(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) الحجرات:10
إنّ الإسلام في تشريعه اعتبر العلاقة الإيمانية أقرب العلاقات وهي علاقة الأخوّة الصادقة، وسيأتي إن شاء الله تفصيل عن حدودها ومعانيها الرائعة من خلال الأحاديث الشريفة. فما دام الجميع عباد الله وعبيده فهم على قدم المساوة في التعامل، والإيمان والتقوى يحدّد ان مكانة الإنسان، والنسب الوحيد الذي يقّرب العبد إلى خالقه هو نسب الإيمان، والأخوّة الإيمانية والعمل لله والطاعة بكلّ ما يأمر به أو الانتهاء عمّا يبغضه وينهى عنه. فالجميع عيال الله لا فضل لأحدهم على الآخر، فلا العربي أقرب من الأعجمي إلى الله إلا بتقواه، فالخطاب موجّه للجميع فهم متساوون في توجيه الخطاب، وروي عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه))(1).
الأخوّة الإسلامية:
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) الحجرات:10. (إنما) في العربية: أداة حصر. إنّ الآية الكريمة تقول: توجد أخوّة طبيعية مثل الأخوّة من الأبوين أو من أحدهما، وهذه الأخوّة لا تعصمهم من الاختلاف والتفرقة، ولكن المؤمنين هم الإخوة الحقيقيون، لا يتنازعون، متعاونون ما داموا في ظلال هذه الأخوّة الإيمانية وفي كنف ورحاب ذلك والتقوى. ((إن الآخرين حين يريدون إظهار مزيد من العلاقة بأضرابهم في المنهج والعمل يعبّرون عنهم بالرفاق... إلا أنَّ الإسلام رفع مستوى الارتباط والحبّ بين المسلمين إلى درجة جعلها بمستوى أقرب العلائق بين إنسانين...))(2) .
هذه العلاقة هي المرادة والتي تنسجم مع حال وواقع أناس تعاقدوا على الالتزام والعمل- وربّما يحدث اختلاف أحياناً وتنافر ، فإنّ هذا الأمر يندر وقوعه ويشذّ عن الحقّ، والصراط المستقيم صراط التعاضد
والتعايش والوئام والانسجام. يبدو أنّ هذا التنافر يظلّ مبدأً سليباً وليس إيجابياً... حيث يترتّب على مبدأ ((المؤمنون إخوة، أكثر من تجسيد وأكثر من مبدأ اجتماعي تصبّ بمجموعها في هدف واحد هو: يحقق المجتمع المتوازن))(3) .
وهنا فرق بين الإنسان المؤمن والإنسان المسلم، والمرء المسلم قد يكون بعيداً عن تعاليم الدين، أو ليس لديه الاعتقاد الصحيح الذي يدفعه نحو العمل والالتزام بالتعاليم.
(قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ)الحجرات:14.
وفي الحديث عن النبي(صلى الله عليه وآله) : ((الإيمان معرفة بالقلب وقول باللسان، وعمل بالأركان))(4) وروي عن الإمام علي (عليه السلام) : ((الإيمان قول باللسان، وعمل بالجوارح))(5) .
ويذكر ابن عربي الفرق بين الإيمان والإسلام بقوله: ((لما فرق بين الإيمان والإسلام وبين أن الإيمان باطني وقلبي والإسلام ظاهري بدني أشار إلى الإيمان المعتبر الحقيقي وهو اليقين الثابت في القلب المستقر الذي لا ارتياب معه لا الذي على سبيل الخطرات...))(6) .
هذه الأخوّة الإيمانية تفوق كل أخوّة أخرى(عليه السلام)؛ لأنّ غير سبيل المؤمنين ليس فيه إلا الاختلاف والنزاع، ونزغ الشيطان وغروره وإعانته على التفرقة والتحاسد والتباغض، أغراض متعدّدة وغايات متضاربة، وأهداف موزّعة مختلفة.
أمّا المؤمنون ((من حيث أنّهم منتسبون إلى أصل واحد هو الإيمان الموجب للحياة الأبدية))(7) .فهم إخوة، ونعم الأخوّة .
الأخوّة الإيمانية من خلال الروايات والآيات:
الأحاديث الشريفة المروية عن النبي(صلى الله عليه وآله)والمروية عن أهل بيته أهل الأطهار(عليهم السلام) كثيرة جدّاً حول الأخوّة الإيمانية، وما ينبغي عليه المؤمن في معاملته مع أخيه، وتؤكّد على العلاقة الحميمة، القوية بين المؤمنين، تبيّن اتصال أرواحهم وجوارحهم بعرى الإيمان، فإذا أصاب أحدهم ألم أو همّ أو غمّ شعر به فيواسيه ويشاركه آلامه؛ فالعلاقة الإيمانية علاقة متينة وقوية ومشرقة بنور ربّها. توجد أحاديث كثيرة تصوّر أروع ما يكون عليه المؤمن والمجتمع الإيماني، حتّى وصف الله تلك الأمّة الهادية المهتدية بقوله تعالى:(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) آل عمران:11. الأخوّة في الله فوق جميع المستويات المادّية وغيرها، فهناك المواساة والمساواة والانقياد والطاعة فيما بينهم، قال تعالى: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء ُعَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) الفتح:29. ووصفهم تعالى في كتابه بقوله: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) سورة الحشر:9. المؤمن مع المؤمن يتفقّد حاجاته ويؤثره على نفسه، وعن الإمام الصادق(عليه السلام): ((ولا يروي ويعطش أخوه، ولا يكتسي ويعرى أخوه))(8) .
وتذكر الأحاديث مجموعة كبيرة من الحقوق و الواجبات والتوصيات، منها: ((إذا قال الرجل لأخيه أف انقطع ما بينهما من الولاية...والله إنّ المؤمن لأعظم حقّاً من الكعبة))(9) .
سبعة حقوق:
1- الإجلال في عينه 2- الودّ له في صدره
3- المواساة له في ماله 4- يحرم غيبته
5- يعوده في مرضه 6- يشيع جنازته
7- لا يقول فيه بعد موته إلا خيراً(10) .
ويوضّح الفيض الكاشاني وجه الأخوّة بين المؤمنين: ((أقول: ووجه آخر لأخّوة المؤمنين انتسابهم إلى النبي والوصي فقد ورد أنه (صلى الله عليه وآله) قال: أنا وأنت يا علي أبوا هذه الأمة ووجه انتسابهم إلى الإيمان الموجب للحياة الأبدية...))(11) .
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) الحجرات:10. الآية الكريمة نزلت في الأوس والخزرج وكان قد وقع بينهما قتال((بالسعف والنعال))(12) . وهذه سيرة الأئمة (عليهم السلام) تشهد بمعاملة المؤمنين وكيف يكرمون جلساءهم وضيوفهم، وهم أوّل من يمتثل لما يوصون به، ويقومون بالعمل بأنفسهم بكلّ ما ينصحون به أتباعهم ومواليهم. روي((بإسناده عن جعفر بن محمد العاصمي قال: حججت ومعي جماعة من أصحابنا فأتيت المدنية فأفردوا لي مكاناً ننزل فيه فاستقبلنا أبو الحسن موسى(عليه السلام) على حمار أخضر يتبعه طعام، ونزلنا بين النخل، فجاء ونزل وأتي بالطست والاشنان فبدأ يغسل يديه وأدير الطشت عن يمينه حتى بلغ آخرنا ثم أعيد إليه من على يساره حتى أتى على آخرنا، ثم قدّم الطعام فبدأ بالملح ثم قال: كلوا بسم الله ثم ثنّى بالخل ثم أتي بكتف مشوي فقال: كلوا بسم الله هذا طعام كان يعجب رسول الله، ثم أتي بسكباج فقال: كلوا بسم الله فهذا طعام يعجب أمير المؤمنين ثم أتي بلحم مقلوّ فيه باذنجان، فقال: كلوا بسم الله الرحمن الرحيم، فإن هذا طعام كان يعجب الحسين (عليه السلام). ثم أتي بلبن حامض قد ثرد فيه فقال: كلوا بسم الله فإنّ هذا الطعام كان يعجب الحسين(عليه السلام) ثمّ أتي بأضلاع باردة فقال: كلوا بسم الله فإنّ هذا الطعام كان يعجب علي بن الحسين. ثم أتي بجبن مبرَّز ثم قال: كلوا بسم الله فإنّ هذا طعام كان يعجب أبا عبد الله (الصادق) (عليه السلام). ثم أتي بحلواء ثم قال: كلوا، فإن هذا طعام يعجبني ورفعت المائدة، فذهب أحدنا ليلتقط ما كان تحتها فقال (عليه السلام): مه (أكفف)، إنّ ذلك يكون في المنازل تحت السقوف، فأمّا في مثل هذا المكان فهو لعامّة الطير والبهائم، ثمّ أتي بالخلال فقال: من حقّ الخلال أنه تدير لسانك في فيك، فما أجابك فابتلعه، وما امتنع فبالخلال. وأتي بالطست والماء فابتدأ بأوّل من على يساره حتى انتهى إليه فغسل ثم غسل من على يمينه إلى آخره. ثم قال: يا عاصم كيف أنتم بالتواصل والتواسي؟ قلت: على أفضل ما كان عليه أحد، أيأتي أحدكم إلى دكان أخيه أو منزله عند الضائقة فيستخرج كيسه ويأخذ ما يحتاج إليه فلا ينكر عليه؟ قال: لا، قال فلستم ما أحب في التواصل))(13) .
هذا، ولا يمكن استقصاء جميع الأحاديث الواردة في هذا الصدد، لأنها كثيرة جدّاً(14) لا يسعها هذا البحث.
ومن وصايا الإمام علي بن الحسين(عليه السلام) للزهري: أن يجعل المسلمين بمنزله أهل بيته(15) يعلمون الناس كيف يكتسبون الأصدقاء؟ وأيّ أصدقاء أصلح للصداقة؟ وما هي حدودها؟
حدود الصداقة: عن الصادق (عليه السلام): ((الصداقة محدودة ومن لم تكن فيه تلك الحدود فلا تنسبه إلى كمال الصداقة ومن ولم يكن فيه شيء من تلك الحدود، فلا تنسبه إلى شي من الصداقة، أولها: تكون سريرته وعلانيته لك واحدة، والثانية: أنه يرى زينك زينه، وشينك شينه، والثالثة: لا يغيره عليك مال ولا ولاية، والرابعة: أن لا يمنعك شيئاً ممّا تصل إليه مقدرته، والخامسة: أنه لا يسلمك عند النكبات))(16) .
إعلان المحبّة باللّسان:
أكّدت الأحاديث الشريفة، على من أحبّ صديقاً أن يعلن حبّه بقوله: إني أحبّك، فقد ورد عن الإمام أبي عبد الله (عليه السلام)قال: ((إذا أحببت رجلاً فأخبره بذلك فإنّه أثبت للمودّة بينكما))(17) . وأمرت الروايات أن يتواصل الإخوة المؤمنون وأن يرحم بعضهم بعضاً. ((حدّثنا أبو عبيدة قال: سمعت جعفر بن محمد عليهما السلام يقول لأصحابه وأنا حاضر: إتقوا الله وكونوا بررة متحابين في الله متواصلين متراحمين، تزاوروا وتلاقوا وتذاكروا وأحيوا أمرنا))(18) . من المؤكّد أنّ هذا التآخي يصاب بالعنف حينما يبتعد أبناء الإسلام عن تعاليم الدين التي تؤكّد على الوحدة الإسلامية، أو حينما يسعى الأعداء في توسعة الفجوة والخلاف، فتحدث الجفوة بين أبناء المجتمعات الإسلامية. والتحديات قديمة ولا زالت تحاول بكل ما أوتيت من جهد لأجل التفرقة وإحداث شرخ في كيان الأمّة.
الوحدة والتآخي أمر ضروري:
الوحدة والتآخي من أهمّ الأمور ضرورة؛ لكي يعيش المجتمع المسلم بعزّة وكرامة، فتصف بالتعاون والتلاحم فيشكّل جداراً صلباً لا يسمح للعداء من التغلغل داخل حياة الإنسان المؤمن ويمثّل الوقاية المهّمة في معيشته، والأمّة تمتلك ذخيرة هائلة وطاقات خلاّقة لتوظفيها باتجاه القوّة، لأنّ عقيدة التوحيد تعمل على إبقاء الأمة بعيدة عن التجزئة والتفكّك، وتحول دون كيد الأعداء. والأمر الأهمّ: الجهد الذاتي الداخلي وهو أكبر جهاد يقوم به أبناء الأمّة، عندما يغالبون الأهواء والمطامع، ويقاومون الشهوات وإغراءات داخل نفوسهم، وقد قيل إنّ حصوننا مهددة من داخلها، فالتعصّب والجهل والتصرّف بسفاهة كلّها من السلبيات التي تهدّد القوّة وتعمل ضدّ التماسك والتلاحم والاتحاد.
ــــــــــــ
1 - الكاشاني، محسن الفيض، المحجّة البيضاء، ج3: 332المعاشرة، الباب الثاني.
2 - الشيرازي، الشيخ مكارم، تفسير الأمثل،ج16ص497.
3 - البستاني، د. محمود، التفسير البنائي، ج4 ص329.
4 - الهندي، علاء الدين، كنز العمال.
5 - الآمري، غرر الحكم ودرر الكلم.
6 - أبن عربي، محي الدين، تفسير ابن عربي ج2، ص، 276تفسيرقوله تعالى: (إنّما المؤمنون إخوة).
7 - المشهدي القمي، محمد محمد رضا، تفسير كنز الدقائق، تفسير قوله تعالى (إنّما المؤمنون إخوة).
8 - الشيخ المجلسي، بحار الأنوار،ج74: 221.
9 - ن .م
10 - الصدوق: أمالي الصدوق.
11 - الكاشاني محسن الفيض، تفسير الصافي ،تفسير قوله تعالى:(أنما المؤمنون أخوة).
12 - الطبرسي، الفضل أبن الحسن، مجمع البيان ،تفسير قوله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة).
13 - الشيخ المجلسي، بحار الأنوار ج74: 229-230.
14 - الشيخ المجلسي، بحار الأنوار ج74-75.
15 - الطبرسى أبو منصور، أحمد، الاحتجاج ج2: 52.
16 - أمالي الصدوق نقلاً عن بحار الأنوار ج74: 173.
17 - الكليني محمد بن يعقوب، أصول الكافي ج2: 608.
18 - الطوسي، محمد بن الحسن، أمالي الشيخ الطوسي ص59،مؤسسة الوفاء بيروت، لبنان.