الورد
جاء في الحديث عن الإمام الصادق، قوله عليه السلام: "إن الأرض لا تخلو إلا وفيها إمام". كما جاء عنه قوله عليه السلام: "لو بقي اثنان لكان أحدهما الحجّة على صاحبه" 1.
ورواية عن الإمام الرضا
ثمَّ في هذا المجال أحاديث كثيرة، منها رواية مفصَّلة عن الإمام الرضا عليه السلام حيث يحدث عبدالعزيز بن مسلم، بقوله:" كنا مع الرضا عليه السلام بمرو فاجتمعنا في الجامع يوم الجمعة في بدء مقدمنا، فأداروا أمر الإمامة، وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها، فدخلت على سيّدي عليه السلام فاعلمته خوض الناس، فتبسم عليه السلام ".
تنم ابتسامة الإمام هنا عن السخرية بمستوى ما يذهب إليه أولئك في الإمامة، وبجهلهم بها.
يواصل عبد العزيز بن مسلم نقل الخبر، فيقول:"ثم قال (الإمام): يا عبد العزيز، جهل القوم وخُدعوا عن آرائهم. إن الله عز وجل لم يقبض نبيه صلى الله عليه وآله وسلم حتى أكمل له الدين، وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كل شيء، بين فيه الحلال والحرام، والحدود والأحكام، وجميع ما يحتاج إليه الناس كملاً، فقال عز وجل (ما فرطنا في الكتاب من شيء) وأنزل في حجّة الوداع وهي آخر عمره صلى الله عليه وآله وسلم: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا). وأمْر الإمامة من تمام الدين، ولم يمضِ صلى الله عليه وآله وسلم حتى بيَّن لأمته معالم دينهم، وأوضح لهم سبيلهم، وتركهم على قصد سبيل الحق، وأقام لهم عليا عليه السلام علَماً وإماماً ".
خلاصة ما ينتهي إليه منطق القرآن، أنه يذكر بمنتهى الصراحة بيانه لكل شيء.
والسؤال: هل توفر كتاب الله على بيان الجزئيات والتفاصيل أيضا، أم أنه اقتصر على الكلّيات والأصول العامة مما يحتاج الناس إليه؟
إن واحدة مما توفر القرآن على بيانها، أنه نصَّب للناس مرجعا بعد النبي، يعودون إليه في تفسير القرآن وتوضيح معانيه، وبيان أصوله العامة وتفصيلها. وهذا المرجع لا يفعل ذلك من تلقاء رأيه أو باجتهاده حتى يصيب في شيء مما يبينه، ويخطئ في بعض، بل هو يمارس وظيفته من خلال العلم الإلهي، وأن لديه حقيقة الإسلام.
في ضوء ذلك، يتبين ما أراده القرآن من بيانه لكل شيء، فهو قد بينه بالنحو الذي توفر فيه على ذكر الأصول والكليات من جهة، وبين التفاصيل والجزئيات من جهة ثانية، وأوكل علمها للمرجع المنصوب الذي يكون بين الناس دائما وهو يحمل الإسلام بتمامه.
وبذلك لم يبق شيء وراء ذلك، بعد أن احتوى القرآن الكليات وأوكل التفاصيل إلى المرجع- الإمام، وبهذا المعنى يكون قد بين كل شيء.
نعود إلى الرواية، حيث يقول فيها الإمام:"فمن زعم أن الله عز وجل لم يكمل دينه فقد رد كتاب الله" والذي يرد كتاب الله كافر.
يقول الإمام الرضا عليه السلام بعد ذلك: "هل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأمة فيجوز فيها اختيارُهم"؟ هؤلاء يقولون بانتخاب الإمام، لأنهم يظنون أن انتخاب الإمام كانتخاب قائد للجيش مثلاً، مع أننا نجد القرآن يصرّح أن الذين اكتمل بنصب الإمام، العارف بحقيقة الإسلام، والحفي بجزئيات المسائل مما لم يرد ذكرها في القرآن.
فهل بمقدور الناس أن تعرف مثل هذا الشخص حتى تنتخبه؟ إن القول بانتخاب الإمام يشبه قيامنا بانتخاب النبي!
يضيف الإمام: "إن الإمامة أجل قدرا وأعظم شأنا وأعلى مكانا وأمنع جانبا وأبعد غورا من أن يبلغها الناس بعقولهم أو ينالوها بآرائهم، أو يقيموا إماما باختيارهم".
الإمامة في هذا النص تعلو على فكر الناس وترتفع عليه، ثم تنأى أن تكون انتخابية باختيارهم. إن المسألة التي يجب أن تكون انتخابية من اختيار الناس، هي تلك التي يكون تشخيصها فعلا في نطاق المجتمع حقا.
والدين لا يتدخل مباشرة في القضايا التي يكون بمقدور الناس تشخيصها، بل من الخطأ أن يتدخل الدين فيها بشكل مباشر، وإلا ما شأن عقل الإنسان وفكره إن لم يملأ هذه المنطقة؟ هذه المنطقة هي مساحة مفتوحة لعقل الإنسان وفكره، على البشر أن يمارس من خلالها حقه في الاختيار.
أما حين تكون القضية خارج منطقة العقل البشري، وارفع منه، فلا يبقى عندئذ مجال للاختيار. وقضية الإمامة هي من هذا القبيل، فالإمام "أجل قدرا وأعظم شأنا، وأعلى مكانا وأمنع جانبا وأبعد غورا" من أن يُدرَك بعقول الناس، وأن يُصاب برأيهم، فيكون من اختيارهم.
إذا أردتم أن تفهموا الإمامة بمعناها الواقعي، فاعلموا أنها غير ما يردده الناس في هذا العصر من أنها تتمثل بانتخابنا خليفة للنبي تقتصر مهامة على إدارة شؤون الأمة فقط. وبنص حديث الإمام الرضا عليه السلام: "إن الإمامة خصّ الله (عز وجل) بها إبراهيم الخليل عليه السلام بعد النبوة والخلّة...، فقال الخليل عليه السلام سرورا بها: (ومن ذريتي؟) وهو يعرف أن هذا المقام لا يمكن أن يشمل جميع ذريته، فأتاه الجواب: (لا ينال عهدي الظالمين).
والسؤال: من المقصود بالظالم؟ هل هو الظالم في حال وقوع الظلم منه، سواء كان في السابق ظالما أم لم يكن؟ ذكروا أن من المحال على إبراهيم عليه السلام أن يطلب هذا المقام للظالمين من ذريته، فلابدّ أن يكون المراد من سؤاله الصالحين منها. وقد جاء الجواب أنها (الإمامة) ستكون للصالحين دون الظالمين.
وهنا يقول الإمام الرضا عليه السلام:"فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة وصارت في الصفوة" وصفوة الشيء زبدته.
"ثم أكرمه الله تعالى بأن جعلها في ذريته أهل الصفوة والطهارة، فقال (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ، وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ)2. والمراد بالطهارة العصمة.
لقد أولى القرآن عناية في الإشارة إلى حمل ذرية إبراهيم للإمامة، بحيث تحوّل هذا المعنى إلى دعامة كبيرة لقضية الإمامة.
والسؤال الذي يُطرح بهذا الشأن هو لماذا اعتنى القرآن بهذا البعد، مع رفضه المطلق لمنطق التمييز السلالي والعنصري القائم على تفضيل عنصر على عنصر آخر؟
لقد أجاد حقا الشيخ محمد تقي شريعتي ببحث هذه المسألة في كتابه"الخلافة والولاية" عندما ميز بين قضيتين، بين ما تمثله ذرية ما من كيان سلالي وطبيعي، وبين ما تحمله من مؤهلات، فهذه - الأخيرة- قضية أخرى، وهي معنى حمل الذرية للإمامة.
يقول الإمام بعد ذلك:" فمن أين يختار هؤلاء الجهّال " أي أنى يكون لهؤلاء انتخاب الإمام وهو المقام الذي ناله إبراهيم عليه السلام بعد أن بلغ النبوة؟
وحين تكون الإمامة وراثة يتوارثها الأوصياء، بمعنى كونها استعدادا ينتقل من جيل إلى الذي يليه، وليس وراثة قانونية، وهي خلافة الله التي تمثلت في الإنسان الأول، وخلافة الرسول، فهل يمكن لها - وهي في هذا الواقع - أن تخضع لاختيار الناس وانتخابهم؟
يقول الإمام عليه السلام مدللا على هذه المعاني: "إن الإمامة هي منزلة الأنبياء وإرث الأوصياء، إن الإمامة خلافة الله وخلافة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يقول:"إن الإمامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا وعز المؤمنين. إن الإمامة أُسُّ الإسلام النامي وفرعه السامي، بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحجّ والجهاد" إلى آخر حديثه عليه السلام3.
الامامة،الشيخ مرتضى مطهري، المترجم:جواد علي كسّار
-----------------------------------------------------
الهوامش:
1- ينظر في مصدر الحديث الأول:الكافي، ج1،كتاب الحجّة، باب أن الأرض لا تخلو من حجّة الحديث الثاني، ص 178. كما ينظر في نصّ الحديث الثاني المصدر نفسه، باب أنه لو لم يبق في الأرض إلا رجلان لكان أحدهما الحجّة، الحديث الثاني، ص 179(المترجم).
2- الأنبياء: 72-73
3- يلاحظ النص كاملا في: الكافي، ج1، كتاب الحجة، ص 198-203. (المترجم)