عربي
Thursday 7th of November 2024
0
نفر 0

دوافع الإنكار واللادينية

دوافع الإنكار واللادينية

يحاولون في كتب تأريخ الأديان أن يتعرفوا على العوامل التي دفعت الناس إلى الأديان ، إلاّ أنها محاولة ناقصة قاصرة عن الوصول بأصحابها إلى الواقعية من هذا الطريق ، إذ مع النظر إلى الفطرة التوحيدية ، أي الصفة الوجودية المميزة لنوع الإنسان التي لها المكانة الخاصة بين سائر الصفات الإنسانية من الفكر والإرادة ، والاستعدادات المتقابلة ، مع النظر إلى هذه الفطرة يجب التوصل إلى العوامل التي سببت أن يسحق الإنسان فطرته بقدمه وينقطع عن الأديان .

إن العلاقة الدينية مسألة طبيعية ، والمادية هي المخالفة للفطرة ، وإن كان الإنسان إذا لم يتوصل إلى الإله الحق ، فلابدّ أن يتحت لنفسه إلهاً حتى ولو كانت هي الطبيعة غير العاقلة أو جبر التأريخ ، وبالتدريج يملأ هذه الإله الباطل مكان الإله الحق في شمول ونفوذ الأحكام ولاقضاء والهداية وإرادة الطريق .

هذه هي معاملة بيع الإله الحق والخضوع لعبادة الأصنام والأوثان القديمة أو الحديثة ، فيضحي الإنسان بالإله الحق أمام أقدام آلهة التأريخ مثلاً بكل قسوة ، ويبدل الجوهر بالعرض أو الزخرف ، ومع الأسف نرى أن جماعة من الحقراء يخضعون أمام عتبة الوثن المنحوت بيده بوصفه بالأوصاف

الإلهية ، ويعرضون بوجوههم عن الخالق الذي لا شريك له ، ويشترون لأنفسهم عار هذه العبودية المصطنعة .

وحينما نتفرغ لملاحظة المسألة بدقة نرى أن ظهور المادية في أروبا كمدرسة وقطع علاقة الإنسان بالحقيقة المطلقة وإطلاق العنان للمادة واختيار العلم بدلاً عن الدين ، كل ذلك كان على أثر دوافع تأريخية واجتماعية ، وهو نتيجة لتلك الدوافع تحقق في الغرب .

إن من العوامل التي أوجدت ردود فعل وسيعة في أوروبا سببت إعلانها الحرية عن الدين والدعاية ضده ، هو الضغط المحطم الذي أبداه علماء المسيحيين في مطلع النهضة الصناعية الحديثة ، على العلماء الصناعيين الذين أبدواعقائد وآراءعلمية حديثة مخالفة لآراءعلماء المسيحية.

إن الكنيسة كـانـت تتقيد ـ بالإضافة إلـى الـعقائد الـدينية الـخاصة ـ بسلسلة من الأصول الموروثة عن الفلاسفة القدماء اليونانيين وغير اليونانيين بالنسبة إلى الإنسان والعالم إلى جانب أصول عقائدهم الدينية ، فإذا رأت نظرية غير منسجمة مع الكتاب المقدس والأصول الأخرى المسلمة والمقبولة ، كانت ترى صاحبها مرتداً عن الدين وكانت تعاقب صاحبها بشدّة .

ومن هذه المضادة الظاهرة بين العلم والدين في المحافل العلمية والدينية ، ظهرت مخاصمة بين الطرفين ، فكانت طبقة العلماء والمثقفين ترى أن الكنيسة تأسر الفكر والعقل وتمنع الفكر الحرّ عن الحرية في الفكر ، وبالتالي خلق النظام الفكري الجامد ضدّ العقل جوّاً مسموماً لإنسان العصر الحديث ، وطرد أصحاب الفكر إلى زاوية الخمول والأفول ، هذا الضغط المتراكم جرّ في النتيجة ردود فعل شديدة شملت كل أرجاء أوروبا ، وحينما زالت سلطة الكنيسة وارتفع الظلم وتقضع السحاب أجاب العقل الغربي على تلك المضايقات الماضية بردّ فعل عنيف، بعد أن استعاد حـريته المفقودة في عهد الاختناق ، فقد فك المثقفون ربقة الدين القديم عن أعناقهم وأعرضوا

عنه ، وتبلورات العصبيات والأتعاب المضنية إلى أمواج عظيمة من مكافحة الأديان وبدأت أزمة دينية حادة وانجرت إلى المفارقة بين العلم والإيمان ! .

هذه المحاولات الانتقامية غير المنطقية سببت أن يصل التشكيك حتى إلى المسائل السماوية الأصيلة وحتى حقيقة وجود الله ! .

صحيح أن بعض التعليمات المنسوب إلى الدين كان غير منطقي بل لا أساس له ولا صلة بالمعارف الدينية الأصيلة ، إلاّ أن الانتقام من الكنيسة شيء والحكم المستعجل الخاطئ بشأن الأديان بصورة عامة شيء آخر ، وقد سقطت المحاسبات العلمية في هذه العمليات الانتقامية والجوّ السائد إنما كانت العواطف والأحاسيس الجياشة فحسب .

وهكذا ازداد الفقر المعنوي لدى الإنسان بنسبة متعاكسة مع تقدم العلوم والتكنولوجيا ، وكلما تقدم الإنسان في صعيد الصناعات تقهقر في ساحة الأخلاق والمعنويات ، ولم يتمكن من أن يكتسب المعنوية اللازمة من نفس هذه العلوم والمعارف .

إن العلوم بنفسها ليست ذات جبهة خاصة بالنسبة إلى القيم والمعنويات ، فلا يمكننا أن نعين وظيفة الأفراد المسؤولين بالمراجعة إلى العلوم الصناعية ، إن العلوم مهما تقدمت لا تضيء حتى قدماً واحداً أمامها .

إن المعارف البشرية لا تستطيع أن تصل إلى حقيقة هذا العالم ، ولا تتمكن من التنبؤ بمصير الإنسانية في المستقبل .

هذه هي المعرفة التوحيدية التي لا تقتصر في جوانب حياة الإنسان على الحياة المادية فقط ، بل تعين لحياة الإنسان مبدأ وغاية سامية ، وإذا وضع الإنسان نفسه على صراط التوحيد ، توصل إلى إطار في النظرة الشمولية إلـى العالم ، يجيب عـلـى أسئلته الاستطلاعية والأساسية ، وتجد حياة الإنسان لونها وصبغتها وقيمتها الأصيلة بكامل تجلياتها بهذه العقيدة الشاملة .

هذا عامل من عوامل الإنكار واللادينية .

وجماعة آخرون استقالوا من الأديان ولجأوا إلى أحضان المادية لأن الكنيسة كانت قد أبدت لهم مفاهيم غير صحيحة فاقدة لقيمها العالية بشأن الخالق ، بحيث كانت هذه المفاهيم وبهذه الأساليب غير مقبولة ولا مقنعة لدى الأذكياء ، إذ كانت الكنيسة تعرف الخالق في صيغ مادية إنسانية ، في حين أن الإنسان كان يفتش عن القيم المطلقة في الخالق ، وأن يصعد من هذه الآفاق المحدودة في نفسه .

ولاشك في أن الحقيقة المسلمة لو طرحت على الأذهان بصورة قصصية ناقصة ، وبلغ الإنسان إلى مستواه العالي من الفكر والعلم ، كان لتصوره عن تلك الحقيقة آثار سيئة .

إن المثقفين على أساس تصورهم الخالق والدين ، كما في الإلهيات المسيحية ، وأن الإيمان مقدم على العقل ، وأن على أتباع الأديان أن يؤمنوا قبل أن يتعقلوا ، كانوا يدركون أن هذه النظريات الدينية المحدودة والضيقة وحصر الحكمة والعلم في إطار الإلهيات المسيحية لا ينسجم مع العقل ، وحيث لم يكن لهم سوى جهاز الكنيسة والكتب المحرفة ملجأ واقعي وصحيح للتعرف على المعارف الإلهية والتحقيق حول هذه المسائل ، ولم يستطيعوا أن يتوصلوا إلى نظام أسمى ، يتمكن من أن يؤمّن حاجاتهم المعنوية بالإضافة إلى حاجاتهم المادية ، ويقدم لهم إطاراً متناسباً لجميع عناصر الحياة المادية والمعنوية ، العاطفية والفكرية . . حينذاك نشأت لهم النظرة المادية في أفكارهم ونمت وانتهت بهم إلى إنكار القيم السامية غير المادية مما وراء الطبيعة .

من دون أن يلاحظوا أن الدين إذا وقع في مسير الجهل لم يتقدم إلا
إلـى الخطأ والغلط ، فـي حين أن الدين الصحيح البريء عـن شـائبة
الموهومات والخرافات والتحريفات بإمكانه أن يحرر الإنسان من قيود الخرافات والأساطير ، وأن يثبته على محور العقيدة والصورة والمفاهيم

الصحيحة من المعارف الإلهية ، بحيث يعطي الإجابات الصحيحة لأهل التحقيق ، ويصحح الأفكار والأخطاء بدلائل مقنعة وكافية ; إلا أن هؤلاء حينما لم يروا الصورة الخرافية للدين الباطل مبنيّة إلاّ على أساس غير منطقي ، لم يترددوا في عبثية البرامج الدينية ، ولهذا وعلى أساس هذه المسبقات الذهنية السيئة التي كانت لديهم عن الدين جلسوا يحكمون على جميع الأديان والمذاهب ! في حين أن ردّ أساس الأديان والمذاهب على أساس هذه الأحكام المستعجلة غير والواقعية خطأ وبعيد عن العقل والمنطق أيضاً .

يقرر هذه الواقعية ( والتر اسكار ) العالم الفيزيولوجي والبيوكيميائي يقول : « إن عدم التفات بعض العلماء في مطالعاتهم العلمية إلى إدراك وجود الله ، له عوامل متعددة نذكر منها عاملين :

الأول : إن الأوضاع السياسية الاستبدادية ، أو الأحوال الاجتماعية ، أو الإجراءات الحكومية ، غالباً ما تقتضي إنكار وجود الصانع سبحانه .

الثاني : إن الفكر الإنساني يتأثر حتى بالأوهام ، وحتى لو لم يكن الشخص تحت وطأة عذاب جسمي أو روحي مع ذلك لا يكون حرّاً كامل الحرية في اختيار وانتخاب الطريق .

أكثر الأطفال في العوائل المسيحية في أوائل أعمارهم يؤمنون بوجود إله شبيه بالإنسان ، وكأن الإنسان مخلوق على صورة الله ، هؤلاء حينما يدخلون المحيط العلمي ، ويشتغلون بتحصيل المسائل العلمية والتمرين فيها ، لا ينسجم هذا المفهوم الإنساني الضعيف عن الله مع المفاهيم العلمية والدلائل المنطقية ، وبعد مدة حينما يفتقد أمله في أيّ انسجام يخرج فكرة الله عن ذهنه .

والعلة الأساسية هي أن الدلائل المنطقية والتعريفات العلمية لا تتمكن من أن تغيرالمعتقدات السابقة عند هؤلاء، ومن جانب آخر يدرك أنه أخطأ في إيمانه بالله ، بالإضافة إلى عوامل أخرى نفسية تجعل الشخص يستوحش من

نقص هذه المفاهيم الدينية فيعرض وينصرف عن معرفة الله »(1) .

ولهذا حاول العلماء الصناعيون من هذه الطبقة أن يجدوا الحلول العلمية كبديل لكل مورد من مسائل الوجود والخلقة التي يمكن أن يأتي فيها ذكر عن الله أو الدين ، بل لم يتركوا أيّ محل لذكر الله أو الدين ، وتصوروا أنهم بهذا يقطعون أمل الناس في الأديان ، ويخلعون الله ويجردونه عن أيّ تأثير في نظام الطبيعة أو دوران العالم .

وحينما يصلون إلى البوابات المغلقة يحاولون حلّ المشكلة بالفرضيات المختلفة أو يحيلون الحلّ القطعي على المستقبل والتحقيقات الآتية ، هكذا امتنعوا عن أن يستسلموا للخرافات والأمور غير العلمية ، وهكذاخرجوا من ظلمات الشرك ولكنهم دخلواإلى خنادق الإلحاد والزندقة!.

إن معرفة الله والعقيدة بالمبدأ ، وإن كانت مسألة فطرية طبيعية ، ولكن حيث إن ضرورتها ليست كضرورة لوازم الحياة المادية التي يسعى الإنسان دائماً في سبيل تحصيلها ، بل هي حاجة فكرية متمايزة عن الحياة المادية ، وتستلزم دقة وعمقاً في النظر ونفوذاً إلى جذور الأمور وتحقيقاً في مسائل الوجود ، ولكل إنسان أن يدرك ذلك في ظل التدبر في حقائق الأمور . . وبالتالي فلا تشابه من حيث الماهية بين هاتين الحاجتين : المادية والفكرية .

ومن ناحية أخرى : حيث إن إنكار فكرة الموجود غير المرئي الذي لا يمكن أن يوصف وصفاً مادياً بليغاً ، أيسر من الاعتراف به ، ولذلك فالذين لم تستعدّ أذهانهم لقبول هذه الفكرة ، ولا سيما حيث تخللت أرضية معرفة تلك الحقيقة غير المرئية بعلل مختلفة ، وبالأخص حينما يتكاسل الإنسان عن تحمل عناء طيّ الطريق الفكري إليها ، يلجأ إلى الطريق الآخر الأيسر سلوكاً والذي لا قلق فيه ولا اضطراب ( بالنسبة إلى الاضطراب الفكري الديني المسيحي عـن الله ) فيتجه نحو الإنكار والإلحاد ، مسيرة لا يحسّ فيها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 إثبات وجود الخالق : ص 60 ( بالفارسية ) .

 

بأيّ ضرر وخسران بحسب الظاهر ، وبالابتعاد عن مسألة فكرة الله يتجه نحو العناد والخصام والعصبية .

ويمكننا معرفة عمق هذا الاتجاه بالمطالعة في التفسيرات الكونية الحاقدة لهؤلاء المعرضين عن الدين .

ولا يمكننا أن نغضّ الطرف عن أثر تلقينات الجهلاء المتنسكين اللامنطقيين في دفع جمع من الناس لاعتناق فكرة المادية .

إن الغرائز التي تبدأ مع الحياة الطبيعية للإنسان وهي معقودة مع موجوديته ، ليست غير عبث فحسب ، بل هي قوي مصيرية وعوامل حركة ونمو تدفع الإنسان نحو الهدف من خلقته ، والمهم أنه كما لا يصح للإنسان أن يصبح عبداً أعمى لغرائزه كأسير يتحكم السجّان بوجوده وحركاته واختياراته ، كذلك لا يصحّ له أن يحارب واقعه المتحكم فيه فيوقف كل حركة أو محاولة لغرائزه ، بل إن إنتاج الطبائع الإنسانية يتوقف على فعاليتها في الإنسان ، ولكنّنا يجب أن نعتدل ونتوازن في تراكيبها وأعمالها ، وإلاّ فإن كبت الغرائز يولد العقد ويحطم الشخصية البشرية .

إن النظرة العامة السائدة على الكنيسة في القرون الوسطى كانت هي الاتجاه المطلق إلى الآخرة وهذا يعني خواء العالم الماديّ ، وانظر ما هي النتائج فيما إذا لم نحسب الغرائز غير أصيلة فحسب بل عقدنا العزم على إماتتها ، وقدّسنا الرهبنة والتجرد ، وحسبنا الزواج وتشكيل الأسرة ـ التي بدونها لا يبقى النسل ـ رجساً نجساً ، والفقر والإعواز سعادة ، كل ذلك باسم الله والدين ! ثم ما هو دور مثل هذا الدين في البناء والتعمير للإنسانية ؟ ! .

إن رسالة الدين ودوره هو الإصلاح وقيادة غرائز الإنسان ، وتحديد مساحتها ، وتنزيهها عن الاعوجاج والانحراف والإفراط ، وليست رسالة الدين كبت الغرائز ومحوها .

إن الإنسان بضبط غرائزه، والحركة المستمرة باتجاه التحرر من قيودها

تمكن الإنسان من أن يصنع مصيره الهادف بيده وإرادته واختياره ، وإلاّ فإن شدة التنازع الغريزي في طبيعة الإنسان بدرجة لا يتوفق معها بسهولة ويسر لتسخيرها دون أن يتمتع بتربية شاملة .

إن الإنسان متأثر بالجاذبية الدينية من ناحية بحيث ينقاد باطنياً للدين ويمسك بأمره بأزمة قواه المختلفة ، ويسوقها باتجاه الخير والصلاح . . ولكنه من ناحية أخرى يتأثر بالغرائز أيضاً بشدة .

إن المجتمع الذي يلقن فيه الناس باسم الله والدين : أن سبيل سعادتكم إنما هو في الإعراض عن المواهب الدنيوية ، فمن الطبيعي أن يضغط الإنسان بطبعه فيفتح طريقه إلى المادية والقيم المادية ، ويدع المفاهيم الدينية السامية بجميع أبعادها جانباً .

في حين أن منطق الدين ليس هذا ، بل إن الأديان الحقيقية تنجى الإنسان من أسر رقّيّة النفس وعبودية المادة ، وتوسع دائرة رؤيته إلى عالم الملكوت من طريق توجيه الإنسان إلى القيم المعنوية الأصيلة ، على أساس الإيمان بذات الخالق والتعاليم الشاملة للدين والدنيا ، والتي تبيح له في نفس الوقت سهماً وافراً معقولاً من اللذائذ المادية .

ويتصوّر البعض أن الحرية فيما منع في الدين سعادة ، وأن الدين قد حارب جميع اللذائذ ولم يتبسم لها أبداً ، وأن الله خيّر الإنسان في واحدة من اثنتين من اللذائذ : إما الدنيا وإما الآخرة .

في حين أن هذاالتصوّر عن الدين تصوّر ضال مضل، ولا يطابق الواقع.

إن السبب في تدخل الدين في تعيين اتجاهات الإنسان هو أن الحرية
في اللذة والاستسلام للطبيعة والشهوات النفسية من دون أيّ قيد أو شرط ، والتحركوالسلوك وفقاً لأوامرها يسبب تعاسة الحياة وعبودية الإنسان من حيث لايشعر، بحيث ينتهي إلى السقوط من مقامه الواقعي ويبتعد عن طريقة الحق

على الرغم من طبيعته الطاهرة ، ولو لم تكن هذه المحرمات موجبة لسقوط الإنسان وشقائه الأبديّ لم تحرم ، بهذه الرؤية يمكن إدراك حكمة المحرّمات ، وكذلك سر انسجام سعادة الدنيا مع الآخرة .

كذلك الأمر بالنسبة إلى تكاليف الواجبات ، فإن وجوب العبادات والمساعي المخلصة غير المرائية محاولة لتغيير الإنسان ، لا للتقليل من لذّة الإنسان وسعادته الدنيوية .

إن العبادة تموج في المياه الراكدة في قلب الإنسان ، فإنها تغير موازين القيم والطبائع الإنسانية ، بل هي حجر زاوية عليها يستقر أساس الدين ، وأعمال تمرينية تربوية مثمرة تنفذ إلى أعماق روح الإنسان ، وإن لها حدة تقطع جميع حبائل الفساد والدناءة الذاتية ، وتعرج بالإنسان إلى الرحائب الطاهرة الخالدة ، وتمكن الإنسان من النمو والتطور الروحي والمعنوي ، ولا تناقض بين المعنويات ومسائل الحياة ، بل يستتر في المعنويات وسائل الانسجام لحياة سعيدة .

ولعل التعاليم المسيحية الناقصة هي التي أثرت في اتجاه أمثال ( راسل ) المادي المضادّ لله حتى أنه يرى أن الدين والعقيدة بالله تسبب شقاء الإنسان وتعاسته ! حيث يقول :

« إن تعاليم الكنيسة تجعل الإنسان بين شقاءين وحرمانين : إما شقاء الدنيا والحرمان من نعيمها ، أو الشقاء والحرمان من الآخرة والحور والقصور ، إن الكنيسة ترى أنه لابدّ للإنسان من أن يتحمل أحد الشقاءين : إما أن يرضخ لشقاء الدنيا والانزواء فيها والحرمان منها فيتمتع بإزائها بعالم الآخرة ولذائذها ، وإن أراد أن يتمتع باللذات والنعم في الدنيا فعليه أن يتقبل الحرمان في الآخرة » .

إن شيوع هذه الأفكار التي تحكي عن عدم الوعي العميق في الرؤية الدينية ، تعين مصير الدين في هذا القرن .

إن الأثر الذي خلفه هذا التصوّر عن الدين على أعمال الإنسان وأفكاره أعمق بكثير من أن نتجاوزه بنظرة عابرة . هذه الرؤية سببت اتجاه الإنسان إلى الماديات من حيث يشعر أو لا يشعر ، وعلى أثر الاتجاه المطلق إلى اللذائذ انهارت أسس المعنويات والأخلاق .

وليس الإنسان في الدين محكوماً بتحمل أحد الشقاءين ، بل من الممكن له أن يجمع بين سعادة الدنيا وسعادة الآخرة ، ولماذا لا يريد الله ذو الرحمة الواسعة السعادة الكاملة الشاملة للدنيا والآخرة لعباده ؟ بل إنه يريد ذلك قطعاً .

والدافع الآخر لتوسعة التفكير المادي هي الشهوات والهوى فكما أن كل رؤية فكرية تصبح أساساً للعمل ، والنظرة العقائدية هي التي تشكل خط سيرة في الحياة ، كذلك العمل والأخلاق يؤثران في التكييفات الذهنية بل تغيير أساس تفكيره .

إن الإنسان الشهوي يفقد بالتدريج أفكاره الإلهية السامية ، إنه حينما اختار لنفسه محوراً عملياً غير الله وأخذ يفكر في انطلاق ما في العالم ولم يتقبل بل لم يتفهم الهدف والغاية من الخلقة ، انطلق يستعمل كل فكره في سبيل اكتساب اللذات والشهوات ، وفي هذا السقوط المهين تجف جذور روحه المتجهة نحو الكمال أيضاً .

وكذلك العقيدة بالله كمثل بذرة تحتاج إلى أرضية مساعدة لنموها ، وإنما تتفتح البذرة في محيط طاهر ، محيط يتمكن فيه الإنسان أن ينال كماله السامي بسرعة وسهولة في إطار خاص ومع تعيين خطوط أصلية ، إن العقيدة بالله فيما إذا كانت في بيئة غير مساعدة يشمل فيها الفساد ويتسع ، لا تثمر شيئاً .

إن  ضجيج  الحياة  وصخب  الماكنات  الصناعية  ، ووفرة  الثروات والقدرات والجمال والكمال الخلاب المغرر ، وتنوع الوسائل للشهوات ، قد

أغفل البشر حتى أنساه نفسه . . حتى جعل يحاول بكل قواه كي يبعد نفسه عن الدين والديانة ومسائلها ، وأخذ يأبى الرضوخ لأيّ منظم لحياته دون إرادته ، ولا سيما منظم باسم الدين يقف سداً منيعاً دون هواه ومقاصده التوسعية من دون أن يحمل معه لصاحبه مصلحة مادية ملموسة ظاهراً .

وعلى هذا فلا يبقى من الدين في محيط لا يخضع فيه الناس لأيّ ضوابط أو قيود دون الانغماس في المعاصي واللامبالاة والفساد ، إلاّ الأسامي والرسوم ، وإن الذين يسعون وراء اللذة المادية لا يوحدون الله ولا يعبدونه ، فإنه إذا شغلت إحدى هاتين الفكرتين المادية والإلهية فضاء التفكير في الإنسان أخلت الفكرة الثانية مكانها ومضت لشأنها ، فإما أن تطرد الأخلاقية المادية روح عبودية الله في الإنسان وإما أن تكون عبودية الله هي التي تحكم وجود الإنسان ، ومع كبح هوى النفس والمساعي المستمرة للارتقاء إلى مستوى الأهداف الإلهية يطرد الإنسان اتجاهاته المادية ، وبذلك يحقق في نفسه النموذج الكامل لتحرر الإنسان من أسر الطبيعة .

وكلما كان هدف الإنسان أرفع وأبعد ، كان الصعود إليه أعلى والسعي أكثر وأطول ، فلو اخترنا الله هدفاً كان أعلى الأهداف وكان طريق الوصول إليه خالداً بيناً مستقيماً ، وكان بإمكان هكذا هدف أن يجيب على كثير من المسائل والمشكلات ، وتتحقق الحرية في ظل كبح النفس .

لو قبلنا الله هدفاً وجدنا الانسجام بين التكامل والحرية ، وتجد الأتعاب والمساعي التي يعملها البشر للوصول إلى الكمال معناها ومحتواها ومفهومها المعقود بعقيدة الحياة الأبدية والدوافع الإلهية ، إن التكامل في عبودية الله لا يناقض الحرية ولا يسبب أسراً أو رقّيّة للإنسان .

وإنما نستطيع أن ندّعي التحرر فيما إذا تحققت مواكبتنا للسير التكاملي للعالم بإرادة وتصميم وتشخيص صلاحيتنا ، لا يجبر التأريخ أو الطبيعة ، إذ مواكبة الإنسان لأوامر الطبيعة ليست إلاّ أسراً له ، والتكامل الذي يتحقق بالتبعية الملزمة للطبيعة ليس إلاّ طاعة للطبيعة عمياء .

ولهذا فإننا نجد في المدرسة المادية ، التي  ترى التكامل والسعادة في الحرية بمعنى الخروج عن أسر الطبيعة ، نجد في هذه المدرسة تناقضاً بين الحرية والتكامل ، فما هو معنى التكامل الذي يتابعه الإنسان كوظيفة تستغرق كل مساعيه ثم لا يحصل على حظ من ثمرات مستقبل هذه المساعي ؟ .

أليس السعي ـ وإن كان بدوافع إنسانية ـ لمن لا يعتقد بمبدأ للوجود لغواً ؟ مهما كان مثمراً للمجتمع ومفيداً ، لو كانت تضحيتي لكمال الإنسانية وتكامل النوع البشري ، ولكني لا أحصل على نتيجة من مفاداتي ولا أتمتع بشيء من ورائها ، كان هذا الهدف مخالفاً للحرية والعقل والمنطق .

إن زعماء المدرسة المادية الذين يرون أن المضادة بين التكامل والأسر مسألة مدهشة ، إنما هم ينظرون بهذا إلى التكامل المادي غير الإلهي والذي لا هدف له في الواقع .

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الزهراء عليها السلام وعلاقتها بالتوحيد
عصمة الأنبياء (عليهم السلام) عند المذاهب ...
الخروج من القبر
التقية المحرمة والمکروهة عند الشيعة الإمامية
عناصر ديمومة التشريع
من هم الصادقون في التوبة؟
هل تعلم لماذا تبدأ عزاء الحسين (عليه السلام) من ...
ما هو صبر أيوب ؟
محكمة الآخرة
تشريع صلاة التراويح

 
user comment