يعيش المؤمن بالله حياة هادئة مطمئنة راضية اذا توفرت فيه روح التسليم علی ان الامور کلها تمضي بعينالله وان مجريا تلاحياة لا تکون الاوفق مسيئة الله عزوجل .. وان کل مايحصل هو بعين الله ولا یأسف علی مافاته وان لايفرح بما آتاه ..
قال الله سبحانه و تعالى ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا )(1)
و عَنِ ابْنِ الدَّيْلَمِىِّ قَالَ وَقَعَ فِى نَفْسِى شَىْءٌ مِنْ هَذَا الْقَدَرِ خَشِيتُ أَنْ يُفْسِدَ عَلَىَّ دِينِى وَأَمْرِى فَأَتَيْتُ أُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ فَقَلْتُ أَبَا الْمُنْذِرِ إِنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِى قَلْبِى شَىْءٌ مِنْ هَذَا الْقَدَرِ فَخَشِيتُ عَلَى دِينِى وَأَمْرِى فَحَدِّثْنِى مِنْ ذَلِكَ بِشَىْءٍ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَنْفَعَنِى بِهِ. فَقَالَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ. وَلَوْ كَانَ لَكَ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا أَوْ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ تُنْفِقُهُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ مَا قُبِلَ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ. فَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ. وَأَنَّكَ إِنْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا دَخَلْتَ النَّارَ وَلاَ عَلَيْكَ أَنْ تَأْتِىَ أَخِى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَتَسْأَلَهُ. فَأَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ فَسَأَلْتُهُ فَذَكَرَ مِثْلَ مَا قَالَ أُبَىٌّ وَقَالَ لِى وَلاَ عَلَيْكَ أَنْ تَأْتِىَ حُذَيْفَةَ. فَأَتَيْتُ حُذَيْفَةَ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالاَ وَقَالَ ائْتِ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَاسْأَلْهُ.
فَأَتَيْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ " لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَلَوْ كَانَ لَكَ مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا أَوْ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا تُنْفِقُهُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ كُلِّهِ فَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ وَأَنَّكَ إِنْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا دَخَلْتَ النَّارَ ". أخرجه ابن ماجة
و عَنْ أَبِى حَفْصَةَ قَالَ قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ لاِبْنِهِ يَا بُنَىَّ إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الإِيمَانِ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ " إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ اكْتُبْ. قَالَ رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ قَالَ اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَىْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ". يَا بُنَىَّ إِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ " مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا فَلَيْسَ مِنِّى ". أخرجه أبو داود
و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- " الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَىْءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ ". أخرجه مسلم
فهذا المقوّم من مقومات العقيدة هو الذي استقر في قلوب تلك الجماعة الأولى من المسلمين استقراراً حقيقياً؛ واستيقنته أنفسهم ، وتكيفت به مشاعرهم . هذا المقوم يتلخص في أنه ليس لهم في أنفسهم شيء؛ وليس لهم من أمرهم شيء . إنما هم وما ملكت أيديهم لله . يصرفهم كيف يشاء ، ويختار لهم ما يريد . وإن هم إلا بعض هذا الوجود الذي يسير وفق الناموس العام . وخالق هذا الوجود ومدبره يحركهم مع حركة الوجود العام؛ ويقسم لهم دورهم في رواية الوجود الكبيرة؛ ويقرر حركاتهم على مسرح الوجود العظيم .
وليس لهم أن يختاروا الدور الذي يقومون به ، لأنهم لا يعرفون الرواية كاملة؛ وليس لهم أن يختاروا الحركة التي يحبونها لأن ما يحبونه قد لا يستقيم مع الدور الذي خصص لهم! وهم ليسوا أصحاب الرواية ولا المسرح؛ وإن هم إلا أجراء ، لهم أجرهم على العمل ، وليس لهم ولا عليهم في النتيجة!
عندئذ أسلموا أنفسهم حقيقة لله . أسلموها بكل ما فيها؛ فلم يعد لهم منها شيء . وعندئذ استقامت نفوسهم مع فطرة الكون كله؛ واستقامت حركاتهم مع دورته العامة؛ وساروا في فلكهم كما تسير تلك الكواكب والنجوم في أفلاكها ، لا تحاول أن تخرج عنها ، ولا أن تسرع أو تبطئ في دورتها المتناسقة مع حركة الوجود كله .
وعندئذ رضيت نفوسهم بكل ما يأتي به قدر الله ، لشعورهم الباطن الواصل بأن قدر الله هو الذي يصرف كل شيء ، وكل أحد ، وكل حادث ، وكل حالة . واستقبلوا قدر الله فيهم بالمعرفة المدركة المريحة الواثقة المطمئنة .
وشيئاً فشيئاً لم يعودوا يحسون بالمفاجأة لقدر الله حين يصيبهم ، ولا بالجزع الذي يعالج بالتجمل؛ أو بالألم الذي يعالج بالصبر . إنما عادوا يستقبلون قدر الله استقبال العارف المنتظر المرتقب لأمر مألوف في حسه ، معروف في ضميره ، ولا يثير مفاجأة ولا رجفة ولا غرابة!
ومن ثم لم يعودوا يستعجلون دورة الفلك ليقضوا أمراً هم يريدون قضاءه ، ولم يعودوا يستبطئون الأحداث لأن لهم أرباً يستعجلون تحقيقه ، ولو كان هذا الأرب هو نصر دعوتهم وتمكينها! إنما ساروا في طريقهم مع قدر الله ، ينتهي بهم إلى حيث ينتهي ، وهم راضون مستروحون ، يبذلون ما يملكون من أرواح وجهود وأموال في غير عجلة ولا ضيق ، وفي غير من ولا غرور ، وفي غير حسرة ولا أسف . وهم على يقين أنهم يفعلون ما قدر الله لهم أن يفعلوه؛ وأن ما يريده الله هو الذي يكون ، وأن كل أمر مرهون بوقته وأجله المرسوم .
إنه الاستسلام المطلق ليد الله تقود خطاهم ، وتصرف حركاتهم؛ وهم مطمئنون لليد التي تقودهم ، شاعرون معها بالأمن والثقة واليقين ، سائرون معها في بساطة ويسر ولين .
وهم مع هذا يعملون ما يقدرون عليه ويبذلون ما يملكون كله ، ولا يضيعون وقتاً ولا جهداً ، ولا يتركون حيلة ولا وسيلة . ثم لا يتكلفون ما لا يطيقون ، ولا يحاولون الخروج عن بشريتهم وما فيها من خصائص ، ومن ضعف وقوة؛ ولا يدعون ما لا يجدونه في أنفسهم من مشاعر وطاقات ، ولا يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، ولا أن يقولوا غير ما يفعلون .
وهذا التوازن بين الاستسلام المطلق لقدر الله ، والعمل الجاهد بكل ما في الطاقة ، والوقوف المطمئن عند ما يستطيعون . .
هذا التوازن هو السمة التي طبعت حياة تلك المجموعة الأولى وميزتها؛ وهي التي أهلتها لحمل أمانة هذه العقيدة الضخمة التي تنوء بها الجبال!
واستقرار ذلك المقوم الأول في أعماق الضمائر هو الذي كفل لتلك الجماعة الأولى تحقيق تلك الخوارق التي حققتها في حياتها الخاصة ، وفي حياة المجتمع الإنساني إذ ذاك .
وهو الذي جعل خطواتها وحركاتها تتناسق مع دورة الأفلاك ، وخطوات الزمان ، ولا تحتك بها أو تصطدم ، فتتعوق أو تبطئ نتيجة الاحتكاك والاصطدام . وهو الذي بارك تلك الجهود ، فإذا هي تثمر ذلك الثمر الحلو الكثير العظيم في فترة قصيرة من الزمان .
ولقد كان ذلك التحول في نفوسهم بحيث تستقيم حركتها مع حركة الوجود ، وفق قدر الله المصرف لهذا الوجود . . كان هذا التحول في تلك النفوس هو المعجزة الكبرى التي لا يقدر عليها بشر؛ إنما تتم بإرادة الله المباشرة التي أنشأت الأرض والسماوات ، والكواكب والأفلاك؛ ونسقت بين خطاها ودوراتها ذلك التنسيق الإلهي الخاص .
وإلى هذه الحقيقة تشير هذه الآيات الكثيرة في القرآن . . حيث يقول الله تبارك وتعالى : { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } أو يقول : { ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء } أو يقول : { إن الهدى هدى الله } فذلك هو الهدى بحقيقته الكبيرة ومعناه الواسع . هدى الإنسان إلى مكانه في هيكل هذا الوجود؛ وتنسيق خطاه مع حركة هذا الوجود .
ولن يؤتي الجهد كامل ثماره إلا حين يستقيم القلب على هدى الله بمعناه؛ وتستقيم حركة الفرد مع دورة الوجود؛ ويطمئن الضمير إلى قدر الله الشامل الذي لا يكون في الوجود أمر إلا وفق مقتضاه .
يقول العلامة ابن القيم رحمه الله في المدارج :
فصل قال : وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى :
رضى العامة وهو الرضى بالله ربا وتسخط عبادة ما دونه وهذا قطب رحى الإسلام وهو يطهر من الشرك الأكبر الرضى بالله ربا : أن لا يتخذ ربا غير الله تعالى يسكن إلى تدبيره وينزل به حوائجه قال الله تعالى : ( قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ) [ الأنعام : 164 ] قال ابن عباس رضى الله عنهما : سيدا وإلها يعني فكيف أطلب ربا غيره وهو رب كل شيء وقال في أول السورة : قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السموات والأرض [ الأنعام : 14 ] يعني معبودا وناصرا ومعينا وملجأ وهو من الموالاة التي تتضمن الحب والطاعة وقال في وسطها :
( أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا ) [ الأنعام : 114 ] أي أفغير الله أبتغي من يحكم بيني وبينكم فنتحاكم إليه فيما اختلفنا فيه وهذا كتابه سيد الحكام فكيف نتحاكم إلى غير كتابه وقد أنزله مفصلا مبينا كافيا شافيا وأنت إذا تأملت هذه الآيات الثلاث حق التأمل رأيتها هي نفس الرضى بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا ورأيت الحديث يترجم عنها ومشتق منها فكثير من الناس يرضى بالله ربا ولا يبغي ربا سواه لكنه لا يرضى به وحده وليا وناصرا بل يوالي من دونه أولياء ظنا منه أنهم يقربونه إلى الله وأن موالاتهم كموالاة خواص الملك وهذا عين الشرك بل التوحيد :
أن لا يتخذ من دونه أولياء والقرآن مملوء من وصف المشركين بأنهم اتخذوا من دونه أولياء وهذا غير موالاة أنبيائه ورسله وعباده المؤمنين فيه فإن هذا من تمام الإيمان ومن تمام موالاته فموالاة أوليائه لون واتخاذ الولي من دونه لون ومن لم يفهم الفرقان بينهما فليطلب التوحيد من أساسه فإن هذه المسألة أصل التوحيد وأساسه وكثير من الناس يبتغي غيره حكما يتحاكم إليه ويخاصم إليه ويرضى بحكمه وهذه المقامات الثلاث هي أركان التوحيد : أن لا يتخذ سواه ربا ولا إلها ولا غيره حكما وتفسير الرضى بالله ربا : أن يسخط عبادة ما دونه هذا هو الرضى بالله إلها وهو من تمام الرضى بالله ربا فمن أعطى الرضى به ربا حقه سخط عبادة ما دونه قطعا لأن الرضى بتجريد ربوبيته يستلزم تجريد عبادته كما أن العلم بتوحيد الربوبية يستلزم العلم بتوحيد الإلهية وقوله :
وهو قطب رحى الإسلام يعنى أن مدار رحى الإسلام على أن يرضى العبد بعبادة ربه وحده وأن يسخط عبادة غيره وقد تقدم أن العبادة هي الحب مع الذل فكل من ذللت له وأطعته وأحببته دون الله فأنت عابد له وقوله : وهو يطهر من الشرك الأكبر يعني أن الشرك نوعان : أكبر وأصغر فهذا الرضى يطهر صاحبه من الأكبر وأما الأصغر : فيطهر منه نزوله منزلة إياك نعبد وإياك نستعين
وهو يصح بثلاثة شروط :
أن يكون الله عز وجل أحب الأشياء إلى العبد وأولى الأشياء بالتعظيم وأحق الأشياء بالطاعة يعني أن هذا النوع من الرضى إنما يصح بثلاثة أشياء أيضا أحدها :
أن يكون الله عز وجل أحب شيء إلى العبد وهذه تعرف بثلاثة أشياء أيضا أحدها :
أن تسبق محبته إلى القلب كل محبة فتتقدم محبته المحاب كلها الثاني :
أن تقهر محبته كل محبة فتكون محبته إلى القلب سابقة قاهرة ومحبة غيره متخلفة مقهورة مغلوبة منطوية في محبته الثالث :
أن تكون محبة غيره تابعة لمحبته فيكون هو المحبوب بالذات والقصد الأول وغيره محبوبا تبعا لحبه كما يطاع تبعا لطاعته فهو في الحقيقة المطاع المحبوب وهذه الثلاثة في كونه أولى الأشياء بالتعظيم والطاعة أيضا فالحاصل : أن يكون الله وحده المحبوب المعظم المطاع فمن لم يحبه ولم يطعه ولم يعظمه : فهو متكبر عليه ومتى أحب معه سواه وعظم معه سواه وأطاع معه سواه : فهو مشرك ومتى أفرده وحده بالحب والتعظيم والطاعة فهو عبد موحد والله سبحانه وتعالى أعلم
الدرجة الثانية : الرضى عن الله
وبهذا نطقت آيات التنزيل وهو الرضى عنه في كل ما قضى وقدر وهذا من أوائل مسالك أهل الخصوص الشيخ جعل هذه الدرجة أعلى من الدرجة التي قبلها ووجه قوله : أنه لا يدخل في الإسلام إلا بالدرجة الأولى فإذا استقر قدمه عليها دخل في مقام الإسلام وأما هذه الدرجة : فمن معاملات القلوب وهي لأهل الخصوص وهي الرضى عنه في أحكامه وأقضيته وإنما كان من أول مسالك أهل الخصوص لأنه مقدمة للخروج عن النفس والذي هو طريق أهل الخصوص فمقدمته بداية سلوكهم لأنه يتضمن خروج العبد عن حظوظه ووقوفه مع مراد الله عز وجل لا مع مراد نفسه هذا تقرير كلامه وفي جعله هذه الدرجة أعلى من التي قبلها نظر لا يخفى وهو نظير جعله الصبر بالله أعلى من الصبر لله والذى ينبغي :
أن تكون الدرجة الأولى أعلى شأنا وأرفع قدرا فإنها مختصة وهذه الدرجة مشتركة فإن الرضى بالقضاء يصح من المؤمن والكافر وغايته التسليم لقضاء الله وقدره فأين هذا من الرضى به ربا وإلها ومعبودا وأيضا فالرضى به ربا فرض بل هو من آكد الفروض باتفاق الأمة فمن لم يرض به ربا لم يصح له إسلام ولا عمل ولا حال وأما الرضى بقضائه : فأكثر الناس على أنه مستحب وليس بواجب وقيل : بل هو واجب وهما قولان في مذهب أحمد فالفرق بين الدرجتين فرق ما بين الفرض والندب وفي الحديث الإلهي الصحيح : يقول الله عز وجل : ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه فدل على أن التقرب إليه سبحانه بأداء فرائضه أفضل وأعلى من التقرب إليه بالنوافل وأيضا : فإن الرضى به ربا يتضمن الرضى عنه ويستلزمه فإن الرضى بربوبيته :
هو رضى العبد بما يأمره به وينهاه عنه ويقسمه له ويقدره عليه ويعطيه إياه ويمنعه منه فمتى لم يرض بذلك كله لم يكن قد رضي به ربا من جميع الوجوه وإن كان راضيا به ربا من بعضها فالرضى به ربا من كل وجه : يستلزم الرضى عنه ويتضمنه بلا ريب وأيضا : فالرضى به ربا متعلق بذاته وصفاته وأسمائه وربوبيته العامة والخاصة فهوالرضى به خالقا ومدبرا وآمرا وناهيا وملكا ومعطيا ومانعا وحكما ووكيلا ووليا وناصرا ومعينا وكافيا وحسيبا ورقيبا ومبتليا ومعافيا وقابضا وباسطا إلى غير ذلك من صفات ربوبيته وأما الرضى عنه : فهو رضى العبد بما يفعله به ويعطيه إياه ولهذا إنما يجىء إلا في الثواب والجزاء كقوله تعالى ( يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية ) [ الفجر : 2728 ] فهذا برضاها عنه لما حصل لها من كرامته كقوله تعالى : ( خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه ) [ البينة : 8 ]
والرضى به : أصل الرضى عنه والرضى عنه : ثمرة الرضى به وسر المسألة : أن الرضى به متعلق بأسمائه وصفاته والرضى عنه : متعلق بثوابه وجزائه وأيضا : فإن النبي( صلى الله عليه وسلم ) علق ذوق طعم الإيمان بمن رضي بالله ربا ولم يعلقه بمن رضي عنه كما قال : ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا فجعل الرضى به قرين الرضى بدينه ونبيه وهذه الثلاثة هي أصول الإسلام التي لا يقوم إلا بها وعليها وأيضا : فالرضى به ربا يتضمن توحيده وعبادته والإنابة إليه والتوكل عليه وخوفه ورجاءه ومحبته والصبر له وبه والشكر على نعمه يتضمن رؤية كل ما منه نعمة وإحسانا وإن ساء عبده فالرضا به يتضمن شهادة أن لا إله إلا الله والرضى بمحمد رسولا يتضمن شهادة أن محمدا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والرضى بالإسلام دينا : يتضمن التزام عبوديته وطاعته وطاعة رسوله فجمعت هذه الثلاثة الدين كله وأيضا : فالرضى به ربا يتضمن اتخاذه معبودا دون ما سواه واتخاذه وليا ومعبودا وإبطال عبادة كل ما سواه وقد قال تعالى لرسوله : ( أفغير الله أبتغي حكما ) [ الأنعام : 114 ] وقال : ( أغير الله اتخذ وليا ) [ الأنعام : 14 ] وقال : ( قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ) [ الأنعام : 164 ]
فهذا هو عين الرضى به ربا وأيضا : فإنه جعل حقيقة الرضى به ربا : أن يسخط عبادةما دونه فمتى سخط العبد عبادة ما سوى الله من الآلهة الباطلة حبا وخوفا ورجاء وتعظيما وإجلالا فقد تحقق بالرضى به ربا الذي هو قطب رحى الإسلام وإنما كان قطب رحى الدين : لأن جميع العقائد والأعمال والأحوال :
إنما تنبني على توحيد الله عز وجل في العبادة وسخط عبادة ما سواه فمن لم يكن له هذا القطب لم يكن له رحى تدور عليه ومن حصل له هذا القطب ثبتت له الرحى ودارت على ذلك القطب فيخرج حينئذ من دائرة الشرك إلى دائرة الإسلام فتدور رحى إسلامه وإيمانه على قطبها الثابت اللازم وأيضا : فإنه جعل حصول هذه الدرجة من الرضى موقوفا على كون المرضى به ربا سبحانه أحب إلى العبد من كل شيء وأولى الأشياء بالتعظيم وأحق الأشياء بالطاعة ومعلوم أن هذا يجمع قواعد العبودية وينتظم فروعها وشعبها ولما كانت المحبة التامة ميل القلب بكليته إلى المحبوب : كان ذلك الميل حاملا على طاعته وتعظيمه وكلما كان الميل أقوى : كانت الطاعة أتم والتعظيم أوفر وهذا الميل يلازم الإيمان بل هو روح الإيمان ولبه فأي شيء يكون أعلى من أمر يتضمن أن يكون الله سبحانه أحب الأشياء إلى العبد وأولى الأشياء بالتعظيم وأحق الأشياء بالطاعة
وبهذا يجد العبد حلاوة الإيمان كما في الصحيح عنه أنه قال : ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كمان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقي في النار فعلق ذوق الإيمان بالرضى بالله ربا وعلق وجود حلاوته بما هو موقوف عليه ولا يتم إلا به وهو كونه سبحانه أحب الأشياء إلى العبد هو ورسوله ولما كان هذا الحب التام والإخلاص الذي هو ثمرته أعلى من مجرد الرضى بربوبيته سبحانه : كانت ثمرته أعلى وهي وجد حلاوة الإيمان وثمرة الرضى : ذوق طعم الإيمان فهذا وجد حلاوة وذلك ذوق طعم والله المستعان وإنما ترتب هذا وهذا على الرضى به وحده ربا والبراءة من عبودية ما سواه وميل القلب بكليته إليه وانجذاب قوى المحب كلها إليه ورضاه عن ربه تابع لهذا الرضى به فمن رضي بالله ربا رضيه الله له عبدا ومن رضي عنه في عطائه ومنعه وبلائه وعافيته : لم ينل بذلك درجة رضى الرب عنه إن لم يرض به ربا وبنبيه رسولا وبالإسلام دينا فإن العبد قد يرضى عن الله ربه فيما أعطاه وفيما منعه ولكن لا يرضى به وحده معبودا وإلها ولهذا إنما ضمن رضي العبد يوم القيامة لمن رضى به ربا كما قال النبي( صلى الله عليه وسلم ) : من قال كل يوم : رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا إلا كان حقا على الله أن يرضيه يوم القيامة
4. الذي وقع فيه كل الخير :
قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيراً )(2)
وقال تعالى ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ )(3)
يقول السيد رحمه الله :
إن القتال في سبيل الله فريضة شاقة . ولكنها فريضة واجبة الأداء . واجبة الأداء لأن فيها خيرا كثيرا للفرد المسلم ، وللجماعة المسلمة ، وللبشرية كلها . وللحق والخير والصلاح .
والإسلام يحسب حساب الفطرة ؛ فلا ينكر مشقة هذه الفريضة ، ولا يهون من أمرها . ولا ينكر على النفس البشرية إحساسها الفطري بكراهيتها وثقلها . فالإسلام لا يماري في الفطرة ، ولا يصادمها ، ولا يحرم عليها المشاعر الفطرية التي ليس إلى إنكارها من سبيل . . ولكنه يعالج الأمر من جانب آخر ، ويسلط عليه نورا جديدا إنه يقرر أن من الفرائض ما هو شاق مرير كريه المذاق ؛ ولكن وراءه حكمة تهون مشقته ، وتسيغ مرارته ، وتحقق به خيرا مخبوءا قد لا يراه النظر الإنساني القصير . . عندئذ يفتح للنفس البشرية نافذة جديدة تطل منها على الأمر ؛ ويكشف لها عن زاوية أخرى غير التي تراه منها . نافذة تهب منها ريح رخية عندما تحيط الكروب بالنفس وتشق عليها الأمور . . إنه من يدري فلعل وراء المكروه خيرا . ووراء المحبوب شرا . إن العليم بالغايات البعيدة ، المطلع على العواقب المستورة ، هو الذي يعلم وحده . حيث لا يعلم الناس شيئا من الحقيقة .
وعندما تنسم تلك النسمة الرخية على النفس البشرية تهون المشقة ، وتتفتح منافذ الرجاء ، ويستروح القلب في الهاجرة ، ويجنح إلى الطاعة والأداء في يقين وفي رضاء .
هكذا يواجه الإسلام الفطرة ، لا منكرا عليها ما يطوف من المشاعر الطبيعية ، ولا مريدا لها على الأمر الصعب بمجرد التكليف . ولكن مربيا لها على الطاعة ، ومفسحا لها في الرجاء . لتبذل الذي هو أدنى في سبيل الذي هو خير ؛ ولترتفع على ذاتها متطوعة لا مجبرة ، ولتحس بالعطف الإلهي الذي يعرف مواضع ضعفها ، ويعترف بمشقة ما كتب عليها ، ويعذرها ويقدرها ؛ ويحدو لها بالتسامي والتطلع والرجاء . وهكذا يربي الإسلام الفطرة ، فلا تمل التكليف ، ولا تجزع عند الصدمة الأولى ، ولا تخور عند المشقة البادية ، ولا تخجل وتتهاوى عند انكشاف ضعفها أمام الشدة . ولكن تثبت وهي تعلم أن الله يعذرها ويمدها بعونه ويقويها . وتصمم على المضي في وجه المحنة ، فقد يكمن فيها الخير بعد الضر ، واليسر بعد العسر ، والراحة الكبرى بعد الضنى والعناء . ولا تتهالك على ما تحب وتلتذ . فقد تكون الحسرة كامنة وراء المتعة ! وقد يكون المكروه مختبئا خلف المحبوب . وقد يكون الهلاك متربصا وراء المطمع البراق .
إنه منهج في التربية عجيب . منهج عميق بسيط . منهج يعرف طريقه إلى مسارب النفس الإنسانية وحناياها ودروبها الكثيرة . بالحق وبالصدق . لا بالإيحاء الكاذب ، والتمويه الخادع . . فهو حق أن تكره النفس الإنسانية القاصرة الضعيفة أمرا ويكون فيه الخير كل الخير . وهو حق كذلك أن تحب النفس أمرا وتتهالك عليه . وفيه الشر كل الشر . وهو الحق كل الحق أن الله يعلم والناس لا يعلمون ! وماذا يعلم الناس من أمر العواقب ؟ وماذا يعلم الناس مما وراء الستر المسدل ؟ وماذا يعلم الناس من الحقائق التي لا تخضع للهوى والجهل والقصور ؟!
إن هذه اللمسة الربانية للقلب البشري لتفتح أمامه عالما آخر غير العالم المحدود الذي تبصره عيناه . وتبرز أمامه عوامل أخرى تعمل في صميم الكون ، وتقلب الأمور ، وترتب العواقب على غير ما كان يظنه ويتمناه . وإنها لتتركه حين يستجيب لها طيعا في يد القدر ، يعمل ويرجو ويطمع ويخاف ، ولكن يرد الأمر كله لليد الحكيمة والعلم الشامل ، وهو راض قرير . . إنه الدخول في السلم من بابه الواسع . . فما تستشعر النفس حقيقة السلام إلا حين تستيقن أن الخيرة فيما اختاره الله . وأن الخير في طاعة الله دون محاولة منها أن تجرب ربها وأن تطلب منه البرهان ! إن الإذعان الواثق والرجاء الهاديء والسعي المطمئن . . هي أبواب السلم الذي يدعو الله عباده الذين آمنوا ليدخلوا فيه كافة . . وهو يقودهم إليه بهذا المنهج العجيب العميق البسيط . في يسر وفي هوادة وفي رخاء . يقودهم بهذا المنهج إلى السلم حتى وهو يكلفهم فريضة القتال . فالسلم الحقيقي هو سلم الروح والضمير حتى في ساحة القتال .
وإن هذا الإيحاء الذي يحمله ذلك النص القرآني ، لا يقف عند حد القتال ، فالقتال ليس إلا مثلا لما تكرهه النفس ، ويكون من ورائه الخير . . إن هذا الإيحاء ينطلق في حياة المؤمن كلها . ويلقي ظلاله على أحداث الحياة جميعها . . إن الإنسان لا يدري أين يكون الخير وأين يكون الشر . . لقد كان المؤمنون الذين خرجوا يوم بدر يطلبون عير قريش وتجارتها ، ويرجون أن تكون الفئة التي وعدهم الله إياها هي فئة العير والتجارة . لا فئة الحامية المقاتلة من قريش . ولكن الله جعل القافلة تفلت ، ولقاهم المقاتلة من قريش ! وكان النصر الذي دوى في الجزيرة العربية ورفع راية الإسلام . فأين تكون القافلة من هذا الخير الضخم الذي أراده الله للمسلمين ! وأين يكون اختيار المسلمين لأنفسهم من اختيار الله لهم ؟ والله يعلم والناس لا يعلمون !
ولقد نسي فتى موسى ما كانا قد أعداه لطعامهما - وهو الحوت - فتسرب في البحر عند الصخرة . فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا . قال:أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت ، وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا . . قال:ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا . فوجدا عبدا من عبادنا . . . . . وكان هذا هو الذي خرج له موسى . ولو لم يقع حادث الحوت ما ارتدا . ولفاتهما ما خرجا لأجله في الرحلة كلها !
وكل إنسان - في تجاربه الخاصة - يستطيع حين يتأمل أن يجد في حياته مكروهات كثيرة كان من ورائها الخير العميم . ولذات كثيرة كان من ورائها الشر العظيم . وكم من مطلوب كاد الإنسان يذهب نفسه حسرات على فوته ؛ ثم تبين له بعد فترة أنه كان إنقاذا من الله أن فوت عليه هذا المطلوب في حينه . وكم من محنة تجرعها الإنسان لاهثا يكاد يتقطع لفظاعتها . ثم ينظر بعد فترة فإذا هي تنشيء له في حياته من الخير ما لم ينشئه الرخاء الطويل .
إن الإنسان لا يعلم . والله وحده يعلم . فماذا على الإنسان لو يستسلم
إن هذا هو المنهج التربوي الذي يأخذ القرآن به النفس البشرية . لتؤمن وتسلم وتستلم في أمر الغيب المخبوء ، بعد أن تعمل ما تستطيع في محيط السعي المكشوف . .
المصادر :
1- الأحزاب / 36
2- النساء / 19
3- البقرة / 216