عربي
Thursday 14th of November 2024
0
نفر 0

في أن ايوب عذب امتحانا ولم يعاقب

أيوب عليه السلام

في أن ايوب عذب امتحانا ولم يعاقب :

( مسألة ) : فان قيل : فما قولكم في الامراض والمحن التي لحقت ايوب ( ع ) أوليس قد نطق القرآن بأنها كانت جزاء على ذنب في قوله : ( اني مسني الشيطان بنصب وعذاب ) والعذاب لا يكون إلا جزاء كالعقاب والآلام الواقعة على سبيل الامتحان لا تسمى عذابا ولا عقابا ، أوليس قد روى جميع المفسرين ان الله تعالى انما عاقبه بذلك البلاء لتركه الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وقصته مشهورة يطول شرحها ؟ .
( الجواب ) : قلنا : أما ظاهر القرآن فليس يدل على ان ايوب عليه السلام عوقب بما نزل به من المضار ، وليس في ظاهره شئ مما ظنه السائل ، لانه تعالى قال : ( واذكر عبدنا ايوب اذ نادى ربه انى مسني الشيطان بنصب وعذاب ) ( 1 ) والنصب هو التعب ، وفيه لغتان بفتح النون والصاد ، وضم النون وتسكين الصاد . والتعب هو المضرة التي لا تختص بالعقاب ، وقد تكون على سبيل الامتحان والاختبار . وأما العذاب فهو ايضا يجري مجرى المضار التى يختص اطلاق ذكرها بجهة دون جهة . ولهذا يقال للظالم والمبتدئ بالظلم انه معذب ومضر ومؤلم ، وربما قيل معاقب على سبيل المجاز . وليست لفظة العذاب بجارية مجرى لفظة العقاب ، لان لفظة العقاب يقتضي ظاهرها الجزاء لانها من التعقيب والمعاقبة ، ولفظة العذاب ليست كذلك . فأما اضافته ذلك إلى الشيطان ، وإنما ابتلاه به فله وجه صحيح ، لانه لم يضف المرض والسقم إلى الشيطان ، وإنما أضاف اليه ما كان يستضربه من وسوسته ويتعب به من تذكيره له ما كان فيه من النعم والعافية والرخاء ، ودعائه له إلى التضجر والتبرم مما هو عليه ، ولانه كان ايضا يوسوس إلى قومه بأن يستقذروه ويتجنبوه ويستخفوه لما كان عليه من الامراض الشنيعة المنتنة ، ويخرجوه من بينهم . وكل هذا ضرر من جهة اللعين ابليس ، وقد روي ان زوجته ( ع ) كانت تخدم الناس في منازلهم وتصير اليه بما يأكله ويشربه ، وكان الشيطان لعنه الله تعالى يلقي اليهم ان داءه ( ع ) يعدي ، ويحسن اليهم تجنب خدمة زوجته من حيث كانت تباشر قروحه وتمس جسده ، وهذه مضار لا شبهة فيها . وأما قوله تعالى في سورة الانبياء : ( وايوب اذ نادى ربه اني مسني الضر وأنت ارحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه اهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين ) ( 2 ) فلا ظاهر لها ايضا يقتضي ما ذكروه ، لان الضر هو الضرر الذي قد يكون محنة كما يكون عقوبة .
فأما ما روي في هذا الباب عن جملة ( جهلة ) المفسرين فمما لا يلتفت إلى مثله ، لان هؤلاء لا يزالون يضيفون إلى ربهم تعالى والى رسله عليهم السلام كل قبيح ومنكر ، ويقذفونهم بكل عظيم . وفي روايتهم هذه السخيفة ما اذا تأمله المتأمل علم انه موضوع الباطل مصنوع ، لانهم رووا ان الله تعالى سلط ابليس على مال ايوب عليه السلام وغنمه واهله ، فلما اهلكهم ودمر عليهم ورأى من صبره ( ع ) وتماسكه ، قال ابليس لربه يا رب ان ايوب قد علم انك ستخلف عليه ماله وولده فسلطني على جسده ، فقال تعالى قد سلطتك على جسده كله الا قلبه وبصره ، قال فاتاه فنفخه من لدن قرنه على قدمه فصار قرحة واحدة ، فقذف على كناسة لبني اسرائيل سبع سنين وأشهرا تختلف الدواب على جسده ، إلى شرح طويل نصون كتابنا عن ذكر تفصيله ، فمن يقبل عقله هذا الجهل والكفر كيف يوثق بروايته ، ومن لا يعلم ان الله تعالى لا يسلط ابليس على خلقه ، وان ابليس لا يقدر على ان يقرح الاجساد ولا يفعل الامراض كيف يعتمد روايته ؟ .
فأما هذه الامراض العظيمة النازلة بأيوب عليه السلام فلم تكن إلا اختبارا وامتحانا وتعريضا للثواب بالصبر عليها والعوض العظيم النفيس في مقابلتها ، وهذه سنة الله تعالى في اصفيائه واوليائه عليهم السلام . فقد روي عن الرسول صلى الله عليه وآله انه قال وقد سئل أي الناس اشد بلاء فقال : " الانبياء ثم الصالحون ثم الامثل فالامثل من الناس " فنظهر من صبره ( ع ) على محنته وتماسكه ما صار به إلى الآن مثلا ، حتى روي انه كان في خلال ذلك كله صابرا شاكرا محتسبا ناطقا بما له فيه المنفعة والفايدة ، وأنه ما سمعت له شكوى ولا تفوه بتضجر ولا تبرم ، فعوضه الله تعالى مع نعيم الآخرة العظيم الدائم ان رد عليه ماله وأهله وضاعف عددهم في قوله تعالى : ( وآتيناه اهله ومثلهم معهم ) وفي سورة ص ( ووهبنا له اهله ومثلهم معهم ) ( 3 ) ، ثم مسح ما به من العلل وشفاه وعافاه وأمره على ما وردت به الرواية ، بأن اركض برجلك الارض فظهرت له عين فاغتسل منها فتساقط ما كان على جسده من الداء . قال الله تعالى : ( اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ) ( 4 ) والركض هو التحريك ومنه ركضت الدابة .
فان قيل ، افتصححون ما روي ان الجذام اصابه حتى تساقطت أعضاؤه ؟ .
قلنا : ان العمل المستقذرة التي ينفر من رآها وتوحشه كالبرص والجذام فلا يجوز شئ منها على الانبياء عليهم السلام لما تقدم ذكره في صدر هذا الكتاب ، لان النفور ليس بواقف على الامور القبيحة ، بل قد يكون من الحسن والقبيح معا . وليس ينكر ان يكون امراض ايوب عليه السلام وأوجاعه . ومحنته في جسمه ثم في اهله وماله بلغت مبلغا عظيما يزيد في الغم والالم على ما ينال المجذوم ، وليس ننكر تزايد الالم فيه ( عليه السلام ) ، وانما ننكر ما اقتضى التنفير .
فان قيل : افتقولون ان الغرض مما ابتلي به ايوب عليه السلام كان الثواب او العوض او هما على الاجتماع ؟ . وهل يجوز ان يكون ما في هذه الآلام من المصلحة واللطف حاصلا في غيرها مما ليس بألم ام تمنعون من ذلك ؟ .
قلنا : أما الآلام التي يفعلها الله تعالى لا على سبيل العقوبة فليس يجوز ان يكون غرضه عزوجل فيها العوض من حيث كان قادرا على ان يبتدي بمثل العوض ، بل الغرض فيها المصلحة وما يؤدي إلى استحقاق الثواب . فالعوض تابع والمصلحة اصل ، وإنما يخرج بالعوض من ان يكون ظلما وبالغرض من أن يكون عبثا ، فأما الالم ، اذا كان فيه مصلحة ولطف ، وهناك في المعلوم ما يقوم مقامه فيهما ، إلا أنه ليس بألم . اما بأن يكون لذة أو ليس بألم ولا لذة ، ففي الناس من ذهب إلى ان الالم لا يحسن في هذا الموضع ، وإنما يحسن بحيث لا يقوم مقامه ما ليس بألم في المصلحة ، والصحيح انه حسن . والله تعالى مخير في فعل ايهما شاء ، والدليل على صحة ما ذكرناه انه لو قبح والحال هذه ، لم يخل من ان يكون انما قبح من حيث كان ظلما أو من حيث كان عبثا . ومعلوم انه ليس بظلم ، لان العوض الزايد العظيم الذي يحصل عليه يخرجه من كونه ظلما . وليس ايضا بعبث لان العبث هو ما لا غرض فيه ، أو ماليس فيه غرض مثله . وهذا الالم فيه غرض عظيم جليل ، وهو الذي تقدم بيانه . ولو كان هذا الغرض غير كاف فيه ولا يخرجه من العبث لما اخرجه من ذلك اذا لم يكن هناك ما يقوم مقامه ، وليس لهم ان يقولوا انه إنما قبح وصار عبثا من حيث كان هناك ما يغني عنه ، لان ذلك يؤدي إلى ان كل فعلين ألمين كانا او لذتين ، أو ليسا بألمين ولا لذتين ، او افعال تساوت في وجه المصلحة يقبح فعل كل واحد منهما ، لان العلة التي ادعيت حاصلة . وليس له ان يقول ان الالم انما يقبح اذا كان فيه من المصلحة ، مثل ما في فعل هو لذة من حيث كان يغني عنه ما ليس بألم ، وذلك ان العوض الذي في مقابلته يخرجه من كونه ضررا ويدخله في ان يكون نفعا ، ويجريه على أقل الاحوال مجرى ما ليس بضرر ، فقد عاد الامر إلى ان الالم بالعوض قد ساوى ما ليس بألم وحصل فيه من الغرض المودي إلى المصلحة مثل ما فيه ، فيجب ان يكون مخيرا في الاستصلاح بأيهما شاء .
فان قيل : ما أنكرتم أيكون الفرق بين الامرين ان اللذة قد يحس ان يفعل بمجرد كونها لذة ، ولا يفتقر في حسن فعلها إلى أمر زايد ، والالم ليس كذلك ، فإنه لا يحسن ان يكون مجردا ولابد من امر زايد يجعله حسنا .
قلنا : هذا فرق بين الامرين في غير الموضع الذي جمعنا بينهما فيه ، لان غرضنا انما كان في التسوية بين الالم واللذة اذا كان كل واحد منهما مثل في صاحبه من المصلحة ، وأن يحكم بصحة التخيير في الاستصلاح بكل واحد منهما ، وان كنا لا ننكر ان بينهما فرقان من حيث كان احدهما نفعا يجوز الابتداء به واستحقاق الشكر عليه ، والآخر ليس كذلك ، إلا ان هذا الوجه وان لم يكن في الالم فليس يقتضي قبحه ، ووجوب فعل اللذة . ألا ترى ان اللذة قد يساويها في المصلحة فعل ما ليس بألم ولا لذة ، فيكون المكلف تعالى مخيرا في الاستصلاح بأيهما شاء ، وان كان يجوز ويحسن ان يفعل اللذة بمجردها من غير عوض زايد ، ولا يحسن ذلك الفعل الآخر الذي جعلناه في مقابلتها متى تجرد ، وإنما يحسن لغرض زايد ولم يخرجهما اختلافهما في هذا الوجه من تساويهما فيما ذكرناه من الحكم . وإذا كانت اللذة قد تساوي في الحكم الذي ذكرناه من التخيير في الاستصلاح ما ليس بلذة ، وبينا ان العوض قد اخرج الالم من كونه ضررا ، وجعله بمنزلة ما ليس بألم ، فقد بان صحة ما ذكرناه لان التخيير بين اللذة وما ليس بلذة ولا ألم ، اذا حسن متى اجتمعا في المصلحة . فكذلك يحسن التخيير بين اللذة وما جرى مجرى ما ليس بألم ولا ضرر من الالم الذي يقابله المنافع ، وليس بعد هذا إلا قول من يوجب فعل اللذة لكونها نفعا ، وهذا مذهب ظاهر البطلان لا حاجة بنا إلى الكلام عليه من هذا الموضوع :
فان قيل : ما أنكرتم ما يكون الاستصلاح بالالم اذا كان هناك ما يستصلح به ، وليس بألم يجري في القبيح والعبث مجرى من بذل المال لمن يحتمل عنه ضرب المقارع ، ولا غرض له إلا ايصال المال في ان ذلك عبث قبيح ؟ .
قلنا : أما قبح ما ذكرته فالوجه فيه غير ما ظننته من ان هناك ما يقوم مقامه في الغرض ، لانا قد بينا ان ذلك لو كان هو وجه القبح لكان كل فعل فيه غرض يقوم غيره فيه مقامه عبثا وقبيحا ، وقد علمنا خلاف ذلك . وإنما قبح بذل المال لمن يحتمل الضرب ، والغرض ايصال المال اليه من حيث حسن ان يبتدئ بدفع المال الذي هو الغرض من غير تكلف الضرب ، فصار عبثا وقبيحا من هذا الوجه وليس يمكن مثل ذلك في الالم اذا قابله ما ليس بألم لان ما فيه من العوض لا يمكن الابتداء به .


( 1 ) ص الآية 41
( 2 ) سورة الانبياء 83 - 84
( 3 ) ص الآية 43
( 4 ) ص الآية 42

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

النقطة الثانية حقيقة الوجوب والاستحباب او ...
قبسات من نهج البلاغة - الخامس
أشراط الساعة و أهوالها
ما قیل فی النفاق
تفسير ناقص للقضاء والقدر
من بلدان الشيعة
النبوة عند الشيعة
المُناظرة الخامسة والخمسون /مناظرة الشيخ معتصم ...
بغض بعض الصحابة لعلي(عليه السلام)
آل البيت عند الشيعة

 
user comment