عربي
Tuesday 30th of April 2024
0
نفر 0

الجبر والتفويض

الجبر لغة: الإكراه والإرغام والقهر، واصطلاحاً: هو إكراه وإرغام من قبل الله سبحانه لعباده على فعل الأشياء حسنة كانت أم قبيحة من دون أية إرادة للرفض من قبل العباد.

أما التفويض لغةً: تقول تفويضاً إليه الأمر أي صيره إليه وجعله الحاكم فيه.

واصطلاحاً: إن الله تعالى جعل أفعال العباد حرةً مطلقة يفعلون ما يشاؤون دون أن تتدخل إرادة الله سبحانه في أعمالهم الخيّرة أو الشريرة فهم مستقلون بالقرار والإرادة تماماً وعلى ضوء ما تقدم اختلفت المدارس الفكرية اثباتاً ونفياً لأحد الجانبين فذهبت مدرسة الجبرية إلى أن الله سبحانه هو الخالق المدبر لهذا الكون فكل الأفعال مصدرها منه حيث أنه خلق كل الأشياء الخيرة والشريرة وخلق الكفر والإيمان وكل مظاهر الحياة ومنها أفعال العباد فليس للعباد دور في أعمالهم وإنما هي أعمال الله بكافة أنواعها.

وقدموا مجموعة استدلالات على مذهبهم هذا منها:


أ
- إن الله يعلم بما كان وما سيكون من أفعال عباده وكل ما في علمه سيقع حتماً وواقعاً فهو سبحانه يعلم بوجود الكفار سابقاً ولاحقاً فلابد إذن أن يقع الكفر ويستحيل على الكافر أن يغيّر نهجه إلى الإيمان لأن الفرض واقع في علم الله وتغيّره يجعلنا نصفه سبحانه وتعالى بالجهل وهذا مستحيل.


ب
- إن إرادة الله عز وجل هي الغالبة وإليها ينتهي الأمر كله فلو أراد الله للإنسان الإيمان وأراد الإنسان لنفسه الكفر والضلال ففي مجال التحقيق لو انتصرت إرادة الإنسان الكافر فكفر هل نقول إن إرادة الله مغلوبة على أمرها؟ أم الأفضل أن نقول أن هذه الإرادة النابعة من الإنسان نحو كفره هي من عند الله فالله هو الغالب بإرادته والإنسان مجبر لتطبيق إرادة الله أي إن الإنسان مجبر على أفعاله ومضطر إليها وبمعنى آخر إما أن نجرد الله من الإرادة الدائمة وإما أن تكون إرادته هي النافذة حتى لو سقطنا في فخ عدم التنزيه. ومن هنا تفسّر بعض الآيات الكريمة على ظواهرها ليدعموا الفكرة الجبرية مثلاً قوله تعالى في سورة النساء، الآية 78: (وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله) وفي سورة إبراهيم، الآية 4: (فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء).

فإذن الهداية والضلالة والحسنات والسيئات كلها من عند الله سبحانه! ولا دور للإنسان في ذلك فقد قال سبحانه:

(ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم). [سورة هود: الآية 34].

ومقابل مدرسة الجبرية هنالك مدرسة المفوضة التي تقول بالاختيار على عكس الجبر حيث أن الله سبحانه رفع الحظر عن الناس وتركهم في مطلق الحرية في أعمالهم خيراً أم شراً هذا الترك والتفويض للإنسان بعيد عن إرادة الله المتمثلة في سلطانه وأوامره ونواهيه.

فالقرآن الكريم يقول: (ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكّاها، وقد خاب من دساها). [سورة الشمس، الآيات 7-10].

وقوله تعالى: (إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً...). [سورة الإنسان، الآية 3].

فالإنسان هو محور الإرادة في تحقيق الخير أو الشر.

ومن الطبيعي أن أدلة المدرسة المفوّضة كانت ضعيفة وربما أضعف من أدلة المدرسة الجبرية. لذلك نلاحظ أن التفويض رأي باطل عقلاً وشرعاً.

أما عقلاً فلا يعدو الأمر بين ما يلي:


أ - إما أن الله سبحانه علم أن المخلوقات بإمكانها أن تدير نفسها مستقلة تماماً وهذه الإرادة الذاتية توصلها إلى الكمال المنشود، وهذا العلم المفترض لحدّ الآن لا نرى تصديقه أو مصاديقه على الأرض فإما أن نقول إن افتراضنا باطل وهو الصحيح وإما أن نصفه سبحانه بالجهل - والعياذ بالله - حيث يفوض الأمر لعباده المحتاجين لقوانينه فبالنتيجة نرى العكس حيث ندرك بالوجدان أن الإنسان بحاجة ماسة إلى أوامر الله ونواهيه دوماً ولا يستطيع أن يستغني عنها أبداً.


ب - وإما أن نقول إنه سبحانه عاجز عن تدبير أمورهم وإدارتهم لذلك فوّض الأمر لهم وهذا العجز لا يليق بمقامه تعالى وليس من صفات الأزلي - كما قلنا سابقاً -.


ج- المسلمون بالإجماع يؤمنون بان الرسالة الإسلامية شاملة للنواهي والأوامر الإلهية والله سبحانه طلب من العباد إطاعة أوامره وتطبيقها والابتعاد عن نواهيه وسيجزي العباد على أعمالهم قال سبحانه:

(وسيجزي الله الشاكرين). [سورة آل عمران: الآية 144].

(لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد). [سورة إبراهيم: الآية 7].

فإذن المسألة خالية من التفويض المطلق للعباد.

لذلك حينما يسأل الحسن بن علي الوشا الإمام الرضا (عليه السلام): الله فوض الأمر إلى العباد فقال (عليه السلام): الله أعزّ من ذلك قلت: فأجبرهم على المعاصي. قال: الله أعدل واحكم من ذلك ثم قال: قال الله: (يا بن آدم أنا أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني عملت بالمعاصي بقوتي التي جعلتها فيك).

وعن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) يسأله أحد أصحابه بعد أن سمع لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين قال: وما أمر بين أمرين؟

قال (عليه السلام): (مثل ذلك مثل رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينته فتركته ففعل تلك المعصية فليس حيث لم يقبل منك فتركته كنت الذي أمرته بالمعصية) والإمام الرضا (عليه السلام) يقول: (... فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن الله عنها صاداً ولا منها مانعاً وإن ائتمروا بمعصية الله فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل وإن لم يحل وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه).

فلو أعطيت لإنسان سلاحاً يدافع عن نفسه وعلّمته الطريقة والهدف المطلوب فلو استعمله الإنسان في قتل إخوانه المؤمنين فهل من العقل أن نقول إن سبب القتل هو الإنسان المعطي للسلاح أو المدرب له! ومثال أقرب لو أعطينا إنساناً مالاً ليستفيد منه في حياته بينما يأخذه ويرميه في البحر ويموت جوعاً هل سبب الموت هو الباذل؟ ومما ينقل في الروايات أن أبا حنيفة في ذات يوم خرج من عند الإمام الصادق (عليه السلام) فاستقبله الإمام الكاظم (عليه السلام) فقال له: يا غلام ممن المعصية؟ فقال (عليه السلام): (لا تخلو من ثلاث: إما أن تكون من الله عز وجل وليست منه فلا ينبغي للكريم أن يعذب عبده بما لم يكتسبه. وإما أن تكون من الله عز وجل ومن العبد فلا ينبغي للشريك القوي أن يظلم الشريك الضعيف، وإما أن تكون من العبد وهي منه فإن عاقبه الله فبذنبه وإن عفا عنه فبكرمه ووجوده).

ومن هنا جاءت مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) لتبين الحق وتبرزه إلى الساحة بدعم الآيات القرآنية المجيدة ولتزيل الإبهام وترفع الشبهات عن الطريق مستندة إلى الشرع والعقل فقد قال الإمام الصادق (عليه السلام) للرد على المدرستين المذكورتين:

(لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين).

وقال الشيخ المفيد في توضيح حديث الإمام (عليه السلام): (إن الله تعالى مكن الخلق من أعمالهم وأفعالهم ووضع لهم حدوداً فيها وأمرهم بحسنها ونهاهم عن قبيحها فلم يكن بتمكينهم إياها مجبراً لهم عليها ولم يفوض إليهم الأعمال لمنعهم من أكثرها).

فالله سبحانه بيّن حدوده الشرعية أوامره ونواهيه وزوّدهم بإرادة خاصة تمكنهم من فعل الشيء أو تركه وجعل أمر الاختيار بيد الإنسان ليختار ريقه بملء إرادته وهذا لا يعني الجبر من ناحية ولا التفويض من ناحية أخرى وسيأتي البحث عن اللطف الإلهي والتوفيق الإلهي وكيف أن إرادة الإنسان مهما بلغت فهي محاطة بإرادة الله سبحانه فبإمكانه عز وجل أن يقطع عمر الإنسان الذي ينوي أن يفعل شيئاً وينهي إرادة الإنسان أيضا فإذن هذه الإرادة الإنسانية هي قوة يمنحها الله الخالق للإنسان كموهبة العقل ونعمة العين فبإمكانه تعالى أن يسلب عقل الإنسان فيصير مجنوناً أو يخلقه وهو أعمى فالمسألة الاختيارية النابعة من إرادة الإنسان إنما هي تحت الإرادة الإلهية المطلقة التي تستعمل صلاحياتها الكبرى متى شاءت.

فالإنسان مختار في حدود معينة ولله سبحانه سلب هذه القدرة من الإنسان، وأتذكر ههنا كلمة للأمام علي (عليه السلام) حيث يقول: (عرفت الله سبحانه بفسخ العزائم وحل العقود ونقض الهمم)(8).

واستدل مذهب أهل البيت بالآيات القرآنية الكريمة منها: في سورة الإنسان، الآية 3، (إنا هدينا السبيل إما شاكراً وإما كفوراً) وفي سورة الكهف، آية 29: (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) وردّوا على تفسير تلك الآيات الكريمة التي اعتبرها المجبرون أدلة قاطعة لهم والحال إنها ليست أدلة لهم بل عليهم. وبالإضافة لما سبق فإن مدرسة أهل البيت اعتمدت كما قلنا على الشرع والعقل.

فأثبت الاختيار ودفعت الجبر والتفويض جانباً ومن أهم الأدلة على ذلك ما يلي:


أ - القضية الوجدانية وخلاصتها أن يسأل الإنسان نفسه هل أنه مجبر على فعل معين من أكل وشرب وسفر وما شابه؟ هل إنه مجبر للحضور في الاحتفال مثلاً أو تناول طعام معين؟ ففي الحقيقة إن الإنسان يمتلك الحرية المطلقة في الاختيار وكما قلت تحت إشراف الإرادة الإلهية قطعاً.


ب - حينما نؤمن بان الله عادل فهل من العدل أن يجبر عباده على المعاصي ويعاقبهم عليها كيف نتصور ذلك فقد قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إن الناس في القدر على ثلاث أوجه: رجل يزعم أن الله عز وجل أجبر الناس على المعاصي فهذا قد ظلم الله في حكمه فهو كافر ورجل يزعم أن الأمر مفوّض إليه فهذا قد وهب الله في سلطانه).

وعلى هذا فقد أساءت المدرسة الجبرية لله وبظنها أنها تدافع عنه سبحانه فبدلاً من أن تجعله عادلاً جعلته أظلم الظالمين للإنسان حيث يجبر الإنسان على المنكر دون قدرةٍ منه على دفع ذلك ومن يعاقب المسيء المجبور؟

ج - لو كان الأمر كما يذهب المجبرة لبطل التشريع الإلهي من أساسه فما دام الإنسان مكره على أفعاله فمن الخطأ تكليفه بأوامر ونواهٍ وما إرسال الرسل وإنزال الكتب إلا أعمال عبثية لا جدوى من ورائها - والعياذ بالله -.


د
- لو ماشينا الجبرية لخرجنا ببطلان الحساب والعقاب في النعيم أو العذاب وذلك لأن الشاكر والكافر بدرجة واحدة حيث أنهما مجبران على الطاعة أو الجحود فإما كلاهما إلى الجنة وإما كلاهما إلى النار لأنها لا دور لأحدهما في أعماله وتصرفاته ما دامت القدرة الذاتية مسلوبة في اختيار الأعمال.


هـ - ما دام الإنسان مسيّر وإن أفعاله التي يؤديها هي أفعال غيره وإرادة غيره بقرارات غيره وهو الله سبحانه - حسب الفرض - فلا داعي إذن لمعاقبته في الشريعة الإسلامية في الدنيا والآخرة فالزاني والسارق والقاتل كلهم أدّوا هذه الجرائم كممثلين على المسرح مجبرين أداء هذه الأدوار المحددة لهم. فمن المعيب بل ومن الظلم أن نسن لهم تشريع العقوبة في قطع يد السارق أو جلد الزاني وغيرهما، التي نراها في القرآن الكريم.


و - أما أدلة المجبرة (الماضية) من أن إرادة الكافر لو غلبت لم نستطع أن نقول بغلبتها وإنما نعطي الغلبة لله وإن كانت النتيجة قبيحة وهذا الكلام ساذج حيث أنهم أرادوا الدفاع عن قدرة الله وضعوه في قفص الاتهام بعنوان الظالم المطلق - نستغفره تعالى - أو أن ما في علم الله لابد أن يتحقق في الخارج شراً أو خيراً فالكافر لابد أن يظهر في الميدان عملياً كحقيقةٍ خارجية مصدقة لعلم الله ونفي هذا التصديق العملي جهل من قبل الله وهكذا.. والحق إن الأمر واضح والردّ على ذلك واضح أيضا حيث أن العلم بالشيء لا ينفي ما عداه والعلم بالشيء لا يعني أنه هو الفاعل فالعالم بأوقات الخسوف والكسوف والتقلبات الجوية ودرجات الحرارة هل نعتبره أنه هو فاعلها؟ وليس من عاقل يقول هذا.

وأما الآيات الكريمة التي يظهر منها ما يستفيده المجبرة. ففي الحقيقة هنالك آيات كريمة اكثر ظهوراً منها تفيد العكس مثلاً يقول:

(ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها). [سورة شمس، الآيات 7-10].

فيجعل الله للإنسان وحده حق تقرير مصيره (قد أفلح من زكّاها...) سئل أحد الأصحاب الإمام الرضا (عليه السلام) الله فوّض الأمر إلى العباد؟ قال الإمام: (... قال الله عز وجل يا بن آدم أنا أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني عملت المعاصي بقوتي التي جعلتها فيك) فيضع الأمر بيد الإنسان نفسه، وآيات كريمة مضت منها:

(إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً). [سورة الإنسان، الآية 3].

وغيرها من الآيات والروايات. وأما الآيات التي يشم منها ظاهراً تأييد رأي المجبرة كما في سورة النساء: آية 78 (وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كلّ من عند الله).

فالحسنة في اللغة العربية لها معانٍ عديدة منها الرحمة والخير والنعمة كما للسيئة معان عديدة منها المصيبة والحدث المؤلم ونقص بالأموال والأنفس. وهكذا ورد في المصحف المبارك قوله تعالى:

(إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها). [سورة آل عمران، الآية 120].

فالحسنة هنا بمعنى الرحمة والبركة، أما السيئة فهي تعني المصيبة والكارثة، وفي قوله تعالى في سورة الأعراف، الآية 131: (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيّروا بموسى ومن معه...) فالحسنة بمعنى النعمة والبركة والسيئة بمعنى المصيبة والعذاب. فإذن ليست الحسنة بمعنى الطاعة والالتزام دائماً وكذلك السيئة ليست بمعنى الكفر والعصيان دوماً بل لهما معانٍ أخرى - كما مر - وفي سورة إبراهيم، الآيات 2-4: (الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد، الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً أولئك في ضلال بعيد، وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم).

فذهبت مدرسة المجبرة إلى أن الله تعالى يضل العباد بفعله ويهديهم بفعله كذلك ويستنتجون من هذا التفسير بأن الإنسان مجبر على أفعاله حسنة وقبيحة فإنها من الله وبأمره وكما مضى في الآية السابقة إن اللغة العربية واسعة المفاهيم دقيقة الأوصاف فالهدى والضلال كلمتان متقابلتان وردتا في القرآن الكريم كذلك بمعان عديدة منها: تأتي كلمة الهدى بمعنى الإرشاد كقوله تعالى (اهدنا الصراط المستقيم) أي ارشدنا وتأتي كلمة الضلال بمعنى التيه والضياع كقوله تعالى: (...غير المغضوب عليهم ولا الضالين) في سورة الحمد أي بمعنى التائهين، وتأتي كلمة الهدى بمعنى الزيادة في البركات والألطاف كقوله تعالى:

(والذين اهتدوا زادهم هدىً وآتاهم تقواهم). [سورة محمد، الآية 17].

بينما تأتي كلمة الضلال بمعنى الموت كقوله تعالى: (وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد). [سورة السجدة، الآية 10].

أي لو متنا سنبعث من جديد بعد الموت، وتأتي كلمة الهدى بمعنى الثواب كقوله تعالى:

(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار). [سورة يونس، الآية 9].

أي يثيبهم ويجزيهم الجنة.

وتأتي كلمة الضلالة بمعنى العذاب كقوله تعالى في سورة القمر، الآية 47: (إن المجرمين في ضلالٍ وسعر) أي في عذاب وسعير، والمعنى المعروف لكلمة الضلال هو معصية الله والخروج عن الطريق المستقيم على عكس الهدى فتعني إطاعة الله والاستقامة على الطريق السوي.

وبعد هذه المقدمة اللغوية نعود للآيات الكريمة الثلاث من سورة إبراهيم، فالمجبرة قالت إنها تدل على أن فعل الضلال والهدى من قبل الله تعالى فالإنسان مضطر في أعماله وتصرفاته ومجبر عليها خيراً أو شراً بدليل الآيات هذه وغيرها على نفس الطريقة الاستنتاجية والحق إن هذه الآيات لا تدل على الجبر في أفعال العباد حيث سياقها يشير إلى أن إرادة الإنسان هي التي تقر مسيرته في الحياة فالناس الذين يحبون الحياة الدنيا ويفضلونها على الآخرة بل والذين يقفون أمام الحق وينهجون نهجاً غير مستقيم هؤلاء قد تركوا الرسالة التي جاءتهم بلسانهم ووضحت لهم سبل الخير والصلاح وحذرتهم من الشر والفساد.

فمن خلال المعنى العام للآيات الثلاث نستدل على الاختيار لدى الإنسان في تحديد سلوكه وتصرفاته ونرى أن معنى الضلال في الآية الرابعة هو العذاب ومعنى الهدى هو الثواب وقد مرّ بالمقدمة إن من معاني الهدى والضلال ذلك فيصير المعنى فيعذب الله من كفر ويثيب من آمن واطاع ولذا نرى نهاية الآية الرابعة (وهو العزيز الحكيم) فمن الحكمة الإلهية أن يبين الطريق المستقيم والطريق المنحرف ويترك الأمر للإنسان كي يختار بإرادته. لتثبت حكمته تعالى في الأمر بطاعته والنهي عن معصيته ومن ثم يثيب المطيع ويهلك المعاصي أما لو كان الله يكرههم على الأفعال والمعاصي فليس من الحكمة إذن إرسال الرسل وإصدار الأوامر والنواهي لمن يكون مسلوب الإرادة.. وهكذا الآيات الأخرى التي يستدل بها الجبريون على دعواهم في سلب الاختيار والإرادة من الإنسان فالإنسان يفعل الخير أو الشر لا بإرادته الخاصة وإنما بفعل الله وقدرته فالإنسان آلة تنفيذية تفعل دون قرارها وإنما قرارها هو قرار الله خيراً أو شراً - والعياذ بالله - واحتجاجهم في ذلك واهٍ جداً وعلى غرار ما تقدم تنهار كل استدلالاتهم من القرآن الكريم والسنة الشريفة بل تنقلب عليهم خاصة حينما نقرأ الآيات الظاهرة على اختيار الإنسان لسلوكه وأعماله والنافية للجبر والاضطرار فمن الآيات هذه: قوله سبحانه وتعالى:

(من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد). [سورة فصلت، الآية 46].

(فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون). [سورة البقرة، الآية 79].

(كل نفس بما كسبت رهينة) [سورة المدثر، الآية 38].

(فمن شاء فليؤمن ومن يشاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين ناراً). [سورة الكهف، الآية 29].

(سارعوا إلى مغفرةٍ من ربكم...). [سورة آل عمران، الآية 133].

(ما سلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلين). [سورة المدثر، الآية 42-43].

وأمثال هذه الآيات المباركة فإنها تدل على حرية الإنسان في اختيار أعماله وسلوكه وهو الذي يقرر مصيره يوم الحساب.

وبالنتيجة نفهم أن مدرسة أهل البيت هي التي أعطت المعنى الحقيقي المتزن بين الجبر والاختيار في نظرية الوسط الإسلامي بين الإفراط والتفريط فللإنسان إرادته وحريته ولكن الإرادة الكبرى هي بيد الله عز وجل وكمثالٍ توضيحي للتقريب - القوة الكهربائية - فنحن أحرار في تصرفنا بالقوة الكهربائية داخل البيت فنستخدمها للسخان تارة وللبراد والثلاجة تارة أخرى ونشعل الضياء الكبير أو الصغير بحرية تامة ولكن أمر الطاقة الكهربائية الرئيس بيد دائرة الكهرباء فمتى ما شاءت تطفئ الطاقة الكهربائية أو تشعلها فإرادتنا داخل البيت محكومة بإرادة الدائرة الرئيسية الموزعة للطاقة الكهربائية وبمعنى آخر إن حريتنا مطلقة نسبياً في داخل البيت وهكذا نفهم الأمر بين الجبر والتفويض.

فالله سبحانه بيده القدرة الكبرى ومنح للإنسان حرية ضمن دائرة معينة فإن أراد الله تعطيل حركة الإنسان في سلب حريته لفعل ذلك متى شاء.

8 - المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة لمحمد دشتي وكاظم محمّدي قصار الحكم، رقم 250، ص115، طبع قم، 1406هـ.

 

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الإمامة في القرآن الكريم
الذبح أو النحر في منى
في أن عليا لم يندم على التحكيم
مراتب الاِیمان
آیة الولایة
ظروف ولادته كانت عسيرة جداً حيث كان الطاغية ...
الأخوة في القرآن الكريم
ما معنى الحديث القائل "الحسود لا يسود"؟ هل هو ...
الشيعة الإمامية (ألاثني عشرية )
بابِ التوبةِ

 
user comment