عربي
Friday 26th of April 2024
0
نفر 0

المنطق العقلي والعلم الحديث‏

المنطق العقلي والعلم الحديث‏
أنّ التجربة التي تحدّثنا عنها لدى حديثنا عن أصناف العقل الأوّل تختلف عن التجربة في مصطلح العلم الحديث . والاختلاف بينهما على نحو العموم والخصوص ، أي أنّ التجربة في المصطلح القديم أعمّ منها في المصطلح الحديث ؛ لأنّها في المصطلح القديم عبارة عمّا ذكرناه ، وأمّا في المصطلح الحديث فهي أضيق من ذلك ؛ لأنّ التجربة التي يعيشها الناس في حياتهم لا يسمّونها تجربة ، والتجربة عندهم عبارة عن الفروض التي يفترضها العالم ثمّ يتأمّل فيها .
ويتساءل : ماذا سيجد إذا كان هذا الفرض صادقاً ! وماذا سيجد إذا كان كاذباً ! وبعد أن يحدّد الأشياء التي يترقّب أن يجدها على فرض صدق هذا الافتراض ، وكذلك الأشياء التي يترقّب أن يجدها على فرض كذب ذاك ، حينئذٍ يفكّر كيف يمكنه أن يحقّق في المصنع والمعمل الآثار التي يترقّب وجودها على فرض صدق هذه الفرضيّة ، والآثار التي يترقّب وجودها على فرض كذبها .
ونحن نلاحظ أنّ هذا العالم يتأمّل في هذه المسألة ويرسم مخطّطاً عمليّاً ويمارس العمل بقصدٍ علميٍّ معيّن ، وهذا هو مفهوم التجربة في مصطلح العلم الحديث .

عودة إلى قضايا العقل الأوّل‌ :

ذكرنا في ما سبق أنّ قضايا العقل الأوّل عند المنطق العقلي عبارة عن القضايا الستّ آنفة الذكر :
1 ، 2 - أمّا الأوّليّات والفطريّات‌ : فلا شكّ في كونها من مبادئ العقل الأوّل .
3 - وأمّا في باب المشاهدات‌ أو المحسوسات‌ ، فنحن نواجه في الواقع تصوّراً وتصديقين :
أمّا التصوّر : فهو عبارة عن الصورة المحسوسة المنقوشة في اُفق من آفاق ـ الإدراك البشري ، وهي المعبّر عنه بـ ( المحسوس بالذات ) في مقابل ( المحسوس بالعرض ) ، والأخير هو عالم الخارج نفسه‌(1) .
وإلى جانب هذا التصوّر هناك تصديقان :
التصديق الأوّل عبارة عن أصل وجود عالم خارجي وراء هذا التصوّر ، خلافاً للاتّجاهات المثاليّة والسوفسطائيّين الذين ينكرون وجود واقع خارجي . ونحن نصادق على كون هذا التصديق من مبادئ العقل الأوّل‌(2) .
والتصديق الثاني عبارة عن مطابقة الصورة المحسوسة بالذات للواقع الخارجي المحسوس بالعرض . وبعبارة اُخرى : إعطاء المحسوس بالعرض تمام الصفات والخصوصيّات الثابتة لما هو محسوس بالذات‌(3) .
والحقيقة أنّ تصديق الإنسان بمطابقة ما يحسّ به للواقع الخارجي ليس مستفاداً من العقل الأوّل ولا من غيره من العقول ، وإنّما هو ناجمٌ عن مجرّد توهّم ينشأ وينمو مع الإنسان منذ طفولته هو الذي يقف وراء ذلك ، ولا يمكن السيطرة عليه إلّاللصدّيقين . وهذا التوهّم منشؤه عدم تمييز الإنسان بين المحسوس بالذات وبين المحسوس بالعرض ، نتيجة ضعف الفكر وعدم دقّة النظر وقلّة ممارسته للبراهين الفلسفيّة .
إذن : عندما يحكم الإنسان بأنّ الواقع الخارجي أبيض نتيجة بياض‌ الصورة المحسوسة لديه بالذات ، فهذا الحكم لا يمكن إرجاعه إلى العقل الأوّل ، فكثيراً ما يخطئ الإنسان في حكمه ذاك ، والبياض في الواقع من الصفات الذاتيّة التي تثبت للصورة المحسوسة .
الآن يُدعّى - بحسب المفهوم العلمي السائد - أنّ الألوان عبارة عن صفات ذاتيّة وليست صفات واقعيّة ، وهي دعوى لم يبرهن عليها بعد . ولكن سواء قدّم لها برهانٌ أم لم يقدّم ، فإنّنا لا نستطيع القول : إنّها خلاف البداهة ، وإنّ حال مدّعيها حال من ينكر أنّ الخطّ المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين ؛ فإنّ كلّ من ينكر القضيّة الأخيرة يمكن لك أن تكذّبه .
يبقى مسألة تتعلّق بالمحسوسات ، وهي أنّ اختلاف الصورة المحسوسة بالذات يكشف عن اختلاف الواقع الخارجي ، وأنّ التمييز بين الأشياء في عالم الخارج يقوم على أساس التمييز بين آثار هذا العالَم لدى الإنسان ، وهي عبارة عن الصورة المحسوسة بالذات .
ولكنّ هذا لا يعني إضفاء صفة الصورة المحسوسة على هذا الواقع ، وإنّما غاية الأمر أنّ كلّ موجود في عالم الخارج يقابله رمز ، وعلاقة الصورة المحسوسة بالذات بالواقع المحسوس بالعرض تكون حينئذٍ علاقة الرمز بما يرمز إليه . وإذا تحدّثنا عن المطابقة فالمقصود بها هذا المعنى ، أي المطابقة على نحو الرمزيّة .
4 - الآن يأتي دور الحديث عن المتواترات‌ ، وهي في مصطلح المنطق التقليدي‌(4) : القضايا التي يحصل لدى النفس علمٌ بها بشكل قاطع ، عن طريق إخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب ، من قبيل حصول العلم بوجود الكعبة لدى إخبار جماعة عن وجودها بعد فرض امتناع تواطئهم على الكذب .
فهنا في الواقع حكمان عقليّان : أحدهما يستند إلى الآخر . والأوّل هو حكم العقل بوجود الكعبة . إلّاأنّ هذا الحكم مستند إلى حكم عقلي آخر سابق عليه ، وهو استحالة تواطؤ الجماعة على الكذب .
ومن هنا يظهر الفرق بين المحسوسات والمتواترات : ففي المحسوسات يستند العقل في حكمه إلى الإحساس ، بينما يستند هنا إلى حكمٍ عقلي آخر هو امتناع التواطؤ على الكذب .
وعلى هذا الأساس فنحن لا نعدّ القضايا المتواترة من القضايا الأوّليّة ؛ لاستنادها إلى حكم عقلي آخر سابق عليها ، ولكنّنا سنبرهن في الأبحاث الآتية أنّ الحكم العقلي السابق هذا هو بدوره ليس حكماً عقليّاً أوّليّاً ، وإنّما هو ناتجٌ عن الطريقة الذاتيّة في التفكير .
5 ، 6 - يبقى التعليق على التجربيّات والحدسيّات‌ ، حيث الحكم في كلتا الحالتين قائمٌ على أساس تكرّر المشاهدة والممارسة بحيث يمتنع معه الاتّفاق‌(5) .
وهنا يأتي نفس ما سجّلناه على المتواترات ؛ لأنّ هذا التعريف يفترض وجود حكم عقلي سابق باستحالة الاتّفاق عند تكرّر المشاهدة(6) ،
وسنوضح في ما يأتي أيضاً أنّ هذا الحكم ليس حكماً عقليّاً أوّليّاً ، وإنّما مردّه إلى الطريقة الذاتيّة في التفكير .

استرجاع وتعميق لبعض النتائج‌ :

قلنا : إنّ المصادرة الثالثة عبارة عن الإيمان بالعقل الأوّل ، ثمّ حاولنا إعطاء فكرة عامّة عن العقل الأوّل من وجهة نظر منطق البرهان ، وقلنا : إنّ قضايا العقل الأوّل في منطق البرهان عبارة عن ستّ قضايا :
الأوّليّات والفطريّات التي ذكرنا هناك أ نّها بلا شكّ من قضايا العقل الأوّل .
أمّا المتواترات والتجربيّات والحدسيّات ، فلا يمكن أن تكون كذلك بحسب تعريفها التقليدي المذكور في منطق البرهان ؛ لأنّها - وكما ذكرنا أيضاً - تستند إلى حكم عقلي آخر أسبق منها ، فالأوْلى أن يكون هذا الحكم العقلي هو أحد قضايا العقل الأوّل ، لا المتواترات نفسها .
إذن : لو تمّ إصلاح التعريف وفق ما ذكرناه سابقاً ، فستكون هذه الأحكام الأوّليّة التي تقع في مرحلة سابقة على المتواترات هي القواعد الكلّيّة ، ولأمكن الاستفادة منها ضمن صيغة القياس وبالطريقة الموضوعيّة ؛ لأنّها أساس التواتر والتجربة والحدس ، فتصبح هي في عرض الأوّليّات .
ويكون من الخطأ أن نقول : « إنّ لدينا أوّليّات ، وفي عرضها لدينا حدسيّات ومتواترات وتجربيّات » ، بل - بناءً على إصلاح التعريف على ضوء الإشكال الذي ذكرناه - سيكون لدينا أوّليّات ، وتقف إلى جانبها هذه القوانين العامّة ، ويكون الاستنتاج منها على حدّ الاستنتاج من الأوّليّات والفطريّات عن طريق التوالد الموضوعي .
نعم ، يبقى في المقام ثغرة تتعلّق بالحسّيّات ، وهي القضايا المحسوسة(7) ؛
فإنّه بعد الفرض بأنّ التصديق بأصل المحسوس أمر ضروري ومن قضايا العقل الأوّل ، لا بدّ من التساؤل حول طبيعة القضيّة التي يدركها الحسّ ، هل هي قضيّة جزئيّة ؟ أم قضيّة كلّيّة على نهج الأوّليّات والفطريّات والقوانين العامّة التي وقفت خلف تفسير التجربيّات والحدسيّات والمتواترات ؟ ومرادنا من القضيّة الكلّيّة هو أنّ العقل متى ما أحسّ بشي‌ءٍ موجود ، فهذا يعني بالملازمة [ التطابق والتشابه بين الصورة المحسوسة والواقع الموضوعي ](8) .
فإذا قلنا بوجود هذا الحكم الكلّي - وهو التطابق بين الصورة المحسوسة وبين الواقع الموضوعي - فسينفتح الباب أمام الإشكال الذي تقدّم سابقاً لدى الحديث عن المتواترات والتجربيّات ؛ لأنّ الحكم بوجود هذا المحسوس في الواقع الموضوعي ليس حكماً أوّليّاً ، بل مستنبطاً وفق موازين الصيغة القياسيّة ، وذلك بأن نقول : إنّ كلّ محسوس موجود ( الكبرى ) ، وهذا محسوسٌ ( الصغرى ) ، فهذا موجود .
ونحن نلاحظ أنّ الحكم بوجود المحسوس في عالم الخارج سيكون حينئذٍ من سنخ القضايا الفطريّة التي تكون قياساتها معها ويُمكن البرهنة عليها بقياس ، لا من سنخ القضايا الأوّليّة ؛ لأنّ العقل لا يصدّق بها بمجرّد تصوّر طرفيها ، بل يوسّط ما لا يكاد يغيب عن الذهن ، إلى درجة أنّ العقل يخطو معه إلى النتيجة بدون فاصل زمني أو تأمّل .
وإمّا أن نقول : إنّ القضيّة المحسوسة قضيّة جزئيّة لا كلّيّة ، والعقل لا يحكم بأنّ كلّ محسوس موجود على نحو القضيّة الكلّيّة ، بل يحكم بأنّ هذا موجودٌ على نحو القضيّة الجزئيّة ؛ وذلك أنّ الإحساس يوجِد في الإنسان التصديق ، وهذا قانون جعله اللَّه تعالى في الحسّ كما جعل النار موجدةً للحرارة ، بحيث ينصبُّ القطع على قضيّة جزئيّة من أوّل الأمر .
وهناك عدّة فوارق ظاهرة بين هذين التصويرين ، أحدها : أ نّنا إذا فرضنا أنّ القضيّة المحسوسة عبارة عن تلك القضيّة الكلّيّة العامّة كما ذكرنا ، فيصدق بهذا أنّ معارف العقل الأوّل كلّها معارف شرطيّة وإجماليّة ومعلّقة ، وليست معارف وجوديّة بحسب مصطلح العصر الحديث ، أو تنجيزيّة بحسب اصطلاحنا في علم الاُصول ؛
بمعنى أنّ جميع معارف العقل الأوّل ترجع إلى قضايا إجماليّة أو قضايا شرطيّة ؛ فإنّ « الاثنين نصف الأربع » معرفة شرطيّة وليست معرفة وجوديّة ، بمعنى أ نّه لو وجد شي‌ء وكان اثنين ، فسيكون نصف الأربعة . وهذه القضيّة لا تنبئ عن شي‌ء في عالم الوجود بالفعل ، وإنّما تنبئ عنه على نحو القضيّة الشرطيّة ، وهكذا قولنا : « الجزء أصغر من الكل » .
وهذا الأمر يجري حتّى في القضايا المحسوسة ؛ لأنّنا أرجعنا حكم العقل الأوّل في القضايا المحسوسة إلى قضية كلّيّة ، والقضيّة الكلّيّة قضيّة شرطيّة ، بمعنى أنّ الإنسان إذا أحسّ بشي‌ءٍ من عالم الخارج ، فهذا يعني أنّ ما أحسّ به موجودٌ في ذلك العالم .
إذن : العقل الأوّل لا ينبئ عن معرفة وجوديّة ، وإنّما ينبئ عن اُمور ومسائل معلّقة ، وما لم تضمّ إليها صغرياتها - وهي عبارة عن الشرط - فلا يثبت شي‌ءٌ في عالم الخارج .
أمّا الشرط في القضايا الشرطيّة :
فتارةً يثبت عن طريق العلم الحضوري ، فتكون النتيجة محرزة لا محالة ومضمونة الحقّانيّة ، باعتبار أنّ الكبرى مدركة بالعقل الأوّل ، والصغرى معلومة بالعلم الحضوري ، فينتج عنهما أنّ الشي‌ء موجودٌ في الخارج .
واُخرى‌ يثبت عن غير طريق العلم الحضوري ، أي عن طريق العقل الثالث ، فتكون الكبرى مستفادة من العقل الأوّل ، والصغرى من العقل الثالث ، وتكون النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمات .
عوداً على بدء ، فإنّه بناءً على إرجاع القضيّة المحسوسة إلى قضيّة كلّيّة ، يكون العقل الأوّل منبئاً عن قضايا معلّقة وشرطيّة لا تثبت شيئاً بالفعل ، وإنّما تفتقر إلى إثبات صغرياتها ومقدّماتها ، ليتمّ بعد ذلك إثبات النتيجة عن طريق التوالد الموضوعي . وهذه الصغريات خارجة عن دائرة العقل الأوّل حتّى في حال ثبوتها بالعلم الحضوري .
نعم ، لو قلنا : إنّ القطع في القضيّة المحسوسة ينصبُّ على القضيّة الجزئيّة مباشرةً ، فحينئذٍ سيشكّل ذلك استثناءً من أحكام العقل الأوّل ؛ لأنّ قضاياه ستكون عبارة عن قضايا شرطيّة معلّقة باستثناء هذه القضيّة ، حيث ستكون قضيّة وجوديّة ومعرفة تنجيزيّة .
هذا بناءً على الطريقة الموضوعيّة في توالد المعرفة التي لم يثبت العقلان الأوّل والثاني فيها شيئاً في الخارج ، خلافاً للطريقة الذاتيّة .
المصادر :
1- شرح المنظومة 5 : 229 ، الهامش ( 29 )
2- الاُسس المنطقيّة للاستقراء : 527
3- المصدر السابق : 530 ، الاعتقاد بالتشابه بين المحسوس والواقع
4- النجاة من الغرق في بحر الضلالات : 115 ؛ البصائر النصيريّة في علم المنطق : 376 ؛ القواعد الجليّة في شرح الرسالة الشمسيّة : 397 ؛ تحرير القواعد المنطقيّة في شرح الرسالة الشمسيّة : 459 ؛ الحاشية على تهذيب المنطق : 111 ؛ المنطق ( المظفّر ) : 333 ، المتواترات
5- اُنظر : القواعد الجليّة في شرح الرسالة الشمسيّة : 396 ؛ المنطق ( المظفّر ) : 333 ، 334 ، و فراجع : تحرير القواعد المنطقيّة : 459
6- راجع : شرح الإشارات والتنبيهات 1 : 217 ؛ شرح حكمة الإشراق : 122 ؛ الجوهر النضيد : 201
7- الاُسس المنطقيّة للاستقراء : 470 . بحوث في علم الاُصول ، عبد الساتر 8 : 337 ) ، / بحوث في علم الاُصول ، الهاشمي 4 : 131 /الحاشية على تهذيب المنطق : 111
8- الاُسس المنطقيّة للاستقراء : 530

 


source : راسخون
0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

المکاره في الاسلام
أدلة وجود الإمام المهدي عليه السلام
حب علي (ع) و بغضه
أربعينية الإمام الحسين عليه السلام
مقتل الحسين عند رهبان اليهود والنصارى وفي كتبهم ...
الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام)
زيارة أم البنين عليها السلام
ما حدث في مولد الرسول الأعظم (ص)
في خصائص صفاته واخلاقه وعباداته يوم عاشوراء
الإمام الصادق (عليه السلام) يشهر سيف العلم!

 
user comment