تتكرر الحال نفسها في الآية الكريمة: (اليوم أكملت لكم دينكم) على نحوٍ أشدّ يثير العجب أكثر. فالسياق ?أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ1? ثم يتحول لاستثناء موارد منها المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة، ليصير فجأة إلى قوله تعالى: ?الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا?2 ثم يعود السياق إلى ما كان عليه قبل ذلك (أي قوله تعالى (فمن اضطُر في مخمصة غير متجانفٍ لإثم فإن الله غفور رحيم) ثم قوله تعالى في الآية التي تليها(يسألونك ماذا أحل لهم)(المترجم)).
والذي يتضح أن الذي نحن بصدده ( اليوم يئس الذين... ) لا يتسق مع ما قبله وما بعده، وذلك في دلالة على أنه أُدرج في طيّ موضوع آخر ومرّر من خلاله.
والآية التي نعنى ببحثها، جاءت تخضع للمنوال نفـــسه (يعني قـــوله تعــالى: ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك..) فقد جاءت بطريقة بحيث إذا رفعناها من وسط الآيات الأخرى، لا يختل السياق ولا ينقطع، تماماً كما هو عليه الحال أيضا مع (اليوم أكملت) فإذا رفعنا هذه أيضا لا يصاب السياق فيما قبلها وبعدها بالانقطاع، ولا يختل ارتباط النص وتواصله.
فالنصوص موضع الدراسة جاءت وسط آيات أخرى، بحيث لا يمكن أن يقال أنها تتمة لما قبلها، أو مقدمة لما بعدها، بل هي تعبير عن موضوع آخر. والذي يشهد لذلك ما تحكيه الآية (النصوص المعنية) نفسها من قرائن وما يحف بها من روايات ينقلها الشيعة والسنة معا.
ومع انطواء هذه الآيات على خصوصية في المعنى يختلف عن السياق، فإنها دُرِجت في سياق آيات لا شأن لها بها، إذن لابد أن يكون هناك سرّ وراء هذا العمل. فما هو يا ترى السّر وراء هذه المسألة؟
سرّ المسألة
السرّ الذي يكمن وراء هذا المنحى، يمكن أن نستشفه من خلال ما أشارت إليه الآية القرآنية نفسها، كما جاءت إشارة إليه في روايات أئمتنا عليهم السلام.
ومضمونه أنه ليس هناك من بين أحكام الإسلام وتعاليمه ما هو أقل حظا في التنفيذ، من قضية أهل بيت النبي وإمامة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب.
وضآلة هذه المسألة في التنفيذ، تعود للعصبية الراسخة في عمق نفسية العرب، وما تقود إليه من استعداد ضئيل جدا للتفاعل مع هذه الفكرة (ولاية أهل البيت وإمامتهم ).
فمع أن النبي الأكرم بلَغَهُ الأمرُ - من السماء - بتنصيب عليّ، إلا أنه كان دائما يخشى المنافقين الذين كان القرآن يذكرهم باستمرار، ويخاف رد فعلهم وقولهم بحسب الاصطلاح الشائع: إنه يمهّد- من خلال هذا الاستخلاف والتنصيب- لعائلته. مع أن نهج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحياة يقوم على أساس أن لا يختص بشيء لنفسه، وكانت أخلاقه وأحكام الإسلام يقضيان أن يمتنع بشدة عن كل ما من شأنه أن يمنحه المزايا ويميزه عن الآخرين.
وقد كان هذا الالتزام عاملا كبيرا جدا في التوفيق الذي ناله النبي الأكرم.
لقد كان إبلاغ الأمة بتنصيب علي عليه السلام خليفة للنبي، هو أمر الله. ومع ذلك، كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعرف أنه إذا فعل ذلك، فإن عدة من ضعفاء الإيمان ستنبري لتفسير ذلك على أنه مزية اختص بها النبي نفسه 3.
وعندما نعود إلى قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم) نجده مسبوقا بقوله:
(اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون) فقد عرف الكافرون أن لا جدوى من مواجهة الإسلام بعد أن توطّدَ: ( فلا تخشوهم) بل (اخشون) أي تخافوني، لأنه إذا أصاب داخلكم الخراب فسأسلب نعمتي، نعمة الإسلام منكم جريا وراء سنة إبدال النعم عن أي قوم غيروا ما بأنفسهم.
إن (واخشون) هنا كناية على أنكم يجب أن تخافوا على أنفسكم من أنفسكم. وعليه فإن مصدر الخوف هو من الداخل، ولا خوف من جهة الخارج. من جهة أخرى نعرف أن هذه الآية في سورة"المائدة" وهذه السورة هي آخر ما نزل على النبي، أي إن الآية هذه نزلت في الشهرين أو الثلاثة الأخيرة من عمر النبي، حين كان الإسلام قد توطد وبسط قدرته.
في الآية السابقة تكررت نفس الحال، فقد كان منبثق الخوف من داخل المسلمين أنفسهم، ولم يكن له مصدر من الخارج. يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ)وفي الواقع لا نجد في القرآن آية تدفع النبي وتشجعه لإنجاز عمل غير هذه ومثلها يشبه فعلك حينما تريد أن تشجع شخصا لفعل معين، وهو يخشاه فيقدم رجلا ويؤخر أخرى.
هذه الآية تأمر النبي بإبلاغ ما أنزل إليه، وقد جاءت في سياق يتضمن تهديده من جهة، وتشجيعه ومواساته من جهة أخرى. وفحوى التهديد أنك ان لم تبلغ ما أنزل إليك، فإن جهودك في تبليغ الرسالة تضيع هدرا، هي تواسيه بعدم خوف الناس وخشيتهم (والله يعصمك من الناس).
وحين نعود إلى آية (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم) فإن الشيء الطبيعي أن النبي لا ينبغي أن يخشى الكفار منذ البداية، ولكن الذي يظهر من الآية الثانية: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) أن النبي كان قلقا يخشى (المنافقين) ومصدر هذا القلق ومنبثقة هو الداخل الإسلامي نفسه.
لا يعنيني الآن حال تلك الجماعة في الوسط الإسلامي، التي كانت ترفض خلافة علي عليه السلام وفيما إذا كانت كافرة باطنا أم لا. إنما تعنيني المحصلة، حيث لم يكن أولئك على استعداد لتقبل خلافة عليّ عليه السلام.
الامامة،الشيخ مرتضى مطهري، المترجم:جواد علي كسّار
---------------------------------------------------------
الهوامش:
1- المائدة: 1
2- المائدة:3
3- لم يكن هذا حدسا أو مجرد تحليل، بل هو ما قيل بالفعل، ومثاله صاحب آية سأل سائل بعذاب واقع. للكافرين ليس له دافع المعارج:1-2 وقصتها أن النبي بعد أن نادى في الناس واجتمعوا إليه في غدير خم، أخذ بيد علي وقال:"من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه" شاع الخبر وطار في البلاد، فبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري، فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله على ناقة له حتى أتى الأبطح، فنزل عن ناقته وأناخها وعقلها، ثم أتى النبي وهو في ملأ من أصحابه، فقال: يا محمد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلنا، وأمرتنا أن نصلي خمسا فقبلناه منك، وأمرتنا بالزكاة فقبلنا، وأمرتنا أن نصوم شهراً فقبلنا. ثم لم ترض بذلك حتى رفعت بضبعي ابن عمّك فضّلته علينا وقلت:" من كنت مولاه فعلي مولاه" فهذا شيء منك أم من الله؟أجاب النبي: والذي لا إله إلا هو إن هذا من الله.فولى الحارث بن النعمان يريد راحلته، وهو يقول: اللهم إن كان ما يقوله حقا فأمطر علينا حجارة من السماء أو أئتنا بعذابٍ إليم. فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر، فسقط على هامته وخرج من دبره، فقتله، وأنزل الله فيه الآية أعلاه.ينظر: الكشف والتبيان، ص 213 (المترجم)
source : تبیان