، وليس صحيحاً أن نقول إن العلم يصالح الإيمان أو العكس ، إذ أن جميع الكتب الدينية والأنبياء والمفكرين الدينيين يرون أن العقل أولى وأفخر موهبة إنسانية ، وقد دعوا البشر إلى الاستفادة الأكمل من معطياته .
هذه الدعوة هي التي عاق جهل الأكثرية والعصبيات غير الصحيحة والحساسيات الجوفاء طوال قرون مديدة عن ظهور تجليات استجابتها ، والآن حينما يرد الإنسان عصر العلم والعقل ويوسع مهما أمكن وسائله وإمكاناته في حياته ، يجب عليه أن يعتني بتربية الألباب والأفكار ، ويعني
بالعلم الذي يقع مورد الاستفادة بالطريقة الصحيحة »(1) .
إن الإنسان الأمس كان يرى لنفسه جسداً موزوناً ومتناسباً منسجماً ، ولكنه كان لا يعي من الأسرار المعقدة المودعة فيه ، ولكنه اليوم اكتشف معلومات محيّرة ووسيعة عن جسمه هذا الصغير ، وأنه قد اشترك في بناء جسمه هذا عشرة ميليارات من الخلايا ، بحيث لا يمكن قياص العظمة المدركة عن هذه الصناعة العجيبة بهذه المواد الغريبة .
هل من المعقول أن نقول إن الاعتقاد بالله يخص غير الواعين لكيفية خلقة الإنسان ، أما العالم الخبير بالعلل والعوامل الطبيعية للخلقة وتطور الإنسان ، والذي يعلم بسيادة القانون والمحاسبات الدقيقة في جميع مراحل الوجود ، أما هذا فيجب أن يعتقد بأن منشأ قوى الطبيعة المحيرة إنما هي المادة غير الشاعرة وغير المدركة ؟ .
فهل أن هذه الاكتشافات والثقافات هي التي بلغت بهذا العالم مرحلة من التفكير يرى فيها خالقه وجميع الموجودات مادة غير عالمة وغير مدركة ؟ إن الثقافة المادية التي لا تنظر إلى العالم إلا بعين غير مبصرة تبقي لنا كثيراً من السؤالات بلا أجوبة .
إن العلماء الإلهيين أبدوا أن الوجود أوسع من دائرة المادة ، وأن عالم الموجودات غير المادية أغنى وأوسع بكثير من دنيا الماديات ، إن هؤلاء بينما هم يذعنون لنظام الطبيعة يعتقدون بالتالي بصورة من الوجود المجرد عن المادة لا يعرف بالعلوم التجريبية وإنما تحكي قوى وظواهر وحوادث الطبيعة عن حقيقة ذاته ، فهل أن هذه الفكرة التوحيدية دليل على فقدان هذه المدرسة للجانب العلمي ؟ ! .
إن العلم لا إجابة له على مسائل من قبيل : هل أن العالم ينقسم إلى
المادة والمعنى ؟ أو هل أن للعالم هدفاً ؟ إذ ليست هذه الأسئلة علمية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ألفا عالم في البحث عن الخالق العظيم : ص 229 ( بالفارسية ) .
بالمعنى المصطلح ، ثم إن المعرفة العلمية إنما تخبرنا عن بعض ما هو موجود ؟ ولا يمكنها أن توجهنا وجهتنا الصحيحة في الحياة ولا قدرة لها على إلهامنا بالطريق الأصوب الذي يجب علينا أن نختاره .
ويقول ( برتراند راسل ) : « لو كانت الحضارة العلمية حضارة مفيدة للزم أن يزيد عقل البشر مع زيادة العلم وتقدمه ، وأعني من العقل إدراك غايات الحياة ، وهذه ثمرة لا تأتي بها الحضارة الحديثة ، إذن فتقدم وزيادة العلوم وإن كانت ضرورة لتقدم الإنسان ، إلاّ أن العلوم نفسها لا تضمن التقدم الصحيح للإنسان »(1) .
إذن فالمعرفة العلمية لا تستطيع أن تصبح مستنداً لأيديولوجية إنسانية ،
إذ المعرفة العلمية لها قيمة علمية أكثر من أن يكون لها قيمة عملية أيديولوجية ، وهي تسلط الإنسان على الطبيعة وتمكنه منها ، في حين أن الذي يمكنه أن يكون مستنداً للإيمان والعقيدة هي القيمة النظرية الواقعية لا العلمية فقط .
إن العلوم مبنية على التجارب والملاحظات والتحقيقات ، والقوانين المستندة على التجربة متزلزلة متغيرة وغير ثابتة ، في حين أن الإيمان بحاجة إلى مستند له صفة الدوام والخلود بعيد عن التزلزل والتغيير ، ويكون بإمكانه أن يجيب على الأسئلة المطروحة عند التفتيش عن النظرة الشمولية للعالم والتي تتعلق بماهية وصورة مجموع العالم ، إجابة خالدة معتمدة ، تقضي حاجة الإنسان إلى التفسير العام للوجود .
إن الإنسان الكامل ، يحتاج إلى الاعتدال الفكري والروحي ، وإذا لم يكن له هدف معين ضاع وهلك ، إنه إن لم يجد الهدف من طريق المذهب والدين ذهب ليختار لنفسه هدفاً من صنع نفسه ، وهذا خروج على نظام الطبيعة ويؤدي إلى جمود في الفكر .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رؤية علمية للكون ( بالفارسية ) .
إن الاكتشافات العلمية في العصر الحاضر جعلت الإنسان يعتقد بالقوانين والأنظمة الحاكمة على العالم ، ثم أفرط في هذا حتى أذعن للعنصر المادي نفسه بالأصالة والحاكمية ، ورآها أنها هي الأزلية واعترف عملاً بألوهية وقاهرية الطبيعة أو التأريخ ، ووصف الإنسان بأنه مكتوف الأيدي أمام جبر الديالكتيك ، ولا اختيار له أمام ذلك .
والآن ومع التقدم التدريجي للعلوم تتجه المعرفة والنظرة العلمية الشمولية للعالم نحو الوحدة التوحيدية ، وتتقارب الظواهر والحوادث التي كانت تبدو للنظر غير مرتبطة ، وترتبط برباط واحد وترجع إلى منشأ واحد ، وبالتالي تعقد العلاقة بين الظواهر المختلفة والمتناثرة . وحينما تلاحظ الفاعلية من منبع واحد تفسر جميع الظواهر بالإرجاع إلى ذلك المبدأ ، وحينذاك تنتهي جميع الظواهر مجتمعة حول ذلك المحور والمركز وترتوي في وجودها منه .