لكل داء دواء كما ورد في الخبر، لكن الأهم من معرفة الداء هو معرفة الدواء وكيفية العلاج، وقد أرشدنا الله عز وجل في محكم كتابه وكذلك أهل البيت عليهم السلام في الروايات الشريفة إلى ذلك، وما علينا إلا وضع الأمور في مواضعها والاستفادة منها.
ومقدمة لا بد للإنسان أنْ يعرف أن له بعداً مادياً وهو الجسم، وبعداً معنوياً وهو الروح، وكما يهتم كل واحد منا بجسمه فإن عليه أن يهتم بروحه أيضاً، لأن كلا منهما له حق لا بد من أدائه.
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:
"ألا أنبئكم بدائكم من دوائكم، قلنا بلى يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: داؤكم الذنوب ودواؤكم الاستغفار"(1).
لذا، وكما تهتم بصحتك وأكلك وشربك، وتسعى جاهداً من أجل المحافظة على جسمك، فتسارع إلى مداواته عند المرض وحلول السقم خوفاً من الموت والهلاك، كذلك لا بد وبطريق أولى من الاهتمام بقلبك وروحك، وغذائه، لئلا تمرض أيضاً، فيقسو قلبك ويختم عليه، فتعجز حينئذٍ عن علاجه، وبالتالي يؤدي إلى الهلاك الدنيوي والأخروي.
ويا للعجب من أقوامٍ يهتمون بأبدانهم، وهذه الأبدان زائلة فانية يأكلها الدود وتصبح رميماً وتراباً، ولا يهتمون بأرواحهم الخالدة الباقية، إما في الجنة أو في النار.
عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "عجبت لأقوامٍ يحتمون الطعام مخافة الأذى، كيف لا يحتمون الذنوب مخافة النار"(2)
كيف نعالج أمراضنا الأخلاقيـة
لنفترض أننا أصبنا بأي مرضٍ أخلاقي، كالكذب والغيبة والسرقة وغيرها.
فالخطوة الأولى في طريق العلاج والشفاء، هو التشخيص الصحيح لنوع المرض، ومدى تجذره في قلوبنا.
وثانياً: لا بد من معرفة سبب المرض؛ لأن العلاج قد يكون بعلاج السبب فيزول المسبب عنه. مثلاً لماذا أكذب؟ هل هو لنقصٍ في شخصيتي، أم لأجل مصلحة دنيوية أم لأجل... الخ. ولماذا أغتاب؟ ولماذا أسرق؟...
وثالثاً: استعمال الدواء بشكل صحيح ومتابعة العلاج.
رابعاً: التفقه في الدين، والمراد منه ها هنا اطلاع الإنسان على خطورة الذنب وآثاره الدنيوية والأخروية. فإذا التفت إلى خطورة الكذب مثلاً، وأنه باب الكبائر، وأنه ينسلخ عن الإيمان حين كذبه، وأنه سيعاقب عليه، فأي عاقلٍ سيقدم بعدها على الكذب والعياذ بالله؟!.
علاج آخر للذنوب
وهذا العلاج ينقسم إلى شقين أحدهما: العلاج العلمي، والثاني هو العلاج العملي.
أ- العلاج العلمي
وقد نصطلح عليه بالعلاج النفسي ويقوم على عدة أمور: التفكر والتذكر والعزم.
1- التفكر:
يقول الإمام الخميني قدس سره في هذا المجال: "والتفكر في هذا المقام، هو أن يفكر الإنسان بعض الوقت، في أن مولاه الذي خَلقه في هذه الدنيا، وهيأ له كل أسباب الدعة والراحة، ووهبه جسماً سليماً... ومن جهة أخرى أرسل جميع هؤلاء الأنبياء عليهم السلام، وأنزل كل الكتب والرسالات... فما هو واجبنا تجاه هذا المولى مالك الملوك؟..
هل أن وجود جميع هذه النعم هو فقط لأجل هذه الحياة الحيوانية واشباع الشهوات... أم أن هناك هدفاً وغاية أخرى... إن الإنسان إذا فكر للحظةٍ واحدةٍ عرف أن الهدف من هذه النعم هو شيء آخر، وأن الغاية من هذا الخلق أسمى وأعظم، وأن هذه الحياة الحيوانية ليست هي الغاية بحد ذاتها"(3).
وبعبارةٍ أخرى لا بد أن تجلس مع نفسك، تتأمل في وضعك وحياتك، ودنياك وآخرتك، وأن تقوم بجردة حسابية لمسير حياتك: أين كنت؟، وإلى أين أسير؟، وكيف أسير؟، هل أنا راضٍ عن حياتي وعلاقتي مع ربي؟، وهل أنا أسير من الحسن إلى الأحسن أم إلى الأسوأ؟، هل أنا إن مت الآن إلى الجنة أذهب، أم إلى النار التي سجرها جبارها لغضبه؟، كل هذه الأسئلة سوف تؤدي إلى جوابٍ، يدعو هذا الإنسان إلى الاستئناف، وإعادة فتح حسابٍ جديدٍ مع ربه وخالقه.
عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "رحم الله امرأً نظر فتفكر، وتفكر فاعتبر، واعتبر فأبصر، وأبصر فأقصر، فقد أبصر أقوام ولم يقصروا، ثم هلكوا فلم يدركوا ما طلبوا، ولا رجعوا إلى ما فارقوا..."(4).
2- العزم
والمراد به ها هنا هو "أن يوطن الإنسان نفسه، ويتخذ قراراً بترك المعاصي وبأداء الواجبات، وتدارك ما فاته في أيام حياته"(5)
وبعبارة ثانية: لا بد لك أن تقرر وتريد السير نحو الله وإطاعته، وترك اطاعة الشيطان، والسعي في سبيل ذلك والتحرك إليه، ببدء المسير من يومك هذا، لأن غداً قد لا يأتي.
عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "إنما الدنيا ثلاثة أيام: فيومٌ مضى بما فيه فليس بعائد، ويومٌ أنت فيه يحق عليك اغتنامه، ويوم لا تدري هل أنت من أهله ولعلك راحلٌ فيه... وإن يك يومك هذا آنسك بقدومه، فقد كان طويل الغيبة عنك، وهو سريع الرحلة عنك، فتزود منه وأحسن وداعه، خذ بالبقية في العمل وإياك والاغترار بالأمل..."(6).
3- التذكر:
أ- تذكر خَلقنا ووجودنا، والنعم التي أنعمها الله عليها فيما نستعملها.
ب- تذكر العقاب الدنيوي، وحلول سخط الله علينا في أبداننا وأموالنا وأولادنا، وقلة المطر ونقصان الرزق والعمر، وتسلط الأشرار علينا...
ج- تذكر العقاب الأخروي.
ووقوفنا بين يدي الله عز وجل وافتضاحنا، ودخول النار وأليم عذابها وشدته وطول مدته...
4- الشعور بالرقابة الإلهيـة
يقول الله تعالى: "وَهوَ مَعَكمْ أَيْنَ مَا كنتمْ وَالله بِمَا تَعْمَلونَ بَصِيرٌ"(7)، فإذا فكر الإنسان وتيقظ من غفلته، وعلم أن الله معه أينما كان، سواء في السر أو في العلن، في الليل أو في النهار، فلعله يستحي من اطلاع ربه عليه، ونظره إليه فيرعوي ويقلع عن ارتكاب ما يسخطه ويغضبه.
يقول الإمام الخميني قدس سره: "العالم محضر الله، فلا تعص الله في محضر الله".
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "يا إسحاق أحد أصحاب الإمام عليه السلام خفِ الله كأنك تراه، وإن كنت لا تراه فإنه يراك، فإن كنت ترى أنه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنه يراك ثم برزت له بالمعصية، فقد جعلته من أهون الناظرين عليك"(8).
وروي أن الإمام الحسين بن علي عليه السلام جاءه رجلٌ فقال له: "أنا رجل عاصٍ ولا أصبر على المعصية، فعظني بموعظة، فقال عليه السلام: إفعل خمسة أشياء وأذنب ما شئت:
فأول ذلك: لا تأكل رزق الله، وأذنب ما شئت.
والثاني: أخرج من ولاية الله، وأذنب ما شئت.
والثالث: أطلب موضعاً لا يراك الله، وأذنب ما شئت.
والرابع: إذا جاء ملك الموت ليقبض روحك، فادفعه عن نفسك وأذنب ما شئت.
والخامس: إذا أدخلك مالكٌ في النار، فلا تدخل في النار وأذنب ما شئت"(9).
ب - العلاج العملي
وهذا العلاج ينقسم إلى علاج عام وعلاج خاص.
العلاج العام: هو لكل الذنوب والأمراض وذلك بمعرفة سبب الابتلاء بها، والوقوع فيها، وهو إما الجهل أو الغفلة أو ضعف الإرادة، وحينئذٍ لا بد من المبادرة إلى رفع الجهل بالعلم والتفقه، ورفع الغفلة بالاستيقاظ والتذكر، وعلاج ضعف الإرادة أمام الشهوات بتقوية العزم وبذل الجهد في مقاومة الذنوب وتركها.
العلاج الخاص: وهو أن يبادر الإنسان عملياً إلى معالجة الذنب الذي وقع فيه، فإذا التفت مثلاً إلى أنه وقع في الغيبة، فيتوقف ويستغفر ربه، ويسعى للتحلل من صاحبها، ويترك الغيبة مدة من الزمن، ولا يجلس في مجلس الغيبة، ولا يشارك مع أحد في غيبة ولو بسكوته، وليتعود على لجم لسانه والتفكير قبل كلامه..
يقول الإمام الخميني قدس سره في كيفية علاج المفاسد الأخلاقية
"ابحث عن العلاج واعثر على الدواء، لإزالة تلك الأخلاق الفاسدة والقبيحة... وأفضل علاج... هو ما ذكره علماء الأخلاق وأهل السلوك، وهو أن تأخذ كل واحدة من الملكات القبيحة التي تراها في نفسك، وتنهض بعزمٍ على مخالفة النفس إلى أمدٍ، وتعمل عكس ما ترجوه وتتطلبه منك تلك الملكة الرذيلة. وعلى أي حال اطلب التوفيق من الله تعالى لاعانتك في هذا الجهاد، ولا شك في أن الخلق القبيح سيزول بعد فترة وجيزة..."(10).
جلاء القلوب
من نعم الله علينا بعد أن خلقنا وابتلانا، وهو أعلم بما صنع، وقد علم أن بعضنا سيفسد في الأرض ويطغى، فينحرف عن صراطه المستقيم، فتنكس القلوب وتقسو وتمرض، أرشدنا إلى الدواء على لسانه ولسان أهل البيت عليهم السلام، وسوف نشير ها هنا إلى جملة من أدوية القلب كما وردت عنهم عليهم السلام:
1- ذكر الله
يقول الله عز وجل في محكم كتابه الكريم "الذِينَ آمَنواْ وَتَطْمَئِن قلوبهم بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِن الْقلوب"(11).
ويروى عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال لأحد أصحابه: "يا أبا أسامة إرعوا قلوبكم بذكر الله عز وجل، واحذروا النكت"(12).
ومن كلام لأمير المؤمنين عليه السلام عند تلاوته: "رِجَالٌ لا تلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ"(13) قال: "إن الله سبحانه جعل الذكر جلاء القلوب"(14).
قال الشاعر الوراق(15):
وإذا مرضتَ من الذنوب فداوها***بالذكر إن الذكر خير دواء
والسقم في الأبدان ليس بضائرٍ*** والسقم في الأبدان شر بلاء
2- الاستغفار
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ألا أنبئكم بدائكم من دوائكم: داؤكم الذنوب ودواؤكم الاستغفار"(16).
3- قراءة القرآن
وهو دواء وشفاء للقلوب والأبدان.
يقول الله عز وجل: "يَا أَيهَا الناس قَدْ جَاءتْكم موْعِظَةٌ من ربكمْ وَشِفَاء لمَا فِي الصدورِ وَهدًى وَرَحْمَةٌ للْمؤْمِنِينَ"(17).
وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، قيل فما جلاؤها؟ قال: تلاوة القرآن وذكر الموت"(18).
وعنه عليه السلام قال: "إن الله سبحانه لم يعظ أحداً بمثل هذا القرآن، فإنه حبل الله المتين وسببه الأمين, وفيه ربيع القلب وينابيع العلم, وما للقلب جلاء غيره..."(19).
4- قلة الأكل
عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "وليس شيء أضر لقلب المؤمن من كثرة الأكل, وهي مورثة لشيئين قسوة القلب وهيجان الشهوة".
وقال عيسى روح الله عليه السلام: "ما مرض قلب بأشد من القسوة"(20).
5- استماع الموعظة
عن الإمام علي عليه السلام قال: "المواعظ صقال النفوس وجلاء القلوب"(21).
وقيل: "الموعظة حرز من الخطأ، وأمنٌ من الأذى وجلاءٌ للقلوب من الصدأ".
6- الحديث
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "تذاكروا وتلاقوا وتحدثوا؛ فإن الحديث جلاء القلوب"(22).
7- قيام الليل
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين، وإن قيام الليل قربة إلى الله وتكفير السيئات، ومنهاة عن الإثم ومطرودة الداء عن أجسادكم..."(23).
المفاهيم الأساس
1- كما يهتم الإنسان بصحته وطعامه ومشربه، والمسارعة إلى مداواة الأمراض التي يتعرض لها جسده. كذلك لا بد وبطريق أولى، أن يهتم الإنسان بغذاء الروح، وعلاج أمراض القلب المعنوية.
2- ينقسم علاج أمراض الروح والقلب إلى قسمين:
أ- العلاج النفسي، ويتضمن ثلاث خطوات:
- التفكر في عظمة مخلوقات الله.
- العزم على ترك المعاصي وأداء الواجبات.
- تذكر العقاب الإلهي واستشعار رقباته لنا.
ب- العلاج العملي، ويتضمن خطوتان:
- علاج عام لكل الذنوب والأمراض، كمعرفة أسباب ارتكابها جهلاً أو غفلة... الخ.
-علاج خاص لكل ذنب، بشكل مستقل كعلاج ذنب الغيبة فقط، وهكذا.
3- وصفات تربوية لعلاج أمراض القلوب:
- ذكر الله تعالى واستغفاره.
- قراءة القرآن الكريم.
- التقليل من الطعام والشراب والنوم.
- الاستماع للموعظة وأحاديث أهل البيت عليهم السلام.
- أداء صلاة الليل فهي دأب الصالحين.
صلاة الزهراء عليها السلام
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "وأما ابنتي فاطمة فإنها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وهي بضعة مني، وهي نور عيني، وهي ثمرة فؤادي، وهي روحي التي بين جنبي، وهي الحوراء الإنسية، متى قامت في محرابها بين يدي ربها جل جلاله زهر نورها لملائكة السماء كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض، ويقول الله عز وجل لملائكته: يا ملائكتي انظروا إلى أمَتي فاطمة سيدة إمائي قائمة بين يدي ترتعد فرائصها من خيفتي وقد أقبلت بقلبها على عبادتي، أشهدكم أني قد آمنت شيعتها من النار".(24)
المصادر :
1- بحار الأنوار، ج90، ص282.
2- بحار الأنوار، ج75، ص46.
3- الإمام الخميني، الأربعون حديثاً، ص23.
4- شرح نهج البلاغة، ابن أبي حديد، ج5، ص147.
5- الإمام الخميني، الأربعون حديثاً، ص25.
6- مستدرك الوسائل، ج12، ص149.
7- سورة الأنعام، الآية: 94.
8- الكافي، ج2، ص67.
9- بحار الأنوار، ج75، ص126.
10- الإمام الخميني، الأربعون حديثاً، ص39.
11- سورة الرعد، الآية: 28.
12- الكافي، ج8، ص167.
13- سورة النور، الآية: 37.
14- بحار الأنوار، ج66، ص325.
15- شرح نهج البلاغة، ج7، ص81.
16- مستدرك الوسائل، ج12، ص123.
17- سورة يونس، الآية: 57.
18- شرح نهج البلاغة، ج10، ص144.
19- م. ن، ص31.
20- مستدرك الوسائل، ج12، ص94.
21- غرر الحكم ودرر الكلم، ص224.
22- بحار الأنوار، ج2، ص152.
23- مستدرك الوسائل، ج6، ص331.
24- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 28، ص 38