لا يمكن أن يرد تصوّر الله إلى الذهن عن طريق الحواس، ذلك أنّ مدركاتنا الحسيّة محدودة ومقيّدة والله تعالى حقيقة مطلقة، لا تنسجم المحدوديّة مع ذاته كما أنّ الإدراكات الحسيّة من مقولة لا نعثر فيها على تصوّر الله.، فهل يمكن تصوّره؟
ثمّ ما السبيل إلى تصوّره مع عدم وجود مصداقٍ حسيٍّ له لنتخيّله ثم نتعقّله؟
إنّ تصوّر الله ليس من نوع الماهيّات التي يلزم أن يكون لها مصداقٌ حسيٌّ ليتسنّى تصوّرها، بل هو تصوّر لسلسلة من المعاني والمفاهيم (المعقولات الفلسفيّة الثانية)، والتي ينتزعها العقل مباشرة من الصور الحسيّة والخياليّة، ويكون تصورّه لها في الذهن كليّاً.
وهذا من قبيل تصوّر مفاهيم: الوجود، الوجوب، العلّيّة، القِدَم، مع فارقِ أنّ تصوّر الله يكون مركّباً من عدّة مفاهيم، وليس من نوع التصوّر لمفهوم واحد، فنتصوّر الله بعنوانٍ انتزاعيٍّ عامٍّ، كـ: واجب الوجود، خالق الكلّ، الكمال المطلق، العلّة الأولى، دون أن نستطيع تصوّر كنه ذاته.
والنتيجة أنّ العقل الفلسفيّ قادر على معرفة الله ضمن إطار المفاهيم العامّة بلا حاجة إلى مصداق حسيٍّ خارجيّ، ويستطيع أن يحكم على هذه المفاهيم، ممّا يؤسّس إلى علم معرفيّ برهانيّ.
إثبات الله خارج دائرتي الزمان والمكان
عندما نبحث في مسألة التوحيد عن إثبات وجود الله، فلا بدّ أن نبحث عن صفحةٍ خفيّةٍ خارج إطار الزمان والمكان، فلا نبحث عن موجودٍ نريد أن نعرف متى كان، كما لا نبحث عن موجودٍ نسأل عنه أين هو؟، لأنّنا نبحث عن وجودٍ كليٍّ ومحيطٍ بالأشياء، عن حقيقةٍ كاملةٍ مطلقةٍ، وليس عن شيءٍ كسائر الأشياء.
إذاً لا بدّ للباحث عن الله أن لا يُقحم عنصرَي الزمان والمكان في مسألة التوحيد.
وعلى هذا الأساس نفهم أنّ النقاش الدائر حول النظريتين بشأن أبعاد العالم والفضاء الكوني، وأنّه هل له نهاية محدّدة ( كما يعتقد إينشتاين
) أو أنه غير متناه (كما يذهب إليه موريس مترلينغ )، لا يؤثّر على مسألة إثبات وجود الله، خلافاً لما يتوهّمه البعض. وتوضيح ذلك:
يعتقد البعض بأنّه لو ثبت أنّ الكون غير محدودٍ، لأثّر ذلك سلباً على إثبات التوحيد، وذلك لأنّنا لن نجد مكاناً خارج حدود كونِنا يقع فيه هذا الإله وملائكته.وبالتالي اعتقدوا بأنّ من شروط الاعتقاد بالتوحيد أن يكون هذا الكون محدوداً، ليكون وراءه سماءٌ يكون الله فيها.
والجواب: أنّ الموجود الذي يتّخذ لنفسه مكاناً إلى جوار العالم ليس إلهاً في الواقع، والإله الحقيقيّ لا يحتاج في وجوده إلى مكان خاصّ به، بل هو موجودٌ في الأرض وفي السماء وفي جميع الموجودات على حدّ سواء: ﴿وَهُوَ الله فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ﴾(1)، ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾(2).
أمّا المسألة الثانية، فهي مسألة تناهي الزمان، حيث يمهّد كثيرٌ من الموحّدين الأوربيين لمسألة الاعتقاد بوجود الله بمحدوديّة الزمان، فيتوهّمون بأنّه لنتمكّن من إثبات وجود الله، فلا بدّ أن تكون للزمان بدايةً، لأنّ الله هو الذي خلق العالم والزمان. وبعبارة أخرى: يتصوّرون وجود تلازمٍ حتميٍّ بين الإيمان بالله والاعتقاد بحدوث العالم (بأن يكون له نقطة بداية).
وفي الواقع إنّ هذه المسألة تشكّل إحدى القضايا المهمّة التي اختلفت بشأنها كلمة الموحّدين منذ القدم، فالمتكلّمون هم الذين يعتقدون بما تقدّم من ضرورة حدوث العالم، ويقع على الطرف النقيض منهم الفلاسفة حيث يرون عكس ذلك، ونبيّن النظريّة التي يعتقد بها الفلاسفة في ما يلي:
نظريّة الفلاسفة:
يعتقد الفلاسفة الإلهيّون المسلمون- قاطبةً- أنّ الإيمان بالله يستلزم الاعتقاد بعدم وجود بداية للعالم، فإنّ وجود الله بحدّ ذاته دليلٌ على عدم وجود بدايةٍ للعالم الكونيّ، لأنّ وجوده هو الوجود الكامل والتامّ من جميع الجهات، والمنزّه عن جميع أشكال الوجود بالقوّة والاستعداد، فلا يمكن أن يكون فاقداً لشيءٍ ثمّ يحصل عليه فيما بعد، فهذا يعني أنّه واجب الوجود من جميع الجهات، فكل ما فيه واجبٌ وضروريّ.
وهذا يصدق على فيضه وخالقيّته، فلا يمكن أن لا يكون خالقاً منذ الأزل ثمّ يصبح خالقاً فيما بعد، فخالقيّته لا بدّ أن تكون غير محدودةٍ، كما أنّ إلهيّته غير محدودةٍ، لا في ذاتها ولا في أفعالها.
وفي الأدعية المأثورة ما يشير إلى هذا المعنى، مثل تعبير: (يا قديم الإحسان)، فهو يفيد أنّ الإحسان الإلهيّ - الذي يعني الخلق والإيجاد وإيصال الفيض الإلهيّ إلى مخلوقاته - هو إحسانٌ قديمٌ وموجودٌ دائماً.
القرآن والخالقيّة:
أمّا بالنسبة للمنطق القرآنيّ، فهو عندما يشير إلى هذا الموضوع، فإنّ غاية ما يثبته هو كون الله هو الخالق، يقول تعالى: ﴿ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾(3)، وفي آية أخرى: ﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبــَارَكَ الله رَبُّ الْعَالَمِـينَ﴾(4) دون أن يكون ثمّة فرقٌ بين أن يكون العالم محدوداً أو غير محدودٍ، فالله خلقه وكانت له بدايةٌ أم لا.
معنى كون العالم مخلوقاً ومعلولاً:
قد يسأل سائل: إذا كان العالم قديماً، فكيف يمكن وصفه بأنّه مخلوقٌ؟! فالمخلوق هو الذي لم يكن ثمّ كان؟!
والجواب: إنّ المخلوقيّة- ومعلوليّة المعلول لعلّته- لا تستلزم كون المعلول معدوماً في زمانٍ ثمّ يظهر للوجود لاحقاً، بل يكفي أن يكون وجوده مفاضاً عليه من غيره، وأن تكون ذاته قائمةً بغيره- بأن يكون ممكن الوجود، بحيث يكون وجوده بعلّةٍ خارجةٍ عن ذاته. وإذا كان الأمر كذلك، فلا يؤثّر فيه أن يكون مسبوقاً بعدمٍ أو لا.
إذاً، ليس للعدم الزمانيّ أيّ دورٍ في كون الشيء معلولاً لغيره أو لا، فلو فرضنا وجود شيءٍ من الأزل إلى الأبد، ولكنّ وجوده مرتهنٌ بوجود الله ومفاضٌ منه جلّ وعلا، فإنّ هذا الشيء يكون مخلوقاً ومعلولاً لله، فـ (الحدوث الذاتيّ) للأشياء يكفي لإثبات كونها مخلوقةً لله عزّ وجلّ.
وبعبارة أخرى: إنّ معنى الخالق هو أنّه القيّوم، أي الذي يقوم به عالم الخلق.
إفتقار الكون إلى الله:
وممّا يترتّب على اعتقاد الفلاسفة الإلهيّين، هو أنّ الكون كما هو فقيرٌ إلى الله في أصل وجوده، فهو يفتقر إليه في استمراره أيضاً.
وكذلك فإنّ الروح الإلهيّة لم تُنفخ في الحيّ الأوّل فحسب، بل الحياة دائماً وفي كلّ الأحوال، سواء في البداية أم خلال التكامل، هي فيض إلهيّ.
فكما أنّ آدم أبا البشر مخلوقٌ بفيضٍ إلهيٍّ، كذلك جميع البشر. ولذلك نجد القرآن عندما يسرد قصّة النبيّ آدم عليه السلام، وبالرغم من أنّه يذكر مجموعةً كبيرةً من الدروس والتعليمات، فإنّه لم يستدل بخلقه عليه السلام على التوحيد، وذلك لما أشرنا إليه من أنّ الإفاضة لم تقتصر على آدم عليه السلام ليقتصر استدلال القرآن على التوحيد بقصّته، بل إفاضة الحياة من الله تعمّ جميع المخلوقات، وبذلك يستدلّ على التوحيد، ولا يتمسّك في الاستدلال على التوحيد بموضوع بدء الحياة والخليقة فحسب.
النتيجة:
يعتقد الفلاسفة الإلهيّون بأنّ الله خالق هذا العالم الكونيّ بلا حاجةٍ إلى سؤال: متى خلقه؟، لأنّ الله مستمرٌ في إفاضته وخلقه لهذا العالم، سواء كانت له بدايةٌ أم لا.
المصادر :
1- الأنعام: 3
2- البقرة: 115
3- الأنعام: 102
4- الأعراف: 54