عربي
Saturday 2nd of November 2024
0
نفر 0

الإِنسجام آية دخالة الشعور في وجود الكون

الإِنسجام آية دخالة الشعور في وجود الكون

هناك تقرير لبرهان النَّظم  يعتمد على ملاحظة كل ظاهرة مادية، مستقلة ومنفصلة عن سائر الظواهر، فالنظام السائد على الخلية منفصلا عن سائر الظواهر، كان محل البحث والنظر.

ومثله سائر الظواهر المادية ذات الأَنظمة البديعة كحركة الشمس والقمر وغيرها، غير أَنَّه يمكن تقرير هذا البرهان بشكل آخر يعتمد على الإِنسجام السائد على العالم، والإِتصال البديع بين أَجزائه فيستدل بالإِنسجام والإِتصال على أَنَّ ذاك النظام المتصل المنسجم إِبداع عقل كبير وعلم واسع، ولولا وجوده لما تحقق ذلك النظام المعجب المتصل المتناسق.

إِنَّ الأبحاث العلمية كشفت عن الإِتصال الوثيق بين جميع أَجزاء العالم وتأثير الكل في الكل، حتى أَنَّ صفصفة أَوراق الشجر غير منقطعة عن الريح العاصف في أقاصي بقاع الأرض وحتى أَنَّ النجوم البعيدة التي تحسب مسافاتها بالسنين الضوئية، مؤثرة في حياة النبات والحيوان والإِنسان، وهذا الإِنسجام الوثيق، الذي جعل العالم كمعمل كبير يشدّ بعضه بعضاً، أَدل دليل على تدخل عقل كبير في إِبداعه وإِيجاده بحيث جعل الكل منسجماً مع الكل.

وبعبارة واضحة، إِنَّ الضبط والتوازن في الكون السائدين في الطبيعة أَوضح دليل على تدخل عقل كبير في طروئهما، ولأجل أن تتبين ملامح هذا التقريب نأْتي بالأَمثلة التالية:

إِنَّ حياة كل نبات تعتمد على مقدار صغير من غاز ثاني أوكسيد الكاربون، الذي يتجزأ بواسطة أَووراق هذا النبات إلى كاربون وأوكسجين، ثم يحتفظ النبات بالكاربون ليصنع منه ومن غيره من المواد، الفواكه والأَثمار والأَزهار ويلفظ الأوكسجين الذي نستنشقه في عملية الشهيق والزفير الأساسية في حياة الإِنسان.

ولو أَنَّ الحيوانات لم تقم بوظيفتها في دفع ثاني أوكسيد الكاربون، أو لم يلفظ النبات الأوكسجين، لا نقلب التوازن في الطبيعة واستنفذت الحياة الحيوانية، أو النباتية كل الأوكسجين أو كل ثاني أوكسيد الكاربون، وذوى النبات ومات الإِنسان.

فمن ذا الذي أَقام مثل هذه العلاقة بين النبات والحيوان وأَوجد هذا النظام التبادلي بين هذين العالمين المتباينين؟ أَلا يدل ذلك على وجود فاعل مدبر وراء ظواهر الطبيعة هو الذي أَقام مثل هذا التوازن؟.

منذ سنوات عديدة زرع نوع من الصبَّار في أوستراليا كسياج وقائي ولكن هذا الزرع مضى في سبيله حتى غطى مساحة واسعة وزاحم أَهالي المدن والقرى، وأتلف مزارعهم ولم يجد الأَهالي وسيلة لصده عن الإِنتشار وصارت أوستراليا في خطر من اكتساحها بجيش من الزرع صامت، يتقدم في سبيله دون عائق!!.

وطاف علماء الحشرات في أرجاء المعمورة إلى أَنْ وجدوا أَخيراً حشرة لا تعيش إلاّ على ذلك الصبار، ولا تتغذى بغيره وهي سريعة الإنتشار وليس لها عدو يعوقها في أوستراليا وما لبثت هذه الحشرة أَنْ تغلب على الصبار، ثم تراجعت ولم يبق منها سوى بقية للوقاية تكفي لصد الصبار عن الإِنتشار إلى الأَبد1.

فكيف عرفت هذه الحشرة أَنَّ عليها أَنْ تقضي على الزائد من الصبار وتكف عن الباقي لتحفظ أَشجار الصبار على توازنها فلا تطغى على الأَشياء الأُخرى؟ أَلا يكشف هذا التوازن والضبط عن خالق مدبر حكيم؟.

كان ملاّحُو السفن الكبيرة في العهود الماضية يصابون بمرض الأسقربوط2، ولكن أحد الرحالة اكتشف دواءً بسيطاً لذلك المرض وهو عصير الليمون، ترى من أَين نشأت هذه العلاقة بين الفواكه التي تحوي فيتامين (ث) وهذا المرض، ألا يدل ذلك على أَنَّ خالق الداء خلق الدواء المناسب له، ولولا هذا التوازن لعمّت الكارثة وانعدم النوع الإِنساني وغاب كلية عن وجه البسيطة؟.

عندما نزل المهاجرون الأولون أوستراليا واستقروا فيها، استوردوا اثني عشر زوجاً من الأرانب وأطلقوها هناك، ولم يكن لهذه الأَرانب أَعداء طبيعيون في أوستراليا، فتكاثرت بشكل مذهل، مما تسبب بإِحداث أَضرار بالغة بالأَعشاب والحشائش، ولم تنفع المحاولات الكثيرة لتقليل نسل هذه الأَرانب حتى اكتشف فيروس خاص يسبب مرضاً قاتلا لها، فعادت المروج الخضراء يانعة، وزاد على أَثر ذلك إِنتاج الأغنام والمواشي. أليس هذا التوازن الدقيق المبرمج في مظاهر الطبيعة والذي يؤدي أَي تخلخل فيه إلى أَضرار بالغة، دليلا قاطعاً على وجود الخالق الخبير والإِله المدبر وراء الطبيعة؟

الماء هو المادة الوحيدة المعروفة التي تقل كثافتها عندما تتجمد، ولهذه الخاصية أهميتها الكبيرة بالنسبة للحياة إذ بسببها يطفو الجليد على سطح الماء عندما يشتد البرد، بدلا من أَنْ يغوص إلى قاع المحيطات والبحيرات والأَنهار، ويكون تدريجياً كتلة صلبة لا سبيل إلى إخراجها وإذابتها. والجليد الذي يطفو على سطح البحر يكون طبقة عازلة تحفظ الماء تحتها عند درجة حرارة فوق درجة التجمد، وبذلك تبقى الأسماك وغيرها من الحيوانات المائية حية، فإِذا جاء الربيع ذاب الجليد بسرعة وبلا عائق.

فهل يمكن إِعزاء كل هذا الضبط والدقة في المقاييس والنسب إلى فعل المادة الصمَّاء العمياء البكماء، والحال إِنَّه يكشف عن تدبير وحساب ويحكي عن نظام متقن وعظيم ويدل على أَنَّ وراء كل ذلك خالقاً حكيماً هو الذي أَوجد هذا التوازن المدهش والضبط الدقيق.

أَجل إِنَّ ذلك التوازن وهذا الضبط يشهدان على دخالة الشعور والحكمة والعقل في إِدارة هذا العالم وتدبيره وتسييره وهي أمور لا تتوفر في الصدفة بل تتوفر في قوة عليا شاعرة هادفة تدرك مصلحة الكون واحتياجات الحياة إِدراكاً كاملا وشاملا، فتخضع الكون لمثل هذه الضوابط والعلاقات.

* الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني. ج 1 . ص43-55.


source : تبیان
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

ثقافة الحب الحاضر الغائب في مجتمعنا
إثبات الأشاعرة لرؤيته تعالى في الآخرة
من هم آكلة لحم الخنزير وما هو مصيرهم في الكتاب ...
المُناظرة الثاني والخمسون /مناظرة السيد محمد ...
قاعدة التسليط
البَضْعة الزكيّة
محبة الرسول واله صلى الله عليه وآله
سؤال القبرفي کلام امير المؤمنين
إبراهيم عليه السلام أول الموحدين
مما يهوِّن هول المحشر

 
user comment