لا دليل لإِثبات القدرة المطلقة الإِلهية أوضح من ظواهر الطبيعة وصورها وأشكالها وألوانها الطبيعية التي تفوق حدّ الوصف والبيان .
إننا حينما نلقي نظرنا على مخلوقات الله نرى أنفسنا أمام قدرة عظيمة لا يتصور لها أيّ حدود أو قيود ، إن مراجعة هذه المخلوقات وملايين الحقائق المودعة في عجائب الطبيعة ، وأعماق نفوسنا ، بلغ بنا إلى أوضح البراهين على مدى قدرة خالقها ، ولا طريق سوى قدرة الله المطلقة لتعليل هذا النظام وتفسيره .
إن قدرته المطلقة هي التي تحمل العقل على الخضوع أمام خالق هذا النظام العظيم ، وليست لنا أية كلمة تحدد لنا أبعاد هذه القدرة المطلقة ، إن قدرة الله العظيمة تبلغ ما وصفه ذاته سبحانه في قوله : ( إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له : كن ، فيكون )(1) .
إن أبطال العلوم الطبيعية ورجال المختبرات العلمية لم يتوفقوا حتى اليوم إلى كشف أسرار الخلقة بصورة كاملة حتى في جزء واحد من هذه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يس : الآية 82 .
الكثرة من المخلوقات الصغيرة والكبيرة والمختلفة .
ومع ذلك فإن المعلومات القليلة والناقصة والقصيرة التي حصل عليها الإنسان بالنسبة إلى قسم من موجودات نظام هذا العالم ، تكفي لإِدراك لا نهائية تلك القدرة العظيمة في هذه الموجودات المتنوعة ذات الأحجام المختلفة من الحيوانات الصغار والكبار في أعماق البحار والمحيطات بمختلف الأشكال والصور ، والطيور الجميلة ذات الألحان العذبة والأجنحة الملونة البديعة في بطون الغابات ، والنجوم والكواكب وطلوعها وغروبها والشفق والأفق والشمس والقمر والكرات والمجرات والسحابيات بما فيها من ملايين النجوم العظيمة المشرقة ، مما يحير ذوي الألباب والعقول .
يحكي البروفيسور ( روايه ) جانباً من عظمة عالم الفضاء فيقول :
« إن في منظومتنا الشمسية مئة ألف من النجوم لم يعرف سوى خمسة آلاف منها ، ومنظومتنا الشمسية هذه جزء صغير من مجرتنا ( درب التبانة ) ونحن لا نتمكن من أن نرى سوى جانب صغير منها ، هو من أكثر أجزائها كثافة ، ولكن نفس هذه المجرة العظيمة ليست أِّام مليارات المجرات الأخرى سوى سحابة صغيرة فيها نجوم ، وتسمى مجموعة المجرات هذه في العلوم ( ميتا كالاكسي ) وهي التي تشكل مجموع العالم » .
وقد قدّر ( آنشتاين ) العالم الرياضي أبو نظرية النسبية ، قدّر الشعاع النسبيّ لهذا العالم بستمئة سنة ضوئية ، وكان قد أقنع العلماء بنظريته القائلة : بما أن العالم في حدّه الأعلى لا نهاية له ، وبما أن وسائلنا العلمية وإمكاناتنا اليوم لا تظفر بالوقوف على نهاية هذا العالم ، إذن فالأحسن أن نحسب نسبة شعاع هذا العالم بستمئة سنة ضوئية والتي تعادل اللانهاية ، ثم نأخذ بالتحقيق في فضاء نسبي قطره ألف ومئتا سنة ضوئية .
وكان ( آنشتاين ) قد قام بهذه الحسابات بالاستناد إلى التحقيقات العلمية في مراصد جوية كمرصد ( بالومار ) الذي كان يعدّ أقوى المراصد
يومئذ ، وقد كسر الراديو هذه الحدود وتعداها وقلل من قيمة أعمال مرصد ( بالومار ) .
إن عدداً كبيراً من الصور الملونة بالألوان الأصيلة للمصورات الفضائية التي صورتها ( بالومار ) ولا سيما من مجرتنا هذه ( درب التبانة ) لا تزال منذ سنين مورداً لتحقيق علماء الفضاء في العالم ، وإن النظريات التي أبداها العلماء كانت مستندة إلى هذه الصور .
إن طوّل مجرتنا هذه مئة ألف سنة ضوئية ، والمنظومة الشمسية في أحد طرفيها ، وهي تسير في الفضاء بسرعة مئتين وخمسين كيلومتراً في الساعة منذ ميليارات من السنين »(1) .
فهل الخليفة بهذه العظمة المحيّرة لا تعبّر عن القدرة المطلقة للخالق العظيم ؟ أفهل يمكن أن نغضّ عيوننا عن قدرة خالق وهب الحياة هذه الألوان المختلفة والمتنوعة ، والذي وضع الأصول الحيوية لها وصوّر صورها وعيّن حدودها ؟
نحن نعلم أن إبداع هذه الهندسة البديعة إنما تتحقق من ذرة صغيرة ، ولا يمكن تفسير هذه الموجودات إلّا مع الإِذعان بقدرة مطلقة مريدة ومقدرة وهادية ، أجل هو الله ( الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) ، فهو القادر على الخلق والإِبداع وهو المهندس الحكيم .
إن الصغر والكبر والمشكل والسهل من خواص الموجودات المحدودة ، وليس للقلة والكثرة والصغر والكبر أيّ طريق إلى ذات الله وصفاته ، ويمتنع تصوّر العجز ـ وهو من لوازم محدودية الفاعل أو لوجود المانع أو لفقدان الوسائل ـ بشأن الوجود اللانهائي الإِلهي ، كما يقول القرآن الكريم : ( وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً )(2) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ألفا عالم في البحث عن الخالق العظيم : ص 13 ـ 29 ـ 32 ( بالفارسية ) .
2 سورة فاطر : الآية 44 .
ومع أن الله على كل شيء قدير ، فقد خلق هذا العالم بنظام خاص ، وأعطى كل شيء دوره المعين في إطار هذا النظام الدقيق ، والأشياء في واجباتها إنما هي جنود للرحمان مجندة سامعة مطيعة لا تعصي الله ما أمرها وإنما تفعل ما تؤمر ، كما يقول القرآن الكريم :
( وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَات بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاَْمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ )(1) .
وليس لأيّ موجود في نظام هذا العالم أن يكون منفرداً بشيء من القدرة ، أو ذا حظ في إرادته وحكمه ، فكما لا شريك لذات الله كذلك لا شريك له في فاعلية ، وكما لا استقلال لذوات موجودات هذا العالم فهي مستندة في وجودها إليه كذلك لا استقلال لها في الفاعلية والتأثير ، فكل فاعل وسبب لا بدّ أن يكون وجوده منه سبحانه وكذلك فاعليته وتأثيره .
وإذا اقتضى الأمر وأراد الله أفقد نظام الوجود دوره المتعاد له ، وأصبح هذا النظام العظيم خاضعاً لإرادته سبحانه ، فإن الخالق الذي وهب لكل عامل وسبب أثره الخاص به قادر على أن يحبط أثره في أىّ لحظة ، وأن يسلب أثر الحوادث بأمره كما أوجد النظام فيها بإرادته وحكمه ، كما يقول القرآن الكريم :
( قَالُوا حِرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الاَْخْسَرِينَ )(2) .
إن قوة الجاذبية في الأرض والشمس، وإن كانت نافذة في رقعة وسيعة من هذا العالم ، إلا أنها خاضعة أمام إرادته سبحانه ، فما أن يهب الله قدرة الطيران لطائر صغير حتى يتمكن من مقاومة جاذبية الأرض طائراً في الجو :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الاعراف : الآية 54 .
2 سورة الانبياء : الآيات 68 ـ 70 .
( أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَات فِي جَوِّ السَّماءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لاَيَات لِقَوْم يُؤْمِنُونَ )(1) .
إن أيّ موجود يفترض في هذا النظام لا تقضى حاجاته في الوجود ودوام الحياة إلاّ بالله العظيم ، وإن أيّ قدرة في هذا النظام إنما تنتهي إلى القدرة المطلقة الإلهية ، يقول أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) في خطبة له في نهج البلاغة :
« فلسنا نعلم كنه عظمتك إلاّ أنّا نعلم أنك حيّ قيّوم لا تأخذك سنة ولا نوم لم ينته إليك نظر ولم يدركك بصر أدركت الأبصار وأحصيت الأعمال وأخذت بالنواصي والأقدام ، وما الذي نرى من خلقك ونعجب له من قدرتك ونصفه من عظيم سلطانك وما تغيب عنا منه وقصرت أبصارنا عنه وانتهت عقولنا دونه وحالت ستور الغيوب بيننا وبينه أعظم »(2) .
إن الإنسان حينما يصمم على بناء مستشفي مثلاً فإنه يعدّ قسماً من الوسائل والأدوات اللازمة التي ليس بينها أيّ علاقة ذاتية ، وإنما هو يربط بعضها ببعض بروابط اصطناعية ، ولإيجاد هذه الروابط الاصطناعية يفيد من أشياء وإمكانات مختلفة ، وليس عمله الذي يشكل جزءاً من معدّات هذا البناء فاعلية خالقة ، بل فاعلية حركة تصنع الشكل الخاص من الأشياء الموجودة ، بينما ليس صنع الله من نوع إيجاد علاقة مصطنعة بين أمور مختلفة ، بل إن الله خالق كل شيء بجميع خصائصه وقواه .
ونحن إذ نقول بأن الله على كل شيء قدير ، علينا أن نعلم بأن القدرة إنما تتعلق بالأمور الممكنة ، أما الأمور المستحيلة عقلاً فهي خارجة عن حيطة القدرة بصوة مطلقة ، بل لا معنى لاستعمال كلمة القـدرة في المحالات .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل : الآية 79 .
2 نهج البلاغة / الخطبة : 159 .
أجل ، وإن كانت قدرة الله غير محدودة ، ولكن لا يصح الغفلة عن شرط قابلية المحل لتعلق الإلهية ، فإن عدم استحالة الأمر والقابلية الذاتية شرط لازم في تعلق إرادة الله به ، وإن إرادة الله لا تتعلق بشيء إلاّ مع قابليته الذاتية ، صحيح أن الفيض الإلهيّ دائم لا نهاية له ولكن المورد غير قابل لهذا الفيض ، البحر المحيط ممتليء من الماء إلاّ أن لكل شيء ظرفية خاصة ، ولا يستوعب أيّ ظرف أكثر من ظرفيته ، وليست المحدودية من قبل مياه المحيط بل في الظرف .
قيل لأميرالمؤمنين ( عليه السلام ) : هل يقدر ربّك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن تصغر الدنيا أو تكبر البيضة ؟ ، قال : إن الله تبارك وتعالى لا ينسب إلى العجز ، والذي سألتني لا يكون(1) .
فمع أنه لا سبيل للعجز إلى ذات الله المقدّسة ، إلاّ أن التساؤل عن قدرة الله على فعل محال تساؤل غير معقول ولا معنى له .
إن المؤمن الممتليء قلبه بالإيمان بالله وحبه لا يجد نفسه خائباً آيساً وحيداً ، بل لا يقدم على أيّ عمل إلاّ مع وعي كامل وهو يرى نفسه تحت رعهاية تلك القدرة العظيمة الإلهية التي تستطيع أن تنصره في كل المشاكل والأمور .
إن من عرف الله وعلم أن يتمتع بتأييده يتصف بالصبر والمقاومة أمام الصعوبات ولا يرى المشاكل إلاّ كزبد على سطح المياه يزول بسرعة ; وكل نار تتأجج حوله من المشاكل فإنه سيخرج منها كزبر الحديد أقوى وأصلب .
يحسّ بفضل الله وعنايته في جميع مراحل المشاكل ، وهذا الإحساس هو أساس سعيه ومحاولاته ، فلا يجد أيّ مانع في طريقه حتى خيبة بعض آماله فإنها لا تستتبع استسلامه للمشكلات ، بل يتابع هدفه حتى الظفر التام بمثابرة في العمل وإخلاص في النية .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بحار الأنوار ج 3 ص 143 .
إن المؤمن بالله يعلم جيداً أن : ( سيعه سوف يرى * ثم يجزاه الجزاء الأوفى ) وأن النصر للمؤمنين ولعبادالله الصالحين ، وأن الله يأخذ بأيدي المظلومين الذين لا يجدون لهم ملجأ إلّا الله ، ويصل بهم إلى أوج العزة والعظمة ، وقد يرغم أنوف الأعزة الطغاة الظالمين الذين لا يفكرون في شيء سوى القدرة والسلطان ، والذين لا يعترفون للإِنسان بأيّ ثمن .
ما أكثر من سقط من هؤلاء الجبابرة في هوة الظلام ، على مدى التاريخ البشري ، سقطوا في أمواج الذلة وهلكوا .
كلنا يعلم شيئاً عن قصص أنبياء الله الذين هم نماذج كاملة لكل القيم الإِنسانية ، وكيف قاموا بوجه القوى المتحالفة أمامهم ، وذلك لإِنقاذ الناس وإرشادهم وتجديد بناء المجتمع وسوقه نحو الأهداف السامية ، هؤلاء الذين كانوا أول من حمل مشعل الثورة على رؤوس أهل الشرك والضلال ، وقد كانت لدعوتهم آثار أثرت في صورة ومسيرة التأريخ ج وأسست أساس التوحيد والفضائل بجميع أبعادها وكل جوانبها .
فهل لأحد أن ينكر دور الإِيمان والوحي في مساعيهم التي لم تكن تعرف الكلل والملل ؟ ! لنفكر إلى أي درجة يستطيع أن يصبر الإِنسان ويبدي من نفسه قوة الإِرادة ؟ .
بمرور عابر على تأريخهم الفاخر نلمس إخلاصهم وصفاء ضمائرهم ورأفتهم ورحمتهم بالإِنسان والإِنسانية ، وأن سر خلودهم هو أنهم لم يكونوا يفكرون في أنفسهم لحظة واحدة بل كانوا قد جعلوا حياتهم وقفاً لإِرشاد الناس بكل إخلاص ، فوهب الله لهم بذلك صفة الأبدية والخلود .