عربي
Friday 8th of November 2024
0
نفر 0

تنزيه نوح عليه السلام

تنزيه نوح عليه السلام

تنزيه نوح عما لا يليق به

( مسأله فان سأل سائل عن قوله تعالى : ( ونادى نوح ربه فقال رب ان أبني من اهلي وان وعدك الحق وأنت احكم الحاكمين قال يا نوح أنه ليس من أهلك انه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم اني اعظك ان تكون من الجاهلين ) ( 1 ) فقال : ظاهر قوله تعالى انه ليس من أهلك ، فيه تكذيب ، لقوله عليه السلام ان ابني من أهلي . واذا كان النبي ( ع ) لا يجوز عليه الكذب فما الوجه في ذلك ؟ قيل له في هذه الآية وجوه ، كل واحد منها صحيح مطابق لادلة العقل ( 2 ) .
( أولها ) أن نفيه لان يكون من أهله لم يتناول فيه نفي النسب ، وإنما نفى ان يكون من أهله الذين وعده الله تعالى بنجاتهم ، لانه عزوجل كان وعد نوحا عليه السلام بأن ينجي اهله في قوله : ( قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين واهلك إلا من سبق عليه القول ) ( 3 ) فاستثنى من اهله من اراد اهلاكه بالغرق . ويدل على صحة هذا التأويل قول نوح عليه السلام : ان ابني من اهلي وان وعدك الحق . وعلى هذا الوجه يتطابق الخبران ولا يتنافيان . وقد روي هذا التأويل بعينه عن ابن عباس وجماعة من المفسرين .
( والوجه الثاني ) ان يكون المراد من قوله تعالى : ( ليس من اهلك ) أي انه ليس على دينك ، وأراد انه كان كافرا مخالفا لابيه ، فكأن كفره اخرجه من ان يكون له أحكام أهله . ويشهد لهذا التأويل قوله تعالى على سبيل التعليل : ( انه عمل غير صالح ) فتبين انه انما خرج عن احكام اهله بكفره وقبيح عمله . وقد حكي هذا الوجه أيضا عن جماعة من اهل التأويل .
( والوجه الثالث ) انه لم يكن ابنه على الحقيقة ، وإنما ولد على فراشه . فقال ( ع ) ان ابني على ظاهر الامر . فأعلمه الله تعالى ان الامر بخلاف الظاهر ، ونبهه على خيانة امرأته ، وليس في ذلك تكذيب خبره ، لانه انما اخبر عن ظنه وعما يقتضيه الحكم الشرعي ، فاخبره الله تعالى بالغيب الذي لا يعلمه غيره . وقد روي هذا الوجه عن الحسن ومجاهد وابن جريج . وفي هذا الوجه بعد ، إذ فيه منافاة للقرآن لانه تعالى قال : ( ونادى نوح ابنه ) فأطلق عليه اسم النبوة . ولانه تعالى أيضا استثناه من جملة أهله بقوله تعالى : ( واهلك إلا من سبق عليه القول ) . ولان الانبياء عليهم السلام يجب ان ينزهوا عن هذه الحال لانها تعبير وتشيين ونقص في القدر ، وقد جنبهم الله تعالى ما دون ذلك تعظيما لهم وتوقيرا ونفيا لكل ما ينفر عن القبول منهم . وقد حمل ابن عباس قوة ما ذكرناه من الدلالة على ان تأويل قوله تعالى في امرأة نوح وامرأة لوط ، فخانتاهما ، أن الخيانة لم تكن منهما بالزنا ، بل كانت احداهما تخبر الناس بأنه مجنون ، والاخرى تدل على الاضياف . والوجهان الاولان هما المعتمدان في الآية ، فإن قيل اليس قد قال جماعة من المفسرين ان الهاء في قوله تعالى : ( انه عمل غيرصالح ) راجعة إلى السؤال ؟ والمعنى ان سؤالك إياي ما ليس لك به علم عمل غير صالح ، لانه قد وقع من نوح ( ع ) السؤال والرغبة في قوله : رب إن ابني من اهلي وان وعدك الحق ، ومعنى ذلك نجه كما نجيته . قلنا ليس يجب ان تكون الهاء في قوله ان عمل غير صالح ، راجعة إلى السؤال بل إلى الابن يكون تقدير الكلام : ان ابنك ذو عمل غير صالح ، فحذف المضاف وأقام المضاف اليه مقامه ويشهد لصحة هذا التأويل ، قول الخنساء ( 4 ) :
ما ام سقب على بو ( 5 ) تطيف به * قد ساعدتها على التحنان اظئار
ترتع ما رتعت حتى إذا ذكرت * فانما هي اقبال وادبار وإنما اراد انها ذات إقبال وذات إدبار ، وقد قال قوم في هذا الوجه : ان المعنى في قوله : إنه عمل غير صالح ، أن اصله عمل غير صالح من حيث ولد على فراشه وليس بإبنه . وهذا جواب من يرى انه لم يكن ابنه على الحقيقة . والذي اخترناه خلاف ذلك ، وقد قرئت هذه الآية بنصب اللام وكسر الميم ونصب غير ، ومع هذه القراءة لا شبهة في رجوع معنى الكلام إلى الابن دون سؤال نوح ( ع ) ، وقد ضعف قوم هذه القراءة فقالوا : كان يجب ان يقول انه عمل عملا غير صالح ، لان العرب لا تكاد تقول هو يعمل غير حسن ، حتى يقولوا عملا غير حسن . وليس هذا الوجه بضعيف ، لان من مذهبهم الظاهر أقامة الصفة مقام الموصوف عند انكشاف المعنى وزوال اللبس . فيقول القائل : قد فعلت صوابا وقلت حسنا ، بمعنى فعلت فعلا صوابا وقلت قولا حسنا . وقال عمر بن أبي ربيعة المخزومي ( 6 ) ؟ .
ايها القائل غير الصواب * أخر النصح واقلل عتابي وقال أيضا :
وكم من قتيل ما يباء به دم * ومن علق رهنا اذا لفه الدما ( 7 )
ومن مالي عينيه من شئ غيره * إذا راح نحوالحمرة البيض كالدما أرادوكم من انسان قتيل . وقال رجل من بجيلة :
كم من ضعيف العقل منتكث القوى * ما ان له نقض ولا ابرام أرادكم من انسان ضعيف العقل والقوى .
فإن قيل : لو كان الامر على ما ذكرتم فلم قال الله تعالى : ( فلا تسألني ما ليس لك به علم اني أعظك ان تكون من الجاهلين ) فكيف قال نوح عليه السلام من بعد : ( رب اني أعوذبك ان اسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ) ( 8 ) .
قلنا ليس يمتنع أن يكون نوح ( ع ) نهى عن سؤال ماليس له به علم ، وإن لم يقع منه ، وان يكون هو ( ع ) تعوذ من ذلك ، وان لم يواقعه . ألا ترى أن نبينا صلى الله عليه وآله قد نهى عن الشرك والكفر ، وإن لم يقعا منه ، في قوله تعالى : ( لئن أشركت ليحبطن عملك ) . وانما سأل نوح عليه السلام نجاة ابنه باشتراط المصلحة لا على سبيل القطع . فلما بين الله تعالى ان المصلحة في غير نجاته ، لم يكن ذلك خارجا عما تضمنه السؤال . فأما قوله تعالى : ( اني اعظك ان تكون من الجاهلين ) ، فمعناه لئلا تكون منهم . ولا شك في ان وعظه تعالى هو الذي يصرفه عن الجهل وينزهه عن فعله . وهذا كله واضح .


( 1 ) هود الآية 45 - 46
( 2 ) راجع قصص الانبياء - قصة نوح عليه السلام - المسأله الخامسة
( 3 ) هود الآية 40
( 4 ) شاعرة عربية ( 575 - 664 ه ) اشتهرت برثاء أخويها
( 5 ) هكذا وردت في الاصل ولعلها ( بوق ) كما يدل سياق المعنى
( 6 ) شاعر غزلى شهير ( 644 - 711 ه ) تزهد في آخر حياته
( 7 ) ومن علق رهنا إذا ألفه غنما - خل
( 8 ) هود الآية 47

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الأرزاق و الأسعار
المعاد والإيمان وأحكامه (2)
الخلاف حول البناء على قبور الأنبياء (عليهم ...
مسؤوليات الشباب في كلام القائد
موقف النهج الأموي من الخروج على الحاكم الظالم
مدرسة السقيفة وإشكالية علمنة الدين
موقف ابن تيمية من مناقب علي بن أبي طالب عليه ...
الشيعة غير الروافض
لكي نتخلّص مِن الكسل العبادي
في قول النبي لأهل بيته: (أنا حرب لمن حاربكم) ...

 
user comment