الفحش هو: التعبير عمّا يقبح التصريح به، كألفاظ الوقاع، وآلاته مما يتلفظ به السفهاء، ويتحاشاه النبلاء، ويعبّرون عنها بالكنابة والرمز كاللمس والمس، كناية عن الجماع.
وهكذا يكنّي الأدباء عن ألفاظ ومفاهيم يتفادون التصريح بها لياقة وأدباً، كالكناية عن الزوجة بالعائلة، وأم الأولاد، وعن التبول والتغوط، بقضاء الحاجة، والرمز الي البرص والقرع بالعارض مثلاً، إذ التصريح بتلك الألفاظ والمفاهيم مُستهَجَن عند العقلاء والعارفين.
وأما السب فهو: الشتم، نحو «يا كلب، يا خنزير، يا حمار، يا خائن» وأمثاله من مصاديق الاهانة والتحقير.
وأما القذف: نحو يا منكوح، أو يا ابن الزانية، أو يا زوج الزانية، أو يا أخت الزانية.
وهذه الخصال الثلاث من أبشع مساوئ اللسان، وغوائله الخطيرة، التي استنكرها الشرع والعقل، وحذّرت منها الآثار والنصوص.
أما الفحش: فقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في ذمّه: «إن اللّه حرّم الجنة على كل فحّاش بذيء، قليل الحياء، لا يُبالي ما قال ولا ما قيل له، فانك إن فتشته لم تجده الا لغية، أو شرك شيطان فقيل يا رسول اللّه وفي الناس شرك شيطان؟! فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: أما تقرأ قول اللّه تعالى: «وشاركهم في الأموال والأولاد» (1) المراد بمشاركة الشيطان للناس في الأموال دفعهم على كسبها بالوسائل المحرمة، وإنفاقها في مجالات الغواية والآثام. وأما مشاركته في الأولاد: فبمشاركته الآباء في حال الوقاع إذا لم يسموا اللّه تعالى عنده، وولد غية أي ولد زنا.
وعن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: إن من شرار عباد اللّه من تُكره مجالسته لفحشه» وقال الصادق عليه السلام: «من خاف الناس لسانه فهو في النار»(2).وقال عليه السلام لنفر من الشيعة: «معاشر الشيعة كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً، قولوا للناس حُسناً، واحفظوا ألسنتكم، وكفّوها عن الفضول وقبيح القول»(3)
وأما السب: فعن أبي جعفر عليه السلام قال: «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: سَبَابُ المؤمن فُسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه معصية، وحرمة ماله كحرمة دمه»(4)
وعن أبي الحسن موسى عليه السلام في رجلين يتسابان فقال: «البادئ منهما أظلم، ووزره ووزر صاحبه عليه، ما لم يتعدّ المظلوم»
وأما القذف: فقد قال الباقر عليه السلام: «ما من إنسان يطعن في مؤمن، إلا مات بشر ميتة، وكان قمناً أن لا يرجع الى خير»(5)
وكان للامام الصادق عليه السلام صديق لايكاد يفارقه إذا ذهب مكاناً، فبينما هو يمشي معه في الحذائين، ومعه غلام سِندِي يمشي خلفهما، إذ التفت الرجل يريد غلامه ثلاث مرات فلم يره، فلما نظر في الرابعة قال: يابن الفاعلة أين كنت؟!
قال الراوي: فرفع الصادق يده فصلت بها جبهة نفسه، ثم قال: سبحان اللّه تقذف أمه!! قد كنت أريتَني أن لك ورعاً، فاذا ليس لك ورع. فقال: جعلت فداك إن أمه سندية مشركة. فقال: أما علمت أن لكل أمة نكاحاً، تنح عني.
قال الراوي: فما رأيته يمشي معه، حتى فرّق بينهما الموت»(6)
بواعث البذاء
من الواضح أن تلك المهاترات والقوارص، تنشأ غالباً عن العداء،أو الحسد، أو الغضب، وسوء الخُلق، وكثيراً ما تنشأ عن فساد التربية، وسوء الأدب، باعتياد البذاء وعدم التحرج من آثامه ومساوئه.
مساوئ المهاترات:
لا ريب أن لتلك المهاترات من الفحش، والسب، والقذف، أضراراً خطيرة وآثاماً فادحة:
فمن مساوئها: أنها تجرد الانسان من خصائص الانسانية المهذبة، وأخلاقها الكريمة، وتسمه بالسفالة والوحشية.
ومنها: أنها داعية العداء والبغضاء، وإفساد العلاقات الاجتماعية، وإيجابها المقت والمجافاة من أفراد المجتمع.
ومنها: أنها تعرض ذويها لسخط اللّه تعالى وعقابه الأليم، كما صورته النصوص السالفة.
لذلك جاء التحريض على رعاية اللسان، وصونه عن قوارص البذاء.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: «اللسان سبع إن حُلّي عنه عقر».
وستأني النصوص المشعرة بذلك في بحث الكلم الطيب.
السُّخرية
وهي: محاكاة أقوال الناس، أو أفعالهم، أو صفاتهم على سبيل استنقاصهم،والضحك عليهم، بألوان المحاكاة القولية والفعلية.
وقد حرّمها الشرع لايجابها العداء، وإثارة البغضاء، وإفساد العلاقات الودّية بين أفراد المسلمين.
وكيف يجرأ المرء على السخرية بالمؤمن؟! واستنقاصه، وإعابته، وكل فرد سوى المعصوم، لا يخلوا من معائب ونقائص، ولا يأمن أن تجعله عوادي الزمن يوماً ما هدفاً للسخرية والازدراء.
لذلك ندد القرآن الكريم بالسخرية وحذّر منها:
فقال تعالى: «يا أيها الذين امنوا لا يسخر قوم من قوم عسی أن يكونوا خيراً منهم، ولا نساء من نساء عسى أن يكنّ خيراً منهنّ، ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب، بئس الاسم الفسوق بعد الايمان، ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون» (7)
وقال تعالى: «إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون، وإذا مروا بهم يتغامزون، واذا انقلبوا الى أهلهم انقلبوا فكهين، وإذا رأوهم قالوا إنّ هؤلاء لضالون» (8)
وقال الصادق عليه السلام: «من روى على مؤمن رواية يريد بها شينه، وهدم مروّته، ليسقط من أعين الناس، أخرجه اللّه تعالى من ولايته الى ولاية الشيطان، فلا يقبله الشيطان» وعنه عليه السلام قال: «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: لا تطلبوا عثرات المؤمنين، فإنه من تتبع عثرات المؤمنين تَتَبّع اللّه عثراته، ومن تتبع اللّه عثراته يفضحه ولو في جوف بيته»(9)
فجدير بالعاقل أن ينبذ السخرية تحرجاً من آثامها وتوقياً من غوائلها، وأن يقدّر الناس على حسب إيمانهم وصلاحهم، وحسن طويتهم غاضاً عن نقائصهم وعيوبهم، كما جاء في الخبر: «إن اللّه تعالى أخفى أولياءه في عباده، فلا تستصغرن عبداً من عباد اللّه، فربما كان وليّه وأنت لا تعلم».
الكلم الطيب
من استقرأ أحداث المشاكل الاجتماعية، والأزمات المعكِّرة لصفو المجتمع، علم أن منشأها في الأغلب بوادر اللسان، وتبادل المهاترات الباعثة على توتر العلائق الاجتماعية، وإثارة الضغائن والأحقاد بين أفراد المجتمع.
من أجل ذلك كان صون اللسان عن تلك القوارص والمباذل، وتعويده على الكلم الطيب والحديث المهذّب النبيل، ضرورة حازمة يفرضها أدب الكلام وتقتضيها مصلحة الفرد والمجتمع.
فطيب الحديث، وحسن المقال، من سمات النبيل والكمال، ودواعي التقدير والاعزاز، وعوامل الظفر والنجاح.
وقد دعت الشريعة الاسلامية الى التحلي بأدب الحديث، وطيب القول، بصنوف الآيات والأخبار، وركّزت على ذلك تركيزاً متواصلاً إشاعة للسلام الاجتماعي، وتعزيزاً لأواصر المجتمع.
قال تعالى: «وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن، إن الشيطان ينزغ بينهم، إن الشيطان كان للانسان عدواً مبيناً»(10)
وقال سبحانه: «وقولوا للناس حسناً» (11)
وقال عز وجل: «ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن، فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم» (12)
وقال تعالى: «واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير» (13)
وقال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وقولوا قولاً سديداً، يصلح لكم أعمالكم، ويغفر لكم ذنوبكم»(14)
وقال رجل لأبي الحسن عليه السلام: أوصني. فقال، «احفظ لسانك تعزّ، ولا تمكّن الناس من قيادك فتذل رقبتك»(15)
وجاء رجل الى النبي صلى اللّه عليه وآله فقال: يا رسول اللّه أوصني. قال: «إحفظ لسانك. قال: يا رسول اللّه أوصني. قال: احفظ لسانك. قال: يا رسول اللّه أوصني. قال: احفظ لسانك، ويحك وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم!! ».وقال الصادق عليه السلام لعبّاد بن كثير البصري الصوفي «ويحك يا عبّاد، غرّك أن عن بطنك وفرجك، إنّ اللّه تعالى يقول في كتابه «يا أيها الذين امنوا اتقوا اللّه وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم» (16). إنه لا يتقبل اللّه منك شيئاً حتى تقول قولاً عدلاً»(17)
وقال علي بن الحسين عليهما السلام: «القول الحسن يثري المال، وينمّي الرزق، وينسئ في الأجل، ويحبب الى الأهل، ويدخل الجنة»(18)
ويُنسب للصادق عليه السلام هذا البيت:
عوّد لسانك قول الخير تحظ به*** إن اللسان لما عوّدت معتاد
وعن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «رحم اللّه عبداً قال خيراً فغنم، أو سكت عن سوء فسلم»(19)
ونستجلي من تلك النصوص الموجهة ضرورة التمسك بأدب الحديث، وصون اللسان عن البذاء، وتعويده على الكلم الطيب، والقول الحسن.
فللكلام العفيف النبيل حلاوته ووقعه في نفوس الأصدقاء والأعداء معاً، ففي الأصدقاء ينمّي الحب، ويستديم الودّ، ويمنع نزغ الشيطان، في إفساد علائق الصداقة والمودة.
وفي الأعداء يلطّف مشاعر العداء، ويخفف من إساءتهم وكيدهم.
لذلك نجد العظماء يرتاضون على ضبط ألسنتهم، وصيانتها من العثرات والفلتات.
فقد قيل أنه اجتمع أربعة ملوك فتكلموا:
فقال ملك الفرس: ما ندمت على ما لم أقل مرة، وندمت على ما قلت مراراً.
وقال قيصر: أنا على رد ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت.
وقال ملك الصين: ما لم أتكلم بكلمة ملكتها، فاذا تكلمت بها ملكتني.
وقال ملك الهند: العجب ممن يتكلم بكلمة إن رُفعت ضرت، وإن لم تُرفع لم تنفع(20).وليس شيء أدل على غباء الانسان، وحماقته، من الثرثرة، وفضول القول، وبذاءة اللسان.
فقد مرّ أمير المؤمنين برجل يتكلم بفضول الكلام، فوقف عليه فقال: «يا هذا إنك تملي على حافظيك كتاباً الى ربك، فتكلم بما يعنيك ودع ما لا يعنيك»(21)
وقال عليه السلام: «من كثر كلامه كثر خطأه، ومن كثر خطأه قلّ حياؤه، ومن قلّ حياؤه قلّ ورعه، من قلّ ورعه مات قلبه، ومن مات قلبه دخل النار»(22)
وعن سليمان بن مهران قال: «دخلت على الصادق عليه السلام وعنده نفر من الشيعة، فسمعته وهو يقول: معاشر الشيعة كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً، قولوا للناس حسناً، واحفظوا ألسنتكم، وكفّوها عن الفضول وقبيح القول»(23)
وتوقياً من بوادر اللسان ومآسيه الخطيرة، فقد حثت النصوص على الصمت، وعفة اللسان، ليأمن المرء كبوته وعثراته المدمّرة:
قال الصادق عليه السلام: «الصمت كنز وافر، وزين الحليم، وستر الجاهل»(24)
وعن أبي جعفر عليه السلام قال: كان أبو ذر يقول: «يا مبتغي العلم إن هذا اللسان مفتاح خير، ومفتاح شر، فاختم على لسانك، كما تختم على ذهبك ووَرَقِك»(25)
ونُقل أنه اجتمع قس بن ساعدة وأكثم بن صيفي، فقال أحدهما لصاحبه: كم وجدت في ابن آدم من العيوب؟ فقال: هي أكثر من أن تحصر، وقد وجدت خصلة إن استعملها الانسان سترت العيوب كلها. قال: ما هي؟ قال: حفظ اللسان.
غوائل الذنوب:
إنّ بين الأمراض الصحية التي يعانيها الانسان، وبين الذنوب التي يقترفها شبهاً قوياً في نشأتهما، وسوء مغبتهما عليه.فكما تنشأ أغلب الأمراض عن مخالفة الدساتير الصحية التي وضعها الأطباء، وقاية وعلاجاً للأبدان، كذلك تنشأ الذنوب عن مخالفة القوانين الإلهية، والنظم السماوية، التي شرعها اللّه تعالى لاصلاح البشر وإسعادهم.
وكما يختص كل مرض بأضرار خاصة، وآثار سيئة، تنعكس على المريض في صور من الاختلاطات والمضاعفات المَرَضيّة، كذلك الذنوب فان لكل نوع منها مغبة سيئة، وضرراً فادحاً، وآثاراً خطيرة، تسبب للانسان ألوان المآسي والشقاء.
ولئن اشتركت الأمراض والذنوب في الاساءة والأذى، فان الذنوب أشدّ نكايةً، وأسوأ أثراً من الأمراض، لسهولة معالجة الأجسام، وصعوبة مباشرة النفوس.
لذلك كانت الذنوب سموماً مهلكة، وجراثيم فاتكة، تعيث في الانسان فساداً، وتعرضه لصنوف الأخطار والمهالك.
أنظر كيف يعرض القرآن الكريم صوراً رهيبة من غوائل الذنوب،وأخطارها الماحقة في سلسلة من آياته الكريمة:
قال تعالى: «وأذا أردنا أن نُهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمّرناها تدميرا» (26)
وقال تعالى: «ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قَرنٍ مكنّاهم في الأرض ما لم نمكّن لكم، وأرسلنا السماء عليهم مدراراً، وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم، فأهلكناهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين» (27)
وقال تعالى: «ولو أن أهل القرى امنوا واتقوا، لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون» (28)
وقال تعالى: «ذلك بأن اللّه لم يك مغيّراً نعمة أنعمها على قوم، حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإن اللّه سميع عليم» (29)
وقال تعالى: «وما أصابكم من مصيبة، فيما كسبت أيديكم، ويعفو عن كثير» (30)
وقال تعالى: «ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلّهم يرجعون» (31).وهكذا جاءت أحاديث أهل البيت عليهم السلام مُحَذِّرةً غوائل الذنوب، ومآسيها العامة، وأوضحت أن ما يعانيه الفرد والمجتمع، من ضروب الأزمات، والمحن، كشيوع المظالم، وانتشار الأمراض، وشح الأرزاق، كل ذلك ناشئ من مقارفة الذنوب والآثام، واليك طرفاً منها:
عن الصادق عن آبائه عليهم السلام قال: «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: عجبت لمن يحتمي من الطعام مخافة الدّاء، كيف لا يحتمي من الذنوب مخافة النار؟!!»(32)
وعن الرضا عن آبائه عليهم السلام قال: «قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: يقول اللّه تبارك وتعالى: يابن آدم ما تنصفني، أتحبب اليك بالنعم، وتتمقت اليّ بالمعاصي، خيري عليك مُنزَل، وشرّك اليّ صاعد، ولا يزال ملك كريم يأتيني عنك في كل يوم وليلة بعمل قبيح، يابن آدم لو سمعت وصفك من غيرك، وأنت لا تعلم من الموصوف، لسارعت الى مقته» (33)
وقال الصادق عليه السلام: «إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب انمحت، وإن زاد زادت، حتى تغلت على قلبه فلا يُفلح بعدها أبداً» .وقال الباقر عليه السلام: «إن العبد يسأل اللّه الحاجة، فيكون من شأنه قضاؤها الى أجل قريب أو الى وقت بطيء، فيذنب العبد ذنباً، فيقول اللّه تبارك وتعالى للملك: لا تقضِ حاجته، واحرمه إياها، فانه تعرّض لسخطي، واستوجب الحرمان مني»(34)
وقال الصادق عليه السلام: «كان أبي عليه السلام يقول: إن اللّه قضى قضاءاً حتماً ألا ينُعم على العبد بنعمة فيسلبها إياه، حتى يحدث العبد ذنباً يستحق بذلك النقمة» (35)
وقال الرضا عليه السلام: «كلّما أحدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعلمون، أحدث اللّه لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون»(36).وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: «اذا غضب اللّه عز وجل على أمّة، ولم ينزل بها العذاب،غلت أسعارها، وقصرت أعمارها، ولم يربح تجارها، ولم تزك ثمارها، ولم تغزر أنهارها، وحُبس عنها أمطارها، وسلّط عليها شرارها»(37)
وقال الباقر عليه السلام: «وجدنا في كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: إذا ظهر الزنا من بعدي كثر موت الفجأة، وإذا طفف المكيال والميزان، أخذهم اللّه تعالى بالسنين والنقص، وإذا منعوا الزكاة، منعت الأرض بركتها من الزرع والثمار والمعادن كلها، وإذا جاروا في الأحكام، تعاونوا على الظلم والعدوان، وإذا نقضوا العهد سلّط اللّه عليهم عدوهم، وإذا قطعوا الأرحام جعلت الأموال في أيدي الأشرار،وإذا لم يأمروا بالمعروف، ولم ينهوا عن المنكر، ولم يتبعوا الأخيار من أهل بيتي، سلّط اللّه عليهم شرارهم، فيدعو أخيارهم فلا يستجاب لهم»(38)
وعن المفضل قال: قال الصادق عليه السلام: «يا مفضل إياك والذنوب، وحذّرها شيعتنا، فواللّه ما هي الى أحد أسرع منها اليكم، إن أحدكم لتصيبه المَعَرّة من السلطان، وما ذاك إلا بذنوبه، وإنه ليصيبه السقم وما ذاك الا بذنوبه، وإنه ليحبس عنه الرزق وما هو إلا بذنوبه، وإنه ليشدد عليه عند الموت وما هو إلا بذنوبه، حتى يقول من حضر: لقد غُمّ بالموت.
فلما رأى ما قد دخلني، قال: أتدري لم ذاك يا مفضل؟ قلت: لا أدري جعلت فداك. قال: ذاك واللّه أنكم لا تؤاخذون بها في الآخرة، وعُجّلت لكم في الدنيا»(39)
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: «توقوا الذنوب، فما من بلية، ولا نقص رزق، الا بذنب، حتى الخدش، والكبوة، والمصيبة، قال اللّه عز وجل: وما أصابكم من مصيبة، فبما كسبت أيديكم، ويعفو عن كثير»(40).وربما لبّس الشيطان على بعض الأغراء، بأن الذنوب لو كانت ماحقة مدمّرة، لأشقت المنهمكين عليها، السادرين في اقترافها، وهم رغم ذلك في أرغد عيش وأسعد حياة.
وخفي عليهم أن اللّه عز وجل لا يعجزه الدرك، ولا يخاف الفوت، وإنما يمهل العصاة، ويؤخر عقابهم، رعاية لمصالحهم، عسى أن يثوبوا الى الطاعة والرشد، أو يمهلهم إشفاقاً على الأبرياء والضعفاء ممن تضرهم معاجلة المذنبين وهم برءاء من الذنوب.
أو يصابِر المجرمين استدراجاً لهم، ليزدادوا طغياناً وإثماً، فيأخذهم بالعقاب الصارم، والعذاب الأليم، كما صرحت بذلك الآيات والروايات.
قال اللّه تعالى: «ولا يحَسبَنَّ الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم، إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً، ولهم عذاب مهين»(41)
وقال سبحانه: «ولو يؤاخذ اللّه الناس بما كسبوا، ما ترك على ظهرها من دابة ولكِن يؤخره الى أجل مسمى» (42)
وقال الصادق عليه السلام: «إذا أراد اللّه بعبد خيراً، فأذنب ذنباً، أتبعه بنقمة، ويذكّره الاستغفار، وإذا أراد بعبد شراً، فأذنب ذنباً، أتبعه بنعمة، لينسيه الإستغفار، ويتمادى بها، وهو قول اللّه تعالى: «سنستدرجهم من حيث لا يعلمون» (43) بالنعم عند المعاصي» (44)
وقال الامام موسى بن جعفر عليهما السلام: «إنّ للّه عز وجل في كل يوم وليلة منادياً ينادي: مهلاً مهلاً، عباد اللّه عن معاصي اللّه، فلولا بهائم رتّع، وصبية رضّع، وشيوخ ركّع، لصبّ عليكم العذاب صبّاً، ترضّون به رضّاً»(45)
وقد يختلج في الذهن أن الأنبياء والأوصياء معصومون من اقتراف الذنوب والآثام، فكيف يؤاخذون بها، ويعانون صنوف المحن والأرزاء؟
وتوجيه ذلك: أنّ الذنوب تختلف، وتتفاوت باختلاف الأشخاص، ومبلغ إيمانهم، وأبعاد طاعتهم وعبوديتهم للّه عز وجل.
فربّ متعة بريئة، يتعاطاها فردان: يحسبها الأول طيبة مباحة، ويحسبها الثاني جريرة وذنباً، حيث ألهته عمّا يتعشفه من ذكر اللّه عز وجل وعبادته.
وحيث كان الأنبياء عليهم السلام هم المثل الأعلى في الإيمان باللّه، والتفاني في طاعته والتوله بعبادته، أعتُبر ترك الأولى منهم ذنباً وتقصيراً، كما قيل: «حسنات الأبرار سيئات المقربين».
هذا إلى أنّ معاناة المحن لا تنجم عن اقتراف الآثام والذنوب فحسب، فقد تكون كذلك.
وقد تكون المحن والارزاء وسيلة لاستجلاء صبر الممتحن، وجَلَده على طاعة اللّه، ونافذ قَدَرِه ومشيئته، وقد تكون وسيلة لمضاعفة أجر المبتلى، وجزيل ثوابه، بصبره على تلك المعاناة، وتفويض أمره إلى اللّه عز وجل.
المصادر
1- الاسراء: 64
2- الوافي ج 3 ص 160 عن الكافي
3- البحار م 15 ج 2 ص 192 عن امالي الشيخ الصدوق وامالي ابن الشيخ الطوسي
4- الوافي ج 3 ص 160 عن الكافي والفقيه
5- الوافي ج 3 ص 160 عن الكافي
6- الوافي ج 3 ص 161 عن الكافي
7- الحجرات: 11
8- المطففين: 29 - 32
9- الوافي ج 3 ص 163 عن الكافي
10- الاسراء: 53
11- البقرة : 83
12- فصلت: 34
13- لقمان: 19
14- الأحزاب: 70 - 71
15- الوافي ج 3 ص 84 عن الكافي
16- الأحزاب: 70 – 71
17- الوافي ج 3 ص 85 عن الكافي
18- البحار م 15 ج 2 ص 192 عن الخصال وأمالي الصدوق
19- البحار م 15 ج 2 ص 88 ، عن كتاب الامامة والتبصرة
20- مجاني الأدب
21- الوافي ج 3 ص 85 عن الفقيه
22- البحار م 15 ج 2 ص 187 عن النهج
23- البحار م 15 ج 2 ص 192 عن امالي الصدوق
24- الوافي ج 3 ص 85 عن الفقيه
25- الوافي ج 3 ص 85 عن الكافي
26- الاسراء: 16
27- الأنعام: 6
28- الأعراف: 96
29- الأنفال: 53
30- الشورى: 30
31- الروم: 41
32- البحار م 15 ج 3 ص 155 عن امالي الصدوق
33- البحار م 15 ج 3 ص 156 عن عيون اخبار الرضا للصدوق
34- الوافي ج 3 ص 167 عن الكافي
35- الوافي ج 3 ص 167 عن الكافي
36- الوافي ج 3 ص 168 عن الكافي
37- الوافي ج 3 ص 173 عن التهذيب والفقيه
38- الوافي ج 3 ص 173 عن الكافي
39- البحار عن علل الشرائع
40- البحار عن الخصال
41- آل عمران: 178
42- فاطر: 45
43- القلم: 44
44- الوافي ج 3 ص 173 عن الكافي
45- الوافي ج 3 ص 168 عن الكافي
source : rasekhoon