عربي
Thursday 7th of November 2024
0
نفر 0

تحليل حول الشرور في العالم

تحليل حول الشرور في العالم

إن البحث في عدل الله يبعث على التساؤل عن سرّ وجود البلايا والخسائر والشرور في نظام العالم ، وبعض النقائص في طبقات المجتمع ، إن هذا الموضوع يبعث موجاً من الأسئلة والإشكالات وإعصاراً في أفكار كثير من الناس ، بحيث لا يستطيعون الخلاص من تلك التساؤلات ، والشكوك والشبهات التي تنشأ من هذا المنشأ تتبدل إلى عقدة لا تنحل .

يقولون : كيف يمكن أن يكون العالم وليد الحكمة ، في حين ترى أن الآلام والشرور تسود هذا العالم ، وأنه صريح تحت رحمة التعاسة والشقاء ، وأن أمواج الإعواز والنقائص تفيض عليه من كل جانب ! .

ـ لما ذا نرى أن الحوادث الموحشة والقاسية تهدد بين الحين والحين وجود البشر في أطراف العالم ، وتسبب آلاف الخسائر والتلفات ! .

ـ لما ذا هذا جميل وذاك قبيح ، هذا سالم وذاك عليل ، فلما ذا لم يخلقوا سواء ؟ أليست هذه الاختلافات نتيجهة لعدم سيادة العدالة في صعيد الحياة ؟ ! .

ـ إن عدالة النظام لا تتحق إلاّ مع عدم الظلم والتمييز والآفات والبلايا ، وكل نقص وضعف وفقر ومرض .

اولا يجب علينا أن نقبل بأن تحقيقنا في مسائل الوجود ، لا يبلغ بنا إلى نهاية أعماق هذه الظواهر الوجودية ، ولا يكفي لتوجيه غايات الحوادث وتعليلها .

إن الحوادث المرة والبلايا في بادىء الرأي بلا معرفة حقائقها وبدون أن نتوسّم أبعاد أهدافها في النظرة البدائية ، تصوّر لنا انعدام العدل في نظام العالم بحيث تتأثر عواطف الإنسان حين تذكرها بشدة ، وفي خضمّ العواطف المتأثرة تتوايل التحليلات غير المنطقية .

أما إذا فكرنا بصورة أساسية وعميقة أدركنا أن هذا التصوّر مبنيّ على أساس أننا نجعل مقياس حكمنا على هذه الحوادث أنفسنا ومصالحنا وأناساً ممن يرتبطون بنا مباشرة أو بالواسطة ، فما كان ينفعنا كان حسناً ، وما كان يضرنا كان سيئاً ، فالحسن والسيّيء هو ما رأته عيوننا القاصرة ، كذلك مع عدم المعرفة الدقيقة بالسنن السائدة في العالم فهل الحوادث ترتبط بنا فقط كي نجعل من أنفسنا مقياساً للحسن والسيّيء ؟ ! .

إن عالمنا المادي هذا متطور ،أيّ متغيّر ، تحدث غداً حوادث لم تكن اليوم ، وتنعدم أشياء وتحدث بمكانها أشياء ، فما كان اليوم مفيداً لبعض الناس لا يبقى له غداً وجود في الخارج ، ونحن بشر نحب أنفسنا والأشياء المتعلقة بنا فالحسن عندنا وما وجدناه والسيّيء ما فقدناه كذلك ، وهناك بعيداً عن الإنسان حوادث مختلفة تنشأ من تغيّر عالمنا هذا ، ولولا تغيّره لما كانت فيه حوادث ، وإذ ذاك فلا حسن ولا قبيح .

في ذلك العالم الخيالي الخالي عن التغيّر والحوادث لا نقص ولا إعواز ولا تطوّر ولا نموّ ، ولا وجود للتضاد والتباين ، ولا تمايز ولا آمال ولا أيّ حركة ، وفي ذلك العالم الذي لا نقص فيه لا أثر للقوانين الأخلاقية والحدود الاجتماعية والضوابط الإنسانية ، إن التطوّر والتمايز إنما هو من أثر حركة الكواكب السيارة ، ولو انعدمت هذه التحوّلات لما بقيت الأرض ولا الشمس ولا القمر ، ولا الأيام والشهور والسنين ، إن العالم الذي لا ألم فيه

ولا مصائب لا حركة فيه ، ولا مساعي ولا محاولات ، ولولا الإحساس بالمخاطر لما كان الإحساس بالأمان مبهجاً مفرحاً ، إن عالماً لا تتموج فيه المنى والآمال ولا تأثير فيه للعاطفة والمحبة والمودة في أرواح ذوي الأرواح ، لاتستقر فيه علاقات البشر على أساس متلاحم مصمم ، ولكان خب الكمال ميتاً في الإنسان ، بينما العلاقات المتقابلة هي التي تؤثر في تطوّر البشر بمقياس واسع .

وفي رؤية شاملة يمكن أن يكون ما يضرنا اليوم ينفعنا في واقع الحال أو للآخرين ، إذ أن حركة العالم إنما تهدف إلى تحقيق الأهداف العامة للعالم ، وربما تضرر أفراد في مسيرة هذه الأهداف ، أو لم تكن الفوائد عامة لجميع أفراد الإنسان ، نعم لو استطعنا أن نغوص بحار المعارف الإلهية ، ونتصفح بأنامل العلوم والرؤية الشاملة صحائف الأسرار والرموز ، لكانت آثار عواقب الحوادث وفلسفتها تبدو لنا واضحة بيّنة ، أما مع علمنا بأن حوادث اليوم وليدة سلسلة من العلل السابقة ، وهي أسباب لحوادث لاحقة وعلل لمعمولات آتية ، ندرك أن ما نراه ونحكم عليه أنه خير أو شرّ ليس حكماً جامعاً عميقاً .

أجل لو أمكننا أن ننظر من فوق إلى مجموع العالم ، بكل جوانبه الإيجابية والسلبية ، ونرى جميع الأسرار وكل ما يجري في العالم ، فنقدّر جميع نتائج الحوادث في طول تأريخ البشر الماضي والحاضر والمستقبل ، وفي جميع عوالم الوجود الأزلية والأبدية ، فنرى أضرار حادثة ما أكثر من منافعها ، حينذاك كان بإمكاننا أن نصف تلك الحادثة بالشر .

ولكن هل للبشر أن يحيط هذه الإحاطة الكاملة التامة بجميع أسرار العالم ؟ !

أما إذا لم تكن لنا هكذا قدرة على التحقيق ، وكانت خطواتنا قاصرة في هذا المسير ، ولم يمكن لنا أن نرفع الستار عن الأسرار والرموز المعقدة في هذا العالم فنحسب لها حسابها ، وجب علينا أن نكف عن الحكم

والقضاء العاجل والقاصر ، وكان علينا أن نعلم بأنه لا ينبغي لنا أن نجعل منافعنا ومصالحنا الخاصة مقياساً للنظر في النظام العام لهذا العالم الواسع ، فنقضي لها بنتيجة كلية ، وبكلمة : لا يمكننا أبداً أن نجعل من نظرتنا النسبية التي تخصع للظروف الخاصة ملاكاً للحكم النهائي .

فربما كانت الطبيعة تعمل من أجل تحقيق هدف يصعب تصوّره على الإنسان وفقاً لمسيرة الحياة الطبيعية ، فهل لنا أن نتصوّر أن هذه الحوادث غير المتناسبة وغير المتزنة تسعى لتمهيد أرضية تنشأ عليها مواليد جديدة تخلف بعض ما هو موجود اليوم ، ولعل الظروف اليوم تقتضي تلك الحادثة الخاصة ؟

لو لم تكن تجري هذه التحوّلات المذهلة لأهدافها المرسومة وتستمر في أدوارها المختلفة لما كان اليوم أيّ أثر من أنواع الحيوانات والإنسان على الأرض .

لما ذا نتهم عالم الوجود بالظلم واختلال النظام بمشاهدة عدد من الحوادث والظواهر الاستثنائية ؟ ولما ذا نضغط إصبع التأكيد على عدد مما نراه غير موزون ؟ وننسى جميع المظاهر المعقولة والظرائف الدقيقة والعجبية في العالم ، والتي هي من آثار الحكمة اللامتناهية والإرادة المطلقة التامة .

إن العلوم البشرية بما لها من أشعة فتانة ، قليلة ومحدودة وقاصرة ، وليس الإنسان إلاّ في بدايات المعلومات ، وليس هذا الغرور العلمي إلاّ حصيلة لتلاعبه بالكلمات كيفما يشاء ، فالإنسان الذي لم يحصل بعد على علم تام بأسرار جسمه المحدود ، حينما يحاول الحكم على نظام الوجود بأسراره الواسعة ليس إلاّ مخدوعاً مغروراً .

يقول الدكتور ( كارل ) : لا شيء أقرب إلينا منا ومع ذلك فإن في هذا الجسم من الأسرار الكثيرة ما لا علم لنا بها .

إن الإنسان الذي يرى التدبير في جميع جوانب الوجود يجب عليه أن

يعترف بأن العالم مجموعة من مجريات هادفة متكاملة ، أي تسير نحو الكمال ، وأن كل شيء في هذه الحياة يتبع مقياساً معيناً ، أما ما لا يراه معقولاً موجهاً فعليه أن يرى ذلك من قصر في نظره ، وأن يدرك أن محدودية وجوده لا تمنح مجالاً لمعرفة جميع أهداف الوجود وأسراره ، أما نفس عالم الوجود فلا نقص فيه .

إن قضية الحوادث المرة في العالم ، في نظرنا ، تشبه قضية ذلك الرجل البدوي الذي يدخل البلد فيرى عدداً من المعاول الميكانيكية ماضية في تهديم عدد من الأبنية القديمة ، فيرى في هدم هذه الأبنية عملاً هدّاماً لا يقوم به إلاّ البلهاء ! ولكن هل أن هذا التخريب والهدم بلا حساب وبلا تصميم وهندسة وأهداف صحيحة ؟ وهل يمكن إقرار ذلك البدوي على حكمه وقضائه هذا ؟ كلاّ ; إنه رأى الهدم ، ولا علم له بالأهداف المرسومة للمهندسين والقائمين بالهدم والبناء بعد ذلك .

يقول أحد العلماء : ( إن حال هؤلاء الذين يحكمون على ظواهر الوجود بالنقص والإعواز والشرّ ، كحال الأطفال الذين شاهدوا مسرحية تمثيلية ، لا تلبث أن تنتهي ، فيعمد أصحابها إلى جمع أثاثهم وأدواتهم ليقوموا بعرضها في محل آخر ويتابعوا عملهم .إلاّ أن الأطفال لا يرون أيّ معنى لذلك سوى الانحلال والانتهاء وسقوط الأعمدة والحبال والستائر وذهاب الممثلين » .

إننا لو نظرنا إلى المصائب والبلايا بنظرة عميقة ووسيعه واستفدنا منها استفادة صحيحة ، أدركنا أنها في الواقع نعمة لا نقمة ، بل إن كون النعمة نعمة أو النقمة نقمة يرتبط بنوع ردّ فعل الإنسان أمامها . فالموضوع الواحد قد يختلف وصفه بالنسبة إلى شخصين .

إن الصمائب والألم إنما هو صافرة إنذار تبعث الإنسان لإصلاح ما فيه من نقص وإعواز وأخطاء ، والواقع أن الألم والمصاب جهاز الحيطة الطبيعية .

إن أورثت الثروة العيش والكسل كانت شقاء ، والفقر والإعواز لو كان سبباً في تربية الإنسان لنفسه كان نعمة ، فلا الثروة نقمة مطلقاً ، ولا الفقر شقاء مطلق ، وهكذا الأمر بشأن جميع المواهب الطبيعية .

إن الأمم التي تقاوم أعداءها وتضطرّ لحفظ وجودها إلى السعي والعمل ، تصبح أمماً حية مقتدرة ، إننا حينما نصف العمل بأنه سعي بناء ومحاولة إيجابية ، لا ينبغي لنا أن نغفل عن دور المصاعب في تأييد القوى الذاتية لتقدم الإنسان نحو أهدافه ، بل إن الأمة التي لا تضطرّ إلى تنشيط المساعي ، وتعيش في محيط فارغ عن المجاذبات هي أقرب إلى الانحدار والسقوط بل الانغماس في الشهوات واللذائذ المادية .

قد يحتمل الإنسان المصاعب والآلام الثقيلة في سبيل أهداف جليلة ; لولا تلك المساعي الصعبة لما كان الهدف يبدو كثيراً ، إن مسيرة التكامل لا ينبغي أن تكون بحركة ميكانيكية عمياء متهادية ، وإن محاولات الإنسان بلا إرادة واعية لا تبلغ إلى التغيير الأساسي ، إن المجاذبات المتضادة بمنزلة العصا الزاجره للدابة عن المسير ، إن الجماد يتفتت بالضغط ولكن الإنسان يشتدّ بالمشاكل والصعوبات ، ولا يظهر نبوغ البشر إلاّ مع وجود الضر والشرّ .

إن اللذة المطلقة والغرام بالدنيا وجعلها هدفاً في الحياة ضلال وابتذال ، وإن أتعس الأشخاص من تربّى في نعمة تامة بعيداً عن صعوبات الحياة وآلامها لا يذوق حرارتها وزمهريرها .

إن اتباع الهوى لا يجتمع مع الحركة المثمرة والمحاولة المقتدرة والسعي المتواصل ، فإن قولة النفس والاستقامة تضادّ الالتذاذ بالفساد .

ولكن كما يستحيل جمعهما معاً كذلك يستحيل نفيهما معاً أيضاً ، فعلى الإِنسان أن يسعى دائباً لينمي في نفسه قوة الإِرادة والثبات بمقدار ما يقلل من طلب اللذة والمتعة .

إن أولئك المتربين بين المترفين بعيدين عن مزاولة مرارة الدنيا مع

حلاوتها ، حيث لم يعانوا ألم الجوع متمتعين بالرفاه ، لا يدركون لذة الحياة ولا حتى لذة الأغذية ، ولا يدركون الحسن والجمال . إذ إن مزاولة المشاكل وتذوق المرارات ومواجهة الفشل في بعض المحاولات ، وتحمل الآلام والمصائب التي تواجه الإِنسان خطوة بعد خطوة ، هذا كله شرط في التمتع بلذائذ الحياة .

إن المدركات المادية والمعنوية من الحياة ، إنما يقدرها من وقع تحت ضغط الحوادث المرة وصعد التلال وهبط في الوديان .

إن الإنسان بسبب تمتعه بالحياة الدنيا يصبح عبداً لها ولمن في يده شيء منها ـ كما قال أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) ـ ويفقد حركته الحرة ويغفل أو يتغافل عن الحياة الأبدية والسعي في إعداد نفسه لها ، وهو ما دام في ظل الأهواء وظلام الأشباح فليس إلاّ كريشة على الأمواج المادية ، وكالأسير لكل شيء سوى الله سبحانه . ولهذا فإن الإنسان بحاجة إلى وسيلة لليقظة يكون لها دور في تصوير الأفكار ونضجها ، تذكره بفناء هذا العالم وزواله السريع ، وتبلغ به إلى تحرر النفس العاقلة ، التي هي الغاية المطلوبة للتربية الدينية ، التحرر من جميع الموانع والسدود التي تمنع الإنسان عن الترفع نحو الكمال ، كل الكمال .

أجل ، إن تهذيب النفس لا يحصل بسهولة ويسر ورخاء ، بل يستلزم غض البصر عن اللذيذ من الأهواء ، وهو لا شكّ حرمان مرّ وبلوى ! صحيح أن هذا السعي القيم ، في سبيل توطيد النفس واستثمار الاستعدادات الروحية ، إلاّ أن الصبر عن المعاصي واللذات أمرّ من العلقم في المطعم ، وأشدّ من ألم اللدغة ووجع اللسعة ؟ ولا يقدر الإنسان على أداء رسالته في رفع الموانع وتحطيمها وحلّ مشكلاتها ، ولا يستطيع الصعود إلى مدارج المثل والقيم العليا ، إلاّ بالمقاومة الصلبة .

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

ماذا بعد الموت
معاني الإمامة ومراتبها
العدل الإلهي والعقوبة الأُخروية
موقف ابن تيمية من مناقب علي بن أبي طالب عليه ...
مراتب وأقسام التوحید
شروط وصفات الولي
فكّر ثم فكّر ثم فكّر حتى يؤمن بك الناس وتؤمن ...
النبوة بين اللغة العربية واصطلاح علماء الإسلام
لحظةُ تأمُّل!
الموت والفناء

 
user comment