يخبر القرآن الكريم عن أنّه سبحانه فرض على نفسه معاقبة النبي وإهلاكه إذا كذب على الله تعالى، قال عزّ وجل:?وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لاََخَذْنَا مِنْهُ بِالَْيمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَد عَنْهُ حَاجِزِينَ?(الحاقة:44-47).
قال المحقق الخوئي: "المراد من الآية الكريمة أنّ محمداً الّذي أثبتنا نبوّته، وأظهرنا المعجزة لتصديقه، لا يمكن أن يَتَقَوَّل علينا بعض الأقاويل ولو صنع ذلك، لأخذنا منه باليمين، ولقطعنا منه الوتين، فإنّ سكوتنا عن هذه الأقاويل، إمضاءٌ منّا لها، وإدخال للباطل في شريعة الهدى، فيجب علينا حفظ الشريعة في مرحلة البقاء، كما وجب علينا في مرحلة الحدوث"5.
إنّ هذه الآيات تحكي عن سنّة إلهية جارية في خصوص من ثبتت نبوّتهم بالأدلّة القطعية ودلّت معاجزهم على أنّهم تحت رعايته سبحانه، الّذي اقدرهم بها على التصرّف في الكون. فالإنسان الّذي يصل إلى هذا المقام، يستولي على مجامع القلوب، ويسخّر الناس بذلك لمتابعته، فكل ما يلقيه، ويشرّعه، يأخذ طريقه إلى التنفيذ في حياة الناس والمجتمع. فلو افتعل هذا الإنسان ـ في مثل هذه الظروف ـ كذباً على الله تعالى، اقتضت حكمته سبحانه إهلاكه وإبادته، لمِا في إبقائِه وإدامة حياته، من إضلال الناس، وإبعادهم عن طرق الهداية، الأمر الّذي يناقض مقتضى الحكمة الإلهية الّتي شاءت هداية الناس وإبعادهم عن وسائل الضلالة.
إنّ هذه الآيات تحكي عن سنّة إلهية جارية في خصوص من ثبتت نبوّتهم بالأدلّة القطعية ودلّت معاجزهم على أنّهم تحت رعايته سبحانه، الّذي اقدرهم بها على التصرّف في الكون. فالإنسان الّذي يصل إلى هذا المقام، يستولي على مجامع القلوب، ويسخّر الناس بذلك لمتابعته، فكل ما يلقيه، ويشرّعه، يأخذ طريقه إلى التنفيذ في حياة الناس والمجتمع.
والتدبّر في مفاد هذه الآيات يرشدنا إلى وجود الرابطة المنطقية بين كون النبي محقّاً في دعواه، وإتيانه بالمعجزة وأنّه يتصرف في الكون برضى مبدعه. وبقاؤه على وصف التصرّف كاشف عن رضاه تعالى، وصدق النبي فيما يأتي به.
وبما ذكرنا يعلم أنّ الآيات لا تهدف إلى أنّ دعوى النبوّة كافية في صدق المدّعي، وأنّ المدّعي لو كان كاذباً في دعواه لشملته نقمة الله سبحانه وإماتته، بحجة أنّه لو تقوّل عليه بعض الأقاويل لقطع منه الوتين، فاستمرار المدّعي للنبوّة على الحياة "وإن لم يأت بأية معجزة ولم يُقم برهاناً على صدق دعواه" هو، بحدّ نفسه، كاشفٌ عن صدق دعواه1.
إذ لا ريب أنّ هذه الدعوى أوهن من بيت العنكبوت، ولو صحّت، للزم تصديق كل متنبي في العالم، وإن ثبت كذبه، لمجرّد عدم إهلاك الله تعالى له.
إلى هنا وقفت على البيان الأول الّذي يُثبت أنّ بين دعوى النبوّة والإتيان بالمعجزة، رابطة منطقية.
البيان الثاني لوجود الرابطة المنطقية
إنّ نَفْي الرابطة المنطقية بين الإتيان بالمعجزة وصدق الدعوى، أمر يحتاج إلى التحليل، فهو باطل على وجه وصحيح على وجه آخر، وذلك بالبيان التالي:
إن كان المراد من قلب العصا ثعباناً "مثلاً" أنّه كلأوسط في القياس، دليلٌ على صدق ما يدّعيه النبي من أنّه سبحانه واحدٌ عالمٌ قادرٌ، ليس كمثله شيء.. فلا ريب في عدم صحته. إذ لا يمكن الإستدلال على صحّة هذه الأصول بالتصرف في الكون.
ولأجل ذلك لم يطرح القرآن أصول الإسلام مجردةً عن البرهنة، بل قَرَنَها بلطائف الدلائل والإشارات، يقف عليها كلُّ متدبّر في الذكر الحكيم.
فَيَسْتِدلُّ في البرهنة على وجوده سبحانه بقوله: ?أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ?(إبراهيم:10).
وفي البرهنة على وحدة المدبّر، بقوله: ?لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا?(الأنبياء:22).
وفي البرهنة على إبطال أُلوهيِة الأصنام، بقوله: ?وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لاَِنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُوراً?(الفرقان:3).
وفي إبطال أُلوهية المسيح، بقوله:?مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ?(المائدة:75).
إلى غير ذلك من عشرات الآيات الّتي تَطْرَحُ الأُصول والعقائد، بالبراهين الدقيقة. فالمعجزة غير دالّة بالدلالة المطابقية على صحّة المعارف والأصول الّتي يأتي بها صاحبها، بمعنى أنّها ليست الحدّ الأوسط صحّة المدّعى، كالتغيير في قولنا: العاَلم مُتَغَيّر، وكلُّ مُتَغِّير حادث، فالعاَلُم حادث.
وإنْ كان الُمرادُ أنّ خرق العادة الملموسة "أعني قلب العصا حيّة" دليلٌ على أنّهم قادرون على خرق عادة أخرى غير ملموسة "وهي الإتصال بعالم الوحي وكون إدراكات النبي خارجة عن إطار الإدراكات العادية المتعارفة" فهو صحيح، وإليك بيانه:
إنّ الأنبياء عليهما السَّلام ، كانوا يواجهون في تبليغ رسالاتهم إشكالين عظيمين في أعين الناس:
الإشكال الأول: إنّهم كانوا يتخيّلون أنّ النبي المرسل من عالم الغيب، يجب أن يكون من جنس الملائكة، ولا يصحّ أن يكون إنساناً مثلهم.
والقرآن الكريم يحكي عنهم هذا الاعتراض، بقوله: ?قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا?(إبراهيم:10).
وكان الأنبياء يجيبون سؤالهم بأنّ المماثلة أساس التبليغ، والوحدة النوعية غير مانعة منه، لإمكان أن يتفضل فرد من نوع على فرد من ذاك النوع، فيكون الفاضل مُرْسلاً، والمفضول مُرْسَلاً إليه.
والقرآن الكريم يحكي هذا الجواب، بقوله: ?قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ?(إبراهيم:11).
الإشكال الثاني: إنّ الإنبياء عليهما السَّلام كانوا يَدَّعون أنّهم يتلقون الأصول والمعارف والأحكام والفروع من الله سبحانه عن طريق الوحي، وهو إدراك خاص يوجد فيهم ولا يوجد في غيرهم، وليس من قبيل الإدراكات العادية الّتي يجدها كل إنسان في صميم ذاته من طريق الإبصار بالعين، والسمع بالأُذن، والتفكّر والإستدلال بالعقل.
وهذه الدعوى كانت تثير السؤال التالي
إنّ ادّعاء الإدراك عن طريق الوحي، إدعاءُ أمر خارق للعادة، فإنّ الإدراكات الإنسانية لا تخرج عن إطار الحسيّات والخياليات والعقليات. فنحن لا نؤمن بقولكم هذا إلاّ إذا شاهدنا خرقاً للعادة يماثل ما تدّعون، حتى نستدلّ بخرق عادة مرئية، على وجود نظيرها في باطن وجودكم، وصميم حقيقتكم.
ومن منطلق إجابة هذا السؤال، كان الانبياء يفعلون الخوارق، ويأتون بالمعاجز، حتى يدللوا بذلك على تمكنهم من خرق العادة مطلقاً، سواء أكانت مرئية، كقلب العصا إلى الثعبان، وتسبيح الحصى "أو غير مرئية" كالإدراك غير المشابه للإدراكات العادية، الّذي هو الوحي.
ومن منطلق إجابة هذا السؤال، كان الانبياء يفعلون الخوارق، ويأتون بالمعاجز، حتى يدللوا بذلك على تمكنهم من خرق العادة مطلقاً، سواء أكانت مرئية، كقلب العصا إلى الثعبان، وتسبيح الحصى "أو غير مرئية" كالإدراك غير المشابه للإدراكات العادية، الّذي هو الوحي.
وإن شئت قلت: كانوا يستدلون بخرق العادة الملموسة، على غير الملموسة منها.
وإلى ما ذكرنا يشير العلامة الطباطبائي رحمهم الله بقوله: "إنّ دعوى النبوّة والرسالة من كل نبي ورسول على ما يقصه القرآن إنّما كانت بدعوى الوحي والتكليم الإلهي بلا واسطة، أو بواسطة نزول ملك، وهذا أمر لا يساعده الحسّ ولا تؤيّده التجربة، فيتوجه عليه الإشكال من جهتين: إحداهما من جهة عدم الدليل عليه، والثانية من جهة الدليل على عدمه. فإنّ الوحي والتكليم الإلهي وما يتلوه من التشريع والتربية الدينية مّما لا يشاهده البشر في أنفسهم، والعادة الجاري في الأسباب والمسبَّبات تنكره، وقانون العليّة العامة لا يجوزه، فهو أمر خارق للعادة.
فلو كان النبي صادقاً في دعواه النبوّة والوحي، لكان لازمه أنّه متصل بما وراءِ الطبيعة، مؤيّد بقوة إلهية تقدر على خرق العادة، وأنّ الله سبحانه يريد بنبوّته والوحي إليه، خرق العادة. فلو كان هذا حقاً، ولا فرق بين خارق وخارق، كان من الممكن أن يصدر من النبي خارق آخر للعادة من غير مانع، وأن يخرق الله العادة بأمر آخر يصدّق النبوة والوحي من غير مانع عنه، فإنّ حكم الأمثال واحد، فلئن أراد الله هداية الناس بطريق خارق للعادة وهو طريق النبوة والوحي، فليؤيدها وليصدقها بخارق آخر وهو المعجزة.
وهذا هو الّذي بعث الأمم إلى سؤال المعجزة على صدق دعوى النبوة، كلما جاءهم رسول من أنفسهم2.
*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني.
-------------------------------------------------------
الهوامش:
1- ادّعى ذلك الكاتب البهائي، أبو الفضل الجرفادقاني، في كتابه الفرائد، ص 240، طبعة مصر
2- الميزان، ج 1، ص 86.
source : http://alollah.com