تحقيق حول
الجبر والاختيار
نظرة بدائية إلى أصل الموضوع
الجبر والاختيار ، من المسائل التي اجتذبت إلى نفسها أنظار المفكرين الذين كانت لهم صلة بشؤون الإنسان ، ولا زالت معترك الآراء والعقائد المختلفة : هل الإنسان حرّ في أعماله ومساعيه واختيار أهدافه ومقاصده وأمور حياته المادية والمعنوية ، ولا دور لأيّ عامل في تصميمه سوى إرادته الشخصية ؟ .
أم أنه مجبر في سلوكه وعمله ، ومكره على اتخاذ أيّ عمل أو تصميم ، هو آلة طيعة لعوامل أخرى ؟
إن طرح مسألة الحرية والاختيار على صعيد البحث لا يقتصر على المباحث العلمية الفلسفية فحسب ، بل إن الحرية تدخل في رؤية وإقدام كل من يعرض وظيفة للإنسانية ويرى البشر مسؤولين عن إجرائها وتنفيذها ، ويدعوهم إلى العمل بها ، إذ لو لم يكن قائلاً معتقداً بالحرية والاختيار لم يكن يبقى أيّ معنى للثواب والعقاب بعد المسؤولية .
بعد ظهور الإسلام أصبح للمسلمين اهتمام خاص بهذه المسألة العقائدية ، إذ أن الرؤية الإسلامية كانت تقتضي البحث والدراسة العميقة في
هذه المسألة ، وأن يحققها العلماء أكثر من أيّ مسألة أخرى بعد التوحيد ، فيبيّنوا أساسها ونقاط الغموض والإبهام منها ، إذ أن هذه المسألة ترتبط بالتوحيد من ناحية وبالعدل أو القدرة الإلهية من ناحية أخرى .
ينقسم المتكلمون ـ سواء في الماضي أو العصر الحاضر ـ في مسألة الجبر والاختيار إلى قسمين :
القسم الأول منهم : أنكروا حرية الإنسان في أعماله بكل تأكيد ، وقالوا بأن ما يبدو له من مظاهر الأعمال والمساعي المختارة إنما ذلك من قصور ونقص في إدراك الإنسان ! .
والقسم الثاني : يقولون بأصالة اختيار الإنسان ، ويقولون بأنه يتمتع في أموره وأعماله بحرية كاملة ، وأن شعاع إرادته واسع وبلا مانع ولا رداع .
إن الإنسان بشعر بأثر الجبر في وجوده من قبل ميلاده ، حسب ملاحظة العوامل التي تحيط به من كل حدب وصوب ، وهو يشعر كذلك بالجبر في مواجهته مع بعض حوادث الحياة حتى أنه يكاد يعتقد بعدم وجود اختيار له ولا حرية ، حيث هو يقدم إلى هذه الحياة بلا إرادة منه ، ويدخل بذلك تحت نظام قسريّ في الحياة لا حرية معه ، بل يصبح تحت رحمة هذا النظام كصحيفة ورق بيد الهواء حتى يودع الحياة الدنيا .
وهو من ناحية أخرى يلاحظ حريته واستقلاله بالنسبة إلى كثير من الأمور بصورة جيدة ، حيث لا جبر ولا إكراه عليه فيها ، فله القدرة والنفوذ في مكافحة المشكلات والموانع ، وله أن يبسط سلطته على الطبيعة بالاستناد إلى تجاربه ومستنتجاته السابقة .
ومهما كان مسلكه من الدين والمذهب والمبدأ والعقيدة في الحياة لا يقدر على إنكار هذه الواقعية العملية المحسوسة : إن هناك تفاوتاً عميقاً بين حركات يده ورجله وحركات قلبه وكبده .
فالإنسان في ظل شعوره بإرادته المختارة والنافذة التي هي رمز إنسانيته
وهي أساس مسؤوليته يشعر بحريته واختياره في سلسلة من الأعمال والأفعال ، ولا يرى أيّ مانع عن إجراء إرادته دون قدرته ، وهو بنفسه يفقد اختياره ويبقى مغلول اليدين بالنسبة إلى عدد من الأمور المادية والغريزية ، والتي تشكّل مساحة واسعة من حياته وجهازه الجسماني الذي لا ينفك تحت أثر العوامل الخارجية .
القائلون بالجبر
ينكر الجبريّون حرية الإنسان في أعماله ، وذهب الاشعريون من الموحدين المسلمين إلى هذا القول مستندين في ذلك إلى المعنى الظاهر لبعض آيات القرآن الكريم ، بلا تدبّر في المفهوم الحقيقي لمجموع الآيات والأحاديث ، هؤلاء ينكرون آثار الأشياء ولا يعترفون بأي دور للعلل في عالم الطبيعة ، بل يرون حوادث الطبيعة معلولة للخالق بصورة مباشرة وبلا واسطة ، ويقولون : إن الإنسان وإن كان له قدرة وإرادة إلاّ أنه لا أثر لأيّ واحد منهما في أفعاله ، إذ ليست الإرادة والقدرة هي العلة لمعلول العمل بل إن الأصل في الأثر هو إرادة الله ، وإنما بإمكان الشخص أن يصبغ عمله ذلك بقصده وإرادته فقط ، وهذه الإرادة هي التي تجعل ذلك العمل في عداد العمل الصالح أو غيره حسب المقاصد .
ويقولون : إننا لو قلنا باختيار الإنسان كنا قد حددنا صفة قدرة الله فيى مخلوقاته ، بينما تقتضي خالقيته المطلقة أن لا يكون الإنسان خالقاً لأعماله ، فالاعتقاد بالتوحيد في حاكميته المطلقة يستلزم القول بأن جميع حوادث الوجود وحتى أعمال الإنسان لا تجري إلاّ بإرادة الله سبحانه وتعالى ، ولو قبلنا وقلنا بأن الإنسان هو خالق أفعاله كنا قد أنكرنا حاكميته المطلقة على
جميع عالم الوجود ، وهذا ينافي القول بخالقيته سبحانه ، وعلى هذا فالقول بحرية الإرادة يجرّ إلى الشرك بالله والثنوية .
هؤلاء الجبريّون يقولون : إن جميع حوادث العالم إنما تظهر للوجود بسبب وجود العلل المتقدمة عليها ، وهذه العلل المتسلسلة تنتهي إلى علة أصلية ونهائية هي الله سبحانه .
وليس الإنسان الذي يشعر في الظاهر بالحرية سوى آلة بلا إرادة ، ولا شيء يدخل تحت اختياره بدءاً بعقله وغرائزه وعواطفه وأحاسيسه ، ومروراً بآثار العناصر الكيماوية والأمواج غير المرئية عليه ، وانتهاء بآثار الماء والهواء وعوامل الوراثة والتربية والبيئة الاجتماعية وكثير من العوامل غير هذه ، فهو في الواقع في حصار هذه السلسلة من العوامل الداخلية والخارجية لا حرية له معها .
وآخرون تذرّعوا إلى أنواع الانحرافات في الفكر والعمل بتقبل القول بالجبر لتبرئه أنفسهم عن ارتكاب الأعمال المخالفة للأخلاق والدين ، وجعلوا الجبر مستمسكاً للفساد والإفساد ، من حيث يشعرون أو لا يشعرون ، منهم بعض شعراء المجون والخلاعة ، الذين وجدوا في التوسّل بالقول بالجبر عذراً مناسباً لما كانوا هم عليه من التلوث والفساد ، ونفسوا بهذا القول عن أنفسهم من سوء الذكر ووخر الضمير .
أجل ، هذه هي خلاصة فكرة القائلين بالجبر .
إن هذه الفكرة تنافي العدالة الإلهية والعدالة الاجتماعية ، بينما :
نحن نرى العدل الإلهي بجميع أبعاده في نظام الوجود بصورة واسعة ، ونصفه سبحانه بنفس هذه الصفة كما جاءت في القرآن الكريم :
( شهدالله أنه لا إله إلاّ هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم )(1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران : الآية 18 .
وكذلك جعل الله استقرار العدل في المجتمع البشري من أهداف بعث الرسل وإنزال الكتب فقال :
( لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط )(1) .
وكذلك العدل هو أساس عمل الله بعباده يوم القيامة إذ يقول :
( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً )(2) .
فهل من العدل أن نجبر إنساناً على عمل ثم نجازيه بجرمه ؟ لا جرم أن الحكم بجزائه حكم ظالم وبعيد عن أصول العدالة .
ونحن لو أنكرنا أصل الحرّيه ولم نعترف بأيّ دور إيجابي لإرادة الإنسان لم يبق هناك أيّ تفاوت أن تمييز بين الإنسان وسائر الموجودات ، فإن حركاتها المستمرة معلولة لعلل خارجة عن إرادتها واختيارها ، وعلى مبنى عقيدة الجبر تصبح أعمالنا وحركاتنا كذلك .
ولو كان الله هو الذي يخلق أعمال الإنسان الاختياريه ، وهو الذي يخلق الظلم والفساد في الإنسان وحتى الشرك به سبحانه ، فكيف يصحّ أن ننزّه ذاته المقدّسة عن تبعات هذه الجرائم ؟
إن القول بالجبر يلغي القول بالنبوّة والوحي والإلهام والأوامر والنواهي والأحكام الشرعية والبيانات العقائدية ، وكذلك الثواب والعقاب ، إذ لو قلنا بأن جميع أعمال الناس تتحقق من دون إرادتهم واختيارهم بل بصورة أتومايكية ، إذن فما هو دور رسالة الأنبياء المرسلين مدداً لإِدراك عقول البشر ـ كما يقول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحديد : الآية 25 .
2 سورة الأنبياء : الآية 47 .
وما دام الأمر الإِلهيّ خارجاً عن اختيار الإِنسان فما هو الموقع من توجيه التكليف إليه ؟
وما دام سلوك الإِنسان وحتى روحياته تصدر منه بصورة أتوماتيكية إذن فمساعي المربّين لإِصلاح المجتمعات والأفراد على الفضيلة والأخلاق والتحرّك الخلّاق ، تذهب أدراج الرياح سدى ، وعلى هذا فما هي فائدة هذه المساعي والمحاولات ؟ ! ، إذ أن السعي في هذا السبيل لا يصل إلى النتيجة المتوخاة ، إذ لا معنى لتوخي التغيير بالتربية من الموجود المكره المجبور على ما هو عليه .
الحقيقة أن الإِنسان مسؤول عن انحطاطه وسقوطه ومكلّف بانقاذ نفسه والآخرين وإسعادهم ، وأن اختياره هو الذي يقرر مصيره ، فهو يختار طريقه بقدقة ، ويتوكّل على ربّه ولطفه ، فيوفقه الله بقدرته ونوره .
يقول الفيلسوف الشهير : ( سانتي هيلر ) :
« إن الذي خلق هذه العوالم ووضع قوانين الوجود لم يخلق شيئاً كالقلب من حيث العظمة ، والحرية ـ مع صغرها ـ هي أكبر من كل الطبيعة ، بل إن عرف نفسه لم يستطع أن يقايس بين عالم الطبيعة وحريته الذائية ، فهو قياس هزيل ، فإن عظمة المكانة المعنوية لا تناسب القياس بأية عظمة أخرى غيرها .
إن قدرة الله فينا أكثر جلاء ووضوحاً من قدرته في حوادث عالم الطبيعة ، انظروا إلى نقطة واحدة مهمة : هي أن الإِنسان حينما يشعر بالاختيار في ذاته بين إطاعة عقله أو عصيانه إياه ، يدرك أنه مسؤول أمام عالم قدير هو صانع الوجود وواضع نواميس الكون .
ينبغي للإِنسان حينما يتجاوز الأوامر الإِلهية ـ والتي يعترف هو بعدالتها ـ أن يكون مشفقاً من غضبه سبحانه، ولو كان العاصي نفسه غاضباً على نفسه من الذنب الذي ارتكبه ، فعليه أن يعلم بأن الحاكم المطلق أيضاً
غاضب على مرتكب الخطيئة مع تمكنه من اجتنابها .
إن على من يشعر بلذة خاصة من سيادة قانون الأخلاق أن يدفع حساب هذه اللذة .
ولا يستطيع المجتمع أن يحاسب الأفراد ، فإن المجتمع إنما يعاقب على ما يسبب خسارة اجتماعية ، ولا يستطيع المجتمع أن يحاسب الدور الحقيقي لذلك الفرد المتخلّف ، إذ لا يطلع المجتمع على نيات الأفراد وما تخفي الصدور ، وهي وإن كانت تخفى على العدالة الاجتماعية لكنها لا شكّ دخيلة في الحكم والقانون .
فإما أن ننكر سيادة قانون الأخلاق وحرية الإِنسان ومسؤوليته ، أو أن نقبل ونعتقد بالحياة الأخرى فيما وراء هذه الحياة الدنيا يحكم الله فيها بعدالته كنتيجة لازمة ، وقانون الأخلاق إذ يحكم بوجوب وجود العدالة النهائية لعالم الآخرة الأبدية لا يتجاوز في حكمه هذا حدود ; إذ لا معنى لحياة الإِنسان الدنيا بدون حياة أخرى بعد هذه »(1) .
قالوا : مع الاعتقاد بعلم الله وأنه عالم منذ الأزل بجميع حوادث العالم ، والاعتقاد بأنه لا تحدث في أية نقطة من العالم حادثة جزئية أو كلية إلّا وهى سابقة في العلم الأزلي لله سبحانه ، إذن فلا بدّ من أن تتحقق جميع السيئات والمعاصي من دون أيّ تغيير ; ثم لا اختيار للإِنسان لترك شيء منها ، أليس هكذا ؟ !
ونقول : صحيح أن الله عالم بالحوادث الكلية والجزئية ، ولكن لا يؤدي هذا العلم إلى إكراه الإِنسان على أعماله ، فإن علم الله إنما هو متعلق بنظام العلية ، ولا يتعلق بالحوادث وأعمال الناس خارج إطار الأسباب والمسببات ، والعلم الذي يتعلق بمجاري العلل ووالمعلولات لا يوجب الجبر والإكراه ، فإن الله العالم بمجاري الحوادث في العالم يعلم بأن الإِنسان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مقدمة عالم الأخلاق : ص 19 ـ 20 ( بالفارسية ) .
يعمل بإرادته واختياره ، وحرية البشر في إرادتهم واختيارهم جزء من سلسلة الأسباب والمسببات والعلل والمعلولات ، والإِنسان هو الذي يصمم على العمل الصالح وغيره ، وبسوء اختياره يوجب الفساد والضلال ، فإذا ساد الباطل والظلم في مجتمع ما كان ذلك بفعل الانسان أنفسهم لا خلق الله سبحانه ، ولا أثر الإِلهي في اختيارهم طريق الخير أو الشر .
صحيح أن أحوال المحيط والدوافع الفطرية والهداية الإِلهية من العوامل التي لها دور فعّال في حرّية واختيار الإِنسان ، إلّا أن دورها إنما هو دور المعدّ والممدّ والممهد ، والمشوّق والداعي والدافع ، ولا يصل ذلك إلى إيجاد الإِكراه والجبر في الاتجاه ، وليس معنى وجود هذه الأمور أن الإِنسان أسير في مخالبها ، بل له القدرة والخيرة في موافقة أو مخالفة هذه الدواعي والدوافع أو تحديدها أو تغيير اتجاهها ، وبإِمكانه أن يفيد من الهداية الإِلهية بالرؤية والبصيرة الواضحة ، وأن يوجّه ميوله ويعدّلها وينظمها ، إذ كما لا يصحّ فسح المجال لودائع الطبائع في البشر ومنحها الفرصة لتطغى وتستبدّ ، فكذلك لا يمكن تجميدها لتصبح جافة ميتة .
لنفترض أن عاملاً ميكانيكياً فحص سيارة قبل حركتها وتنبأ أنها لا تطوي أكثر من بضعة كيلومترات حتى تقف ، لما فيها من عطب فنّي ، فلو سارت السيارة ثم توقفت كما قال العامل ، هل يمكننا أن نقول بأن تنبؤ العامل هو السبب في توقف الشاحنة ؟
بديهيّ أن الجواب الصحيح هو النفي ، فإن عطب السيارة هو سبب توقفها لا تنبؤ العامل ولا علمه السابق بتوقفها الآن ، ولا يصحّ لعاقل أن ينسب عطب السيارة إلى علم العامل .
أو نفترض معلماً عالماً بأوضاع طلّاب الصف يعلم برسوب التلميذ فلان بسبب تباطئه في العمل للامتحانات النهائية في آخر السنة الدراسية ، فلو أعلنت نتائج الامتحانات وعلم أن هذا التليذ المتواني والكسول لم يخرج بنجاح في الامتحانات ، هل يمكن أن يكون علم ذلك المعلم سبباً
لرسوب هذا الطالب غير العامل ، أم أن السبب هو كسله وقلة عمله ؟ ! .
لا ريب أن سبب الرسوب هو عدم العمل للدراسة لا تخمين المدرسين .
بذكر أمثال هذه النماذج نعلم بعدم عليّة العلم الإِلهي لصدور أفعال العباد .
ومن الآثار السيئة لمدرسة الجبريين ، أنها تطلق أيدي الطغاة الظالمين للضغط الأكثر على أعناق المظلومين وشدّ وثاقهم وضرب رقابهم، وبالعكس تقيد أيدي المظلومين عن القيام بأيّ ردّ فعل دفاعي أمام الظالمين .
إن الظالم يخلّص نفسه من السمؤولية عن أعماله الظالمة والخشنة ، بالتمسّك بحجة الجبر ، بل يرى يديه يدي الله والحق ، ولذلك فهو ينسب عدوانه إلى الله عزّ وجلّ الذي ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) ، وعلى المظلوم أن يتقبل ويتحمل ما يتجرعه من قبل الظالم ، إذ لا معنى لمقاومة الظلم والعدوان ، ولا تصل مساعيه إلى شيء في هذا السبيل ! .