فإن قيل إن القاعدة الأصولية أن سكوت الشارع عن شيء يعني إباحته ، قلنا نعم ولكن هذا ينطبق على المتغيرات ، والقيادة شيء ثابت . فإن وضع الإسلام ـ مثلاً ـ قاعدة الشورى وسكت عن طريقة تنفيذها فهمنا أن طريقة التنفيذ متروكة لكل قوم وعصر بما يناسبه . لكن أن يسكت الإسلام عن مسألة أساسية بل هي أم المسائل ، فهذا ما فيه ألف نظر . ولئن سكت الإسلام فلا يسكت أبداً عن الفوضى الدستورية والسياسية التي انتشرت في الدولة دون مبرر ، عن طريق التغيير السريع لأسلوب تعيين الأمة ـ وهي خير أمة ـ لقيادتها .
إن تغيير أسلوب التنفيذ أو الإصلاحات الدستورية عملية طبيعية في حياة المجتمعات ، لكنها مرتبطة بالمستجدات من الظروف التي تقتضي التعديل ، فلو افترضنا أن أسلوب السقيفة صحيح ، وأنه هو المقرر في الإسلام ، فما هي الظروف التي طرأت خلال عامين من حكم أبي بكر وجعلت تغيير هذا الأسلوب أمراً محتوماً ، فإذا القيادة تتحدد بالعهد ، وإن كان
الصفحة 78
العهد هو الصواب فما الذي حدث من أمور جديدة في الدولة استدعت تغييره الى مجلس شورى ؟
وهل القيادة في الإسلام أتفه من الجماع والبصق والتبول والتبرز ، فيسكت عنها السلام مع عظيم شأنها ؟ مع أن الأمة كلها إن أخطأت في التبول والتبرز ما وقعت كارثة ، وما اختل النظام ، بينما الأمة لو أخطأت في افراز قيادة ، فهي كارثة بل والله أم الكوارث .
فإن قال أحد إن القاعدة العامة هي الشورى ، سألناه فأين الشورى في استخلاف عمر ( رض )
وإن قال ـ كما يحلو للبعض أن يشبهوا أحداث السقيفة بذلك ـ إنها الإنتخاب الحر ، سألناه : فأين بيعة أبي بكر من هذه ؟ وأعجب ما قيل في هذا قول ابن خلدون وهو يعقب على هذه الأحداث وما تلاها في تاريخنا الإسلامي من حروب واقتتالات وبغي وتزوير ، اذ اعتبر أن كل الأطراف على صواب ، فالحسين مصيب ويزيد أيضاً مصيب ، وعلي على حق ومعاوية كذلك على حق ، والقاتل في الجمل وصفين على هدى والمقتول أيضاً
الصفحة 79
على هدى ، وأسلوب تولية أبي بكر صحيح ، وطريقة إسناد القيادة الى عمر صواب، وكل الناس كانوا على حق ، ثم قال ما نصه ( واعتقد أن اختلافهم رحمة لمن بعدهم من الأمة ليقتدي كل واحد بمن يختاره ويجعله إمامه وهاديه ودليله ) (1) وذلك عنده لأن كل واحد منهم اجتهد ، فمنهم من فاز بأجرين ومنهم من نال أجراً واحداً ، ولنا أن نقتدي بمن نحب ، فإن قامت في بقعة من ديارنا دولة إسلامية شرعية وخرج بعضنا عليها ، وأراق دم المسلمين ، وأسقط نظام الدولة الإسلامي ، فالحكومة على حق والخارج الباغي على حق ، لأن قدوته في ذلك معاوية . وإذا ركبنا حاكم فاسق خليع يشرب المسكر ويلعب بالقرود عن طريق شراء الأصوات وتزييف البيعات كما فعل يزيد ، فهو على حق ، ومن قام في وجهه وثار عليه ودفع دمه استشهاداً في سبيل إزالته أيضاً على حق، لأن قدوة الأول يزيد وقدوة الثاني الحسين. وإن أعطى أحد حكامنا القيادة بعده لأحد أصدقائه دون أخذ
ــــــــــــــــــــ
(1) المقدمة : ص213 .
الصفحة 80
رأي الشعب فله في السلف أسوة حسنة ، وإن سلك في توليته طرقاً يشك فيها ، أو رفع أسرته على رقاب الناس ، أو بدد خزانة الدولة ، أو فعل أكبر من ذلك أو أصغر ، فله في الجيل الأول قدوة ، لأن كل ذلك مباح مشروع اكتسب شرعيته من ممارسة السلف له .
أفهذا بالله فكر سياسي ننسبه الى الإسلام ونقدمه للناس في القرن العشرين ، ونطرحه على الشرق والغرب مباهين به الأمم ، مفاخرين بهذه الفوضى السياسية والدستورية نظمهم المستقرة المحددة رغم علمانيتها ، زاعمين بأن المسألة إجتهاد ؟
أما آن الأوان لأن نميز بين الحق والباطل ، والصواب والخطأ ، لنصل الى شيء محدد نعرضه على البشر في فخر واعتزاز ؟
وإن كان اختلافهم رحمة كما يقال ، فمالنا محرومين من هذه الرحمة وقد مر على اختلافهم أربعة عشر قرناً ؟ وما لنا لم نر من اختلافهم إلا إختلافاً مماثلاً ، وفوضى سياسية ودستورية كتلك التي بدعوها ثم استسغاناها وبلعناها، لأن مشايخنا قالوا لنا إنها كانت اجتهاداً ولم يسموها لنا باسمها الحقيقي ؟
الصفحة 81
3 ـ بيعة عثمان بن عفان ( رض )
يبدو أن كثيراً من الناس وعلى رأسهم عمر ( رض ) نفسه أدركوا أن بيعة أبي بكر كانت فلتة، ولم تكن وفق سياق طبيعي، وأن بيعة عمر كانت بغير مشورة من المسلمين ، وكذلك تكرر كثيراً ـ كما مر بنا وكما ذكرت عشرات الكتب في التاريخ والحديث ـ أن هذا أو ذاك من الصحابة صرح بذلك حتى اعترف عمر (رض) بهذه الحقائق قائلاً ( إن رجالاً يقولون إن بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها ، وإن بيعة عمر كانت عن غير مشورة ، والأمر بعدي شورى ) (1) فهذه الرواية ـ إن صحت ـ دلت على اعتراف صريح بأن تحديد القيادة في المرة الأولى والثانية لم يكن شورى ، بل كان كما رآه الناس آنذاك : فلتة مرة ، وبلا مشورة أخرى ، ولهذا فقد قرر عمر تعيين القيادة من بعده ـ وفي المرة الثالثة ـ عن طريق الشورى
ــــــــــــــــــــ
(1) أنساب الأشراف للبلاذري : 5|15 .
الصفحة 82
ولما طعن عمر ، ورأى أنه ذاهب الى ربه ، وضع صيغة سياسية جديدة لتعيين قيادة خير أمة وخير دولة ، فدعا علياً ، وعثمان ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبدالرحمن بن عوف ، والزبير بن العوام ( رض ) وقال لهم :
( فإذا مت فتشاوروا ثلاثة أيام ، وليصل بالناس صهيب ، ولا يأتين اليوم الرابع إلا وعليكم أمير منكم ، ويحضر عبدالله بن عمر مشيراً ولا شيء له من الأمر ، وطلحة شريككم في الأمر ، فإن قدم في الأيام الثلاثة فأحضروه معكم ، وإن مضت الأيام الثلاثة قبل قدومه فاقضوا أمركم . . . وقال لأبي طلحة الأنصاري : يا أبا طلحة إن الله عزوجل طالما أعز الإسلام بكم ، فاختر خمسين رجلاً من الأنصار فاستحث هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلاً منهم . وقال للمقداد بن الأسود : إذا وضعتموني في حفرتي فأجمع هؤلاء الرهط في بيت حتى يختاروا رجلاً منهم ، وقال لصهيب : صل بالناس ثلاثة أيام ، وأدخل علياً وعثمان والزبير وسعداً وعبدالرحمن بن عوف وطلحة إن قدم، وأحضر عبدالله بن
الصفحة 83
عمر ولا شيء له من الأمر ، وقم على رؤوسهم فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلاً وأبى واحد فاشدخ رأسه أو أضرب رأسه بالسيف، وإن اتفق أربعة فرضوا رجلاً وأبى إثنان فاضرب رؤوسهما ، فإن رضي ثلاثة رجلاً منهم وثلاثة رجلاً منهم فحكموا عبدالله بن عمر ، فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلاً منهم ، فإن لم يرضوا بحكم عبدالله بن عمر ، فكونوا مع الذين فيهم عبدالرحمن بن عوف ، واقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس .
.. فلما دفن عمر جمع المقداد أهل الشورى في بيت المسور بن مخرمة ، ويقال في بيت المال ، ويقال في حجرة عائشة بإذنها ، وهم خمسة معهم ابن عمر وطلحة غائب. .. فتنافس القوم في الأمر وكثر بينهم الكلام. .. فقال عبدالرحمن : أيكم يخرج منها نفسه ويتقلدها على أن يوليها أفضلكم ؟ فلم يجبه أحد ، فقال فأنا أنخلع منها فقال عثمان أنا أول من رضي . .. فقال القوم : قد رضينا (1) .
ــــــــــــــــــــ
(1) الطبري : 3|294 ـ 295 . العقد الفريد : 4|275 ـ 276.
الصفحة 84
وبعد مناقشات ومداولات كثيرة قال عبدالرحمن بن عوف (رض) ( إني قد نظرت وشاورت فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلاً . ودعا علياً فقال : عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده قال : أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي . ودعا عثمان فقال له مثل ما قال لعلي قال نعم ، فبايعه ) (1)
وفي رواية أخرى أنه سأل علياً (ع) ( هل أنت يا علي مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر ؟ فقال : اللهم لا ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي ، فالتفت الى عثمان فقال : هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر ؟ قال : اللهم نعم ) (2) ثم نهضوا الى المسجد فصعد عبدالرحمن المنبر ، ونادى علياً ثم أخذ بيده وقال ( هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر ؟ قال :
ــــــــــــــــــــ
(1) الطبري : 3|296 .
(2) الطبري : 3|301 .
الصفحة 85
اللهم لا ، ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي ، فأرسل يده ثم نادى : قم اليَّ يا عثمان ، فأخذ بيده وهو في موقف علي الذي كان فيه فقال : هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر ؟ قال: اللهم نعم ، فرفع رأسه الى سقف المسجد ويده في يد عثمان ثم قال : أللهم اسمع وأشهد ، أللهم إني قد جعلت ما في رقبتي من ذاك في رقبة عثمان ، وازدحم الناس يبايعون عثمان ) (1) .
وإذا حاولنا أن نفهم هذه القصة بلغة عصرنا ، لا بأسلوب المؤرخين الذي قد يصعب على كثير منا ، قلنا إن برنامج الخليفة الثاني لتعيين القيادة اشتمل على البنود التالية :
1 ـ تشكيل مجلس شورى من سبعة أعضاء أحدهم لا يحق له ترشيح نفسه . هؤلاء الأعضاء هم :
علي بن أبي طالب ، وكان مرشحا للقيادة .
ــــــــــــــــــــ
(1) الطبري : 3|301 ـ 302 . وانظر التفاصيل في العقد الفريد : 4|273 وما بعدها .
الصفحة 86
عثمان بن عفان ، وكان مرشحا للقيادة .
عبدالرحمن بن عوف ، وهو زوج أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وأمها . أروى بنت كريز ، وأروى هي أم عثمان ، فهمو بهذا زوج أخت عثمان لأمه .
سعد بن أبي وقاص ، وهو ابن عم عبدالرحمن بن عوف .
طلحة بن عبيدالله ، وكان غائباً لم يحضر .
الزبير بن العوام ، وكان ابن خال فاطمة (ع) زوجة أحد المرشحين .
عبد الله بن عمر ، رأيه استشاري ، وهو ابن الخليفة ، ومواقفه من أحد المرشحين ( الإمام علي ) معروفة مسجلة .
2 ـ قتل من حاز على نسبة أقل أو حتى متساوية من الأصوات ، ورفَضَ مبايعة من وقع عليه الإختيار .
3 ـ عند تساوي الأصوات توضع سلطة التحكيم في يد ابن الخليفة، فإن رفض قراره ، رجح المرشح الذي يميل معه عبدالرحمن بن عوف .
الصفحة 87
4 ـ مدة التشاور ثلاثة أيام
نعم كان لكل واحد من أعضاء المجلس حق الترشح للقيادة ، إلا أن جميع الأعضاء وكذلك عامة الناس ، كانوا يفهمون أن السباق ليس إلا بين علي وعثمان ، ومن ثم ذكرت كلاً منهما على أنه مرشح للقيادة . وفي كلام الامام علي عليه السلام تأييد لهذا كما سترون فيما بعد .
ثم أسفر المجلس عن إيكال سلطة حسم المشكلة الى عبدالرحمن بن عوف بناء على اقتراحه هو نفسه ، فصار له وضع القيادة المؤقتة التي أنيطت بها مسئولية اختيار القيادة الجديدة، أي أن السلطة التي أجرت الانتخابات ـ بمفهوم عصرنا ـ كانت تميل مع أحد المرشحين ، وتربطها به صلة نسب قوية . وانتهى الأمر ببيعة عثمان (رض) .
واذا أزلنا قليلاً من الصدأ الذهني والفكري اللاصق على عقولنا وأفهامنا ، وحاولنا فهم ما جرى في حجاب عن زوابع العاطفة قلنا :
الصفحة 88
أولاً : إن تشكيل المجلس وإنتقاء أعضائه لم يتم على أساس مفهوم واضح ، فما هي شروط الأهلية هنا ؟ ولماذا لم ينتق الخليفة غير من انتقى ؟ ولماذا لم يمثل فيه الأنصار ، وهم قوة سياسية كبيرة بالمجتمع آنذاك ؟
ثانياً : إن إنتقاء ستة أعضاء ثلاثة منهم أقرباء فيما بينهم ، وفيهم أحد المرشحين ، ثم تركيز سلطة الفصل في الأمر عند التساوي في يد ابن الخليفة المعادي لأحد المرشحين ، فإن لم يكن ففي يد قريب أحد المرشحين دون سبب شرعي لهذا الإجراء ، كله من تفضيل لعبد الرحمن بن عوف ، أو وضع القرار في يديه، أمر لا يفهم منه إلا وضع هذه الصيغة السياسية والدستورية بحيث يصبح فوز أحد المرشحين ـ وهو هنا عثمان بن عفان ـ أمراً محتوماً، وتبقى المسألة إجراء صورياً لذر الرماد في الأعين ، والتخييل على الناس بأن الأمر تم عن طريق الشورى .
وأقل ما يوصف به مثل هذا المجلس في عرفنا ـ على الأقل من حيث التشكل ـ أنه غير محايد ، لأن مجموعة الأقارب التي تربطها وشائج القرابة ، وعلاقات المصالح ، يمتنع أن تتفق على غير
الصفحة 89
مرشحها ، فإذا تساوت الأطراف فالسلطة في يدها ، وهو ما يجعل الفريق الآخر لا قيمة له ، ولا فرصة أمامه.
من أجل هذا رأينا الإمام علي (ع) يسخر من مجلس الشورى في بعض كلامه ويقول (حتى إذا مضى لسبيله (أي عمر) جعلها (أي القيادة) في جماعة زعم أني أحدهم، فيا لله ويا للشورى ... فصغا رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره) (1) ويعلق على الصيغة السياسية التي وضعها عمر فيقول (قرن بي عثمان، وقال كونوا مع الأكثر، فإن رضي رجلان رجلاً، ورجلان رجلاً، فكونوا مع الذين فيهم عبدالرحمن بن عوف، فسعد لا يخالف ابن عمه عبدالرحمن، وعبدالرحمن صهر عثمان لا يختلفون، فيوليها عبدالرحمن عثمان أو عثمان عبدالرحمن ، فلو كان الآخران (يعني طلحة والزبير) معي لم ينفعاني ، بل إني لأرجو إلا أحدهما ) (2) أي أنه كان يتوقع بقاء الزبير فقط معه وانحياز طلحة عثمان وهو ما حدث .
ــــــــــــــــــــ
(1) نهج البلاغة بتعليق الدكتور صبحي الصالح ، ص49 ، بيروت1967 .
(2) الطبري : 3|294 .
الصفحة 90
وأكرم عثمان طلحة ، وخصه بالعطاء طوال مدة خلافته حتى حصر فكان أشد الناس عليه ( فكان طلحة إذن يمثل نوعاً خاصاً من المعارضة رضي ما أتاح الرضا له الثراء والمكانة ، فلما طمع في أكثر من ذلك عارض حتى أهلك وهلك ) (1)
ثالثاً : إن إصدار عمر (رض) أمره بقتل من حاز على أصوات أقل أو تساوى في الأصوات ولم يبايع ، لم يكن له سند من كتاب ولا سنة ، فإن حصل مرشح على نسبة أصوات أعلى ، وآخر على عدد أقل فما الداعي لقتل الثاني ؟ وبأي شريعة يقتل؟ وهل يبيح الإسلام قتل من لم يبايعوا أو كانوا في الأقلية أو من لم يفوزوا في الإنتخابات مثلاً؟ أليس هذا الحكم من باب إرهاب الطرف الآخر كي يبايع ؟
قد يقال إن عمر (رض) حكم بهذا خشية الفتنة ، ومن باب الحرص على الأمة ، فنقول : وفي أي شريعة يقتل المسلم بمجرد الخوف والتحسب ، دون أن يرتكب ما يستوجب القتل فعلاً ؟
ــــــــــــــــــــ
(1) الفتنة الكبرى ، طه حسين ص150 ، مصر 1962 م .
الصفحة 91
وهل تأييد مرشح لم يحصل ـ بالإحتيال أم بغير الإحتيال ـ على عدد كاف من الأصوات يستحق العقوبة في الإسلام ؟
أم أن الذي يستحق المحاسبة ذلك القائد والخليفة الذي يلجأ للحيل لإنجاح من يريد ؟
ثم في النهاية نسأل : هل لابد أن تكون نسبة الفوز في الإنتخابات 99/99% بدون معارضة ؟ وماذا نقول لو أن حاكماً ممن يركبوننااليوم فعل مافعل عمر في معارضيه؟ أيكون على حق؟
فإن قيل لا ، فله أن يقول : لي في عمر بن الخطاب أسوة حسنة ، ومن منا ينكر منزلة عمر ؟
وإن قيل نعم يحق له ، قلنا : فلا ينبغي إذن أن نعترض إذا انتقى أحد الذين يركبوننا مجلس شورى على عينه ، وسلك كل سبيل ليأتي في الحكم بمن يريد ، وقتل من فازوا بأقلية الأصوات خشية الفتنة !
رابعاً : إن العهد الذي أخذه عبدالرحمن بن عوف من المرشحين كشرط لتولي القيادة أيضاً فيه كلام. فالإمام علي (ع)
الصفحة 92
ـ كما هو معروف ـ كان أعلم من في الأمة، وكانت فيه بلا شك كبرياء العلماء، ولا يصح إقرانه بغيره بإجماع المسلمين قديماً وحديثاً . وإلزامه باتباع الكتاب والسنة أمر جد مقبول ولا غبار عليه ، أما إلزامه باتباع أعمال أبي بكر وعمر فقد كان استفزازاً، كما أنه ما أنزل الله به من سلطان، فأين الدليل على أن الإلتزام بأعمال أبي بكر وعمر (رض) شرط للخلافة وإدارة الدولة لا تفلح إلا به ؟
ولقد كان لعلي دون ريب مآخذ على أخطاء سياسية ارتكبها الشيخان خلال مدة حكمهما ، وكان أعلم منهما ، فهل يصلح أن يكون الإلتزام بأخطاء السلف دستوراً للعمل في الدولة ؟
وطبيعي أن رجلاً كعلي لا يقبل الإقرار بالإلتزام بهذه المخالفات التي ندم عليها من فعلوها أنفسهم .
ثم إن هذا الشرط لم يضعه عمر في الدستور الذي تركه ـ إن جاز لنا اعتبار ما تركه بمثابة دستور للدولة ـ ولم يكن هذا الشرط إلا تعديلاً تعسفياً في الدستور أجراه عبدالرحمن بن عوف بمزاجه لحاجة في نفسه .
الصفحة 93
ودعنا نفترض جدلاً صحة هذا الدستور شرعاً ، فهل سار عليه عثمان في خلافته ؟ أم أنه انحرف عنه إنحرافاً كبيراً كما هو مشهور في التاريخ ؟ ولماذا لم يذكر أحد هذا الشرط حين رأوا المخالفات ، ولماذا لم يعزل لإخلاله بالشرط الذي لولاه ما أعطيت له القيادة ؟
ألا تنص الشريعة علىأن الخليفة إذا لم يف بشروط استخلافه عزل ؟
والإستفزاز الذي ذكرنا لتونا فطن إليه الإمام علي عليه سلام الله حين خلا عبدالرحمن بن عوف به ثلاث مرات يسأل : لنا الله عليك إن وليت هذا الأمر أن تسير فينا بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة أبي بكر وعمر ، حتى قال له الإمام في المرة الأخيرة ( إن كتاب الله وسنة نبيه لا يحتاج معها الى أجيرى ( بكسر الهمزة وتشديد الجيم أي الطريقة والسنة ) أحد ، أنت مجتهد أن تزوي هذا الأمر ( يعني القيادة ) عني (1) ودفع القيادة لعثمان لما وافقه على هذا الشرط .
ــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ اليعقوبي : 1|162 .
الصفحة 94
والواقع أن تشبث عبدالرحمن بن عوف بضرورة الإلتزام بأعمال أبي بكر وعمر ، ينبغي أن نفهمه في ضوء التيارات السياسية والتغييرات الإجتماعية والإقتصادية التي طرأت على المجتمع الإسلامي بعد وفاة الرسول عليه السلام ، ونتيجة للسياسة الإقتصادية بوجه خاص التي سارت عليها الدولة في عهد الشيخين لا سيما عمر ، ذلك أن هذه السياسة أدت الى تغييرات في الدولة، ورفعت فئة على فئة على النحو الذي أشار اليه أستاذنا الشهيد سيد قطب في كتابه العدالة الإجتماعية .
وكان الإمام علي معروفاً بمخالفته هذه السياسة ، مشهوراً بفقره وزهده وحبه للمساواة وللفقراء والمستضعفين ، فبرز كقائد سياسي وديني لهذا التيار فالتف حوله أتباعه، ولذلك كثيراً ما روى عن عمر قوله (قد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم أن أنظر فأولى رجلاً أمركم هو أحراكم أن يحملكم على الحق وأشار الى علي) (1) وقال ( لله درهم إن ولوها الأصيلع ( يقصد علياً )
ــــــــــــــــــــ
(1) الطبري : 3|293 .العقد الفريد : 4|274 .
الصفحة 95
كيف يحملهم على الحق وإن كان السيف على عنقه ) . قال محمد بن كعب : فقلت أتعلم ذلك منه ولا توليه ؟ فقال إن تركتهم فقد تركهم من هو خير مني ) (1)
وقال مرة أخرى عنه ( أحربه أن يحملهم على الحق ) (2) وقال لابنه ( ان ولوها الأجلح يسلك بهم الطريق المستقيم ـ يعني علياً ـ فقال ابن عمر : فما منعك أن تقدم علياً ؟ قال أكره أن أحملها حياً وميتاً ) (3)
وقد روت الكثرة من كتب الحديث والتاريخ هذا النص بروايات وألفاظ مختلفة ، مما يدل على أن عمر وغيره من الصحابة آنذاك كانوا يعرفون أن علياً إذاجاء الى السلطة، أخذ الدولة على طريق الحق، واشتد في إحقاقه دون محاباة ، مما يضر بمصالح فئة
ــــــــــــــــــــ
(1) الرياض النظرة : ص|95 .
(2) الطبري : 3|294 .
(3) الرياض النظرة : 2|95 .
الصفحة 96
معينة ليسوا على استعداد لتحمل تبعة سياسة المساواة والإنصاف التي سيتبعها علي (ع) .
والذي نذكره هنا أن هذا التغيير الإقتصادي والإجتماعي الذي نشأ في خلافة عمر وندم عليه قبل موته (1) زاد واستفحل في عهد عثمان (رض) حتى عصفت نتائجه بالدولة عصفاً .
ولم أقف على أحد من القدماء أو المحدثين تناول بالتاريخ عصر الخلافة إلا وأشار من قريب أو بعيد ، تلميحاً مرة وتصريحاً عشرات المرات ، الى أن سياسة عثمان الإقتصادية خاصة والإدارية عامة كانت سبب تنافس الصحابة ـ أو أكثرهم ـ ثم اقتتالهم فيما بعد . فلقد أحدثت سياسته المالية والاقتصادية الخاطئة انقلاباً هائلاً في وضع المجتمع العربي آنذاك ، فبرزت قطع من نسيجه وانخفضت قطع أخرى ، ففقد وحدة الإنتماء الإقتصادي وطابع المساواة الذي تركه عليه رسول الله ، وظهرت الطبقات بمعالمها واضحة ( وبلغ نظام الطبقات غايته بحكم هذا الانقلاب ،
ــــــــــــــــــــ
(1) الفتنة الكبرى ص8 .
الصفحة 97
فوجدت طبقة الارستقراطية العليا ذات المولد والثراء الضخم والسلطان الواسع ، ووجدت طبقة البائسين الذين يعملون في الأرض ، ويقومون على مرافق هؤلاء السادة ، ووجدت بين هاتين الطبقتين المتباعدتين طبقة متوسطة هي طبقة العامة من العرب الذين كانوا يقيمون في الأمصار ، ويغيرون على العدو ويحمون الثغور ، ويذودون عمن وراءهم من الناس وعما وراءهم من الثراء ، وهذه الطبقة المتوسطة التي تنازعها الأغنياء ففرقوها شيعا وأحزاباً (1) وكان الإمام علي ـ كما تشهد سيرته وأحواله وأقواله ـ زعيما للبؤساء والمستضعفين والمحرومين ( ولم يكن الخداع والحيل من مذهب علي عليه السلام ، ولم يكن عنده غير مر الحق ) (2)
فمواقف رجال مجلس الشورى أثناء بيعة عثمان لا يمكن فصلها عن مشاعر البشر ، والمكاسب التي حققوها في ظل سياسة
ــــــــــــــــــــ
(1) نفس المصدر : ص109 .
(2) الفخري لابن طباطبا : ص63 ، مصر 1339هـ .
الصفحة 98
اقتصادية معينة ، فكانت المفاضلة بين عثمان وعلي لا على أساس الأكفأ والأحق ، بل على أساس الحفاظ على الوضع الراهن والسياسة المفيدة ، ومن هنا نفهم الإصرار على ضرورة اتباع سيرة أبي بكر وعمر ، ثم الميل من بعد الى من يرجى منه عدم المساس بالمكاسب المادية والإجتماعية التي نالوها فيما سبق .
نقل ابن خلدون في مقدمته عن المسعودي قوله ( في أيام عثمان اقتنى الصحابة الضياع والمال ، فكان له يوم قتل عند خازنه خمسون ومائة ألف دينار ، وخلف إبلاً وخيلاً كثيرة ، وبلغ الثمن الواحد من متروك الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار ، وخلف ألف فرس وألف أمة ، وكانت غلة طلحة من العراق ألف دينار كل يوم ، ومن ناحية السراة أكثر من ذلك ، وكان على مربط عبدالرحمن بن عوف ألف فرس ، وله ألف بعير وعشرة آلاف من الغنم . وبلغ الربع من متروكة بعد وفاته أربعة وثمانين ألفاً ، وخلف زيد بن ثابت من الفضة والذهب ما يكسر بالفؤوس، غير ما خلف من الأموال والضياع بمائة ألف دينار.
الصفحة 99
وبنى الزبير داره بالبصرة وكذلك بنىبمصر والكوفة والإسكندرية، وكذلك بني طلحة داره بالكوفة ، وشيد داره بالمدينة وبناها بالجص والآجر والساج . وبني سعد بن أبي وقاص داره بالعقيق ، ورفع سمكها وأوسع فضاءها ، وجعل على أعلاها شرفات ) (1)
هكذا كان وضع أكثر أعضاء مجلس الشورى وما حققوه من مكاسب اجتماعية وسياسية ، لا يمكن إغفال دورها في صياغة الأحداث عند تقييمنا لوقائع تاريخنا السياسية الهامة .
ثم إن ابن سعد روى نصاً غريباً خلاصته أن سعيد بن العاص أتى عمر يستزيده في الأرض ليوسع داره فوعده الخليفة بعد صلاة الغداة وذهب معه حينئذ الى داره ، يقول سعيد :
( فزادني وخط لي برجليه ، فقلت يا أمير المؤمنين زدني فإنه نبتت لي نابتة من ولد وأهل ، فقال : حسبك ، واختبيء عندك (يعني اجعل الكلام في سرك ) أنه سيلي الأمر من بعدي من يصل رحمك ، ويقضي حاجتك . قال فمكثت خلافة عمر بن الخطاب
ــــــــــــــــــــ
(1) المقدمة : ص204 ـ 205 .
الصفحة 100
حتى استخلف عثمان وأخذها عن شورى ورضا ، فوصلني وأحسن ، وقضى حاجتي ، وأشركني في أمانته ) (1)
فإن صحت هذه الرواية جاز لنا أن نتساءل كيف عرف عمر (رض) أن عثمان سيلي الأمر بعده ؟ أكان ذلك ضرباً من الكشف أم أمراً آخر ؟ وإن كان كشفاً فلماذا يأمره بأن يجعل الكلام في سره ولا يبوح به لأحد ؟
وهناك رواية أخرى تقول ( إن عمرو بن العاص كان قد لقي علياً في ليالي الشورى فقال إن عبد الرحمن رجل مجتهد ، وأنه متى أعطيته العزيمة كان أزهد له فيك ، ولكن الجهد والطاقة ، فإنه أرغب له فيك . ثم لقي عثمان فقال إن عبدالرحمن رجل مجتهد وليس والله يبايعك إلا بالعزيمة فاقبل ) (2) أي أن عمرو بن العاص خدع علياً وقال له إن عبدالرحمن إذا سألك أتبايع على كتاب الله وسنة نبيه وسيرة أبي بكر وعمر ، فقل له بل جهدي
ــــــــــــــــــــ
(1) طبقات ابن سعد : 5|31 ، بيروت 1957 .
(2) الطبري : 3|302 .
الصفحة 101
من ذلك وطاقتي ، لأن هذا يعجب عبدالرحمن . ثم قال لعثمان أن يقول نعم ، لأن ذلك سيجعله فيك أرغب .
ومع أنني لا أعتقد بصحة هذه الرواية لأن شخصية الإمام علي (ع) لم تكن بهذا الضعف ، كما لم تكن شخصية انتهازية ترضى بسلوك أي وسيلة لتصل الى غايتها ، وتجلس في السلطة ، وهو الزاهد الذي كان يرى الدنيا بأسرها أهون من عفطة عنز ، إلا أن الرواية ، بافتراض صحتها ، تشير الى أن الأمر لم يخل من خداع .
وسواء كانت لعبة الشورى ، أم مشورة عمرو ، فالقرار الذي أصدره الإمام علي (ع) بشأن كل ما حدث في تولية عثمان أنه (خدعة وأيما خدعة) (1) أما معاوية فقال عن شورى عمر فيما بعد ( لم يشتت بين المسلمين ولا فرق أهواءهم ولا خالف بينهم إلا الشورى التي جعلها عمر الى ستة نفر ) (2)
ــــــــــــــــــــ
(1) الطبري : 3|302 .
(2)العقد الفريد : 4|281 .
الصفحة 102
ولأنها كانت كذلك ولم تكن صافية بلا شوائب ، أدت الى ما نعرفه من حوادث، وكما ندم أبو بكر (رض) على تقمصها ندم عبدالرحمن بن عوف على فعله حتى قال لعلي (ع) ( إن شئت أخذت سيفك وآخذ سيفي فإنه خالف ما أعطاني وروي كذلك أنه قال لبعض الصحابة في المرض الذي مات فيه ( عاجلوه قبل أن يطغى ملكه ) (1) وعاش عبدالرحمن بن عوف لم يكلم عثمان أبداً حتى مات (2)
تلك هي بيعة عثمان أو الشكل الثالث من أشكال تعيين القيادة في جيل حمل الرسالة ، فاقتدينا به . فإن جاء أحد ممن نطأطيء لهم فيركبوننا كالمطايا ، وتأسى بهذه الأسوة وأتى من الأفعال ما تشابه وأفعال قدوتنا ، فكيف نوقفه عند حده ، وكيف نمنعه ، ما دامت هذه الممارسات تتحكم فينا ، لأننا قدسنا فاعليها وقدسناها معهم ، ولا يجوز لنا الاعتراض عليها أو عليهم .
ــــــــــــــــــــ
(1) الفتنة الكبرى : ص172 .
(2) العقد الفريد : 4|280 . 5 ـ معاوية والثورة المضادة
الصفحة 103
أدت سياسة عثمان (رض) التي ارتكزت على محاباة بني أمية ، وسوء توزيع الثروة في الدولة ، ورفع أسوأ الناس على رقاب المؤمنين ، وارتكاب المخالفات القانونية ، وتركيز السلطة في يد عائلة بعينها دون إعتبار للأهلية والكفاءة ـ كما هو مفصل في تاريخنا ـ الى تمرد عامة الشعب، وتذمر كبار الصحابة، حتى انتهى الأمر بمقتل الخليفة ، وسقوط الدولة الإسلامية الناشئة في دوامة صراع سياسي خطير . وأخذت الأخطاء التي بدأت قبل سنوات بدرجة واحدة ، تتسع على مر الأيام ، ويزداد انفراجها ، حتى وصلت الأمور الى تحول معاكس للخط الذي تأسست عليه الدولة .
ولأن الثورة على نظام الحكم ـ أي نظام ـ حرام لا تجوز في اعتقاد مؤرخينا الذين نشأوا وتربوا في ظل نظم غير شرعية ، كان لابد من البحث عن تبرير خارج عن العقل والمنطق ـ كالعادة ـ لإقناعنا بأنه ما أسقط الدولة وأشاع الفتنة إلا العناصر الخارجية
فهم لم يربطوا بين المسببات وأسبابها ، ولم يرجعوا المعلولات الى عللها، ولم يفتشوا عن أسباب ثورة أهل مصر على عثمان (رض)
الصفحة 104
لأن هذا المنهج ـ رغم علميته وإسلاميته ـ سيؤدي الى تخطئة بعض الشخصيات التي يريدون من كل مسلم تقديسها مهما فعلت .
من أجل هذا اخترعوا شخصية خيالية لم توجد في التاريخ أصلاً إلا في أوهامهم ، وسموها عبدالله بن سبأ أو ابن السوداء ، وأطلقوا لخيالهم العنان تحت تخدير العواطف ، فتخيلوا أنه لابد وأن يكون يهودياً ، ونسبوا إليه كل الفساد ، ووضعوا على رأسه مسؤولية الثورة والتذمر . فتعيين الخليفة مجلس شوراه من أقربائه وممن لعنهم أو نفاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كمروان بن الحكم ، وسعيد بن العاص ، وعبدالله بن عامر ، وعبدالله بن سعد بن أبي سرح ، مع وجود أجلة الصحابة، ثم إطلاق يد العائلة المالكة وعلى رأسها هؤلاء في تغيير الدولة والتلاعب بشئونها، وإشاعة الفوضي السياسية والقانونية وتعطيل أحكام الشرع ، ثم حماية الخليفة لهم . ووعده بإصلاح الأمور مرات ، واخلافه لهذا الوعد ، واصراره على صحة سياسته التي احتج عليها كل الصحابة إلا المستفيدين ، لم يكن من أسباب التذمر . كما أن تعيين الخليفة لمرتد أباح الرسول دمه في فتح مكة كعبدالله بن
الصفحة 105
سعد بن أبي سرح والياً على مصر في وجود أجلاء كعمار بن ياسر ، ومحمد بن أبي بكر ، ومحمد بن أبي حذيفة ، وغيرهم ، ثم قيام هذا الوالي بتعطيل الشرع ونهب خزانة الدولة واضطهاد النصارى ، وإذلال الناس، لم يكن سبباً كافياً لتذمر أهل مصر ، بل لابد وأن يكون السبب وراء ذلك عبدالله بن سبأ اليهودي ، ولابد وأن يكون الصحابة الذين ثاروا على فساد نظام الدولة من أتباع هذا اليهودي . تماماً كما تقول الأنظمة المعاصرة عمن ثار عليها ، لأن الثورة على النظم الفاسدة حرام وفتنة وإراقة دم .
ونظرية ابن سبأ التي ساقها مشايخنا في تبرير الكارثة ، يستحي منها كل طفل مسلم به مسكة من عقل ، لأنها تعني أن الخلافة الراشدة والدولة المحمدية كانت من الضعف بمكان بحيث أن يهودياً واحداً استطاع أن يقلبها بغير عناء .
كما أنها تعنى أن كبار الصحابة الذين لم يوافقوا على سياسة عثمان ، لم يكونوا يعرفون دينهم ، فانساقوا وراء مقولة يهودي ودمروا دولة الإسلام .
الصفحة 106
ثم ليت مؤرخينا استطاعوا أن يثبتوا دور ابن سبأ في الأحداث، لأنك تراهم يذكرون اسمه في البداية فقط ، ثم تجري الأحداث مجراها الطبيعي محكومة بقوانين العمران والسياسة المنطقية ووفق عللها الطبيعية من تنافس بين الصحابة ، وسوء إدارة الدولة ، وفساد الشورى ، وضغائن القبائل ، وما اليها .
ولأن العلة التي ذكرها المؤرخون ـ أي ابن سبأ ـ علة وهمية ، تراهم على غير يقين منها ، فمرة قالوا وراءها عبدالله بن سبأ ، ومرات قالوا أن عمرو بن العاص هو محركها ، لأنه كان يؤلب الناس على عثمان حتى رعاة الغنم المتفرقين في الصحراء ، ومرة يعلقون المسؤولية في عنق محمد بن أبي بكر ، وأخرى يضغونها على رأس مروان بن الحكم (1).
وكثير من المؤرخين يقولون أن الأسباب التي نقمها الناس على عثمان كثيرة وخطيرة ، وأنهم رأوا الإعراض عن ذكرها أفضل ، ولم يذكروا إلا ماسمحت به أنفسهم وجادت به وجهات نظرهم.
ــــــــــــــــــــ
(1) أنظر تفصيل ذلك على سبيل المثال في الطبري : 3|378 حتى 398 .
الصفحة 107
فنحن إذن لا نقرأ إلا ما سمحوا لنا بقراءته والإطلاع عليه ، لا ما وقع كله ، وما يدريك لعل فيما لم يذكروه مفاتيح معضلات كثيرة ، أو ربما فيه من الحقائق التاريخية ما يكشف كثيراً مما لم يزل عندنا طلاسم غير مفهومة ؟
إن أحداث المأساة السياسية التي وقعت في عهد عثمان (رض) لم يكن وراءها يهودي ولا نصراني ، بل كانت لها أسبابها وعللها السياسية والإقتصادية والإدارية والإجتماعية والنفسية والفكرية التي اجتمعت وسارت وفق قوانين التاريخ وسنة الله في خلقه .
ومن الأدلة على ذلك أن الصحابة لم يذكروا ابن سبأ قط ، بل منهم من تنبأ بما وقع من الأحداث الجليلة ، فانقلاب معاوية على الخليفة الشرعي وتأمره على الناس بالسيف تنبأ به كعب وغيره من الصحابة (1) وإنعكاس حال الدولة استشفه علي (ع) (2)
ــــــــــــــــــــ
(1) الطبري : 3|381 .
(2) الطبري : 3|456 .
الصفحة 108
كما تنبأ به عثمان نفسه حين ثار عليه أهل مصر فقال (والله لئن فارقتهم ليتمنون أن عمري كان طال عليهم مكان كل يوم بسنة مما يرون من الدماء المسفوكة والإحن والأثرة الظاهرة والأحكام المغيرة) (1) .
ذلك أن أحوال الدولة وخط سيرها كان واضحاً أمامهم جميعاً، ومن ثم استطاعوا أن يروا المصير قبل وقوعه ، لأنه كان أمراً مفهوماً ، إذ كيف يتوقع ذو عقل السلامة لدولة يديرها مجلس شورى من الملاعين والمطرودين ؟
لقد كانت الدولة في عهد عثمان دخلت مرحلة وسطاً بين الخلافة والملك ، وكانت تسير بخطى واضحة في طريقها الى نظام سياسي غير الذي أراده لها مؤسسها ، وكانت هذه حقيقة سياسية يعرفها الكثير . أنظر الى مروان بن الحكم ـ مثلاً ـ وقد حاصر الناس عثمان فخرج عليهم ليقول لهم ( جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا ؟ إرجعوا عنا ) (2)
ــــــــــــــــــــ
(1) الطبري : 3|393 وانظر كذلك 3|425 .
(2) الطبري : 3|379 .
الصفحة 109
إن طريقة تفكير الصحابة ومن عاش خلال تلك الأحداث كانت مختلفة عن طريقة تفكيرنا التي ورثناها عن مشايخنا ومؤرخينا ، ومن هنا لم يؤثر عن أحدهم أنه قال أن سياسة الدولة كانت مضبوطة وأن سبب الفساد كان هذا أو ذاك من اليهود أو النصارى .
وكيف كان من الممكن توقع غير ما آلت إليه الخلافة في الوقت الذي كان يعتبرها مروان بن الحكم ـ كما مر قبل سطور قليلة ـ ملكاً له وعائلته والخليفة حي بين الناس ؟
قتل الخليفة ، وأدرك الناس أن الدولة قد حلت بها كارثة ، فهرعوا الى الإمام علي (ع) يبايعونه وقالوا ( إن هذا الرجل قد قتل ولابد للناس من إمام ، ولا نجد اليوم أحق بهذا الأمر منك ، لا أقدم سابقة ولا أقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : لا تفعلوا فإني أكون وزيراً خير من أن أكون أميراً ، فقالوا لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك ، قال : ففي المسجد فإن بيعتي لا تكون خفياً ولا تكون إلا عن رضا المسلمين ) (1)
ــــــــــــــــــــ
(1) الطبري : 3|450 .
الصفحة 110
وفي رواية أخرى أنه ( حين قتل عثمان رضي الله عنه واجتمع المهاجرون والأنصار وفيهم طلحة والزبير ، فأتوا علياً فقالوا يا أبا حسن هلم نبايعك ، فقال : لا حاجة لي في أمركم أنا معكم ، فمن اخترتم فقد رضيت به فاختاروا . فقالوا : والله ما نختار غيرك ، فاختلفوا إليه بعد ما قتل عثمان رضي الله عنه مراراً ، ثم أتوه في آخر ذلك فقالوا إنه لا يصلح الناس إلا بإمرة ، وقد طال الأمر ، فقال لهم: إنكم قد اختلفتم اليَّ وأتيتم، وإني قائل لكم قولاً إن قبلتموه قبلت أمركم، وإلا فلا حاجة لي فيه. قالوا ما قلت من شيء قبلناه إن شاء الله. فجاء فصعد المنبر، فاجتمع الناس إليه فقال: إني قد كنت كارهاً لأمركم فأبيتم إلا أن أكون عليكم. ألا وإنه ليس لي أمر دونكم ، إلا أن مفاتيح مالكم معي، ألا وإنه ليس لي أن آخذ منه درهماً دونكم، رضيتم؟ قالوا نعم، قال أللهم اشهد عليهم ثم بايعهم على ذلك (1) .
وهذه الروايات ـ إن صحت ـ دلت على أمور :
ــــــــــــــــــــ
(1) نفس المصدر : 3|450 ـ 451 .
الصفحة 111
الأول : أن طريقة اختيار القيادة هذه المرة اختلفت عن المرات الثلاثة الماضية ، وهذه هي المرة الأولى التي ذهب الناس فيها مراراً يلحون على شخص أن يتولى قيادتهم ، دون أن يتم الأمر فلتة ، أو بالعهد دون مشورة ، أو بمجلس شورى منتقى .
الثاني : أن الإمام علي (ع) ظل يرفض هذا المنصب ، ربما لأنه كان يعلم أن الدولة قد سارت في طريق وعر ، وتغير حال الناس فيها ، وهو ما سيسبب له بالتأكيد مصاعب في إدارتها ورد الأمور الى مجراها الأصلي . وربما رفض مراراً ليثبت لكل ذي عينين أنه لم يختلس الأمر ، ولم يسارع اليه ، ولم يلفق له الطرق ويخترع الوسائل ، وإنما كان اختياره اختياراً حراً من قبل الناس الذين أصروا عليه ، فهي بيعة صافية رائقة لا يشوبها غبش .
الثالث : أن الإنحراف الذي سبب الكوارث الماضية كان في أساسه انحرافاً اقتصادياً مالياً بالدرجة الأولى ، وهو ما يظهر من عبارته، ولو لم تكن لهذا الأمر علاقة بما جرى ما أفرده الإمام بالذكر في عهد البيعة الذي له منزلة الدستور.
الصفحة 112
الرابع : أن السياسة الإقتصادية والمالية التي سيتبعها الإمام علي ـ أو القيادة الجديدة ـ ستقوم على المساواة وإحقاق الحق والإنصاف وعدم المحاباة والإلتزام الدقيق بالشرع . وأعتقد أن هذا الإحساس الذي لابد وأن كل فرد آنذاك قد شعر به .
وتمت بيعة الإمام بعد أن كانت الدولة قد شهدت تغييرات هائلة في جميع جوانبها الإقتصادية والسياسية والإجتماعية والقانونية ، فغاصت في بحر تعالت أمواجه وهزت كيان الدولة هزاً عنيفاً .
وما أن تولى الأمر حتى بدأ يعيد عربة الدولة الى الخط الذي خرجت عنه ، فعزل العصابة التي استولت على مناصب الدولة العليا ، وولى مكانها أهل الصلاح والتقى ، وسوى بين الناس في الأنصبة ، وكانت بيعته فرصة عظيمة لإعادة الدولة من الطريق المنحرف الى الصراط المستقيم . غير أن السياسات الخاطئة ـ خصوصاً الإقتصادية ـ التي كانت الدولة قد سارت عليها ربع قرن بعد وفاة المؤسس ، أسفرت عن خلق خط سياسي معاد لأية إصلاحات اقتصادية ، لا سيما وأن كبار أهل الأثر والنفود ـ أو أغلبهم ـ كانوا ممن استفادوا من هذه السياسة الإقتصادية ، وتغير وضعهم الإجتماعي وأصبحت لهم مكاسب ومصالح مشتركة يدافعون عنها ، ويرون الحفاظ عليها بأي ثمن .
ومن هنا كانت أزمة الإمام علي (ع) الحقيقية ، إذ تسلم السلطة والحمل ثقيل ، والمهمة صعبة ، أضف الى ذلك العناصر الأخرى كإزدهار بني أمية سياسياً ، وضعف أتباع خط الإمام علي (ع) نظراً لفقرهم وزهدهم ، واستفحال الضغائن القبلية ، والأحقاد الشخصية ، وتبني سياسة الإنتقام من الإمام الذي وتر بسيفه كل بيوتات الكفر التي تصدت للإسلام خلال الحروب الماضية .
تزعم حركة قلقلة الدولة فريقان :
الأول بزعامة معاوية وكان أقوى وأكبر كما كانت له مطامع قبلية معروفة ، وهو من البيت الذي ظل يحارب الإسلام ودعوته حتى فتحت عليه مكة واضطر للإسلام قبل أشهر قليلة من وفاة الرسول عليه وآله الصلاة والسلام .
الصفحة 114
وهذا الفريق نجح في استقطاب الناس بالعطايا والوعود والهدايا، واتخذ من دم عثمان حجة للثورة على الخليفة الشرعي ونشر الفوضى في الدولة الإسلامية .
والثاني بزعامة أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير ، وهذا الفريق أقل وأضعف ، لكنه أيضا استتر بالمطالبة بدم عثمان دون وجه حق، وكانت الدوافع مختلفة ، فأم المؤمنين عائشة كانت بنفسها تحرض الناس على قتال عثمان وتقول لهم صراحة : اقتلوه، وترميه بالكفر (1)
وكذلك فعل طلحة وكان من أكبر المساعدين على قتله (2)
ثم بايع هو والزبير الإمام في البداية ، ثم انقلبا عليه لما رفض طلبهما بتولي إمرة البصرة والكوفة ، وادعيا أنهما بايعا مكرهين (3).
ــــــــــــــــــــ
(1) الطبري : 3|477 .
(2) الفخري لابن طباطبا ، ص60 قال وهذا تشهد به جميع التواريخ .
(3) الطبري : 3|451 ـ 452 . وانظر تفصيل وقائع هذا الدور في جميع كتب التاريخ المعتبرة .
الصفحة 115
نعم ندمت عائشة على خروجها على الإمام علي كما ندم غيرها ، لكنهم ندموا بعد أن كان الخراب قد عم .
واضطر الإمام لأن يواجه ثلاث حروب طاحنة في أقل من خمسة أعوام هي مدة حكمه . فانهزم له الفريق الثاني في موقعة الجمل ، وأوشك الفريق الأول في صفين على الهزيمة ، فلجأ الى حيلة التحكيم ورفع المصاحف ، كما هو مشهور لدينا معروف ، وانتهى الأمر بالكذب والخداع .
وظهر الى الوجود من بعد فريق ثالث هم البغاة الخوارج ، الذين اضطر الإمام لقتالهم في النهروان .
وعاش الإمام ولا سلطان له على الشام مركز معاوية ، وأقام البغاة دولة داخل الدولة الى أن قتل الإمام على يد ابن ملجم المصري لعنه الله . ولأن الأمة لم تكن ترى أحداً من زعماء الفريقين المذكورين يستحق القيادة بايعوا الإمام الحسن بن علي عليه السلام ، فرأى أن يهادن قليلاً لتستتب الأمور ، وتهدأ العاصفة ، لكن نفراً من أتباعه ثاروا عليه ، وهجموا عليه وجرحوه ونهبوا متاعه ، فاضطر في النهاية للتفاوض مع معسكر
الصفحة 116
البغي ليحقن دماء أتباع أهل البيت ، الذين كادت السيوف الباغية أن تستأصلهم من جذورهم . وشرط له معاوية شروطاً لم يف بأي منها ، بعد أن تمكن من السلطة بحد السيف عام 41 هـ وهو ما قيل لنا عنه أنه عام الجماعة ، ولم يكن إلا عام الفرقة والاستسلام للبغي وإنقلاب خلافتنا ملكاً عضوضاً .
ثم دس معاوية للحسن السم وإنفرد بالأمر . .. وهذا كله مفصل في كتب التاريخ كلها فليرجع اليه من شاء ، وقد أعرضنا عن تفصيله لما يقتضيه المقام من الإختصار .
ركب معاوية السلطة ، ووقف بعدها ليعلن فصل الدين عن الدولة صراحة ، ويقول ( يا أهل الكوفة أترونني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج ، وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون ، ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم وأَلي رقابكم ، وقد آتاني الله ذلك وأنتم له كارهون . ألا إن كل دم أصيب في هذه مطلول ، وكل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين ) (1)
ــــــــــــــــــــ
(1) الكامل لابن الأثير : 6|220 ، مصر ، 1356هـ .