إنّ النبي إذا بُعث بشريعة جديدة، وكتاب جديد، تكون نبوَّته تشريعية، وإذا بعث لغايةِ دعم أحكام شريعة سالفة، فالنبوة ترويجية أو تبليغية. والقسم الأول من الأنبياء منحصر في خمسة، ذكرت أسماؤهم في القرآن1. وأمّا القسم الثاني، فيشكّله أكثرية الأنبياء، لأنّهم بُعثوا لترويج الدين النازل على أحد أُولئك، فكانت نبوتهم تبليغية2.
فعندئذ، يُطرح السؤال التالي: إنّ نبيَّ الإسلام جاء بأكمل الشرائع وأتّمها، ولذلك أُوصد باب النبوة التشريعية، ولكن لماذا أُوصد باب النبوة التبليغية الّتي منحها الله للأُمم السالفة، فإنّ الشريعة مهما بلغت من الكمال والتمام، لا تستغني عمن يقوم بنشرها وتجديدها، لكي لا تندرس، حتى يتم إبلاغها من السلف إلى الخلف بأُسلوب صحيح. فلِمَ أُوصد هذا الباب، بعدما كان مفتوحاً في وجه الأُمم الماضية؟
الجواب
إنّ انفتاح باب النبوة التبليغية في وجه الأُمم السالفة وإيصاده بعد نبي الإسلام، لا يعني أنّ الأمم السالفة تفرّدت بها لفضيلة استحقتها دون الخلف الصالح، أو أنّ الأُمّة الإسلامية حرمت لكونها أقلّ شأناً من الأُمم الخالية، بل الوجه هو حاجة الأُمم السالفة إليها وغناء الأُمة الإسلامية عنها، لأنّ المجتمعات تتفاوت إدراكاً ورشداً فربّ مجتمع يكون في أخلاقه وشعوره كالفرد القاصر، لا يقدر على ان يحتفط بالتراث الّذي وصل إليه، بل يضيعه، كالطفل الّذي يمزق كتابه وقرطاسه، غير شاعر بقيمتهما.
ومجتمع آخر بلغ من القيم، الفكرية والأخلاقية والاجتماعية، شأواً بعيداً، فيحتفظ معه بتراثه الديني الواصل إليه، بل يستثمره استثماراً جيداً، وهو عند ذاك غني عن كل مروّج يروّجُ دينه، أو مُبَلِّغ يذكِّره بمنْسيِّه، أَو مُرَبٍّ يرشده إلى القيم الأخلاقية، أو معلّم يعلّمه معالم دينه، إلى غير ذلك من الشؤون.
فأفراد الأُمم السالفة كانوا كالقُصرّ، غير بالغين في العقلية الاجتماعية، فما كانوا يعرفون قيمة التراث المعنوي الّذي وصل إليهم، بل كانوا يلعبون به لعب الصبي في الكتاتيب، بكتابه أو قرطاسه، فيخرقه ويمزقه ولا يبقي شيئاً ينتفع منه إلى آخر العام الدراسي. ولهذا كان على المولى سبحانه أن يبعث في كل جيل منهم نبيّاً ليذكّرهم بدينهم، ويجدد به شريعة من قبله، ويزيل ما علاها من شوائب التحريف.
وأمّا المجتمع البشري بعد بعثة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فقد بلغ من المعرفة والإدراك والتفتّح العقلي شأواً، يتمكن معه من حفظ تراث نبيّه وصيانة كتابه عن طوارق التحريف والضياع، حتى بلغت عنايته بكتابه الديني إلى حدّ تأسيس علوم عديدة لفهم كتابه. فازدهرت، تحت راية القرآن، ضروب من العلوم والفنون. فلأجل ذلك الرشد الفكري، جعلت وظيفة التبليغ والترويج وصيانة التراث على كاهل نفس الأُمة، حتى تبوّأت وظيفة الرسل في التربية والتبليغ، واستغنت عن بعث نبي مجدد.
ولأجل ذلك يقول سبحانه: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾(آل عمران:110).
وقال سبحانه: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾(آل عمران:104).
وقد ظهرت طلائع هذا الاعتماد على الأُمّة من قوله سبحانه: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُم يحذرون﴾(التوبة:122).
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا ظهرت البِدَعْ، فليُظْهر العالِمُ عِلْمَه، فمن لم يفعل، فعليه لعنة الله"3.
وقال الإمام الباقر: "إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيلُ الأنبياء، ومنهاج الصلحاء، وفريضة تقام بها الفرائض، وتؤمَن المذاهب، وتَحِلُّ المكاسب، وتُرَدُّ المظالم، وتَعْمُر الأرض، وينتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر"4.
وما ذكرنا من الجواب يلائم أُصول أهل السنة في دور الأُمة وعلمائها في حفظ الشريعة. ولكن هناك جواب آخر أصحّ وأجمع.
وحاصله: إنّ أئمة الشيعة بحكم حديث الثَّقلين، يحملون علم النبي في المجالات المختلفة سواء في مجال المعارف والعقائد، أو في مجال الأحكام والوظائف، أو في مجال الاحتجاج والمناظرة، أو في مجال الأجوبة على الأسئلة المستجدة، كل ذلك بتعليم من الله سبحانه، من دون أَن يكونوا أنبياء يوحى إليهم.
فلأجل ذلك، كل إمام في عصره، يقوم بمهمة التبليغ والترويج، ويجلي الصدأ عن وجه الدين، ويردُّ شبهات المبطلين، فاستغنت بهم الأُمّة عن كل نبوة ترويجية، والتاريخ يشهد بأنّ كل إمام من أئمة الشيعة الاثني عشرية، قام بأعباء مهمة التبليغ، وإيصال مفاهيم الإسلام الصحيحة إلى الأُمّة، ولقد عانوا في ذلك من المشاق، ولاقوا من الأهوال ما لاقاه جدّهم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
*الإلهيات.آية الله جعفر السبحاني،مؤسسة الامام الصادق عليه السلام،ج3،ص505-508.
1- سوره الشورى:الاية 13.
2- الكلمة الدارجة لمعنى التبليغ في البيئات العربية، هي كلمة التشريع، ولكن كلمة التبليغ أولى وأليق، فهي مقتبسة من القرآن، ومدلولها اللغوي منطبق على المقصود.
3- وسائل الشيعة، كتاب الأمر بالمعروف، الباب40، الحديث1.
4- وسائل الشيعة، ج 11، كتاب الأمر بالمعروف، الباب الأول، الحديث6.
source : http://almaaref.org