عربي
Monday 25th of November 2024
0
نفر 0

الحتميات الاِلهية في سلوك الانسان

الحتميات الاِلهية في سلوك الانسان :
النظريات الحتمية عند الاِلهيين تتعلق غالباً بالسلوك الفردي للانسان وتتجه إلى نفي إرادة الاِنسان في سلوكه وفعله ، ونفي أي دور أو سلطان للانسان على أفعاله . وهذه النظرية هي المعروفة بـ (الجبر) .
وأشهر المذاهب الاِسلامية التي تؤمن بالجبر هو مذهب الاَشاعرة، أصحاب أبي الحسن علي بن إسماعيل الاَشعري (المتوفى سنة 330 هـ) وهذا المذهب لا ينفي إرادة الاِنسان وقدرته رأساً ، ولكنّه يرى أنّ فعل الانسان ليس ناشئاً من إرادة الاِنسان وقدرته ، وإنّما هو مخلوق لله تعالى .
وليس للانسان دور في إيجاد العمل وإبداعه ، وإنّما يقتصر دوره على كسب العمل فقط لا إيجاده .
وبذلك يحاول الشيخ الاَشعري أن يجمع في هذه النظرية بين أصلين أساسيين هما : (التوحيد) و (العدل) .
فهو يرى : أوّلاً : أنّ كلّ عمل للانسان مخلوق لله تعالى ، وليس للانسان أي دور في إيجاد العمل وإبداعه وإحداثه ، فإنّ الله تعالى يقول : ( والله

 

 

خلقكم وما تعملون ) (1) (الصافات 73 : 69) . وليس للعباد شأن فى أعمالهم وإبداعها ، فإنّ الاِيجاد يختص بالله تعالى في الاَعمال والاَعيان على نحو سواء، وهذا هو مقتضى أصل (عموم التوحيد) على رأي الشيخ الاَشعري .
فهو في الحقيقة يؤمن بمبدأ العلّية ، ولا ينفي أصل العلّية ، ولكنّه يؤمن بأنّ الله تعالى هو علّة لكلّ شيء مباشرةً ، وليس على نحو التسبيب ، فَيُحلّ علّة واحدة محل العلل الكثيرة التي تتطلبها المخلوقات الكثيرة. ويرى أنّ الاعتقاد بأنّ لاِرادة الاِنسان وقدرته دوراً في إيجاد العمل من الشرك الذي تنفيه الآية الكريمة ( والله خلقكم وما تعملون)(الصافات 37 : 96) .
أصل الكسب :
وهذا هو الاَصل الاَول لدى الشيخ الاَشعري . والاَصل الثاني لدى الشيخ الاَشعريهو أصل (الكسب) والتزم به الاَشعري لئلاّ ينتهي به الاَمر إلى (الجبر) وإبطال الثواب والعقاب وارتفاع المسؤولية عن الانسان، وبالتالي لئلاّ يضطر إلى نفي صفة (العدل) عن الله تعالى (4).
فإنّ افتراض نفي كل سلطان ودور للانسان في أفعاله يؤدي بالتالي إلى إبطال الثواب والعقاب معه ، وليس من العدل عقاب العبد على فعل لم


____________

(1) هذه الآية الكريمة لا علاقة لها بما يُريد الاَشاعرة فهي تتعلق بالحوار الذي جرى بين إبراهيم عليه السلام والمشركين من قومه . فقال لهم مستنكراً : ( أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون ) يعني إنّ الله خلقكم والاَحجار التي تنحتونها أصناماً ( وما تعملون ) .
(2) وإن كانوا لا يصرحون بهذا التوجيه الاَخير .

 

 

يكن له دور وسلطان في إيجاده بأي شكل .
وقد اختلفت كلمات الاَشاعرة في توجيه وتفسير (الكسب) . ومن أفضل من حاول توجيه الكسب من متكلّمي الاَشاعرة هو أبو بكر الباقلاني، المتكلم المعروف .
وخلاصة رأي الباقلاني في تفسير (الكسب) : إنّ لكل فعل جهتين : جهة الاِيجاد ، وجهة الخصوصية والعنوان الذي جعله الله تعالى مناطاً للثواب والعقاب.
وهاتان جهتان مختلفتان ، ونسبة كل واحدة منهما تختلف عن نسبة الاَخرى.
فالجهة الاَولى : هي (الاِيجاد) وتنتسب إلى الله تعالى، ونسبة الاِيجاد إلى غير الله تعالى من الشرك بالله .
والجهة الثانية : هي العنوان الذي يكتسب به العبد الثواب أو العقاب نحو (الصلاة) و (الصيام) و (الحج) و (الغيبة) و (الكذب)...
وكما لا يجوز نسبة الاَُولى إلى العبد ، لا يجوز نسبة الثانية إلى الله تعالى. وقدرة الاِنسان وإرادته تتعلقان بالثانية فقط دون الاَُولى ، وهي مناط الثواب والعقاب .
وبذلك يتم لهذه المدرسة ـ كما يعتقدون ـ الجمع بين (أصل التوحيد) و (أصل العدل) أو (استحقاق الثواب والعقاب) .
إذن ، للفعل الواحد جهتان اثنتان وليس جهة واحدة . وهاتان الجهتان

 

 

متعلقتان لقدرتين مختلفتين ، قدرة الله تعالى وقدرة العبد . ولا ضير في ذلك، فإنّ اختلاف الجهة يبرّر تعدد القدرة التي يتعلق بها الفعل .
مناقشة أصل الكسب :
ولعلّنا لا نستطيع أن نصل إلى أمر محصل واضح عن (الكسب) ، فإنّ هذه العناوين التي يكسبها المكلف هي عين (الاِيجاد) الذي تنسبه الاَشعرية إلى الله تعالى . فلا معنى لاِقامة الصلاة ، وإتيان الحج ، إلاّ إيجاد هذه الاَعمال والحركات التي إذا اجتمعت تعنونت بعنوان الصلاة والحج .
والاَعمال التي هي من قبيل الصوم والتي تتقوم بعدم تناول الاَكل والشرب وسائر المفطرات فحقيقتها (الكف) وهو فعل من أفعال النفس ، شأنها شأن سائر أفعال الجوانح .
و (النية) التي يحاول أن يوجّه بها الشيخ الباقلاني مسألة الكسب، مدعياً أنّ العمل الواحد يختلف حاله من نية إلى نية أخرى ، فالقتل بنيّة العدوان جريمة ، ونفس العمل بعنوان القصاص والحد تكليف شرعي، يثيب الله تعالى به العبد... ونفس الفعل من جانب الله ، ولكن النية التي يوجه بها الاِنسان العمل الصادر عنه هي من جانب الاِنسان ، والثواب والعقاب ليس على أصل القتل فلا علاقة له به ، ولكن على النية التي نواها في القتل... فهذه هي وحدها التي يتحمل مسؤوليتها والتي يقوم بها .
نقول : إذا صحَّ هذا الكلام ، فإنّ النية أيضاً عمل من أعمال الجوانح ، ولا يختلف عمل عن عمل ، ولا أعلم لماذا تصح نسبة النية إلى الاِنسان ولا تصح نسبة أصل العمل . فالعمل عمل ، سواء كان من أعمال الجوارح أو من أعمال الجوانح . وإذا صححنا نسبة النية إلى الاِنسان نفسه ، فلا بأس

 

 

علينا بنفس الملاك والتبرير أن ننسب إلى الاِنسان كل عمل يقوم به ، سواء كان من أعمال الجوارح كالصلاة والحج ، أو من أعمال الجوانح كالكف في الصيام بنية الصيام.
ومهما يكن من أمر فلا نريد أن نستسهل مناقشة نظرية كلامية أخذت وقتاً طويلاً وجهداً كثيراً من متكلّمي الاِسلام بهذه الطريقة... إلاّ أنـّنا نريد أن نطلّ على هذا الموضوع إطلالة ، ونحيل القارىَ إذا أراد التفصيل إلى مكان هذه الدراسة من الموسوعات الكلامية من قبيل شروح المقاصد والمواقف (1)
الحتميات المادية المعاصرة :
ولا نقصد من النظريات المادية النظريات القائمة على أساس رفض الاِيمان بالله تعالى . وإنّما نقصد بذلك ما يقابل الحتمية الاِلهية التي يتبناها الاَشاعرة من نسبة كل فعل إلى الله تعالى في حياة الاَفراد وفي حركة التاريخ. وهي التي تنسب الحتمية في سلوك الاَفراد والجماعات إلى مصادر أخرى غير الله تعالى .
ومن رواد هذه النظرية في الغرب (منتسكيو) في كتابه (روح القوانين)، و (اشبنكلر) في كتابه (تدهور الحضارة الغربية) ، و (دور كهايم) العالم الاجتماعي الفرنسي الشهير . ويذهب هذا الاَخير إلى أنّ الحياة الاجتماعية تتقرر بصورة منفصلة عن إرادة الاَفراد ورغباتهم . وتتصف العلاقات والشؤون الاجتماعية من الاَخلاق والمعارف والثقافة


____________

(1) شرح المقاصد ، للتفتازاني ـ وشرح المواقف ، للجرجاني .

 

 

الاجتماعية ، واليسر والعسر بثلاث خصال لا تنفك عنها ، وهي : (الخارجية) و (الحتمية) و (التعميم) .
فإنّ الشؤون الاجتماعية بكل تفاصيلها نابعة من عوامل خارجية ، وليست نابعة من داخل الاَفراد ورغباتهم وإرادتهم ، والفرد يقع تحت ضغط الحياة الاجتماعية بصورة قهرية ، كما أنّ الحياة الاجتماعية تقع تحت ضغط العوامل القهرية الموجبة لها وهذه هي (الخارجية) وطبيعة هذه العلاقة بين الاَسباب والمسببات في حركة التاريخ ، وحركة المجتمع (حتمية) لا يمكن أن تتخلف المسببات عن أسبابها ، ولو أنّنا تمكّنا أن نقرأ الاَحداث في حلقات عللها وأسبابها لكنّا نتنبأ بها من دون ترديد وهذه هي (الحتمية) .
والخصلة الثالثة هي (التعميم) فما يحدث في مكان وزمان لابد أن يحدث في كل مكان وزمان إذا توفرت الاَسباب والشروط نفسها .
ومن أشهر الحتميات المادية المعاصرة هي نظرية كارل ماركس ـ فردريك انجلز ، التي تحاول تقنين حركة التاريخ وترحيلها ضمن خمس مراحل عبر عامل الصراع الطبقي بين الطبقة المستثمِرة ، والطبقة المستثمَرة .
إلاّ أنّ هذه النظرية انتكست في بداية ظهورها انتكاسات قوية في مرحلة التطبيق ، وأثبت الواقع خلاف ذلك ، وبقيت هذه النظرية تدرس على الصعيد النظري فقط .

نقد الحتمية التاريخية :
ومهما يكن من أمر هذه الحتميات المادية في تفسير التاريخ ، فإنّ منها ما هو حق ومنها ما هو باطل ، بغض النظر عن التفاصيل الدقيقة الواردة في النظرية.
أمّا الحق فهو ربط التاريخ بالقوانين العلمية والعلل والاَسباب التي تستوجب حركة التاريخ .
والحدث التاريخي ـ كأي ظاهرة أخرى في الكون ـ يخضع للاَسباب والعلل الموجبة له . إذن قانون العلّية يحكم الحدث التاريخي كما يحكم الظاهرة الفيزيائية والكيميائية والميكانيكية بشكل دقيق في كل أصولها العقلية المعروفة كالحتمية والسنخية وغير ذلك .
وهذا هو الحق ولا يمكن التشكيك فيه ، عدا النظرية الماركسية التي تنفي قانون العلّية رأساً وتضع محلها النظرية المادية الديالكتيكية التي اقتبستها من (هيگل) .
أمّا الباطل في هذه النظريات فهو نفي الاِنسان وقراره المستقل في صناعة التاريخ ، واعتبار الاِنسان خشبة عائمة على أمواج التاريخ القهرية، وتقرير مصير واحد للتاريخ والانسان ، لا يتعدد ، ولا يختلف . وهذا باطل بالتأكيد ، فإنّ الاِنسان (الفرد ، والمجتمع ، والتاريخ) لا يقع على طريق علة واحدة فقط ، وإنّما على مفترق طرق غالباً، واختيار نوع الطريق يرتبط بارادته ووعيه وثقافته وقراره إلى حد كبير جداً ، فإذا سلك أحد هذه الطرق بموجب إرادته وقراره ورأيه لم يكن له أن يتخلص من الآثار القهرية

 

 

المترتبة عليه بموجب قانون العلية .
ولنضرب على ذلك مثالين ، أحدهما : عن الفرد ، والآخر : عن المجتمع .
أمّا التمثيل بالفرد : فإنّ الاِنسان الفرد إذا تحرك ونشط وتعلم يشق طريقه إلى الحياة ، وإذا خمل وكسل وركن إلى الجهل والكسل ، يبقى ضعيفاً مغموراً لا شأن له ، ولا قوة في الحياة .
وكل من هاتين النتيجتين تتصف بالقطعية والحتمية إذا اختار الاِنسان الطريق المناسب لها . إلاّ أنّ ذلك لا يعني أنّ الاِنسان يواجه قضاءً وقدراً ذا بعدٍ واحد في حياته لا يمكنه أن يحيد عنه .
وأمّا التمثيل بالمجتمع ، فالمجتمع الذي يقاوم ويضحّي ويتحمل عذاب المواجهة وقسوة المقاومة يسلم من الظلم والاستبداد السياسي والارهاب .
والمجتمع الذي ينقاد ويستسلم ولا يقاوم يبتلى بأبشع أنواع الاستبداد السياسي والارهاب .
وهذا وذاك حكمان حتميان لا سبيل للتخلص منهما في حياة الاَمم . ولكن المجتمع يقف على مفترق طريقين في حياته السياسية ، فإذا اختار الطريق الاَوّل كانت النتيجة الاَولى قطعية ، وإذا اختار الطريق الثاني كانت النتيجة الثانية قطعية .
وإختيار هذا الطريق أو ذاك يدخل في حيز إرادة الاِنسان وإختياره ولا يقع تحت نظام الحتمية .

 

 

وسوف نعود إلى دراسة هذه النقطة مرة أخرى في سياق هذا البحث .
الاستغلال السياسي للحتمية :
وأكثر النتائج السلبية المترتبة على الاِيمان بهذه الحتميات ، تعطّل دور الانسان وحركته في بناء التاريخ ، وتعطل دوره في تقرير مصيره . فإنّ الانسان إذا آمن بأنّ حركته وفعله يخضع لسلسلة من العوامل الحتمية الخارجة عن إرادته وإختياره يشعر بأنّه عنصر فاقد التأثير ، لا دور له في صناعة مصيره ومصير مجتمعه ، ومع هذا الاِيمان وهذه القناعة لا يمكن أن يكون الاِنسان مصدراً للتحرك والتغيير في حياته الفردية والاجتماعية .
ولذلك ، فإنّ الاِيمان بالحتمية (التاريخية والفردية) كان موضع تبنّي الاَنظمة الاستبدادية في تاريخ الاِسلام .
فإنّ هذا الاِيمان يطوّع الناس للاستسلام السياسي ويروّضهم لقبول الظلم .
وقد كان بنو أُميّة يتبنون نظرية الجبر . يقول أبو هلال العسكري : إنّ معاوية أوّل من زعم أنّ الله يريد أفعال العباد كلّها (1) ولما اعترض ع ابن عمر على معاوية في تنصيب ابنه يزيد خليفة من بعده. قال له معاوية: (إنّي أحذرك أن تشق عصا المسلمين وتسعى في تفريق ملاَهم ، وأن تسفك دماءهم ، وإنّ أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء، وليس للعباد خيرة من أمرهم) (2).


____________

(1) الاَوائل ، لاَبي هلال العسكري 2 : 125 .
(2) الاِمامة والسياسة ، لابن قتيبة 1 : 210 تحقيق شيري ـ بيروت 1990 م .

 

 

وبنفس المنطق واجه معاوية عائشة لما اعترضت عليه في أمر تنصيب يزيد خليفة على المسلمين من بعده . قال لها : (إنّ أمر يزيد قضاء من القضاء ، وليس للعباد الخيرة من أمرهم) (1).
وقد نهض بعض العلماء لمواجهة تيار الجبر الذي تبناه بنو أُميّة ، وكان أشهر هؤلاء معبد الجهني من العراق ، وغيلان الدمشقي من الشام . عُرف عنهم القول بالاختيار وحرية الاِرادة والدعوة إلى هذا الرأي .
وقد خرج معبد على الاَمويين مع ابن الاَشعث فقتله الحجاج . وأمّا غيلان فقد أحضره هشام بن عبدالملك الخليفة الاَموي واستنطقه فصلبه بعد أن قطع يديه ورجليه .
وكان الحسن البصري فيما يظهر على هذا الرأي ـ الاختيار ـ .
يقول المقريزي : إنّ عطاء بن يسار ومعبد الجهني دخلا على الحسن البصري ، فقالا له : إنّ هؤلاء (حكام بني أُميّة) يسفكون الدماء ، ويقولون : إنّما تجري أعمالنا على قدر الله ! قال : كذب أعداء الله . فطعن عليه بهذا(2) وكان الحسن البصري يجاهر برأيه المعارض لسلطان بني أُميّة هنا وهناك ، فلمّا خوفوه من سطوة السلطان امتنع عن ذلك .
يقول ابن سعد في الطبقات عن أيوب ، قال : نازلت الحسن في القدر


____________

(1) الاِمامة والسياسة ، لابن قتيبة 1 : 210 تحقيق شيري ـ بيروت 1990 م .
(2) الخطط ، للمقريزي 2 : 356 .

 

 

غير مرّة حتى خوفته من السلطان ، فقال : لا أعود بعد اليوم (1).
أمّا بنو العباس فلم يشذّوا عن سياسة بني أُميّة في تبنّي القدر على رأي الاَشاعرة ، غير أنّ المأمون والمعتصم اختلفا عنهم في هذا الرأي ، وتبنّوا رأي المعتزلة في الاختيار والتفويض ، فلمّا تولّى المتوكل الحكم تبنّى رأي الاَشاعرة في الجبر ، وكان يحاسب ويعاقب عليه ، وتبعه الخلفاء من بعده على هذا الرأي .
التفويض :
يسود في التاريخ الاِسلامي في مسألة الحتمية والاختيار في سلوك الانسان الفردي رأيان متقابلان :
وهما : الجبر والتفويض .
أمّا المذهب الاَوّل : فيتبناه الاَشاعرة ، وأمّا المذهب الثاني : فيتبناه المعتزلة .
ومذهب المعتزلة في التفويض : أنّ الله تعالى فوّض إلى الاِنسان اختيار ما يعمل ، والانسان مستقل استقلالاً كاملاً فيما يصنعه .
وهذا المذهب يأتي في مقابل المذهب الاَول تماماً .
ولئن كان التبرير الفلسفي والعقائدي للمذهب الاَوّل هو الاحتفاظ بـ(أصل التوحيد) وإرجاع كل شيء في هذا الكون من الاَعيان والاَعمال إلى الله تعالى ( والله خلقكم وما تعملون ) (الصافات 37 : 96) . فإنّ


____________

(1) طبقات ابن سعد 7 : 167 ط بيروت .

 

 

التبرير العقائدي لهذا الاتجاه هو تنزيه ساحة الله تعالى من أن يكلّف الاِنسان بما لا يقدر عليه ، فيما كان قضاء الله تعالى وقدره بعكس ما يأمر به وينهى عنه، وتنزيه الله سبحانه من أن يخلق السيئات والمعاصي والكفر والشرك والظلم والعدوان في سلوك العباد .
يقول عبد القادر البغدادي في (الفرق بين الفرق) في بيان آراء المعتزلة: (ومنها قولهم جميعاً إنّ الله تعالى غير خالق لاَكساب الناس ولا لشيء من أعمال الحيوانات ، وقد زعموا أنّ الناس هم الذين يقدّرون أكسابهم ، وأنّه ليس لله عزّ وجلّ في أكسابهم ولا في أعمال سائر الحيوانات صنع ولا تقدير) (1).
وقال السيد الشريف في (شرح المواقف) : (إن المعتزلة استدلّوا بوجوه كثيرة مرجعها إلى أمر واحد ، وهو أنّه لولا استقلال العبد بالفعل على سبيل الاختيار لبطل التكليف وبطل التأديب الذي ورد به الشرع وارتفع المدح والذم) .
وروى زهدي جارالله عن (المعتزلة) : إجماعهم على أنّ العباد خالقون لاَفعالهم مخترعون لها ، وأنّ الله تعالى ليس له في أفعال العباد المكتسبة صنع ولا تقدير (2).
ويقول صدر المتألهين ؛ : (ذهبت جماعة كالمعتزلة ومن يحذو حذوهم إلى أنّ الله تعالى أوجد العباد وقدّرهم على تلك الاَعمال وفوض إليهم الاختيار . فهم مستقلون بايجاد تلك الاَفعال على وفق مشيئتهم


____________

(1) الفرق بين الفرق : 94 ، دار الآفاق الجديدة ببيروت .
(2) المعتزلة : 92 ، وبنفس المضمون في الملل والنحل للشهرستاني 1 : 91 .

 

 

وطبق قدرتهم ، وقالوا : إنّه أراد منهم الاِيمان والطاعة وكره منهم الكفر والمعصية . وقالوا : على هذا يظهر أُمور ، الاَوّل : فائدة التكليف بالاَوامر والنواهي وفائدة الوعد والوعيد . والثاني : استحقاق الثواب والعقاب . والثالث : تنزيه الله سبحانه عن القبائح والشرور وأنواع الكفر والمعاصي والمساوي) (1).
ويذهب الشهرستاني في (الملل والنحل) إلى إجماع المعتزلة على اعتبار العباد خالقين لاَفعالهم مخترعين لها ، وأنّ الله تعالى ليس له في أفعال العباد المكتسبة صنع ولا تقدير (2).
والمعتزلة لجأوا إلى القول بالتفويض واستقلال الاِنسان في أفعاله هروباً ممّا وقع فيه الاَشاعرة من القول باستحقاق الاِنسان للعقاب من جانب الله تعالى دون أن يكون له دور أو سلطان فيما صدر منه من ذنب وإجرام، ومن القول بتكليف الله تعالى للانسان فيما لا قدرة له عليه ، فيما كان القضاء والقدر بخلاف ذلك .
ولكي ينزّهوا الله تعالى من هذا وذاك ، سبحانه وتعالى عن كل ذلك ، لجأوا إلى القول بالتفويض ، والاِيمان بأنّ الله تعالى قد فوّض الاِنسان أُموره ومنحه القدرة الكاملة على الاستقلال في كلّ أفعاله وتصرفاته... وبذلك وقعوا فيما هو أبشع ممّا وقع فيه الاَشاعرة ، وذلك هو الشرك بالله تعالى ، وفصل فعل الاِنسان وعمله بشكل كامل عن إرادة الله تعالى وإذنه ومشيئته وخلقه ، وهو بحدّ الشرك إن لم يكن هو من الشرك فعلاً .


____________

(1) الاَسفار 6 : 369 ـ 370 .
(2) الملل والنحل ، للشهرستاني 1 : 91 .

 

 

وفرق واضح بين نظرية التفويض الاِلهي واستقلال الاِنسان في عمله مستقلاً عن إرادة الله تعالى وإذنه ومشيئته وبين مبدأ حرية الاختيار .
وسوف يأتي توضيح لهذا الاَمر فيما يأتي من هذا البحث .

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

التسليم
رجاء الله وخشيته
لماذا نحن بحاجة الي تكوين الذات المعلوماتية ؟
التجسيم عند ابن تيمية وأتباعه ق (8)
أعمــــال ماقبــل النـــوم
المُناظرة الثانية والسبعون /مناظرة أبي جعفر ...
تصوّر الموجود المطلق
الکلم الطیب والفحش والسب والقذف
ضرورة النبوّة
لُزُوم عِصمَةِ الاِمام

 
user comment