إن البحث في عدل الله يبعث على التساؤل عن سرّ وجود البلايا والخسائر والشرور في نظام العالم ، وبعض النقائص في طبقات المجتمع ، إن هذا الموضوع يبعث موجاً من الأسئلة والإشكالات وإعصاراً في أفكار كثير من الناس ، بحيث لا يستطيعون الخلاص من تلك التساؤلات ، والشكوك والشبهات التي تنشأ من هذا المنشأ تتبدل إلى عقدة لا تنحل .
يقولون : كيف يمكن أن يكون العالم وليد الحكمة ، في حين ترى أن الآلام والشرور تسود هذا العالم ، وأنه صريح تحت رحمة التعاسة والشقاء ، وأن أمواج الإعواز والنقائص تفيض عليه من كل جانب ! .
ـ لما ذا نرى أن الحوادث الموحشة والقاسية تهدد بين الحين والحين وجود البشر في أطراف العالم ، وتسبب آلاف الخسائر والتلفات ! .
ـ لما ذا هذا جميل وذاك قبيح ، هذا سالم وذاك عليل ، فلما ذا لم يخلقوا سواء ؟ أليست هذه الاختلافات نتيجهة لعدم سيادة العدالة في صعيد الحياة ؟ ! .
ـ إن عدالة النظام لا تتحق إلاّ مع عدم الظلم والتمييز والآفات والبلايا ، وكل نقص وضعف وفقر ومرض .
اولا يجب علينا أن نقبل بأن تحقيقنا في مسائل الوجود ، لا يبلغ بنا إلى نهاية أعماق هذه الظواهر الوجودية ، ولا يكفي لتوجيه غايات الحوادث وتعليلها .
إن الحوادث المرة والبلايا في بادىء الرأي بلا معرفة حقائقها وبدون أن نتوسّم أبعاد أهدافها في النظرة البدائية ، تصوّر لنا انعدام العدل في نظام العالم بحيث تتأثر عواطف الإنسان حين تذكرها بشدة ، وفي خضمّ العواطف المتأثرة تتوايل التحليلات غير المنطقية .
أما إذا فكرنا بصورة أساسية وعميقة أدركنا أن هذا التصوّر مبنيّ على أساس أننا نجعل مقياس حكمنا على هذه الحوادث أنفسنا ومصالحنا وأناساً ممن يرتبطون بنا مباشرة أو بالواسطة ، فما كان ينفعنا كان حسناً ، وما كان يضرنا كان سيئاً ، فالحسن والسيّيء هو ما رأته عيوننا القاصرة ، كذلك مع عدم المعرفة الدقيقة بالسنن السائدة في العالم فهل الحوادث ترتبط بنا فقط كي نجعل من أنفسنا مقياساً للحسن والسيّيء ؟ ! .
إن عالمنا المادي هذا متطور ،أيّ متغيّر ، تحدث غداً حوادث لم تكن اليوم ، وتنعدم أشياء وتحدث بمكانها أشياء ، فما كان اليوم مفيداً لبعض الناس لا يبقى له غداً وجود في الخارج ، ونحن بشر نحب أنفسنا والأشياء المتعلقة بنا فالحسن عندنا وما وجدناه والسيّيء ما فقدناه كذلك ، وهناك بعيداً عن الإنسان حوادث مختلفة تنشأ من تغيّر عالمنا هذا ، ولولا تغيّره لما كانت فيه حوادث ، وإذ ذاك فلا حسن ولا قبيح .
في ذلك العالم الخيالي الخالي عن التغيّر والحوادث لا نقص ولا إعواز ولا تطوّر ولا نموّ ، ولا وجود للتضاد والتباين ، ولا تمايز ولا آمال ولا أيّ حركة ، وفي ذلك العالم الذي لا نقص فيه لا أثر للقوانين الأخلاقية والحدود الاجتماعية والضوابط الإنسانية ، إن التطوّر والتمايز إنما هو من أثر حركة الكواكب السيارة ، ولو انعدمت هذه التحوّلات لما بقيت الأرض ولا الشمس ولا القمر ، ولا الأيام والشهور والسنين ، إن العالم الذي لا ألم فيه
ولا مصائب لا حركة فيه ، ولا مساعي ولا محاولات ، ولولا الإحساس بالمخاطر لما كان الإحساس بالأمان مبهجاً مفرحاً ، إن عالماً لا تتموج فيه المنى والآمال ولا تأثير فيه للعاطفة والمحبة والمودة في أرواح ذوي الأرواح ، لاتستقر فيه علاقات البشر على أساس متلاحم مصمم ، ولكان خب الكمال ميتاً في الإنسان ، بينما العلاقات المتقابلة هي التي تؤثر في تطوّر البشر بمقياس واسع .
وفي رؤية شاملة يمكن أن يكون ما يضرنا اليوم ينفعنا في واقع الحال أو للآخرين ، إذ أن حركة العالم إنما تهدف إلى تحقيق الأهداف العامة للعالم ، وربما تضرر أفراد في مسيرة هذه الأهداف ، أو لم تكن الفوائد عامة لجميع أفراد الإنسان ، نعم لو استطعنا أن نغوص بحار المعارف الإلهية ، ونتصفح بأنامل العلوم والرؤية الشاملة صحائف الأسرار والرموز ، لكانت آثار عواقب الحوادث وفلسفتها تبدو لنا واضحة بيّنة ، أما مع علمنا بأن حوادث اليوم وليدة سلسلة من العلل السابقة ، وهي أسباب لحوادث لاحقة وعلل لمعمولات آتية ، ندرك أن ما نراه ونحكم عليه أنه خير أو شرّ ليس حكماً جامعاً عميقاً .
أجل لو أمكننا أن ننظر من فوق إلى مجموع العالم ، بكل جوانبه الإيجابية والسلبية ، ونرى جميع الأسرار وكل ما يجري في العالم ، فنقدّر جميع نتائج الحوادث في طول تأريخ البشر الماضي والحاضر والمستقبل ، وفي جميع عوالم الوجود الأزلية والأبدية ، فنرى أضرار حادثة ما أكثر من منافعها ، حينذاك كان بإمكاننا أن نصف تلك الحادثة بالشر .
ولكن هل للبشر أن يحيط هذه الإحاطة الكاملة التامة بجميع أسرار العالم ؟ !
أما إذا لم تكن لنا هكذا قدرة على التحقيق ، وكانت خطواتنا قاصرة في هذا المسير ، ولم يمكن لنا أن نرفع الستار عن الأسرار والرموز المعقدة في هذا العالم فنحسب لها حسابها ، وجب علينا أن نكف عن الحكم
والقضاء العاجل والقاصر ، وكان علينا أن نعلم بأنه لا ينبغي لنا أن نجعل منافعنا ومصالحنا الخاصة مقياساً للنظر في النظام العام لهذا العالم الواسع ، فنقضي لها بنتيجة كلية ، وبكلمة : لا يمكننا أبداً أن نجعل من نظرتنا النسبية التي تخصع للظروف الخاصة ملاكاً للحكم النهائي .
فربما كانت الطبيعة تعمل من أجل تحقيق هدف يصعب تصوّره على الإنسان وفقاً لمسيرة الحياة الطبيعية ، فهل لنا أن نتصوّر أن هذه الحوادث غير المتناسبة وغير المتزنة تسعى لتمهيد أرضية تنشأ عليها مواليد جديدة تخلف بعض ما هو موجود اليوم ، ولعل الظروف اليوم تقتضي تلك الحادثة الخاصة ؟
لو لم تكن تجري هذه التحوّلات المذهلة لأهدافها المرسومة وتستمر في أدوارها المختلفة لما كان اليوم أيّ أثر من أنواع الحيوانات والإنسان على الأرض .
لما ذا نتهم عالم الوجود بالظلم واختلال النظام بمشاهدة عدد من الحوادث والظواهر الاستثنائية ؟ ولما ذا نضغط إصبع التأكيد على عدد مما نراه غير موزون ؟ وننسى جميع المظاهر المعقولة والظرائف الدقيقة والعجبية في العالم ، والتي هي من آثار الحكمة اللامتناهية والإرادة المطلقة التامة .
إن العلوم البشرية بما لها من أشعة فتانة ، قليلة ومحدودة وقاصرة ، وليس الإنسان إلاّ في بدايات المعلومات ، وليس هذا الغرور العلمي إلاّ حصيلة لتلاعبه بالكلمات كيفما يشاء ، فالإنسان الذي لم يحصل بعد على علم تام بأسرار جسمه المحدود ، حينما يحاول الحكم على نظام الوجود بأسراره الواسعة ليس إلاّ مخدوعاً مغروراً .
يقول الدكتور ( كارل ) : لا شيء أقرب إلينا منا ومع ذلك فإن في هذا الجسم من الأسرار الكثيرة ما لا علم لنا بها .
إن الإنسان الذي يرى التدبير في جميع جوانب الوجود يجب عليه أن
يعترف بأن العالم مجموعة من مجريات هادفة متكاملة ، أي تسير نحو الكمال ، وأن كل شيء في هذه الحياة يتبع مقياساً معيناً ، أما ما لا يراه معقولاً موجهاً فعليه أن يرى ذلك من قصر في نظره ، وأن يدرك أن محدودية وجوده لا تمنح مجالاً لمعرفة جميع أهداف الوجود وأسراره ، أما نفس عالم الوجود فلا نقص فيه .
إن قضية الحوادث المرة في العالم ، في نظرنا ، تشبه قضية ذلك الرجل البدوي الذي يدخل البلد فيرى عدداً من المعاول الميكانيكية ماضية في تهديم عدد من الأبنية القديمة ، فيرى في هدم هذه الأبنية عملاً هدّاماً لا يقوم به إلاّ البلهاء ! ولكن هل أن هذا التخريب والهدم بلا حساب وبلا تصميم وهندسة وأهداف صحيحة ؟ وهل يمكن إقرار ذلك البدوي على حكمه وقضائه هذا ؟ كلاّ ; إنه رأى الهدم ، ولا علم له بالأهداف المرسومة للمهندسين والقائمين بالهدم والبناء بعد ذلك .
يقول أحد العلماء : ( إن حال هؤلاء الذين يحكمون على ظواهر الوجود بالنقص والإعواز والشرّ ، كحال الأطفال الذين شاهدوا مسرحية تمثيلية ، لا تلبث أن تنتهي ، فيعمد أصحابها إلى جمع أثاثهم وأدواتهم ليقوموا بعرضها في محل آخر ويتابعوا عملهم .إلاّ أن الأطفال لا يرون أيّ معنى لذلك سوى الانحلال والانتهاء وسقوط الأعمدة والحبال والستائر وذهاب الممثلين » .
إننا لو نظرنا إلى المصائب والبلايا بنظرة عميقة ووسيعه واستفدنا منها استفادة صحيحة ، أدركنا أنها في الواقع نعمة لا نقمة ، بل إن كون النعمة نعمة أو النقمة نقمة يرتبط بنوع ردّ فعل الإنسان أمامها . فالموضوع الواحد قد يختلف وصفه بالنسبة إلى شخصين .
إن الصمائب والألم إنما هو صافرة إنذار تبعث الإنسان لإصلاح ما فيه من نقص وإعواز وأخطاء ، والواقع أن الألم والمصاب جهاز الحيطة الطبيعية .
إن أورثت الثروة العيش والكسل كانت شقاء ، والفقر والإعواز لو كان سبباً في تربية الإنسان لنفسه كان نعمة ، فلا الثروة نقمة مطلقاً ، ولا الفقر شقاء مطلق ، وهكذا الأمر بشأن جميع المواهب الطبيعية .
إن الأمم التي تقاوم أعداءها وتضطرّ لحفظ وجودها إلى السعي والعمل ، تصبح أمماً حية مقتدرة ، إننا حينما نصف العمل بأنه سعي بناء ومحاولة إيجابية ، لا ينبغي لنا أن نغفل عن دور المصاعب في تأييد القوى الذاتية لتقدم الإنسان نحو أهدافه ، بل إن الأمة التي لا تضطرّ إلى تنشيط المساعي ، وتعيش في محيط فارغ عن المجاذبات هي أقرب إلى الانحدار والسقوط بل الانغماس في الشهوات واللذائذ المادية .
قد يحتمل الإنسان المصاعب والآلام الثقيلة في سبيل أهداف جليلة ; لولا تلك المساعي الصعبة لما كان الهدف يبدو كثيراً ، إن مسيرة التكامل لا ينبغي أن تكون بحركة ميكانيكية عمياء متهادية ، وإن محاولات الإنسان بلا إرادة واعية لا تبلغ إلى التغيير الأساسي ، إن المجاذبات المتضادة بمنزلة العصا الزاجره للدابة عن المسير ، إن الجماد يتفتت بالضغط ولكن الإنسان يشتدّ بالمشاكل والصعوبات ، ولا يظهر نبوغ البشر إلاّ مع وجود الضر والشرّ .
إن اللذة المطلقة والغرام بالدنيا وجعلها هدفاً في الحياة ضلال وابتذال ، وإن أتعس الأشخاص من تربّى في نعمة تامة بعيداً عن صعوبات الحياة وآلامها لا يذوق حرارتها وزمهريرها .
إن اتباع الهوى لا يجتمع مع الحركة المثمرة والمحاولة المقتدرة والسعي المتواصل ، فإن قولة النفس والاستقامة تضادّ الالتذاذ بالفساد .
ولكن كما يستحيل جمعهما معاً كذلك يستحيل نفيهما معاً أيضاً ، فعلى الإِنسان أن يسعى دائباً لينمي في نفسه قوة الإِرادة والثبات بمقدار ما يقلل من طلب اللذة والمتعة .
إن أولئك المتربين بين المترفين بعيدين عن مزاولة مرارة الدنيا مع
حلاوتها ، حيث لم يعانوا ألم الجوع متمتعين بالرفاه ، لا يدركون لذة الحياة ولا حتى لذة الأغذية ، ولا يدركون الحسن والجمال . إذ إن مزاولة المشاكل وتذوق المرارات ومواجهة الفشل في بعض المحاولات ، وتحمل الآلام والمصائب التي تواجه الإِنسان خطوة بعد خطوة ، هذا كله شرط في التمتع بلذائذ الحياة .
إن المدركات المادية والمعنوية من الحياة ، إنما يقدرها من وقع تحت ضغط الحوادث المرة وصعد التلال وهبط في الوديان .
إن الإنسان بسبب تمتعه بالحياة الدنيا يصبح عبداً لها ولمن في يده شيء منها ـ كما قال أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) ـ ويفقد حركته الحرة ويغفل أو يتغافل عن الحياة الأبدية والسعي في إعداد نفسه لها ، وهو ما دام في ظل الأهواء وظلام الأشباح فليس إلاّ كريشة على الأمواج المادية ، وكالأسير لكل شيء سوى الله سبحانه . ولهذا فإن الإنسان بحاجة إلى وسيلة لليقظة يكون لها دور في تصوير الأفكار ونضجها ، تذكره بفناء هذا العالم وزواله السريع ، وتبلغ به إلى تحرر النفس العاقلة ، التي هي الغاية المطلوبة للتربية الدينية ، التحرر من جميع الموانع والسدود التي تمنع الإنسان عن الترفع نحو الكمال ، كل الكمال .
أجل ، إن تهذيب النفس لا يحصل بسهولة ويسر ورخاء ، بل يستلزم غض البصر عن اللذيذ من الأهواء ، وهو لا شكّ حرمان مرّ وبلوى ! صحيح أن هذا السعي القيم ، في سبيل توطيد النفس واستثمار الاستعدادات الروحية ، إلاّ أن الصبر عن المعاصي واللذات أمرّ من العلقم في المطعم ، وأشدّ من ألم اللدغة ووجع اللسعة ؟ ولا يقدر الإنسان على أداء رسالته في رفع الموانع وتحطيمها وحلّ مشكلاتها ، ولا يستطيع الصعود إلى مدارج المثل والقيم العليا ، إلاّ بالمقاومة الصلبة .