يوسف بن يعقوب عليهما السلام
تنزيه يوسف عن الصبر على الاستعباد :
مسألة : فان قيل : كيف صبر يوسف عليه السلام على العبودية ، ولم لم ينكرها ويبرأ من الرزق ، وكيف يجوز على النبي الصبر على ان يستعبد ويسترق ؟
( الجواب ) قيل له : إن يوسف عليه السلام في تلك الحال لم يكن نبيا على ما قاله كثير من الناس ، ولما خاف على نفسه القتل جاز ان يصبر على الاسترقاق . ومن ذهب إلى هذا الوجه يتناول قوله تعالى : ( واوحينا اليه لتنبئنهم بامرهم هذا وهم لا يشعرون ) ( 1 ) . على ان الوحي لم يكن في تلك الحال ، بل كان في غيرها . ويصرف ذلك إلى الحال المستقبلة المجمع على انه كان فيها نبيا . ووجه آخر : وهو أن الله تعالى لا يمتنع ان يكون امره بكتمان امره والصبر على مشقة العبودية امتحانا وتشديدا في التكليف ، كما امتحن ابويه ابراهيم واسحق عليهما السلام ، أحدهما بنمرود ، والآخر بالذبح . ووجه آخر : وهو انه يجوز ان يكون قد خبرهم بأنه غير عبد ، وأنكر عليهم ما فعلوا من استرقاقه ، الا أنهم لم يسمعوا منه ولا اصغوا إلى قوله ، وإن لم ينقل ذلك . فليس كل ما جرى في تلك الازمان قد اتصل بنا . ووجه آخر : وهو أن قوما قالوا انه خاف القتل ، فكتم أمر نبوته وصبر على العبودية . وهذا جواب فاسد لان النبي ( ع ) لا يجوز ان يكتم ما ارسل به خوفا من القتل ، لانه يعلم ان الله تعالى لم يبعثه للاداء إلا وهو عاصم له من القتل حتى يقع الاداء وتسمع الدعوة ، وإلا لكان ذلك نقضا للغرض .
( مسألة ) : فإن قيل : فما تأويل قوله تعالى حاكيا عن يوسف عليه السلام وامرأة العزيز ( ولقد همت به وهم بها لولا ان رآى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء انه من عبادنا المخلصين ) ( 2 ) .
( الجواب ) : ان الهم في اللغة ينقسم إلى وجوه : منها العزم على الفعل كقوله تعالى : ( إذ هم قوم ان يبسطوا اليكم ايديهم فكف ايديهم عنكم ) ( 3 ) اي ارادوا ذلك وعزموا عليه . قال الشاعر :
هممت ولم افعل وكدت وليتني * تركت على عثمان تبكي حلائله ومثله قول الخنساء :
وفضل مرداسا على الناس حلمه * وان كل هم همه فهو فاعله ومثله قول حاتم الطائي :
ولله صلعوك يساور همه * ويمضي على الايام والدهر مقدما ومن وجوه الهم ، خطور الشئ بالبال وان لم يقع العزم عليه . قال الله تعالى : ( اذ همت طائفتان منكم ان تفشلا والله وليهما ) ( 3 ) وانما اراد تعالى ان الفشل خطر ببالهم ، ولو كان الهم في هذا المكان عزما ، لما كان الله تعالى ولا هما لانه تعالى يقول : ( ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال او متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ) ( 4 ) وارادة المعصية ، والعزم عليها معصية . وقد تجاوز ذلك قوم حتى قالوا ان العزم على الكبيرة كبيرة وعلى الصغيرة صغيرة وعلى الكفر كفر . ولا يجوز ان يكون الله تعالى ولي من عزم على الفرار عن نصرة نبيه صلى الله عليه وآله واسلامه إلى السوء ، ومما يشهد ايضا بذلك قول كعب بن زهير :
فكم فيهم من سيد متوسع * ومن فاعل للخير ان هم او عزم ففرق كما ترى بين الهم والعزم . وظاهر التفرقة قد يقتضي اختلاف المعنى . ومن وجوه الهم ان يستعمل بمعنى المقاربة ، فيقولون هم بكذا وكذا اي كاد ان يفعله . قال ذو الرمة :
أقول لمسعود بجرعاء مالك * وقد هم دمعي ان يلج اوائله والدمع لا يجوز عليه العزم ، وإنما اراد انه كاد وقرب . وقال ابوالاسود الدؤلي :
وكنت متى تهمم يمينك مرة * لتفعل خيرا تقتفيها شمالكا وعلى هذا خرج قوله تعالى جدارا يريد ان ينقض اي يكاد . قال الحارثي : يريد الرمح صدر أبي براء * ويرغب عن دماء بني عقيل ومن وجوه الهم الشهوة وميل الطباع ، لان الانسان قد يقول فيما يشتهيه ويميل طبعه اليه : ليس هذا من همي وهذا أهم الاشياء الي . والتجوز باستعمال الهمة مكان الشهوة ظاهر في اللغة . وقد روي هذا التأويل عن الحسن البصري قال : أما همها فكان اخبث الهم ، واما همه ( ع ) فما طبع عليه الرجال من شهوة النساء . فاذا كانت وجوه هذه اللفظة مختلفة متسعة على ما ذكرناه نفينا عن نبي الله ما لا يليق به وهو العزم على القبيح ، واجزنا باقي الوجوه لان كل واحد منها يليق بحاله .
فإن قيل : فهل يسوغ حمل الهم في الآية على العزم والارادة ؟ ويكون مع ذلك لها وجه صحيح يليق بالنبي ( ع ) ؟ .
قلنا : نعم ، متى حملنا الهم ههنا على العزم ، جاز أن نعلقه بغير القبيح ويجعله متناولا لضربها أو دفعها عن نفسه ، كما يقول القائل : قد كنت هممت بفلان ، أي بأن اوقع به ضربا او مكروها .
تنزيه يوسف عن العزم على المعصية :
فإن قيل : فأي فائدة على هذا التأويل في قوله تعالى : ( لولا ان رأى برهان ربه ) والدفع لها عن نفسه طاعة لا يصرف البرهان عنها ؟ .
قلنا : يجوز ان يكون لما هم بدفعها وضربها ، اراه الله تعالى برهانا على انه ان اقدم على من هم به اهلكه اهلها وقتلوه ، أو أنها تدعي عليه المراودة على القبيح ، وتقذفه بأنه دعاها اليه وضربها لامتناعها منه ، فأخبر الله تعالى أنه صرف بالبرهان عنه السوء والفحشاء اللذين هما القتل والمكروه ، او ظن القبيح به او اعتقاده فيه .
فإن قيل : هذا الجواب يقضي لفظة ( لولا ) يتقدمها في ترتيب الكلام ، ويكون التقدير لولا أن رأى برهان ربه لهم بضربها ، وتقدم جواب ( لولا ) قبيح ، أو يقتضي أن يكون ( لولا ) بغير جواب .
قلنا : اما جواب ( لولا ) فجائز مستعمل ، وسنذكر ذلك فيما نستأنفه من الكلام عند الجواب المختص بذلك ، ونحن غير مفتقرين اليه في جوابنا هذا ، لان العزم على الضرب والهم به قد وقع ، إلا انه انصرف عنه بالبرهان الذى رآه ، ويكون تقدير الكلام وتلخيصه : " ولقد همت به وهم بدفعها لولا أن رأى برهان ربه لفعل ذلك " . فالجواب المتعلق بلولا محذوف في الكلام ، كما يحذف الجواب في قوله تعالى : ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته وان الله رؤوف رحيم ) ، معناها : ولولا فضل الله عليكم ورحمته ، وأن الله رؤوف رحيم لهلكتم ، وملثه ( كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ) ( 6 ) معناها لو تعلمون علم اليقين لم تتنافسوا في الدنيا ولم تحرصوا على حطامها . وقال امروء القيس :
فلو انها نفس تموت سوية * ولكنها نفس تساقط انفسا اراد فلو أنها نفس تموت سوية لتقضت وفنيت ، فحذف الجواب تعويلا على ان الكلام يقتضيه ويتعلق به . على أن من حمل هذه الاية على الوجه الذى لا يليق بنبى الله ، وأضاف العزم على المعصية اليه ، لا بد له من تقدير جواب محذوف . ويكون التقدير على تأويله : ولقد همت بالزنى وهم بمثله ، لولا أن رأى برهان ربه لفعله .
فان قيل : متى علقتم العزم في الاية والهم بالضرب او الدفع كان ذلك مخالفا للظاهر . قلنا : ليس الامر على ما ظنه هذا السائل ، لان الهم في هذه الاية متعلق بما لايصح ان يتعلق به العزم والارادة على الحقيقة ، لانه تعالى قال : ( ولقد همت به وهم بها ) فتعلق الهم في ظاهر الكلام بذواتهما ، والذات الموجودة الباقية لايصح ان تراد ويعزم عليها ، فلا بد من تقدير امر محذوف يتعلق العزم به مما يرجع اليهما ويختصان به ورجوع الضرب والدفع اليهما كرجوع ركوب الفاحشة فلا ظاهر للكلام يقتضي خلاف ما ذكرناه ، ألا ترى ان القائل اذا قال : قد هممت بفلان فظاهر الكلام يقتضي تعلق عزمه وهمه إلى أمر يرجع إلى فلان ، وليس بعض الافعال بذلك اولى من بعض ، فقد يجوز ان يريد انه هم بقصده او باكرامه او بإهانته أو غير ذلك من ضروب الافعال ، على انه لو كان للكلام ظاهر يقتضى خلاف ما ذكرناه ، وان كنا قد بينا ان الامر بخلاف ذلك لجاز ان نعدل عنه ونحمله على خلاف الظاهر ، للدليل العقلي الدال على تنزيه الانبياء عليهم السلام عن القبائح .
فإن قيل : الكلام في قوله تعالى : ( ولقد همت به وهم بها ) خرج مخرجا واحدا . فلم جعلتم همها به متعلقا بالقبح ؟ وهمه بها متعلقا بالضرب والدفع على ما ذكرتم ؟
قلنا : أما الظاهر ، فلا يدل الامر الذي تعلق به الهم والعزم منهما جميعا ، وإنما اثبتنا همها به متعلقا بالقبيح لشهادة الكتاب ، والآثار بذلك . وهى ممن يجوز عليها فعل القبيح ، ولم يؤمن دليل ذلك من جوازه عليها كما أمن ذلك فيه ( ع ) ، والموضع إلى يشهد بذلك من الكتاب قوله تعالى : ( وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين ) ( 7 ) وقوله تعالى : ( وراودته التى هو في بيتها عن نفسه ) ( 8 ) وقوله تعالى حاكيا عنها ( الآن حصحص الحق اناراودته عن نفسه وانه لمن الصادقين ) ( 9 ) وفى موضع آخر : ( قالت فذلكن الذى لمتننى فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ) . ( 10 ) والآثار واردة باطباق مفسري القرآن ومتأوليه ، على أنها همت بالمعصية والفاحشة ، وأما هو عليه السلام فقد تقدم من الادلة العقلية ما يدل على انه لا يجوز ان يفعل القبيح ولا يعزم عليه . وقد استقصينا ذلك في صدرهذا الكتاب . فأما ما يدل من القرآن ، على انه عليه السلام ما هم بالفاحشة ولا عزم عليها فمواضع كثيرة منها قوله تعالى : ( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ) ( 11 ) وقوله تعالى ( ذلك ليعلم انى لم اخنه بالغيب ) ( 12 ) ولو كان الامر كما قال الجهال من جلوسه منها مجلس الخائن وانتهائه إلى حل السراويل وحوشي من ذلك ، لم يكن السوء والفحشاء منصرفين عنه ، ولكان خائنا بالغيب ، وقوله تعالى حاكيا عنها : ( ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ) ( 13 ) وفي موضع آخر : ( انا راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين ) وقول العزيز لما رأى القميص قد من دبر ( انه من كيدكن ان كيدكن عظيم ) ( 14 ) فنسب الكيد إلى المرأة دونه ، وقوله تعالى حاكيا عن زوجها لما وقف على ان الذنب منها وبراءة يوسف ( ع ) منه : ( يوسف اعرض عن هذا واستغفري لذنبك انك كنت من الخاطئين ) ( 15 ) وعلى مذهبهم الفاسد ان كل واحد منهما مخطئ فيجب ان يستغفر فلم اختصت بالاستغفار دونه ، وقوله تعالى حاكياعنه : ( رب السجن احب الي مما يدعوننى اليه وإلا تصرف عني كيدهن اصب اليهن واكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن انه هو السميع العليم ) ( 16 ) فالاستجابة تؤذن ببراءته من كل سوء ، وتنبئ أنه لو فعل ما ذكروه لكان قد يصرف عنه كيدهن . وقوله تعالى : ( قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء ) ( 17 ) والعزم على المعصية من أكبر السوء ، وقوله تعالى حاكياعن الملك : ( اتونى به استخلصه لنفسي فلما كلمه قال انك اليوم لدينا مكين أمين ) ( 18 ) ولا يقال ذلك فيمن فعل ما ادعوه عليه . فإن قيل : فأي معنى لقول يوسف : ( وما أبرئ نفسي ان النفس لامارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربى غفور رحيم ) ( 19 ) .
قلنا : انما أراد الدعاء والمنازعة والشهوة ولم يرد العزم على المعصية ، وهو لا يبرئ نفسه مما لا تعرى منه طباع البشر . وفى ذلك جواب آخر اعتمده ابوعلى الجبائى واختاره ، وان كان قد سبق اليه جماعة من اهل التأويل وذكروه ، وهو ان هذا الكلام الذي هو " وما ابرئ نفسى إن النفس لامارة بالسوء " إنما هو من كلام المرأة لا من كلام يوسف عليه السلام . واستشهدوا على صحة هذا التأويل بأنه منسوق على الكلام المحكي عن المرأة بلا شك . ألا ترى انه تعالى قال : ( قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق ( 20 ) أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب وان الله لا يهدى كيد الخائنين وماابرئ نفسي ان النفس لامارة بالسوء ) ( 21 ) فنسق الكلام على كلام المرأة وعلى هذا التأويل يكون التبرؤ من الخيانة الذى هو ذلك " ليعلم انى لم اخنه بالغيب " من كلام المرأة لا من كلام يوسف ( ع ) ويكون المكنى عنه في قولها ( انى لم اخنه بالغيب ) هو يوسف ( ع ) دون زوجها ، لان زوجها قد خانته في الحقيقة بالغيب ، وانما ارادت انى لم اخن يوسف ( ع ) وهو غائب في السجن ، ولم أقل فيه لما سئلت عنه وعن قصتى معه الا الحق ، ومن جعل ذلك من كلام يوسف ( ع ) جعله محمولا على انى لم اخن العزيز في زوجته بالغيب ، وهذا الجواب كأنه اشبه بالظاهر ، لان الكلام معه لا ينقطع عن اتساقه وانتظامه .
فإن قيل : فأي معنى لسجنه اذا كان عند القوم متبرئا من المعصية متنزها عن الخيانة
قلنا : قد قيل ان العلة في ذلك الستر على المرأة والتمويه والكتمان لامرها حتى لا تفتضح وينكشف أمرها لكل أحد ، والذى يشهد بذلك قوله تعالى : ( ثم بدا لهم من بعدما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين ) ( 22 ) وجواب آخر في الآية على ان الهم فيها هو العزم ، وهو ان يحمل الكلام على التقديم والتأخير ، ويكون تلخيصه " ولقد همت به ولولا ان رأى برهان ربه لهم بها " ويجرى ذلك مجرى قولهم : قد كنت هلكت لولا ان تداركتك ، وقتلت لولا انى قد خلصتك . والمعنى لولا تداركى لهلكت ولولا تخليصي لقتلت ، وإن لم يكن وقع في هلاك ولا قتل . قال الشاعر :
ولا يدعنى قومى صريخا لحرة * لئن كنت مقتولا ويسلم عامر وقال الآخر :
فلا يدعنى قومى ليوم كريهة * لئن لم اعجل طعنه او اعجل فقدم جواب لئن في البيتين جميعا . وقد استبعد قوم تقديم جواب لولا عليها ، وقالوا لو جاز ذلك لجاز قولهم ، قام زيد لولا عمرو ، وقصدتك لولا بكر . وقد بينا بما اوردناه من الامثلة والشواهد جواز تقديم جواب لولا ، وان القائل قديقول قد كنت قمت لولا كذا وكذا ، وقد كنت قصدتك لولا ان صدنى فلان ، وان لم يقع قيام ولا قصد . وهذا هو الذي يشبه الآية دون ما ذكروه من المثال .
وبعد ، فان في الكلام شرطا وهو قوله تعالى : ( لو لا ان رأى برهان ربه ) ، فكيف يحمل على الاطلاق مع حصول الشرط ؟ فليس لهم ان يجعلوا جواب لولا محذوفا ، لان جعل جوابها موجودا أولى . وليس تقديم جواب لولا بأبعد من حذفه جملة من الكلام . واذا جاز عندهم الحذف لئلا يلزم تقديم الجواب جاز لغيرهم تقديم الجواب حتى لئن لا يلزم الحذف . فإن قيل : فما البرهان الذى رآه يوسف عليه السلام حتى انصرف لاجله عن المعصية ، وهل يصح ان يكون البرهان ما روي من ان الله تعالى اراه صورة ابيه يعقوب ( ع ) عاضا على اصبعه متوعدا له على مقاربة المعصية ، او يكون ما روي من ان الملائكة نادته بالنهي والزجر في الحال فأنزجر . قلنا : ليس يجوز ان يكون البرهان الذي رآه فانزجر به عن المصعية ما ظنه العامة من الامرين اللذين ذكرناهما ، لان ذلك يفضي إلى الالجاء وينافي التكليف ويضاد المحنة ، ولو كان الامر على ما ظنوه لما كان يوسف عليه السلام يستحق بتنزيهه عما دعته اليه المرأة من المعصية مدحا ولا ثوابا ، وهذا من اقبح القول فيه ( ع ) ، لان الله تعالى قد مدحه بالامتناع عن المعصية واثنى عليه بذلك فقال تعالى : ( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء انه من عبادنا المخلصين ) ، فأما البرهان ، فيحتمل ان يكون لطفا لطف الله تعالى به في تلك الحال او قبلها ، فاختار عنده الامتناع من المعاصي والتنزه عنها ، وهوالذي يقتضى كونه معصوما لان العصمة هي ما اختير ( ما اختار ) عنده من الالطاف ، التنزه عن القيح والامتناع من فعله . ويجوز ان يكون معنى الرؤية ههنا بمعنى العلم ، كما يجوز ان يكون بمعنى الادراك ، لان كلا الوجهين يحتمله القول .
وذكر آخرون : ان البرهان ههنا انما هو دلالة الله تعالى ليوسف ( ع ) على تحريم ذلك الفعل ، وعلى ان من فعله استحق العقاب لان ذلك ايضا صارف عن الفعل ومقو لدواعى الامتناع منه وهذا ايضا جايز .
تنزيه يوسف عن محبة المعصية :
( مسألة ) : فإن قيل : كيف يجوز ان يقول يوسف ( ع ) : ( رب السجن احب الي مما يدعوننى اليه ) ، ونحن نعلم ان سجنهم له معصية ومحنة ، كما ان ما دعوه اليه معصية ، ومحبة المعصية عند كم لا تكون الا قبيحة . ( الجواب ) : قلنا : في تأويل هذه الآية جوابان : احدهما : انه اراد بقوله ( احب الي ) اخف على واسهل ، ولم يرد المحبة التي هي الارادة على الحقيقة . وهذا يجري مجرى ان يخير أحدنا بين الفعلين ينزلان به ويكرههما ويشقان ( 23 ) عليه ، فيقول في الجواب كذا احب إلى ، وانما يريد ما ذكرناه من السهولة والخفة . والوجه الآخر : انه اراد ان توطينى نفسى وتصبيرى لها على السجن احب الي من مواقعة المعصية .
فان قيل : هذا خلاف الظاهر لانه مطلق وقد اضمرتم فيه .
قلنا : لابد من مخالفة الظاهر ، لان السجن نفسه لا يجوز ان يكون مرادا ليوسف ( ع ) ، وكيف يريده وانما السجن البنيان المخصوص ، وإنما يكون الكلام ظاهره يخالف ما قلناه ، اذا قرأ : رب السجن ( بفتح السين ) وان كانت هذه القراءة ايضا محتملة للمعنى الذي ذكرناه ، فكأنه أراد ان سجني نفسى عن المعصية احب إلى من مواقعتها . فرجع معنى السجن إلى فعله دون افعالهم ، وإذا كان الامر على ما ذكرناه ، فليس للمخالف ان يضمر في الكلام ان كوني في السجن وجلوسي فيه احب الي ، بأولى ممن اضمر ما ذكرنا ، لان كلا الامرين يعود إلى السجن ويتعلق به .
فان قيل : كيف يقول السجن احب الي مما يدعونني اليه وهو لا يحب ما دعوه اليه على وجه من الوجوه ، ومن شأن هذه اللفظة ان تستعمل بين شيئين مشتركين في معناها .
قلنا : قد تستعمل هذه اللفظة فيما لا اشتراك فيه ، ألا ترى ان من خير بين ما يكرهه وما يحبه ساغ له ان يقول : هذا احب الي من هذا ، وان يخير هذا احب الي من هذا ، إذا كان في محبته ، وإنما سوغ ذلك على احد الوجهين دون الآخر ، لان المخير بين الشيئين في الاصل لا يخير بينهما إلا وهما مرادان له او مما يصح ان يريدهما . فموضوع التخيير يقتضى ذلك ، وان حصل فيما يخالف أصل موضوعه . ومن قال وقد خير بين شيئين لا يحب احدهما : هذا أحب الي ، انما يكون مجيبا بما يقتضيه اصل الموضوع في التخيير ، ويقارب ذلك قوله تعالى ( قل اذلك خير ام جنة الخلد ) ( 24 ) ونحن نعلم انه لا خير في العقاب ، وانما حسن القول لوقوعه التقريع والتوبيخ على اختيار المعاصى على الطاعات . وانهم ما أثروها إلا لاعتقادهم ان فيها خيرا ونفعا . فقيل أذلك خير على ما تظنوه وتعتقدونه أم كذا وكذا ، وقد قال قوم في قوله تعالى : ( أذلك خير ) : أنه انما حسن لا شتراك الحالتين في باب المنزلة ، وان لم يشتركا في الخير والنفع كما قال تعالى : ( خير مستقرا وأحسن مقيلا ) ( 25 ) ومثل هذا المعنى يتأتى في قوله : رب السجن أحب إلي ، لان الامرين يعني : المعصية ودخول السجن ، مشتركان في أن لكل منها داعيا وعليه باعثا ، وان لم يكن مشتركا في تناول المحبة ، فجعل اشتراكهما في دواعى المحبة اشتراكا في المحبة نفسها ، وأجرى اللفظ على ذلك .
فان قيل : كيف يقول وإلا تصرف عنى كيدهن اصب إليهن واكن من الجاهلين ؟ وعندكم ان امتناع القبيح منه ( ع ) ليس مشروط بارتفاع الكيد عنه بل هو ممتنع منه وان وقع الكيد .
قلنا أنما أراد يوسف ( ع ) انك متى لم تلطف بي لما تدعوني إلى مجانبة الفاحشة وتثبتني على تركها صبوت ، وهذا منه انقطاع إلى الله تعالى وتسليم لامره ، وانه لولا معونته ولطفه ما نجي من الكيد ، والكلام وان تعلق في الظاهر بالكيد نفسه فقال ( ع ) ( والا تصرف عنى كيدهن ) فالمراد به الا تصرف عني ضرر كيدهن لانهن انما أجرين بالكيد إلى مساعدته لهن على المعصية ، فإذا عصم منها ولطف له في الانصراف عنها كان الكيد مصروفا عنه من حيث لم يقع ضرره ، وما اجري به اليه ، ولهذا يقال لمن اجرى بكلامه إلى غرض لم يقع ما قلت شيئا . ولمن فعل ما لا تأثير له : ما فعلت شيئا . وهذا بين والحمد الله تعالى .
تنزيه يوسف ( ع ) عن التعويل على غير الله :
( مسألة ) : فإن قيل : كيف يجوز على يوسف عليه السلام وهو نبي مرسل ان يعول في اخراجه من السجن على غير الله تعالى ويتخذ سواه وكيلا في ذلك ، في قوله للذي كان معه : ( اذكرنى عند ربك ) حتى وردت الروايات ان سبب طول حبسه ( ع ) انما كان لانه عول على غير الله تعالى ؟ .
( الجواب ) : قلنا : ان سجنه ( ع ) إذا كان قبيحا ومنكرا فعليه ان يتوصل إلى ازالته بكل وجه وسبب ، ويتشبث اليه بكل ما يظن أنه يزيله عنه ، ويجمع فيه بين الاسباب المختلفة ، فلا يمتنع على هذا ان يضم إلى دعائه الله تعالى ورغبته اليه في خلاصه من السجن ان يقول لبعض من يظن انه سيؤدي قوله : ( اذكرنى ونبه على خلاصي ) وانما القبيح ان يدع التوكل ويقتصر على غيره فأما ان يجمع بين التوكل والاخذ بالحزم فهو الصواب الذي يقتضيه الدين والعقل . ويمكن ايضا ان يكون الله تعالى اوحى اليه بذلك وأمره بأن يقول للرجل ما قاله .
تنزيه يوسف عن إلحاق الاذى بأبيه :
( مسألة ) : فإن قيل : فما الوجه في طلب يوسف ( ع ) اخاه من إخوته ثم حبسه له عن الرجوع إلى ابيه مع علمه بما يلحقه عليه من الحزن ، وهل هذا الا اضرارا به وبأبيه ؟ .
( الجواب ) : قلنا : الوجه في ذلك ظاهر لان يوسف ( ع ) لم يفعل ذلك إلا بوحي من الله اليه ، وذلك امتحان منه لنبيه يعقوب عليه السلام وابتلاء لصبره ، وتعريض للعالي من منزلة الثواب ، ونظير لك امتحانه له ( ع ) بأن صرف عنه خبر يوسف ( ع ) طول تلك المدة حتى ذهب بالبكاء عليه ، وإنما امرهم يوسف ( ع ) بأن يلطفوا بأبيهم في ارساله من غير ان يكذبوه ويخدعوه .
فان قيل : أليس قد قالوا سنراود عنه اباه وإنا لفاعلون ، والمراودة هي الخداع والمكر .
قلنا : ليس المراودة ما ظننتم ، بل هى التلطف والتسبب والاحتيال ، وقد يكون ذلك من جهة الصدق والكذب جميعا ، فإنما امرهم بفعله على احسن الوجوه فإن خالفوه فلا لوم إلا عليهم .
تنزيه يوسف عن الكذب وتهمة اخوته :
( مسألة ) : فان قيل : فما معنى جعل السقاية في رحل اخيه وذلك تعريض منه لاخيه بالتهمة ، ثم ان اذن مؤذنه ونادى بأنهم سارقون ولم يسرقوا على الحقيقة ؟ .
( الجواب ) : قلنا : أما جعله السقاية في رحل اخيه ، فالغرض فيه التسبب إلى احتباس اخيه عنده ، ويجوز ان يكون ذلك بأمر الله تعالى ، وقد روى أنه ( ع ) اعلم اخاه بذلك ليجعله طريقا إلى التمسك به ، فقد خرج على هذا القول من ان يكون مدخلا على اخيه غما وترويعا بما جعله من السقاية في رحله ، وليس بمعرض له للتهمة بالسرقة ، لان وجود السقاية في رحله يحتمل وجوها كثيرة غير السرقة ، وليس يجب صرفه اليها الا بدليل . وعلى من صرف ذلك إلى السرقة من غير طريق اللوم في تقصيره وتسرعه ، ولا ظاهر ايضا لوجود السقاية في الرحل يقتضي السرقة ، لان الاشتراك في ذلك قائم ، وقرب هذا الفعل من سائر الوجوه التى يحتملها على حد واحد . فأما نداء المنادي بأنهم سارقون فلم يكن بأمره ( ع ) ، وكيف يأمر بالكذب وإنما نادى بذلك احد القوم لما فقدوا الصواع ، وسبق إلى قلوبهم انهم سرقوه ، وقد قيل ان المراد بأنهم سارقون انهم سرقوا يوسف ( ع ) من ابيه واوهموه انهم يحفظونه فضيعوه ، فالمنادي صادق على هذا الوجه ، ولا يمتنع ان يكون النداء بإذنه ( ع ) . غير ان ظاهر القصة واتصال الكلام بعضه ببعض يقتضى ان يكون المراد بالسرقة سرقة الصواع الذي تقدم ذكره واحسوا فقده ، وقد قيل ان الكلام خارج مخرج الاستفهام ، وان كان ظاهره الخبر كأنه قال : ( إنكم لسارقون ) فاسقط الف الاستفهام كما سقطت في مواضع قد تقدم ذكرها في قصة ابراهيم ( ع ) . وهذا الوجه فيه بعض الضعف لان الف الاستفهام لا تكاد تسقط إلا في موضع يكون على سقوطها دلالة في الكلام ، مثل قول الشاعر :
كذبتك عينك أم رأيت بواسط * غلس الظلام من الرباب خيالا
تنزيه يوسف ( ع ) عن تعمده بعدم تسكين نفس أبيه :
( مسألة ) : فان قيل : فما بال يوسف ( ع ) لم يعلم اباه بخبره لتسكن نفسه ويزول وجده وهمه مع علمه بشدة تحرقه وعظم قلقه ؟ .
( الجواب ) : قلنا في ذلك وجهان : احدهما : ان ذلك كان له ممكنا وكان عليه قادرا ، فاوحى الله تعالى اليه بأن يعدل عن اطلاعه على خبره تشديدا للمحنة عليه وتعريضا للمنزلة الرفيعة في البلوى وله تعالى ان يصعب التكليف وان يسهله . والوجه الآخر : انه جائز أن يكون ( ع ) لم يتمكن من ذلك ولا قدر عليه فلذلك عدل عنه .
تنزيه يوسف ( ع ) عن الرضا بالسجود له :
( مسألة ) : فان قيل : فما معنى قوله تعالى : ( ورفع ابويه على العرش وخروا له سجدا ) ( 26 ) وكيف يرضى بأن يسجدوا له والسجود لا يكون إلا لله تعالى ؟ .
( الجواب ) : قلنا في ذلك وجوه :
منها : ان يكون تعالى لم يرد بقوله انهم سجدوا له إلى جهته ، بل سجدوالله تعالى من أجله ، لانه تعالى جمع بينهم وبينه ، كما يقول القائل : انما صليت لوصولى إلى اهلي ، وصمت لشفائى من مرضي . وإنما يريد من اجل ذلك . فان قيل : هذا التأويل يفسده قوله تعالى : ( يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا ) ( 27 )
قلنا : ليس هذا التأويل بمانع من مطابقة الرؤيا المتقدمة في المعنى دون الصورة ، لانه ( ع ) لما رأى سجود الكواكب والقمرين له كان تأويل ذلك بلوغه أرفع المنازل وأعلى الدرجات ونيله أمانيه واغراضه ، فلما اجتمع مع أبويه ورأياه في الحال الرفيعة العالية ونال ما كان يتمناه من اجتماع الشمل ، كان ذلك مصدقا لرؤياه المتقدمة . فلذلك قال : ( هذا تأويل رؤياى من قبل ) . فلا بد لمن ذهب إلى أنهم سجدوا له على الحقيقة من أن يجعل ذلك مطابقا للرؤيا المتقدمة في المعنى دون الصورة ، لانه ما كان رأى في منامه ان اخوته وأبويه سجدوا له ، ولا رأى في يقظته الكواكب تسجد له . فقد صح ان التطابق في المعنى دون الصورة .
ومنها : أن يكون السجود لله تعالى ، غير أنه كان إلى جهة يوسف ( ع ) ونحوه ، كما يقال : صلى فلان إلى القبلة وللقبلة . وهذا لا يخرج يوسف ( ع ) من التعظيم ، ألا ترى أن القبلة معظمة وإن كان السجود لله تعالى نحوها .
ومنها : أن السجود ليس يكون بمجرده عبادة حتى يضاف إليه من الافعال ما يكون عبادة ، فلا يمتنع أن يكون سجدوا له على سبيل التحية والاعظام والاكرام ، ولا يكون ذلك منكرا لانه لم يقع على وجه العبادة التي يختص بها القديم تعالى وكل هذا واضح .
تنزيه يوسف ( ع ) عن طاعة الشيطان :
( مسألة ) : فان قيل : فما معنى قوله تعالى حكاية عنه ( ع ) من بعد ان نزغ الشيطان ( 28 ) بيني وبين اخوتي ، وهذا يقتضي ان يكون قد اطاع الشيطان ونفذ فيه كيده ونزغه ؟ .
( الجواب ) : قلنا هذه الاضافة لا يقتضي ما تضمنه السؤال ، بل النزغ والقبيح كان منهم اليه لا منه اليهم . ويجري قول القائل : جرى بيني وبين فلان شر ، وإن كان من احدهما ولم يشتركا فيه .
( مسألة ) : فان قيل : فما معنى قوله عليه السلام للعزيز ( اجعلني على خزائن الارض اني حفيظ عليم ) ( 29 ) وكيف يجوز ان يطلب الولاية من قبل الظالمين .
( الجواب ) : قلنا انما التمس تمكينه من خزائن الارض ليحكم فيها بالعدل وليصرفها إلى مستحقها ، وكان ذلك له من غير ولاية . وإنما سئل الولاية للتمكن من الحق الذي له ان يفعله . ولمن لا يتمكن من اقامة الحق أو الامر بالمعروف ان يتسبب اليه ويتصل إلى فعله ، فلا لوم في ذلك على يوسف عليه السلام ولا حرج .
( 1 ) يوسف الآية 15
( 2 ) يوسف الآية 24
( 3 ) المائدة الآية 11
( 4 ) آل عمران 122
( 5 ) الانفال الآية 16
( 6 ) التكاثر 5 - 6
( 7 ) يوسف الاية 30
( 8 ) يوسف الاية 23
( 9 ) يوسف الاية 51
( 10 ) يوسف الاية 32
( 11 ) يوسف 24
( 12 ) يوسف 52
( 13 ) يوسف 32
( 14 ) يوسف 28
( 15 ) يوسف 29
( 16 ) يوسف 33 - 34
( 17 ) يوسف 51
( 18 ) يوسف 54
( 19 ) يوسف 53
( 20 ) حصحص الحق : بان بعد كتمانه
( 21 ) يوسف الاية 51 - 53
( 22 ) يوسف الاية 35
( 23 ) ويشقان : بمعنى يثقلان
( 24 ) الفرقان الآية 15
( 25 ) الفرقان 24
( 26 ) يوسف الآية 100
( 27 ) يوسف الآية 100
( 28 ) يوسف الآية 55