المسألة:
جاء في زيارة الزهراء (ع): "السلام عليك يا ممتحنة امتحنك الذي خلقك قبل أن يخلقك وكنت لما امتحنك صابرة".
1- هل من الممكن ان يمتحن الله الخلق قبل خلقهم وهل هم مكلفون قبل الخلق؟
2- ما هو الامتحان الذي امتحنه الله فاطمة الزهراء (ع) وكيف تم ذلك؟
الجواب:
المعنى اللغوي لكلمة الامتحان هو الاستعلام، فحين يقال امتحِنِ الرجل قبل مصاحبته فمعناه هو استعلم حاله لتقف على واقعه وحقيقة أمره قبل مصاحبته.
وللامتحان وسائل عديدة تختلف باختلاف الغرض من الامتحان وتختلف باختلاف الممتحِن والممتحَن.
فقد يكون الامتحان بسؤال الممتَحن كما يفعل المدرس مع طلابه فإنَّه بسؤاله لهم يتعرَّف على مستوياتهم.
وقد يكون الامتحان بالسؤال عن الممتحَن كما هو السؤال عن المرأة التي يبتغي الرجل الزواج منها، فهو يمتحنها قبل الإقدام على الزواج بمعنى انه يستخبر عن حالها قبل السؤال عنها.
وقد يكون الامتحان بالتجربة كأن تدخل مع رجلٍ في تجارة محدودة لتستخبر واقعه حتى إذا ما وجدته أميناً صادقاً دخلت معه في تجارة أوسع.
وقد يكون الامتحان بملاحظة ما يفعله الإنسان حين يُصاب ببلية أو يقع في مأزق فتمتحنه وتستعلم حاله من ملاحظة مقدار تحمله وكيفية إدارته للمأزق الذي وقع فيه، ومن ذلك تعرف انَّه صابر أو جزوع وانَّه عاقل أو أحمق.
وهذ هو المعنى الذي استُعمل في القرآن كثيراً تحت عنوان الامتحان والابتلاء والتمييز والافتتان والتمحيص فكل هذه المفاهيم تعطي معنىً واحداً وهو الاستعلام والاستخبار.
قال تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾.
وقال تعالى: ﴿أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ﴾.
وقال تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى﴾.
وقال تعالى: ﴿لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾.
وقال تعالى: ﴿وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾.
ثم إنَّ استعلام الله عز وجل ليس لانه لم يكن عالماً بالواقع تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً بل إنَّ الغرض من الامتحان هو إيقاف الإنسان على واقعه أو إيقاف الناس على واقع هذا الإنسان الممتحَن.
إذا اتضحت هذه المقدمة يتضح المراد من معنى ما ورد في الزيارة المأثورة "يا ممتحنة امتحنك الله الذي خلقك قبل أن يخلقك فوجدك لما امتحنك صابرة".
فإن المراد من ذلك هو انَّ الله تعالى استخبر حال السيدة فاطمة (ع) في الأزل فعلم انَّها واجدة لمقام الصبر على ما سينتابها من مصيباتٍ في الدنيا ولذلك اصطفاها.
فامتحان الله عز وجل لفاطمة قبل خلقها ليس بمعنى اختبارها في ذلك العالم بل هو بمعنى علمه بواقعها وانَّها ستصبر بعد خلقها إذا ابتُليت، وإنما عبَّرت الرواية عن علم الله تعالى في الأزل بواقع فاطمة (ع) في الدنيا بالامتحان لأنَّ علمه بمستقبل الأمور حتمي الوقوع فهو لحتميته كأنه قد وقع.
لذلك نجد في القرآن ان الله تعالى يتحدث عما سيقع في يوم القيامة وما سوف يقع في الجنة والنار وكأنه قد وقع فيُخبر عنه بصيغة الماضي وكأنه قد وقع وانتهى وما ذلك إلا لحتمية وقوعه.
والمتحصَّل من مفاد الزيارة المأثورة انَّ الله تعالى علم منذ الأزل انَّ فاطمة (ع) ستحظى بمقام الصابرين بعد ان تُمتحن في الدنيا.
فتوصيفها بالممتحنة منذ الأزل لأنَّ ذلك هو ما كان قد قُدِّر لها، ولان الذي قد قُدِّر لها سوف يقع عليها حتماً لذلك فهو منزَّل منزلة ما كان قد وقع.
ثم إنَّ الامتحان يستبطن معنى التمحيص فيقال محَّص الذهب أي صفَّاه واستخلصه من شوائب المعادن الأخرى فأصبح ذهباً خالصاً لا شائبة فيه، ولأنَّ تمحيص الذهب يكون بتسليط النار عليه وتذويبه لغرض تنقيته وتخليصه من الشوائب لذلك يُعبِّر عن هذه العملية في استعمال العرب بامتحان الذهب.
فالامتحان يكون بتسليط النار والأثر المترتِّب على ذلك هو تمييز معدن الذهب عن سائر المعادن والشوائب، فإذا تميز الذهب عن سائر المعادن تمكَّن الممتحِن من تخليص معدن الذهب من بين سائر المعادن فتكون نتيجة الامتحان الاصطفاء أي اختبار معدن الذهب وإهمال ما عداه من المعادن والشوائب التي كانت عالقة وممتزجة به، فغاية الامتحان هو الاصطفاء، لذلك يُستعمل الامتحان في كلام العرب ويُراد به الاصطفاء، فمعنى ان هذا الرجل ممتحَن هو انَّه مصطفى من بين أقرانه، والتعبير عنه بالممتحَن بدلاً من المصطفى يكون لغرض الإشعار بمنشأ الاصطفاء فهو إنما اصطُفي دون أقرانه لانه قد امتُحن، فالممتحَن هو خلاصة ما نتج عن الامتحان والتمحيص.
وبذلك يتضح المراد من قوله: "يا ممتحنة" فإنَّ المراد من ذلك انَّها المصطفاة دون أقرانها، غايته انَّ امتحان الإنسان للأشياء أو لأخيه الإنسان يكون بالتمحيص بالنحو المناسب بكل شيء يراد امتحانه.
وأما امتحان الله جلَّ وعلا فالمناسب له هو التأهيل ابتداءً، إذ انه تعالى غنيٌّ عن التجربة والفحص والمعالجة، فمعنى انَّه امتحن فاطمة (ع) من الأزل هو انَّه أهَّلها أي أودع فيها الملكات التي تُميِّزها دون سائر أقرانها فتكون بذلك جديرة بالاصطفاء والاختيار.
وبذلك يكون المراد من قوله: "يا ممتحنة امتحنك الله قبل ان يخلقك" هو انَّ الله عزَّ وجل اصطفى فاطمة (ع) واختارها دون سواها بعد أن أودع فيها الملكات والكمالات التي تؤهلها لمقام الاصطفاء.
فشأنها في ذلك شأن سائر الأنبياء والأوصياء فإنَّ اصطفاءهم يكون بمعنى تأهيلهم لمقام الرسالة والوصاية ثم اختيارهم لذلك، فهم مُصطَفون منذ الأزل أي انَّ الله تعالى منذ الأزل علم انه سيخلق مَن يؤهلهم لحمل الأعباء التي ستناط بهم فهم سيُخلقون مؤهلين لذلك.
فهو كما يعلم انَّه سيخلق شمساً تكون مؤهلة لنشر الضياء ويعلم انَّه سيخلق أرضاً تكون مؤهلة لانْ يحيي الإنسان على سطحها كذلك فقد سبق علمه انَّه سوف يخلق رجالاً ونساءً مؤهَّلين لحمل أعباء الرسالة الإلهية، وذلك هو معنى: "امتحنك قبل ان يخلقك".
source : الشيخ محمد صنقور