لقد برزت عقائد وفرق تنادي كل واحد منها بما يميزها عن الأخرى في تلك المسألة وأصل الموضوع هو البحث عن مسألة حرية الإرادة التي تعتبر الجذر الأساس لفكرة القضاء والقدر ، والتي شغلت علماء المسلمين منذ القرن الأول الهجري حتى القرن الرابع منه . ولم يشهد العالم الإسلامي تياراً فكرياً جارفاً وصراعاً عقائدياً حاداً كالتيار الذي أحدثه هذا الموضوع .
لقد برزت عقائد وفرق تنادي كل واحد منها بما يميزها عن الأخرى في تلك المسألة وأصل الموضوع هو البحث عن مسألة حرية الإرادة التي تعتبر الجذر الأساس لفكرة القضاء والقدر ، والتي شغلت علماء المسلمين منذ القرن الأول الهجري حتى القرن الرابع منه . ولم يشهد العالم الإسلامي تياراً فكرياً جارفاً وصراعاً عقائدياً حاداً كالتيار الذي أحدثه هذا الموضوع .
ولا ننسى أن جذور هذا البحث إنما ورثه المسلمون من الأمم السابقة والحضارات المتقدمة وبالخصوص الحضارة اليونانية والمعتقدات والديانة السائدة هناك ، والخلافات التي أحدثتها تلك المذاهب بين اليونايين .
من العقائد المهمة والشائكة الملتبسة هي مسألة الجبر والتفويض ، والتي ترتبط بالمصطلح العقائدي الآخر القضاء والقدر
مسألة الجبر والتفويض أو القضاء والقدر ترتبط بالتوحيد من جانب ، وبالعدل الإلهي والقدرة الإلهية من جانب آخر .
وقد انقسم المسلمون المتكلمون في هذه المسألة إلى فرقتين متميزتين :
الفرقة الأولى : قالت إن كل أفعال الإنسان كسائر الموجودات الكونية هي افعال الله تعالى . وليس للإنسان أي مشيئة أو إرادة في ذلك الفعل وبعبارة أخرى أنكروا حرية الإنسان في أعماله وتصرفاته . وهذه تسمى بالمجبرة .
الفرقة الثانية : قالت إن أفعال الإنسان هي أفعال حقيقية اختارها بإرادته وحريته من دون أن يكون لله عليه سلطان أو إرداة فيها . وبعبارة أخرى قالوا بأصالة اختيار الإنسان ، وإنمه يتمتع بكامل الحرية في أفعاله وتصرفاته ، وأما دائرة حريته فهي واسعة لا يحدثا شيء ولا يردعها رادع . وهذه تسمى بالمفوضة . وقد ذهب كل فريق إلى استنباط الأدلة والتدليل على صحة المذهب من خلال الأدلة العقلية والآيات الكريمة فمثلاً استدل المجبرة على صحة عقيدتهم بالآيات القرآنية منها :
قوله تعالى : ( يضل من يشاء ويهدي من يشاء ) (1) وقوله تعالى : ( والله خلقكم وما تعملون ) (2) وقولة تعالى ( ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً ) (3) . أما المفوضة فقد استدلوا بآيات غيرها منها : قوله تعالى : ( اليوم تجزي كل نفس بما كسبت ) (4) وقوله تعالى (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) (5) وقوله تعالى : ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزي إلا مثلها ) (6) وقوله تعالى ( ذلك بإن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (7) وقوله تعالى : ( اليوم تجزون ما كنتم تعملون ) (8) . وقوله تعالى : ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) (9) و تعالى ( فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله ) (10) وهكذا آيات كثيرة استدلوا بها على أن الإنسان مختار في فعله له حرية الإرادة في تصرفاته .
الإنسان عندما يستعرض شريط الحياة والوجود والحوادث والحركة الدؤبة في هذا الكون فإنه يجد نفسه لا ينفلت من إطار الجبر والقهر في وجوده قبل أن يولد وإلى أن يلقى حتفه ، فليست له إرادة أو اختيار في وجوده كما أن عدمه أو موته هو الآخر ليس من فعل إرادته وحرية أفعاله .
وفي الوقت نفسه لو أن الإنسان دقق النظر فيما حوله من تصرفات وافعال سوف يجد أن حياته اليومية وما يصحبها من حركة وسكون تصرفات كلها تنطلق من حريته الخاصة وإرادته الجيدة التي لا قسر ولا جبر ولا إكراه عليه من غيره .
هذا اللون من النتائج سوف يجعل الإنسان في حيرة ويجد نفسه عاجزاً في تبني أي فكرة كي يطبقها أو يجعلها محوراً لعقائده الفكرية والدينية ، بل إن التفكير في هذه الأمور تورثه الحيرة والندم لأنها قد توصله إلى التشكيك في كثير من معتقداته الدينية ، لهذا جاء النهي عن البحث في هذا الموضوع فقال أمير المؤمنين عليه السلام لما سئل عن القدر : طريق مظلم فلا تسلكوه وبحر عميق فلا تلجوه وسر الله فلا تكلفوه .
ثم إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ذم القدرية فقال صلى الله عيله وآله وسلم : القدرية خصماء الله في القدر وقد تذرع بهذا الحديث كل من المجبرة والمفوضة وكل واحد منها كفرت الأخرى ونسبتها إلى القدرية .
فالمجبرة تسمى المفوضة بالقدرية لأنهم ينكرون القدر وينفون الإرادة الإلهية عن كل تصرفات الإنسان لأن الإنسان مختار في أفعاله ، له مطلق الحية والإرادة في تصرفاته .
والمفوضة تسمى المجبرة بالقدرية لأنهم يثبتون القدر لله ويقولون أن أفعال العباد مخلوقة لله والإنسان عديم الإرادة .
والمستفاد من أخبار المعصومين عليهم السلام إن كلا الفريقين هم ينتمون إلى القدرية لكن إنتماء تضاد بينها ، فالمجبرة ينسبون الخير والشر والطاعة والمعصية وكل أفعال الخلق إلى غير الإنسان أي إلى الله سبحانه وهذا ما يوافق المجوس القائلين بكون فاعل الخير والشر غير الإنسان ، وهذا مما ينطبق على المجبرة من حيث إثبات القدر لله وسلب الاختيار من الإنسان .
وأما المفوضة فهم القائلون بخالقين : الأول وهو الله الذي خلق الأشياء وأكملها ثم انفصلت عنه فلا سبيل لها في الأرتباط به سبحانه والثاني وهو الإنسان بالنسبة لأفعاله ، لأنه مختار في كل تصرفاته وحريته مطلقاً لا دخل لإرادة الله فيها . وهذا مما يوافق المانوية الذين قالوا أن العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين أحدهما نور والأخر ظلمة وأنهما أزاليان لم يزلا (11) وهذه أثنينية ، وهي شرك بالله ، ويوافق المجوسية إذ أثبتوا أصلين قديمين مدبرين هما يزدان وأهرمن أي النور والظلمة .
فيصدق عليهم جميعاً ـ المجبرة والمفوضة ـ تسميتهم بالقدرية ، لما عرفت من أنهم ينفقون القدر ويجعلون سلطان الإنسان هو المتحكم ، كما أنه يصدق عليهم قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مجوس هذه الأمة . فالقدرية القائلون بالاختيار يلتقون مع المعتزلة .
والقدرية القائلون بالجبر يلتقون مع الأشاعرة والفقهاء من أهل الحديث والسنة ، وأول من قال بالقدرية بمعنى الاختيار هو أحد النصارى من أهل العراق الذي اعتنق الإسلام ثم رجع عنه وقد أخذ عنه معبد الجهني وغليان الدمشقي فالأول تبنى هذه الفكرة ونشرها في الكوفة وحواليها ثم البصرة وبعد ذلك أصبح الداعي الأول لأهل العراق . أما غيلان الدمشقي فأخذ على عاتقه نشر فكرة الاختيار في بلاد الشام .
وقد اعتنق فكرة الاختيار والتفويض جماعة كبيرة من أهل العراق بسبب دعوة معبد الجهني إياها ، الذي عمل لها زمناً طويلاً إلى أن اشترك مع ثورة عبد الرحمن بن الاشعث ثم أسر وأخيراً صلبه الحجاج بن يوسف الثقفي . وبعد الجهني برز واصل بن عطاء كصاحب مدرسة . أما غيلان الدمشقي لما استفحل أمره في الشام وضواحيها وقد آل الأمر في الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز عمل له مناظرة كلامية استطاع بها أن يقنعه ووعده أن يرجع ...
ثم قيل أنه قتله هشام بن عبد الملك لما أفحمه الأوزاعي في إحدى مناظراته في القدر . وقيل أن هشام بن الحكم تصدى لقتله بعدما أن تناطرا في القدر .
وأول من قال بالقدر بمعناه السائد عند الأشاعرة والجهمية والفقهاء من أهل السنة ، هو الجعد بن درهم مولى بني الحكم وهو من قاطني الشام ، وله اتصال مع اليهود هناك ، ومنهم أخذ فكرة الجبر وبثها بين المسلمين ، ثم استعمله الحكام الأمويون وكان يتولى لهم تربية أبنائهم ويروج لما يعتقده ، وقد أخذ منه الجهم بن صفوان (هو من الجبرية الخالصة ، ظهرت بدعته بترمذ وقتله سالم بن أحوز المازني بمرو في آخر ملك بني أمية) فكرة الجبر عندما إلتقى به في الكوفة وأصبحت مدرسته هي الأخرى في الكوفة تناقض مدرسة واصل بن عطا وقد تبنى الحكام الأمويين المدرسة الجهمية أي الجبرية وروجوا لها بل تحمس للدفاع عنها طبقة الأمراء والولاة والقضاة ، وهم الذين يوعزون تصرفاتهم وظلمهم إلى الباري عز وجل وعلى الناس مجاراتهم لأنهم مجبرون في الرضوخ والتسليم طالما أفعال هؤلاء الظلمة مخلوقة لله ـ على حد زعمهم ـ فهي ليس من إرادة الإنسان وحريته .
بهذا التعليل استطاع بني أمية أن يذلوا الرقاب ویستولوا على السلطة ويرتكبوا أفظع الجرائم في التاريخ ويقارفوا المنكرات ويلهو ويولعوا في الشهوات والملذات وكان على رأسهم يزيد بن معاوية .
فليس من الغريب أن نجد الجعد بن درهم والجهم بن صفوان وأمثالهم يحتلون الصدارة في قصور الحكام وتشملهم الرعاية الخاصة من قبل الأمويين طالما نفسوا لهم كربتهم في أعذارهم وأباحوا لهم ارتكاب كل جرم يخطر ببالهم .
فمثلاً من جملة ما قاله الجهم بن صفوان : إن الإنسان لا يقدر على شيء ولا يوصف بالاستطاعة ، وإنما يخلق الله تعالى الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات ، وتنسب إليه الأفعال مجازاً ، كما تنسب إلى الجمادات ... والثواب والعقاب جبر ، كما أن الأفعال كلها جبر ، وإذا ثبت الجبر فالتكليف أيضاً كان جبراً .
وعلى هذا قال : لا يجوز أن يوصف الباري تعالى بصفة يوصف بها خلقه ، لأن ذلك يقضي تشبيها فنفى كونه : حياً عالماً ، وأثبت كونه : قادراً ، فاعلاً ، خالقاً ، لأنه لا يوصف شيء من خلقه : بالقدرة ، والفعل ، والخلق (12) ...
وممن قال بفكرة الجهمية من الجبرية هم النجارية (نسبة إلى الحسين بن محمد النجار) والضرارية (نسبة إلى ضرار بن عمرو) وأكثر معتزلة أهل الري .
قال الحسين النجار : الباري تعالى مريد نفسه كما هو عالم لنفسه فألزم عموم التعلق ، فالتزم ؛ وقال : هو مريد الخير والشر ، والنفع والضر . وقال أيضاً : معنى كونه مريداً أنه غير مستكره ولا مغلوب . وقال : هو خالق أعمال العباد خيرها وشرها ، حسنها وقبحها ، والعبد مكتسب لها ...
أما ضرار بن عمرو فقال : الباري تعالى عالم قادر على معنى أنه ليس بجاهل ولا عاجز ، وأن أفعال العباج مخلوقة للباري تعالى حقيقة ، والعبد مكتسبها حقيقة وجوز لذلك حصول فعل بين فاعلين (13) .
هذه هي الجبرية التي صيرت الإنسان كالريشة في مهب الريح لا يملك شيئاً من تصرفاته وأفعاله .
ثم جاء الأشعري (هو ابن الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ينتهي نسبه إلى أبي موسى الأشعري الذي اختاره أهل الكوفة للتحكيم كمندوب من قبل جند الإمام علي عليه السلام في حربهم مع معاوية في صفين) ليؤكد تلك المقالة التي ذهب إليها المجبرة ، فقال إن أعمال العباد مخلوقة لله ومقدروة له ، ولقوله تعالى : ( والله خلقكم وما تعملون ) (14) لا يشاركه في الخلق غيره ، وقال : أخص وصفه تعالى هو القدرة على الاختراع ثم قال : الإيمان والطاعة بتوفيق الله تعالى ، والفكر والمعيصية بخذلانه ، والتوفيق عنده : خلق القدرة على الطاعة ، والخذلان عنده : خلق القدرة على المعصية (15) .
استدل المجبرة القائلون بأن الأفعال مخلوقة لله بعدة أمور يمكن إيجازها بما يأتي :
أولاً : قالوا أن الإسلام غير قادر على أفعاله ولا موجوداً لها بنفسه ، ولو كان الإنسان قادراً ، لزم اجتماع قادرين على فعل أو مقدور واحد ، لأن الله قادر على كل شيء ، والإنسان إذا قلنا قادراً على إيجاد فعله ، كانت قدرتان قد اجتمعتا وهذا باطل بدليل لو أراد الإنسان إيجاد فعل وكانت ارادة الله تعالى عدمه ، أدى إلى اجتماع النقيضين ، وإن وقع أحدهما دون الآخر أدى إلى ترجيح أحدهما وترك الآخر بدون مرجح ، وكل ذلك باطل ... إذن لا بد من القول بقدرة واحدة هي قدرة الخالق وإن أفعال العباد مخلوقة له .
ثانياً : لما كانت قدرة الله تعالى مطلقة ، أي أنه قادر على كل شيء ، ويفعل ما يريد وإرادته لا تقهر ولا ترد ، إذن لا مجال للقول بأي قدرة للعبد ، وإذا قلنا أن العبد يعنل بقدرته ، أدى بنا إلى تعطيل قدرة الله ووصفه بالعجز ، وهذا يناقض قدرته وإشاءته في كل آن .
ثالثاً : كون الأفعال الصادرة من العباد مخلوقة لله ، لأنها محتاجة إلى مرجح وهذا المرجح لا بد أن يكون مرجعه إلى الله وإلا لو كان بترجيح من العبد فلا يؤدي إلى النتيجة الفاعلة ، بمعنى أن كل ترجيح ـ لو كان من العبد ـ هو محتاج إلى ترجيح آخر ، والترجيح الثاني مفتقر إلى ترجيح ثالث ، وهكذ يقع التسلسل .
إذن لا بد من القول بأن ، افعال العبد صادرة بترجيح خارجي منوط بالله سبحانه .
هذه بعض استدلالات الأشاعرة وأهل الجبر ومن تابعهم من الفقهاء من أهل السنة والحديث ، إلا أنها استدلالات ضعيفة قابلة للرد ليس هذا محلها ، وقد تصدى لردها المعتزلة وعلماء الكلام على مر التاريخ ، وإن كتبهم زاخرة بالردود والنقوض ، على أنها هي الأخرى قابلة للرد والنقض .
فمن جملة الردود التي تصح في المقام هي :
أولاً : لو كانت أفعال العباد مخلوقة لله تعالى وأن الإنسان مجبور عليها فهذا يعني إبطال الثواب والعقاب وهذا خلاف ما يصرح به القرآن الكريم حيث قال تعالى : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ) (16) وقوله تعالى : ( وقفوهم إنهم مسؤولون ) (17) وقال تعالى : ( كل نفس بما كسبت رهينة ) (18) وقال تعالى : ( ولتسألن عما كنتم تعملون ) (19) وقوله تعالى : ( ... هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ) (20) وقوله تعالى : ( فاليوم لا تظلم نفس شيئاً ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون ) (21) وقوله تعالى : ( إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون ) (22) وهكذا آيات كثيرة تنص على المجازاة وإداء المعروف لمن أحسن في الدنيا والعقوبة لمن أساء فيها .
ثانياً : إذا كانت أفعال العبد مخلوقة لله ، فإن ذلك سوف يؤدي إلى تكليف بما لا يطاق وهذا غير صحيح ، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال : الله أكرم من أن يكلف الناس ما لا يطيقون والله أعز من أن يكون في سلطانه ما لا يريد (23) .
ثالثاً : إذا كانت أفعال العبد مخلوقة لله ، فما فائدة بعض الأنبياء والرسل وإنزال الكتب والشرائع ؟! أو لم تكن الغاية من بعثهم لهداية الناس وإنذارهم وتعليمهم العبادة الحقة وتحذيرهم من السقوط والهلكة ؟!
قال تعالى : ( هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ) (24) وقال تعالى : ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ... ) (25) وإلى غير ذلك من الآيات البينات (26) .
رابعاً : إن كانت أفعال العباد مخلوقة لله تعالى وقد أجبرهم عليها ، فإن عقابه للعاصي ظلم ـ لأن العبد مجبور على فعله ـ والظلم قبيح على الله ...
قال تعالى : ( يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذك العجل .. ) (27) وقال تعالى : ( وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون ... ) (28) وقال تعالى : ( وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ... ) (29) وإلى ذلك عشرات الآيات المباركات .
خامساً : إذا كانت أفعال العباد مخلوقة لله ، إذن فلا حجة لله على عباده في ارتكاب المعاصي ، بل إن الحجة البالغة سوف تكون للعصاة ...
إلا أن القرآن الكريم يصرح بأن الفعل القبيح إنما صدر بإرادة الإنسان وهو المسؤول عنها والحجة لله تعالى .
قال تعالى : ( ما سلككم في سقر ؟ قالوا : لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين ، وكنا نخوض مع الخائضين ، وكنا نكذب بيوم الدين ) (30) . فقوله تعالى : ( كنا نخوض مع الخائضين ) واضحة الدلالة من أن أفعالهم كانت صادرة باختيارهم .
إلى غير ذلك من الادلة التي لا يصمد عندها المجبر وبها تبطل مزاعمهم الفاسدة . لكن أنى لهم الردع وقد ترعرعوا في نعيم العيش ، ينقلبون في قصور الحكام والخلفاء وينهلون من أموالهم ومنحهم . فهم الوسيلة لتعضيد الملوك والخلافاء على جورهم والدرع الحصين الذي وقى أولئك الجبابرة ، ومنحهم الشرعية الكاملة لتصرفاتهم وغصبهم للخلافة وجورهم ... فهم بغية أهل الفسق والفجور من الحكام والولاة كما أنهم وجدوا من الظلمة المتنفذين المرتع الخصب لتحقيق المصالح وإشباع الرغبات ...
هذا بيان يكشف لنا فساد عقيدة المجبرة بل وكفرنا وقد مر في الصفحات المتقدمة قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيهم .
أما المعتزلة التي غربت قبال تشريق المجبرة والأشاعرة وأهل الحديث ، فقد اتفقوا على أن العبد خالق لأفعاله قادر عليها ، صادرة منه بحريته المطلقة وإرادته الكاملة ، وبهذا الاعتقاد أظهرت الخاق الباريء بمظهر العاجز الذي لا يتمكن إعمال إرادته في إرادة مخلوقه .. لأنه ـ حسب زعمهم ـ قد أوجد الكائنات وأبدعها وانتهى من خلقها وتركها وشأنها من دون إعمال مشيئته فيها ، وإن أفعال العباد هي إحدى ظواهر الوجود المتحررة عن مباشر المشيئة الإلهية .
والمعتزلة تضم اثنتي عشر فرقة : منها الواصلية والهزلية والنظامية والجاحظية والجبائية ... وكلها قائلة بفكرة معبد الجهني المؤسس الأول ثم تابعه الحسن البصري وواصل بن عطاء ... والجميع يقرون الحرية المطلقة للإنسان ، وإنه في معزل عن إرادة الله تعالى ، وهذا لا يخفى من كونه من معتقدات المجوس الثنوية الذين قالوا بإله الخير وإله الشر .
لأن فكرة المعتزلة تجعل للإنسان إرادة خاصة متفكة عن إرادة الله تعالى وهذا يبعد الإنسان عن إطار التوحيد ليقذفه في حياض الشرك حيث يصبح الإنسان في هذه الحرية صاحب إرادة وحكومة مطلقة ، بعبارة أخرى أن الله ـ على حد زعمهم ـ أوجد المخلوقات بأسبابها الخاصة ثم انفصل عنها وجعلها ذوات مستقلة لا ارتباط لها بالأسباب والعلل المؤثرة من قبل الله تعالى . وهذا يقضي أن في الوجود قوتين وقدرتين ، وهذا هو الشرك بعينه ... إلا أن المعتزلة أغمضت عن ذلك .
المؤتمر الحقيقي هو الله وحده لا شريك له حيث لو أراد سبحانه أن يذهب بأثر إرادة الإنسان في أفعاله لفعل . فلا ينفك الوجود بما فيه من أسباب وعلل وناقصة من القدرة الإلهية بل لا يخرج من كونه من فعل الله سبحانه وإنه مفتقر إليه في كل آن . وبعبارة أخرى أن إعطاء القدرة والاختيار هو فعل الله سبحانه لكن الفعل المقدور والمختار من قبل العبد هو فعل العبد .
من كل ماتقدم عرفت عقيدة المجبرة والمعتزلة واتضح أن كل واحد منها غالت في عقائدها وأصبحت على طرفي نقيض ، وهما في الشرك والكفر قد سقطوا من حيث شاؤوا أو أبوا .
وهذا الغلو لا يوجد عند متكلمي الشيعة ، بل هو مرفوض ، بل إن نسبة إلى الفرق المتقدمة هو أليق .
والذي يعطينا الحل المناسب والصحيح هو الأخذ بقول أهل البيت عليه السلام حيث وضعوا القول الفيصل في المسألة وأقروا أن الأمر بين الأمرين فلا جبر إذن ولا تفويض ، وهذا هو مذهب الإمامية الإثنا عشرية فلا هم على رأي المجبرة ولا هم على رأي المعتزلة ، بل أقروا أن الإنسان موجود لأفعاله ، ولكن بالقدرة التي أودعها الله فيه ، فإذا وجد الداعي وارتفع المحذور صدر الفعل عن فاعله ، ونسب إليه ما فعله ، وشأنه في ذلك شن الإحراق للنار من حيث قيام المعلول بعلته .
فلو لم يكن سبحانه يفيض علينا من قدرته حرية الإرادة والإمكانات والقوى والحياة في كل آن ، لما كنا قادرين على أي عمل نفعله ، لهذا إن أفعالنا الإرادية ترتبط بنا لكونها صاردى من عندنا وفق مصالح يشخصها العبد . وفي نفس الوقت إن هذه الإرادة هي ذخائر المولى ـ الخالق ـ في العبد .
وبهذا التقرير يتضح أن الأمور لا بد أن تجري بأسبابها ، وأن من جملة الأسباب هو خلق الإنسان وخلق الإرادة فيه ، وإن أفعالنا الاختيارية صاردة من ذلك السبب وهي الإرادة ، وهذه تقع في آخر جزء من سلسلة الأسباب فإزادة الله هي الإرادة ، وهذه تقع في آخر جزء من سلسلة الأسباب فإرادة الله هي منذ الأزل ولا تنافي هذه الارادة مع حرية البشر في اختيارهم لأفعالهم وبهذا الاختيار تحسن المكافئة على فعل الخير ويجزي العاصي بما فعل من سوء ، قوله تعالى : ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ... ) (31) وقوله تعالى : ( إن هذه تذكرة فمن شاء إنخذ إلى ربه سبيلا ) (32) وقوله تعالى : ( إن هو إلا ذكر للعاملين لمن شاء منكم أن يستقيم ... ) (33) .
عن الصدوق بإسناده عن بريد بن عمير بن معاوية الشامي قال : دخلت على علي بن موسى الرضا عليه السلام بمرو ، فقلت له يا بن رسول الله روي لنا عن الصادق جعفر بن محمد عليه السلام قال : إنه لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين فما معناه ؟ قال عليه السلام : من زعم أن الله عز وجل فوض أمر الخلق والرزق إلى حججه عليه السلام فقد قال بالتفويض ، والقائل بالجبر كافر ، والقائل بالتفويض مشرك .
فقلت له يابن رسول الله فما أمر بين أمرين ؟
فقال وجود السبيل إلى اتيان ما أمروا به ، وترك ما نهوا عنه . فقلت له : فهل لله عز وجل مشية وإرادة في ذلك ؟ فأما الطاعات فإرادة الله ومشيئته فيها الأمر بها والرضى لها والمعاونة عليها وإرادته ومشيئته في المعاصي النهي عنها والسخط لها والخذلان عليها قلت : فهل لله فيها القضاء ؟ قال : نعم ما من فعل يفعله العباد من خير أو شر إلا ولله فيه قضاء ، قلت : ما معنى هذا القضاء ؟ قال : الحكم عليهم بما يستحقونه على أفعالهم من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة (34) .
وقال الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام وقد ذكر عنده الجبر والتفويض ، فقال : ألا أعطيكم في هذا أصلاً لا يختلفون فيه ولا يخاصمكم عليه أحد إلا كسرتموه ؟
قلنا إن رأيت ذلك ، فقال : إن الله تعالى لم يطع بإكراه ولم يعص بغلبه ، ولم يهمل العباد في ملكه ، وهو المالك لما ملكهم ، والقادر على ما أقدرتم عليه فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن الله عنها صادراً ولا منها مانعاً ، وإن ايتمروا بمعصية فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل ، وإن لم يحل ففعلوا فليس هو الذي أدخلهم فيه . ثم قال عليه السلام من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه (35) .
عن الحسن بن علي الوشاء قال سألت الإمام أبا الحسن الرضا عليه السلام فقلت : الله فوض الأمر إلى العباد ؟ قال : الله أعز من ذلك ، قال : ثم قال : قال الله يا ابن آدم أنا أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني ، عملت المعاصي بقوتي التي جعلتها فيك (36) .
اهذا يستجب الدعاء بهذا المأثور : ( إلهي لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ) لأن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي . كما يستجب الإكثار من قوله تعالى : ( لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ) والإمعان فيها دائماً .
ومن الأخبار المأثورة عن أهل البيت عليهم السلام الجامعة لأمهات المطالب المتقدمة والتي تكشف عن معنى القضاء والقدر وتوضح عقيدة أهل الجبر وتفضح مقولة أهل الاختيار والتفويض وتبين الأمر بين الأمرين هو قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام إذ كَانَ جَالِساً بِالْكُوفَةِ بَعْدَ مُنْصَرَفِهِ مِنْ صِفِّينَ إِذْ أَقْبَلَ شَيْخٌ فَجَثَا بَيْنَ يَدَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ لَهُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبِرْنَا عَنْ مَسِيرِنَا إِلَى أَهْلِ الشَّامِ أَ بِقَضَاءٍ مِنَ اللَّهِ وَ قَدَرٍ ؟
فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ( عليه السَّلام ) : " أَجَلْ يَا شَيْخُ ، مَا عَلَوْتُمْ تَلْعَةً وَ لَا هَبَطْتُمْ بَطْنَ وَادٍ إِلَّا بِقَضَاءٍ مِنَ اللَّهِ وَ قَدَرٍ " .
فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ : عِنْدَ اللَّهِ أَحْتَسِبُ عَنَائِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ !
فَقَالَ لَهُ : " مَهْ يَا شَيْخُ ، فَوَ اللَّهِ لَقَدْ عَظَّمَ اللَّهُ الْأَجْرَ فِي مَسِيرِكُمْ وَ أَنْتُمْ سَائِرُونَ ، وَ فِي مَقَامِكُمْ وَ أَنْتُمْ مُقِيمُونَ ، وَ فِي مُنْصَرَفِكُمْ وَ أَنْتُمْ مُنْصَرِفُونَ ، وَ لَمْ تَكُونُوا فِي شَيْءٍ مِنْ حَالَاتِكُمْ مُكْرَهِينَ وَ لَا إِلَيْهِ مُضْطَرِّينَ " .
فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ : وَ كَيْفَ لَمْ نَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ حَالَاتِنَا مُكْرَهِينَ وَ لَا إِلَيْهِ مُضْطَرِّينَ ، وَ كَانَ بِالْقَضَاءِ وَ الْقَدَرِ مَسِيرُنَا وَ مُنْقَلَبُنَا وَ مُنْصَرَفُنَا ؟!
فَقَالَ لَهُ : " وَ تَظُنُّ أَنَّهُ كَانَ قَضَاءً حَتْماً وَ قَدَراً لَازِماً ، إِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَبَطَلَ الثَّوَابُ وَ الْعِقَابُ ، وَ الْأَمْرُ وَ النَّهْيُ ، وَ الزَّجْرُ مِنَ اللَّهِ ، وَ سَقَطَ مَعْنَى الْوَعْدِ وَ الْوَعِيدِ ، فَلَمْ تَكُنْ لَائِمَةٌ لِلْمُذْنِبِ ، وَ لَا مَحْمَدَةٌ لِلْمُحْسِنِ ، وَ لَكَانَ الْمُذْنِبُ أَوْلَى بِالْإِحْسَانِ مِنَ الْمُحْسِنِ ، وَ لَكَانَ الْمُحْسِنُ أَوْلَى بِالْعُقُوبَةِ مِنَ الْمُذْنِبِ ، تِلْكَ مَقَالَةُ إِخْوَانِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ ، وَ خُصَمَاءِ الرَّحْمَنِ ، وَ حِزْبِ الشَّيْطَانِ ، وَ قَدَرِيَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَ مَجُوسِهَا ، إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى كَلَّفَ تَخْيِيراً ، وَ نَهَى تَحْذِيراً ، وَ أَعْطَى عَلَى الْقَلِيلِ كَثِيراً ، وَ لَمْ يُعْصَ مَغْلُوباً ، وَ لَمْ يُطَعْ مُكْرِهاً ، وَ لَمْ يُمَلِّكْ مُفَوِّضاً ، وَ لَمْ يَخْلُقِ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ، وَ لَمْ يَبْعَثِ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ عَبَثاً ، ﴿ ... ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ﴾ (37) .
فَأَنْشَأَ الشَّيْخُ يَقُولُ :
أَنْتَ الْإِمَامُ الَّذِي نَرْجُو بِطَاعَتِهِ *** يَوْمَ النَّجَاةِ مِنَ الرَّحْمَنِ غُفْرَاناً
أَوْضَحْتَ مِنْ أَمْرِنَا مَا كَانَ مُلْتَبِساً *** جَزَاكَ رَبُّكَ بِالْإِحْسَانِ إِحْسَانا (38)
المصادر :
1- سورة فاطر ، الآية : 8 .
2- سورة الصافات ، الآية : 96 .
3- سورة الأنعام ، الآية : 125 .
4- سورة غافر ، الآية : 17 .
5- سورة الطور ، الآية : 21 .
6- سورة الأنعام ، الآية : 160 .
7- سورة الانفال ، الآية : 5 .
8- سورة الجاثية ، الآية : 28 .
9- سورة الكهف ، الآية : 29 .
10- سورة المائدة ، الآية : 30 .
11- الملل والنحل 1 / 224 .
12- انظر الملل والنحل 1 / 79 ـ 80 .
13- انظر الملل والنحل 1 / 81 ـ 82 .
14- سورة الصافات ، الآية : 96 .
15- الملل والنحل 1 / 93 .
16- سورة الزلزال ، الآية : 7 ـ 8 .
17- سورة الصافات ، الآية : 24 .
18- سورة المدثر ، الآية : 38 .
19- سورة النحل ، الآية : 93 .
20- سورة النمل ، الآية : 90 .
21- سورة يس ، الآية : 54 .
22- سورة الأنعام ، الآية : 120 .
23- أصول الكافي 1 / 160 .
24- سورة الجمعة ، الآية : 2 .
25- سورة البقرة ، الآية 213 .
26- كفاية الأصول 2 / 5 ، ط الشابندر ، بغداد 1329 هـ .
27- سورة البقرة ، الآية : 54 .
28- سورة آل عمران ، الآية : 117 .
29- سورة هود ، الآية : 117 .
30- سورة المدثر ، الآية : 42 ـ 46 .
31- سورة الكهف ، الآية : 29 .
32- سورة الإنسان ، الآية : 29 .
33- سورة التكوير ، الآية : 27 و 28 .
34- عيون أخبار الرضا 1 / 124 .
35- المصدر نفسه 1 / 144 .
36- أصول الكافي 1 / 157 .
37- سورة صاد ، الآية : 27 ،
38- الكافي : 1 / 155 .
ولا ننسى أن جذور هذا البحث إنما ورثه المسلمون من الأمم السابقة والحضارات المتقدمة وبالخصوص الحضارة اليونانية والمعتقدات والديانة السائدة هناك ، والخلافات التي أحدثتها تلك المذاهب بين اليونايين .
من العقائد المهمة والشائكة الملتبسة هي مسألة الجبر والتفويض ، والتي ترتبط بالمصطلح العقائدي الآخر القضاء والقدر
مسألة الجبر والتفويض أو القضاء والقدر ترتبط بالتوحيد من جانب ، وبالعدل الإلهي والقدرة الإلهية من جانب آخر .
وقد انقسم المسلمون المتكلمون في هذه المسألة إلى فرقتين متميزتين :
الفرقة الأولى : قالت إن كل أفعال الإنسان كسائر الموجودات الكونية هي افعال الله تعالى . وليس للإنسان أي مشيئة أو إرادة في ذلك الفعل وبعبارة أخرى أنكروا حرية الإنسان في أعماله وتصرفاته . وهذه تسمى بالمجبرة .
الفرقة الثانية : قالت إن أفعال الإنسان هي أفعال حقيقية اختارها بإرادته وحريته من دون أن يكون لله عليه سلطان أو إرداة فيها . وبعبارة أخرى قالوا بأصالة اختيار الإنسان ، وإنمه يتمتع بكامل الحرية في أفعاله وتصرفاته ، وأما دائرة حريته فهي واسعة لا يحدثا شيء ولا يردعها رادع . وهذه تسمى بالمفوضة . وقد ذهب كل فريق إلى استنباط الأدلة والتدليل على صحة المذهب من خلال الأدلة العقلية والآيات الكريمة فمثلاً استدل المجبرة على صحة عقيدتهم بالآيات القرآنية منها :
قوله تعالى : ( يضل من يشاء ويهدي من يشاء ) (1) وقوله تعالى : ( والله خلقكم وما تعملون ) (2) وقولة تعالى ( ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً ) (3) . أما المفوضة فقد استدلوا بآيات غيرها منها : قوله تعالى : ( اليوم تجزي كل نفس بما كسبت ) (4) وقوله تعالى (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) (5) وقوله تعالى : ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزي إلا مثلها ) (6) وقوله تعالى ( ذلك بإن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (7) وقوله تعالى : ( اليوم تجزون ما كنتم تعملون ) (8) . وقوله تعالى : ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) (9) و تعالى ( فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله ) (10) وهكذا آيات كثيرة استدلوا بها على أن الإنسان مختار في فعله له حرية الإرادة في تصرفاته .
الإنسان عندما يستعرض شريط الحياة والوجود والحوادث والحركة الدؤبة في هذا الكون فإنه يجد نفسه لا ينفلت من إطار الجبر والقهر في وجوده قبل أن يولد وإلى أن يلقى حتفه ، فليست له إرادة أو اختيار في وجوده كما أن عدمه أو موته هو الآخر ليس من فعل إرادته وحرية أفعاله .
وفي الوقت نفسه لو أن الإنسان دقق النظر فيما حوله من تصرفات وافعال سوف يجد أن حياته اليومية وما يصحبها من حركة وسكون تصرفات كلها تنطلق من حريته الخاصة وإرادته الجيدة التي لا قسر ولا جبر ولا إكراه عليه من غيره .
هذا اللون من النتائج سوف يجعل الإنسان في حيرة ويجد نفسه عاجزاً في تبني أي فكرة كي يطبقها أو يجعلها محوراً لعقائده الفكرية والدينية ، بل إن التفكير في هذه الأمور تورثه الحيرة والندم لأنها قد توصله إلى التشكيك في كثير من معتقداته الدينية ، لهذا جاء النهي عن البحث في هذا الموضوع فقال أمير المؤمنين عليه السلام لما سئل عن القدر : طريق مظلم فلا تسلكوه وبحر عميق فلا تلجوه وسر الله فلا تكلفوه .
ثم إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ذم القدرية فقال صلى الله عيله وآله وسلم : القدرية خصماء الله في القدر وقد تذرع بهذا الحديث كل من المجبرة والمفوضة وكل واحد منها كفرت الأخرى ونسبتها إلى القدرية .
فالمجبرة تسمى المفوضة بالقدرية لأنهم ينكرون القدر وينفون الإرادة الإلهية عن كل تصرفات الإنسان لأن الإنسان مختار في أفعاله ، له مطلق الحية والإرادة في تصرفاته .
والمفوضة تسمى المجبرة بالقدرية لأنهم يثبتون القدر لله ويقولون أن أفعال العباد مخلوقة لله والإنسان عديم الإرادة .
والمستفاد من أخبار المعصومين عليهم السلام إن كلا الفريقين هم ينتمون إلى القدرية لكن إنتماء تضاد بينها ، فالمجبرة ينسبون الخير والشر والطاعة والمعصية وكل أفعال الخلق إلى غير الإنسان أي إلى الله سبحانه وهذا ما يوافق المجوس القائلين بكون فاعل الخير والشر غير الإنسان ، وهذا مما ينطبق على المجبرة من حيث إثبات القدر لله وسلب الاختيار من الإنسان .
وأما المفوضة فهم القائلون بخالقين : الأول وهو الله الذي خلق الأشياء وأكملها ثم انفصلت عنه فلا سبيل لها في الأرتباط به سبحانه والثاني وهو الإنسان بالنسبة لأفعاله ، لأنه مختار في كل تصرفاته وحريته مطلقاً لا دخل لإرادة الله فيها . وهذا مما يوافق المانوية الذين قالوا أن العالم مصنوع مركب من أصلين قديمين أحدهما نور والأخر ظلمة وأنهما أزاليان لم يزلا (11) وهذه أثنينية ، وهي شرك بالله ، ويوافق المجوسية إذ أثبتوا أصلين قديمين مدبرين هما يزدان وأهرمن أي النور والظلمة .
فيصدق عليهم جميعاً ـ المجبرة والمفوضة ـ تسميتهم بالقدرية ، لما عرفت من أنهم ينفقون القدر ويجعلون سلطان الإنسان هو المتحكم ، كما أنه يصدق عليهم قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مجوس هذه الأمة . فالقدرية القائلون بالاختيار يلتقون مع المعتزلة .
والقدرية القائلون بالجبر يلتقون مع الأشاعرة والفقهاء من أهل الحديث والسنة ، وأول من قال بالقدرية بمعنى الاختيار هو أحد النصارى من أهل العراق الذي اعتنق الإسلام ثم رجع عنه وقد أخذ عنه معبد الجهني وغليان الدمشقي فالأول تبنى هذه الفكرة ونشرها في الكوفة وحواليها ثم البصرة وبعد ذلك أصبح الداعي الأول لأهل العراق . أما غيلان الدمشقي فأخذ على عاتقه نشر فكرة الاختيار في بلاد الشام .
وقد اعتنق فكرة الاختيار والتفويض جماعة كبيرة من أهل العراق بسبب دعوة معبد الجهني إياها ، الذي عمل لها زمناً طويلاً إلى أن اشترك مع ثورة عبد الرحمن بن الاشعث ثم أسر وأخيراً صلبه الحجاج بن يوسف الثقفي . وبعد الجهني برز واصل بن عطاء كصاحب مدرسة . أما غيلان الدمشقي لما استفحل أمره في الشام وضواحيها وقد آل الأمر في الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز عمل له مناظرة كلامية استطاع بها أن يقنعه ووعده أن يرجع ...
ثم قيل أنه قتله هشام بن عبد الملك لما أفحمه الأوزاعي في إحدى مناظراته في القدر . وقيل أن هشام بن الحكم تصدى لقتله بعدما أن تناطرا في القدر .
وأول من قال بالقدر بمعناه السائد عند الأشاعرة والجهمية والفقهاء من أهل السنة ، هو الجعد بن درهم مولى بني الحكم وهو من قاطني الشام ، وله اتصال مع اليهود هناك ، ومنهم أخذ فكرة الجبر وبثها بين المسلمين ، ثم استعمله الحكام الأمويون وكان يتولى لهم تربية أبنائهم ويروج لما يعتقده ، وقد أخذ منه الجهم بن صفوان (هو من الجبرية الخالصة ، ظهرت بدعته بترمذ وقتله سالم بن أحوز المازني بمرو في آخر ملك بني أمية) فكرة الجبر عندما إلتقى به في الكوفة وأصبحت مدرسته هي الأخرى في الكوفة تناقض مدرسة واصل بن عطا وقد تبنى الحكام الأمويين المدرسة الجهمية أي الجبرية وروجوا لها بل تحمس للدفاع عنها طبقة الأمراء والولاة والقضاة ، وهم الذين يوعزون تصرفاتهم وظلمهم إلى الباري عز وجل وعلى الناس مجاراتهم لأنهم مجبرون في الرضوخ والتسليم طالما أفعال هؤلاء الظلمة مخلوقة لله ـ على حد زعمهم ـ فهي ليس من إرادة الإنسان وحريته .
بهذا التعليل استطاع بني أمية أن يذلوا الرقاب ویستولوا على السلطة ويرتكبوا أفظع الجرائم في التاريخ ويقارفوا المنكرات ويلهو ويولعوا في الشهوات والملذات وكان على رأسهم يزيد بن معاوية .
فليس من الغريب أن نجد الجعد بن درهم والجهم بن صفوان وأمثالهم يحتلون الصدارة في قصور الحكام وتشملهم الرعاية الخاصة من قبل الأمويين طالما نفسوا لهم كربتهم في أعذارهم وأباحوا لهم ارتكاب كل جرم يخطر ببالهم .
فمثلاً من جملة ما قاله الجهم بن صفوان : إن الإنسان لا يقدر على شيء ولا يوصف بالاستطاعة ، وإنما يخلق الله تعالى الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات ، وتنسب إليه الأفعال مجازاً ، كما تنسب إلى الجمادات ... والثواب والعقاب جبر ، كما أن الأفعال كلها جبر ، وإذا ثبت الجبر فالتكليف أيضاً كان جبراً .
وعلى هذا قال : لا يجوز أن يوصف الباري تعالى بصفة يوصف بها خلقه ، لأن ذلك يقضي تشبيها فنفى كونه : حياً عالماً ، وأثبت كونه : قادراً ، فاعلاً ، خالقاً ، لأنه لا يوصف شيء من خلقه : بالقدرة ، والفعل ، والخلق (12) ...
وممن قال بفكرة الجهمية من الجبرية هم النجارية (نسبة إلى الحسين بن محمد النجار) والضرارية (نسبة إلى ضرار بن عمرو) وأكثر معتزلة أهل الري .
قال الحسين النجار : الباري تعالى مريد نفسه كما هو عالم لنفسه فألزم عموم التعلق ، فالتزم ؛ وقال : هو مريد الخير والشر ، والنفع والضر . وقال أيضاً : معنى كونه مريداً أنه غير مستكره ولا مغلوب . وقال : هو خالق أعمال العباد خيرها وشرها ، حسنها وقبحها ، والعبد مكتسب لها ...
أما ضرار بن عمرو فقال : الباري تعالى عالم قادر على معنى أنه ليس بجاهل ولا عاجز ، وأن أفعال العباج مخلوقة للباري تعالى حقيقة ، والعبد مكتسبها حقيقة وجوز لذلك حصول فعل بين فاعلين (13) .
هذه هي الجبرية التي صيرت الإنسان كالريشة في مهب الريح لا يملك شيئاً من تصرفاته وأفعاله .
ثم جاء الأشعري (هو ابن الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ينتهي نسبه إلى أبي موسى الأشعري الذي اختاره أهل الكوفة للتحكيم كمندوب من قبل جند الإمام علي عليه السلام في حربهم مع معاوية في صفين) ليؤكد تلك المقالة التي ذهب إليها المجبرة ، فقال إن أعمال العباد مخلوقة لله ومقدروة له ، ولقوله تعالى : ( والله خلقكم وما تعملون ) (14) لا يشاركه في الخلق غيره ، وقال : أخص وصفه تعالى هو القدرة على الاختراع ثم قال : الإيمان والطاعة بتوفيق الله تعالى ، والفكر والمعيصية بخذلانه ، والتوفيق عنده : خلق القدرة على الطاعة ، والخذلان عنده : خلق القدرة على المعصية (15) .
استدل المجبرة القائلون بأن الأفعال مخلوقة لله بعدة أمور يمكن إيجازها بما يأتي :
أولاً : قالوا أن الإسلام غير قادر على أفعاله ولا موجوداً لها بنفسه ، ولو كان الإنسان قادراً ، لزم اجتماع قادرين على فعل أو مقدور واحد ، لأن الله قادر على كل شيء ، والإنسان إذا قلنا قادراً على إيجاد فعله ، كانت قدرتان قد اجتمعتا وهذا باطل بدليل لو أراد الإنسان إيجاد فعل وكانت ارادة الله تعالى عدمه ، أدى إلى اجتماع النقيضين ، وإن وقع أحدهما دون الآخر أدى إلى ترجيح أحدهما وترك الآخر بدون مرجح ، وكل ذلك باطل ... إذن لا بد من القول بقدرة واحدة هي قدرة الخالق وإن أفعال العباد مخلوقة له .
ثانياً : لما كانت قدرة الله تعالى مطلقة ، أي أنه قادر على كل شيء ، ويفعل ما يريد وإرادته لا تقهر ولا ترد ، إذن لا مجال للقول بأي قدرة للعبد ، وإذا قلنا أن العبد يعنل بقدرته ، أدى بنا إلى تعطيل قدرة الله ووصفه بالعجز ، وهذا يناقض قدرته وإشاءته في كل آن .
ثالثاً : كون الأفعال الصادرة من العباد مخلوقة لله ، لأنها محتاجة إلى مرجح وهذا المرجح لا بد أن يكون مرجعه إلى الله وإلا لو كان بترجيح من العبد فلا يؤدي إلى النتيجة الفاعلة ، بمعنى أن كل ترجيح ـ لو كان من العبد ـ هو محتاج إلى ترجيح آخر ، والترجيح الثاني مفتقر إلى ترجيح ثالث ، وهكذ يقع التسلسل .
إذن لا بد من القول بأن ، افعال العبد صادرة بترجيح خارجي منوط بالله سبحانه .
هذه بعض استدلالات الأشاعرة وأهل الجبر ومن تابعهم من الفقهاء من أهل السنة والحديث ، إلا أنها استدلالات ضعيفة قابلة للرد ليس هذا محلها ، وقد تصدى لردها المعتزلة وعلماء الكلام على مر التاريخ ، وإن كتبهم زاخرة بالردود والنقوض ، على أنها هي الأخرى قابلة للرد والنقض .
فمن جملة الردود التي تصح في المقام هي :
أولاً : لو كانت أفعال العباد مخلوقة لله تعالى وأن الإنسان مجبور عليها فهذا يعني إبطال الثواب والعقاب وهذا خلاف ما يصرح به القرآن الكريم حيث قال تعالى : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ) (16) وقوله تعالى : ( وقفوهم إنهم مسؤولون ) (17) وقال تعالى : ( كل نفس بما كسبت رهينة ) (18) وقال تعالى : ( ولتسألن عما كنتم تعملون ) (19) وقوله تعالى : ( ... هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ) (20) وقوله تعالى : ( فاليوم لا تظلم نفس شيئاً ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون ) (21) وقوله تعالى : ( إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون ) (22) وهكذا آيات كثيرة تنص على المجازاة وإداء المعروف لمن أحسن في الدنيا والعقوبة لمن أساء فيها .
ثانياً : إذا كانت أفعال العبد مخلوقة لله ، فإن ذلك سوف يؤدي إلى تكليف بما لا يطاق وهذا غير صحيح ، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال : الله أكرم من أن يكلف الناس ما لا يطيقون والله أعز من أن يكون في سلطانه ما لا يريد (23) .
ثالثاً : إذا كانت أفعال العبد مخلوقة لله ، فما فائدة بعض الأنبياء والرسل وإنزال الكتب والشرائع ؟! أو لم تكن الغاية من بعثهم لهداية الناس وإنذارهم وتعليمهم العبادة الحقة وتحذيرهم من السقوط والهلكة ؟!
قال تعالى : ( هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ) (24) وقال تعالى : ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ... ) (25) وإلى غير ذلك من الآيات البينات (26) .
رابعاً : إن كانت أفعال العباد مخلوقة لله تعالى وقد أجبرهم عليها ، فإن عقابه للعاصي ظلم ـ لأن العبد مجبور على فعله ـ والظلم قبيح على الله ...
قال تعالى : ( يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذك العجل .. ) (27) وقال تعالى : ( وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون ... ) (28) وقال تعالى : ( وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ... ) (29) وإلى ذلك عشرات الآيات المباركات .
خامساً : إذا كانت أفعال العباد مخلوقة لله ، إذن فلا حجة لله على عباده في ارتكاب المعاصي ، بل إن الحجة البالغة سوف تكون للعصاة ...
إلا أن القرآن الكريم يصرح بأن الفعل القبيح إنما صدر بإرادة الإنسان وهو المسؤول عنها والحجة لله تعالى .
قال تعالى : ( ما سلككم في سقر ؟ قالوا : لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين ، وكنا نخوض مع الخائضين ، وكنا نكذب بيوم الدين ) (30) . فقوله تعالى : ( كنا نخوض مع الخائضين ) واضحة الدلالة من أن أفعالهم كانت صادرة باختيارهم .
إلى غير ذلك من الادلة التي لا يصمد عندها المجبر وبها تبطل مزاعمهم الفاسدة . لكن أنى لهم الردع وقد ترعرعوا في نعيم العيش ، ينقلبون في قصور الحكام والخلفاء وينهلون من أموالهم ومنحهم . فهم الوسيلة لتعضيد الملوك والخلافاء على جورهم والدرع الحصين الذي وقى أولئك الجبابرة ، ومنحهم الشرعية الكاملة لتصرفاتهم وغصبهم للخلافة وجورهم ... فهم بغية أهل الفسق والفجور من الحكام والولاة كما أنهم وجدوا من الظلمة المتنفذين المرتع الخصب لتحقيق المصالح وإشباع الرغبات ...
هذا بيان يكشف لنا فساد عقيدة المجبرة بل وكفرنا وقد مر في الصفحات المتقدمة قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيهم .
أما المعتزلة التي غربت قبال تشريق المجبرة والأشاعرة وأهل الحديث ، فقد اتفقوا على أن العبد خالق لأفعاله قادر عليها ، صادرة منه بحريته المطلقة وإرادته الكاملة ، وبهذا الاعتقاد أظهرت الخاق الباريء بمظهر العاجز الذي لا يتمكن إعمال إرادته في إرادة مخلوقه .. لأنه ـ حسب زعمهم ـ قد أوجد الكائنات وأبدعها وانتهى من خلقها وتركها وشأنها من دون إعمال مشيئته فيها ، وإن أفعال العباد هي إحدى ظواهر الوجود المتحررة عن مباشر المشيئة الإلهية .
والمعتزلة تضم اثنتي عشر فرقة : منها الواصلية والهزلية والنظامية والجاحظية والجبائية ... وكلها قائلة بفكرة معبد الجهني المؤسس الأول ثم تابعه الحسن البصري وواصل بن عطاء ... والجميع يقرون الحرية المطلقة للإنسان ، وإنه في معزل عن إرادة الله تعالى ، وهذا لا يخفى من كونه من معتقدات المجوس الثنوية الذين قالوا بإله الخير وإله الشر .
لأن فكرة المعتزلة تجعل للإنسان إرادة خاصة متفكة عن إرادة الله تعالى وهذا يبعد الإنسان عن إطار التوحيد ليقذفه في حياض الشرك حيث يصبح الإنسان في هذه الحرية صاحب إرادة وحكومة مطلقة ، بعبارة أخرى أن الله ـ على حد زعمهم ـ أوجد المخلوقات بأسبابها الخاصة ثم انفصل عنها وجعلها ذوات مستقلة لا ارتباط لها بالأسباب والعلل المؤثرة من قبل الله تعالى . وهذا يقضي أن في الوجود قوتين وقدرتين ، وهذا هو الشرك بعينه ... إلا أن المعتزلة أغمضت عن ذلك .
المؤتمر الحقيقي هو الله وحده لا شريك له حيث لو أراد سبحانه أن يذهب بأثر إرادة الإنسان في أفعاله لفعل . فلا ينفك الوجود بما فيه من أسباب وعلل وناقصة من القدرة الإلهية بل لا يخرج من كونه من فعل الله سبحانه وإنه مفتقر إليه في كل آن . وبعبارة أخرى أن إعطاء القدرة والاختيار هو فعل الله سبحانه لكن الفعل المقدور والمختار من قبل العبد هو فعل العبد .
من كل ماتقدم عرفت عقيدة المجبرة والمعتزلة واتضح أن كل واحد منها غالت في عقائدها وأصبحت على طرفي نقيض ، وهما في الشرك والكفر قد سقطوا من حيث شاؤوا أو أبوا .
وهذا الغلو لا يوجد عند متكلمي الشيعة ، بل هو مرفوض ، بل إن نسبة إلى الفرق المتقدمة هو أليق .
والذي يعطينا الحل المناسب والصحيح هو الأخذ بقول أهل البيت عليه السلام حيث وضعوا القول الفيصل في المسألة وأقروا أن الأمر بين الأمرين فلا جبر إذن ولا تفويض ، وهذا هو مذهب الإمامية الإثنا عشرية فلا هم على رأي المجبرة ولا هم على رأي المعتزلة ، بل أقروا أن الإنسان موجود لأفعاله ، ولكن بالقدرة التي أودعها الله فيه ، فإذا وجد الداعي وارتفع المحذور صدر الفعل عن فاعله ، ونسب إليه ما فعله ، وشأنه في ذلك شن الإحراق للنار من حيث قيام المعلول بعلته .
فلو لم يكن سبحانه يفيض علينا من قدرته حرية الإرادة والإمكانات والقوى والحياة في كل آن ، لما كنا قادرين على أي عمل نفعله ، لهذا إن أفعالنا الإرادية ترتبط بنا لكونها صاردى من عندنا وفق مصالح يشخصها العبد . وفي نفس الوقت إن هذه الإرادة هي ذخائر المولى ـ الخالق ـ في العبد .
وبهذا التقرير يتضح أن الأمور لا بد أن تجري بأسبابها ، وأن من جملة الأسباب هو خلق الإنسان وخلق الإرادة فيه ، وإن أفعالنا الاختيارية صاردة من ذلك السبب وهي الإرادة ، وهذه تقع في آخر جزء من سلسلة الأسباب فإزادة الله هي الإرادة ، وهذه تقع في آخر جزء من سلسلة الأسباب فإرادة الله هي منذ الأزل ولا تنافي هذه الارادة مع حرية البشر في اختيارهم لأفعالهم وبهذا الاختيار تحسن المكافئة على فعل الخير ويجزي العاصي بما فعل من سوء ، قوله تعالى : ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ... ) (31) وقوله تعالى : ( إن هذه تذكرة فمن شاء إنخذ إلى ربه سبيلا ) (32) وقوله تعالى : ( إن هو إلا ذكر للعاملين لمن شاء منكم أن يستقيم ... ) (33) .
عن الصدوق بإسناده عن بريد بن عمير بن معاوية الشامي قال : دخلت على علي بن موسى الرضا عليه السلام بمرو ، فقلت له يا بن رسول الله روي لنا عن الصادق جعفر بن محمد عليه السلام قال : إنه لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين فما معناه ؟ قال عليه السلام : من زعم أن الله عز وجل فوض أمر الخلق والرزق إلى حججه عليه السلام فقد قال بالتفويض ، والقائل بالجبر كافر ، والقائل بالتفويض مشرك .
فقلت له يابن رسول الله فما أمر بين أمرين ؟
فقال وجود السبيل إلى اتيان ما أمروا به ، وترك ما نهوا عنه . فقلت له : فهل لله عز وجل مشية وإرادة في ذلك ؟ فأما الطاعات فإرادة الله ومشيئته فيها الأمر بها والرضى لها والمعاونة عليها وإرادته ومشيئته في المعاصي النهي عنها والسخط لها والخذلان عليها قلت : فهل لله فيها القضاء ؟ قال : نعم ما من فعل يفعله العباد من خير أو شر إلا ولله فيه قضاء ، قلت : ما معنى هذا القضاء ؟ قال : الحكم عليهم بما يستحقونه على أفعالهم من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة (34) .
وقال الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام وقد ذكر عنده الجبر والتفويض ، فقال : ألا أعطيكم في هذا أصلاً لا يختلفون فيه ولا يخاصمكم عليه أحد إلا كسرتموه ؟
قلنا إن رأيت ذلك ، فقال : إن الله تعالى لم يطع بإكراه ولم يعص بغلبه ، ولم يهمل العباد في ملكه ، وهو المالك لما ملكهم ، والقادر على ما أقدرتم عليه فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن الله عنها صادراً ولا منها مانعاً ، وإن ايتمروا بمعصية فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل ، وإن لم يحل ففعلوا فليس هو الذي أدخلهم فيه . ثم قال عليه السلام من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه (35) .
عن الحسن بن علي الوشاء قال سألت الإمام أبا الحسن الرضا عليه السلام فقلت : الله فوض الأمر إلى العباد ؟ قال : الله أعز من ذلك ، قال : ثم قال : قال الله يا ابن آدم أنا أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني ، عملت المعاصي بقوتي التي جعلتها فيك (36) .
اهذا يستجب الدعاء بهذا المأثور : ( إلهي لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ) لأن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي . كما يستجب الإكثار من قوله تعالى : ( لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ) والإمعان فيها دائماً .
ومن الأخبار المأثورة عن أهل البيت عليهم السلام الجامعة لأمهات المطالب المتقدمة والتي تكشف عن معنى القضاء والقدر وتوضح عقيدة أهل الجبر وتفضح مقولة أهل الاختيار والتفويض وتبين الأمر بين الأمرين هو قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام إذ كَانَ جَالِساً بِالْكُوفَةِ بَعْدَ مُنْصَرَفِهِ مِنْ صِفِّينَ إِذْ أَقْبَلَ شَيْخٌ فَجَثَا بَيْنَ يَدَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ لَهُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبِرْنَا عَنْ مَسِيرِنَا إِلَى أَهْلِ الشَّامِ أَ بِقَضَاءٍ مِنَ اللَّهِ وَ قَدَرٍ ؟
فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ( عليه السَّلام ) : " أَجَلْ يَا شَيْخُ ، مَا عَلَوْتُمْ تَلْعَةً وَ لَا هَبَطْتُمْ بَطْنَ وَادٍ إِلَّا بِقَضَاءٍ مِنَ اللَّهِ وَ قَدَرٍ " .
فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ : عِنْدَ اللَّهِ أَحْتَسِبُ عَنَائِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ !
فَقَالَ لَهُ : " مَهْ يَا شَيْخُ ، فَوَ اللَّهِ لَقَدْ عَظَّمَ اللَّهُ الْأَجْرَ فِي مَسِيرِكُمْ وَ أَنْتُمْ سَائِرُونَ ، وَ فِي مَقَامِكُمْ وَ أَنْتُمْ مُقِيمُونَ ، وَ فِي مُنْصَرَفِكُمْ وَ أَنْتُمْ مُنْصَرِفُونَ ، وَ لَمْ تَكُونُوا فِي شَيْءٍ مِنْ حَالَاتِكُمْ مُكْرَهِينَ وَ لَا إِلَيْهِ مُضْطَرِّينَ " .
فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ : وَ كَيْفَ لَمْ نَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ حَالَاتِنَا مُكْرَهِينَ وَ لَا إِلَيْهِ مُضْطَرِّينَ ، وَ كَانَ بِالْقَضَاءِ وَ الْقَدَرِ مَسِيرُنَا وَ مُنْقَلَبُنَا وَ مُنْصَرَفُنَا ؟!
فَقَالَ لَهُ : " وَ تَظُنُّ أَنَّهُ كَانَ قَضَاءً حَتْماً وَ قَدَراً لَازِماً ، إِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَبَطَلَ الثَّوَابُ وَ الْعِقَابُ ، وَ الْأَمْرُ وَ النَّهْيُ ، وَ الزَّجْرُ مِنَ اللَّهِ ، وَ سَقَطَ مَعْنَى الْوَعْدِ وَ الْوَعِيدِ ، فَلَمْ تَكُنْ لَائِمَةٌ لِلْمُذْنِبِ ، وَ لَا مَحْمَدَةٌ لِلْمُحْسِنِ ، وَ لَكَانَ الْمُذْنِبُ أَوْلَى بِالْإِحْسَانِ مِنَ الْمُحْسِنِ ، وَ لَكَانَ الْمُحْسِنُ أَوْلَى بِالْعُقُوبَةِ مِنَ الْمُذْنِبِ ، تِلْكَ مَقَالَةُ إِخْوَانِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ ، وَ خُصَمَاءِ الرَّحْمَنِ ، وَ حِزْبِ الشَّيْطَانِ ، وَ قَدَرِيَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَ مَجُوسِهَا ، إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى كَلَّفَ تَخْيِيراً ، وَ نَهَى تَحْذِيراً ، وَ أَعْطَى عَلَى الْقَلِيلِ كَثِيراً ، وَ لَمْ يُعْصَ مَغْلُوباً ، وَ لَمْ يُطَعْ مُكْرِهاً ، وَ لَمْ يُمَلِّكْ مُفَوِّضاً ، وَ لَمْ يَخْلُقِ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ، وَ لَمْ يَبْعَثِ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ عَبَثاً ، ﴿ ... ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ﴾ (37) .
فَأَنْشَأَ الشَّيْخُ يَقُولُ :
أَنْتَ الْإِمَامُ الَّذِي نَرْجُو بِطَاعَتِهِ *** يَوْمَ النَّجَاةِ مِنَ الرَّحْمَنِ غُفْرَاناً
أَوْضَحْتَ مِنْ أَمْرِنَا مَا كَانَ مُلْتَبِساً *** جَزَاكَ رَبُّكَ بِالْإِحْسَانِ إِحْسَانا (38)
المصادر :
1- سورة فاطر ، الآية : 8 .
2- سورة الصافات ، الآية : 96 .
3- سورة الأنعام ، الآية : 125 .
4- سورة غافر ، الآية : 17 .
5- سورة الطور ، الآية : 21 .
6- سورة الأنعام ، الآية : 160 .
7- سورة الانفال ، الآية : 5 .
8- سورة الجاثية ، الآية : 28 .
9- سورة الكهف ، الآية : 29 .
10- سورة المائدة ، الآية : 30 .
11- الملل والنحل 1 / 224 .
12- انظر الملل والنحل 1 / 79 ـ 80 .
13- انظر الملل والنحل 1 / 81 ـ 82 .
14- سورة الصافات ، الآية : 96 .
15- الملل والنحل 1 / 93 .
16- سورة الزلزال ، الآية : 7 ـ 8 .
17- سورة الصافات ، الآية : 24 .
18- سورة المدثر ، الآية : 38 .
19- سورة النحل ، الآية : 93 .
20- سورة النمل ، الآية : 90 .
21- سورة يس ، الآية : 54 .
22- سورة الأنعام ، الآية : 120 .
23- أصول الكافي 1 / 160 .
24- سورة الجمعة ، الآية : 2 .
25- سورة البقرة ، الآية 213 .
26- كفاية الأصول 2 / 5 ، ط الشابندر ، بغداد 1329 هـ .
27- سورة البقرة ، الآية : 54 .
28- سورة آل عمران ، الآية : 117 .
29- سورة هود ، الآية : 117 .
30- سورة المدثر ، الآية : 42 ـ 46 .
31- سورة الكهف ، الآية : 29 .
32- سورة الإنسان ، الآية : 29 .
33- سورة التكوير ، الآية : 27 و 28 .
34- عيون أخبار الرضا 1 / 124 .
35- المصدر نفسه 1 / 144 .
36- أصول الكافي 1 / 157 .
37- سورة صاد ، الآية : 27 ،
38- الكافي : 1 / 155 .
source : rasekhoon