موسى عليه السلام
تنزيه موسى عن العصيان بالقتل :
( مسألة ) : فان قيل : فما الوجه في قتل موسى عليه السلام للقبطي وليس يخلو من ان يكون مستحقا للقتل او غير مستحق ، فإن كان مستحقا فلا معنى لندمه ( ع ) ، وقوله : ( هذا من عمل الشيطان ) وقوله : ( رب اني ظلمت نفسي فاغفرلي ) ( 1 ) ، وان كان غير مستحق فهو عاص في قتله ، وما بنا حاجة إلى ان نقول ان القتل لا يكون صغيرة لانكم تنفون الصغير والكبير من المعاصي عنهم عليهم السلام .
( الجواب ) : قلنا مما يجاب به عن هذا السؤال ان موسى عليه السلام لم يعتمد القتل ولا اراده ، وانما اجتاز فاستغاث به رجل من شيعته على رجل من عدوه بغى عليه وظلمه وقصد إلى قتله ، فأراد موسى ( ع ) ان يخلصه من يده ويدفع عنه مكروهه ، فأدى ذلك إلى القتل من غير قصد اليه ، فكل ألم يقع على سبيل المدافعة للظالم من غير ان يكون مقصودا فهو حسن غير قبيح ولا يستحق عليه العوض به ، ولا فرق بين ان تكون المدافعة من الانسان عن نفسه ، وبين ان يكون عن غيره في هذا الباب والشرط في الامرين ان يكون الضرر غير مقصود ، وأن يكون القصد كله إلى دفع المكروه والمنع من وقوع الضرر . فإن ادى ذلك إلى ضرر فهو غير قبيح .
ومن العجب ، ان ابا علي الجبائي ذكر هذا الوجه في تفسيره ، ثم نسب مع ذلك موسى ( ع ) إلى أنه فعل معصية صغيرة ، ونسب معصيته إلى الشيطان . وقد قال في قوله ( رب اني ظلمت نفسي ) أي في هذا الفعل الذي لم تأمرني به ، وندم على ذلك وتاب إلى الله منه ، فياليت شعري ، ما الذي فعل بما لم يؤمر به ، وهو انما دافع الظالم ومانعه ، ووقعت الوكزة منه على وجه الممانعة من غير قصد . ولا شبهة في ان الله تعالى امره بدفع الظلم عن المظلوم ، فكيف فعل ما لم يؤمر به ، وكيف يتوب من فعل الواجب ؟ وإذا كان يريد ان ينسب المعصية اليه فما الحاجة به إلى ذكر المدافعة والممانعة ، وله أن يجعل الوكزة مقصودة على وجه تكون المعصية به صغيرة .
فان قيل : أليس لا بد أن يكون قاصدا إلى الوكزة وان لم يكن مريدا بها اتلاف النفس ؟ .
قلنا : ليس يجب ما ظننته ، وكيف يجعل الوكزة مقصودة ، وقد بينا الكلام على ان القصد كان إلى التخليص والمدافعة ، ومن كان إنما يريد المدافعة لا يجوز ان يقصد إلى شئ من الضرر ، وإنما وقعت الوكزة وهو لا يريدها ، انما أراد التخليص ، فأدى ذلك إلى الوكزة والقتل . ووجه آخر : وهو أن الله تعالى كان عرف موسى عليه السلام استحقاق القبطى للقتل بكفره ، وندبه إلى تأخير قتله إلى حال التمكن ، فلما رأى موسى ( ع ) منه الاقدام على رجل من شيعته تعمد قتله تاركا لما ندب اليه من تأخير قتله .
فأما قوله : ( هذا من عمل الشيطان ) ففيه وجهان :
احدهما : انه أراد ان تزيين قتلي له وتركي لما ندبت اليه من تأخيره وتفويتي ما استحقه عليه من الثواب من عمل الشيطان .
والوجه الآخر : انه يريد ان عمل المقتول من عمل الشيطان ، مفصحا بذلك عن خلافه لله تعالى واستحقاقه للقتل .
وأما قوله ( رب اني ظلمت نفسي فاغفرلي ) ، فعلى معنى قول آدم عليه السلام ( ربنا ظلمنا انفسنا وان لم تغفرلنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ) ( 2 ) والمعنى احد وجهين : اما على سبيل الانقطاع والرجوع إلى الله تعالى والاعتراف بالتقصير عن حقوق نعمه وان لم يكن هناك ذنب ، أو من حيث حرم نفسه الثواب المستحق بفعل الندب . وأما قوله ( فاغفرلي ) فإنما أراد به : فاقبل منى هذه القربة والطاعة والانقطاع . ألا ترى ان قبول الاستغفار والتوبة يسمى غفرانا ؟ واذا شارك هذا القبول غيره في معنى استحقاق الثواب والمدح به جاز ان يسمى بذلك ، ثم يقال لم ذهب إلى ان القتل منه ( ع ) كان صغيرة ، ليس يخلو من أن يكون قتله متعمدا وهو مستحق للقتل ، وقتله عمدا وهو غير مستحق ، أو قتله خطأ ، وهو مستحق . والقسم الاول يقتضى ان لا يكون عاصيا جملة والثانى لا يجوز مثله على النبي ( ع ) ، لان قتل النفس عمدا بغير استحقاق لو جاز ان يكون صغيرة على بعض الوجوه جاز ذلك في الزنا وعظائم الذنوب ، فإن ذكروا في الزنا وما اشبهه التنفير ، فهو في القتل اعظم . وان كان قتله خطأ غير عمد وهو مستحق او غير مستحق ، ففعله خارج من باب القبيح جملة . فما الحاجة إلى ذكر الصغيرة ؟ .
تنزيه موسى عن الضلالة والاستغفار عن الرسالة :
( مسألة ) : فإن قيل : كيف يجوز لموسى عليه السلام ان يقول لرجل من شيعته يستصرخه : ( انك لغوي مبين ) ؟ .
( الجواب ) : إن قوم موسى عليه السلام كانوا غلاظا جفاة ، ألا ترى إلى قولهم بعد مشاهدة الآيات لما رأوا من يعبد الاصنام ( اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ) وإنما خرج موسى ( ع ) خائفا على نفسه من قوم فرعون بسبب قتله القبطي ، فرأى ذلك الرجل يخاصم رجلا من أصحاب فرعون فاستنصر موسى ( ع ) ، فقال له عند ذلك انك لغوى مبين . وأراد انك خائب في طلب ما لا تدركه وتكلف ما لاتطيقه ، ثم قصد إلى نصرته كما نصره بالامس على الاول ، فظن أنه يريده بالبطش لبعد فهمه ، فقال له ( اتريد ان تقتلني كما قتلت نفسا بالامس ، ان تريد إلا أن تكون جبارا في الارض وما تريد أن تكون من المصلحين ) ( 3 ) . فعدل عن قتله ، وصار ذلك سببا لشيوع خبر القبطي بالامس .
في تنزيه موسى ( ع ) عن الضلال :
( مسألة ) : فان قيل : فما معنى قول فرعون لموسى ( ع ) : ( وفعلت فعلتك التي فعلت وانت من الكافرين ) ( 4 ) إلى قوله ( ع ) ( فعلتها اذا وأنا من الضالين ) ( 5 ) وكيف نسب ( ع ) الضلال إلى نفسه ، ولم يكن عندكم في وقت من الاوقات ضالا ؟ .
( الجواب ) : قلنا : أما قوله ( وأنت من الكافرين ) فإنماأراد به من الكافرين لنعمتي ، فإن فرعون كان المربي لموسى ( ع ) إلى ان كبر وبلغ ، ألا ترى إلى قوله تعالى حكاية عنه : ( ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين ) ( 6 ) .
وأما قول موسى ( ع ) ( فعلتها اذا وانامن الضالين ) ، فإنما أراد به الذاهبين عن ان الوكزة تأتي على النفس ، أو أن المدافعة تفضي إلى القتل . وقد يسمى الذاهب عن الشئ أنه ضال ويجوز ايضا ان يريد اننى ضللت عن فعل المندوب اليه من الكف عن القتل في تلك الحال والفوز بمنزلة الثواب .
بين خيفة موسى والوجه فيها :
( مسألة ) : فإن قيل : كيف جاز لموسى عليه السلام وقد قال تعالى : ( ان ائت القوم الظالمين ) ان يقول في الجواب ( اني أخاف ان يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فارسل الي هرون ) ( 7 ) وهذا استعفاء عن الرسالة .
( الجواب ) : أن ذلك ليس باستعفاء كما تضمنه السؤال ، بل كان ( ع ) قد اذن له في أن يسأل ضم أخيه في الرسالة اليه قبل هذا الوقت ، وضمنت له الاجابة ، ألا ترى إلى قوله تعالى ( وهل اتيك حديث موسى اذ رأى نار فقال لاهله امكثوا ) إلى قوله ( واجعل لي وزيرا من اهلي هرون ) ( 8 ) فأجابه الله تعالى إلى مسألته بقوله ( فقد أوتيت سؤلك يا موسى ) . وهذا يدل على ان ثقته بالاجابة إلى مسألته التى قد تقدمت ، وكان مأذونا له فيها . فقال : ( اني اخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني ) شرحا لصورته وا عن حاله المقتضية لضم اخيه اليه في الرسالة ، فلم يكن مسألته إلا عن اذن وعلم وثقة بالاجابة .
في تنزيه موسى ( ع ) عن الكفر والسحر :
( مسألة ) : فإن قيل : كيف جاز لموسى ( ع ) ان يأمر السحرة بالقاء الحبال والعصى وذلك كفر وسحر وتلبيس وتمويه ، والامر بمثله لا يحسن ؟ .
( الجواب ) : قلنا لا بد من ان يكون في امره عليه السلام بذلك شرط ، فكأنه قال القوا ما انتم ملقون ان كنتم محقين ، وكانوا فيما يفعلونه حجة . وحذف الشرط لدلالة الكلام عليه واقتضاء الحال له ، وقد جرت العادة باستعمال هذا الكلام محذوف الشرط ، وان كان الشرط مرادا ، وليس يجري هذا مجرى قوله تعالى : ( فاتوا بسورة من مثله ) ( 9 ) وهو يعلم أنهم لايقدرون على ذلك وما اشبه هذا الكلام من ألفاظ التحدى ، لان التحدي وان كان بصورة الامر لكنه ليس بأمر على الحقيقة ولا تصاحبه ارادة الفعل ، فكيف تصاحبه الارادة والله تعالى يعلم استحالة وقوع ذلك منهم وتعذره عليهم وانما التحدي لفظ موضوع لاقامة الحجة على المتحدي واظهار عجزه وقصوره عما تحدى به ، وليس هناك فعل يتناوله ارادة الامر بالقاء الحبال والعصي بخلاف ذلك ، لانه مقدور ممكن . فليس يجوز ان يقال ان المقصود به هو ان يعجزوا بها عن القائها ويتعذر عليهم ما دعوا اليه ، فلم يبق بعد ذلك إلا انه امر بشرط ، ويمكن ان يكون على سبيل التحدي بأن يكون دعاهم إلى الالقاء على وجه يساوونه فيه ، ولا يخيلون فيما ألقوه من السعي والتصرف من غير ان يكون له حقيقة ، لان ذلك غير مساو لما ظهر على يده من انقلاب الجماد حية على الحقيقة دون التخييل . واذا كان ذلك ليس في مقدورهم فإنما تحداهم به لتظهر حجته ويوجه دلالته وهذا واضح ، وقد بين الله تعالى في القرآن ذلك بأوضح ما يكون فقال : ( وجاء السحرة فرعون قالوا ان لنا لاجرا ان كنا نحن الغالبين ، قال نعم وانكم لمن المقربين قالوا يا موسى اما ان تلقي واما ان نكون نحن الملقين قال القوا فلما القوا سحروا اعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم وأوحينا إلى موسى ان الق عصاك فاذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين ) ( 10 ) .
تنزيه موسى ( ع ) عن الخوف :
( مسألة ) فإن قيل : فمن أي شئ خاف موسى عليه السلام حتى حكى الله تعالى عنه الخيفة في قوله عزوجل : ( فأوجس في نفسه خيفة موسى ) ( 11 ) أوليس خوفه يقتضى شكه في صحة مااتى به ؟ .
( الجواب ) : قلنا : لم يخف من الوجه الذى تضمنه السؤال ، وإنما رأى من قوة التلبيس والتخييل ما اشفق عنده من وقوع الشبهة على من لم يمعن النظر ، فأمنه الله تعالى من ذلك وبين له ان حجته ستتضح للقوم بقوله تعالى : ( لا تخف انك انت الاعلى ) ( 12 ) .
تنزيه موسى عن نسبة الاضلال لله تعالى :
( مسألة ) : فإن قال : فما معنى قوله تعالى حاكيا عن موسى ( ع ) : ( ربنا انك اتيت فرعون وملاه زينة واموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على اموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الاليم ) ( 13 ) .
( الجواب ): قلنا : أما قوله تعالى ( ليضلوا عن سبيلك ) ففيه وجوه :
أولها انه اراد لئلا يضلوا عن سبيلك ، فحذف ( لا ) وهذا له نظائر كثيرة في القرآن ، وكلام العرب فمن ذلك قوله تعالى : ( وان تضل احداهما فتذكر إحداهما الاخرى ) وانما اراد ( لئلا تضل ) وقوله تعالى : ( ان تقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين ) ، وقوله تعالى ( والقى في الارض رواسي ان تميد بكم ) . وقال الشاعر :
نزلتم منزل الاضياف منا * فعجلنا القرى ان تشتمونا والمعنى ان لا تشتمونا .
فان قيل : ليس هذا نظيرا لقوله تعالى ( ربنا ليضلوا عن سبيلك ) لانكم حذفتم في الآية ( ان ) و ( لا ) معا وما استشهدتم به انما حذف منه لفظة ( لا ) فقط .
قلنا : كلما استشهدنا به فقد حذف فيه الكلام ولا معا ، ألا ترى أن تقدير الكلام لئلا تشتمونا . وفي الآية إنما حذف أيضا حرفان وهما أن ولا ، وانما جعلنا حذف الكلام فيما استشهدنا به بازاء حذف أن في الآية من حيث كانا جميعا ينبئان عن الغرض ويدلان على المقصود ألا ترى انهم يقولون جئتك لتكرمني ، كما تقولون جئتك أن تكرمني . والمعنى ان غرضي الكرامة ، فاذا جاز ان يحذفوا أحد الحرفين جاز ان يحذفوا الآخر .
ثانيها : ان اللام ها هنا لام العاقبة وليست لام الغرض ، ويجري مجرى قوله تعالى ( فالتقطة آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ) ( 14 ) وهم لم يلتقطوه لذلك بل لخلافه ، غير ان العاقبة لما كانت ما ذكره حسن ادخال اللام ، ومثله قول الشاعر :
وللموت تغذو الوالدات سخالها * كما لخراب الدور تبنى المساكن ونظائر ذلك كثيرة . فكأنه تعالى لما علم ان عاقبة امرهم الكفر ، وأنهم لا يموتون الا كفارا ، وأعلم ذلك نبيه ، حسن ان يقول انك اتيتهم الاموال ليضلوا .
وثالثها : ان يكون مخرج الكلام مخرج النفي والانكار على من زعم ان الله تعالى فعل ذلك ليضلهم ، ولا يمتنع ان يكون هناك من يذهب إلى مذهب المجبرة ( 15 ) في ان الله تعالى يضل عن الدين ، فرد بهذا الكلام عليه كما يقول احدنا : انما اتيت عبدي من الاموال ما اتيته ليعصيني ولا يطيعني ، وهو إنما يريد الانكار على من يظن ذلك به ، ونفي اضافة المعصية اليه . وهذا الوجه لا يتصور إلا على الوجهين : إما بأن يقدر فيه الاستفهام وان حذف حرفه ، أو بأن يكون اللام في قوله ( ليعصيني ) لام العاقبة التي قد تقدم بيانها . ومتى رفعنا من أوهامنا هذين الوجهين ، لم يتصور كيف يكون الكلام خارجا مخرج النفى والانكار .
ورابعها : أن يكون اراد الاستفهام ، فحذف حرفه المختص به ، وقد حذف حرف الاستفهام في اماكن كثيرة من القرآن . وهذا الجواب يضعف لان حرف الاستفهام لا يكاد يحذف إلا وفي الكلام دلالة عليه وعوض عنه ، مثل قول الشاعر :
كذبتك عينك ام رأيت بواسط * غلس الظلام من الرباب خيالا لان لفظة ام يقتضي الاستفهام ، وقد سأل ابوعلي الجبائى نفسه عن هذا السؤال في التفسير ، وأجاب عنه بأن في الآية ما يدل على حذف حرف الاستفهام ، وهو دليل العقل الدال على ان الله تعالى لا يضل العباد عن الدين . ودليل العقل أقوى مما يكون في الكلام دالا على حرف الاستفهام . وهذا ليس بشئ ، لان دليل العقل وان كان اقوى من كل دليل يصحب الكلام ، فإنه ليس يقتضى في الآية ان يكون حرف الاستفهام منها محذوقا لا محالة . لان العقل انما يقتضي تنزيه الله تعالى عن ان يكون مجربا بشي من افعاله إلى اضلال العباد عن الدين ، وقد يمكن صرف الآية إلى ما يطابق دليل العقل من تنزيهه تعالى عن القبيح ، من غير ان يذكر الاستفهام ويحذف حرفه . واذا كان ذلك ممكنا لم يكن في العقل دليل على حذف حرف الاستفهام ، وانما يكون فيه دليل على ذلك لو كان يتعذر تنزيهه تعالى عن ارادة الضلال ، إلا بتقدير الاستفهام .
فأما قوله تعالى : ( فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الاليم ) ( 16 ) فأجود ما قيل فيه انه عطف على قوله ( ليضلوا ) وليس بجواب لقوله ( ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم ) ( 17 ) وتقدير الكلام ( ربنا إنك أتيت فرعون وملاه زينة واموالا في الحياة الدنيا ، ربنا ليضلوا عن سبيلك ، ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الاليم . ) وهذا الجواب يطابق أن يكون اللام للعاقبة ، وأن يكون المعنى فيها لئلا يضلوا أيضا .
وقال قوم انه أراد ( فلن يؤمنوا ) فابدل الالف من النون الخفيفة . كما قال الاعشى :
وصل علي حين العشيات والضحى * ولاتحمد المثرين والله فاحمدا اراد فاحمدن ، فابدل النون الفا ، وكما قال عمر بن ابي ربيعة :
وقمير بدا ابن خمس وعشرين * له قالت الفتاتان قوما اراد قومن . ومما استشهد به ممن أجاب بهذا الجواب الذي ذكرناه آنفا في ان الكلام خبر ، وإن خرج مخرج الدعاء . وما روي عن النبي صلي الله عليه وآله من قوله : " لن يلدغ المؤمن من جحر مرتين " . وهذا نهي ، وإن كان مخرجه مخرج الخبر . وتقدير الكلام : لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين . لانه لو كان خبرا لكان كذبا . وإذا جاز أن يراد بما لفظه لفظ الخبر النهي ، جاز أن يراد بما لفظه لفظ الدعاء الخبر . فيكون المراد بالكلام " فلن يؤمنوا " .
وقد ذكر ابوعلي الجبائي ان قوما من أهل اللغة قالوا أنه تعالى نصب قوله تعالى : ( فلا يؤمنوا ) وحذف منه النون . وهو يريد في المعنى " ولا يؤمنون " على سبيل الخبر عنهم ، لان قوله تعالى ( فلا يؤمنوا ) وقع موقع جواب الامر الذي هو قوله : ( ربنا اطمس على اموالهم واشدد على قلوبهم ) فلما وقع موقع جواب الامر وفيه الفاء ، نصبه بأضمار أن ، لان جواب الامر بالفاء منصوب في اللغة . فنصب هذا لما أجراه مجرى الجواب ، وان لم يكن في الحقيقة جوابا . ومثله قول القائل " انظر إلى الشمس تغرب " ( بالجزم ) ، وتغرب ليس هو جواب الامر على الحقيقة ، لانها لا تغرب لنظر هذا الناظر ، ولكن لما وقع موقع الجواب اجراه مجراه في الجزم ، وان لم يكن جوابا في الحقيقة .
وقد ذكر ابومسلم محمد بن بحر في هذه الآية وجها آخر ، وهو من اغرب ما ذكر فيها ، قال : ان الله تعالى انما اتى فرعون وملاه الزينة والاموال في الدنيا على طريق العذاب لهم والانتقام منهم لما كانوا عليه من الكفر والضلال ، وعلمه من احوالهم في المستقبل من انهم لا يؤمنون . ويجري ذلك مجرى قوله تعالى : ( فلا تعجبك اموالهم ولا اولادهم انما يريد الله ليعذبهم بها في الحيوة الدنيا وتزهق انفسهم وهم كافرون ) ( 18 ) . فسأل موسى عليه السلام ربه وقال : رب انك اتيتهم هذه الاموال والزينة في الحياة الدنيا على طريق العذاب ولتضلهم في الآخرة عن سبيلك التي هي سبيل الجنة وتدخلهم النار بكفرهم ، ثم سأله ان يطمس على اموالهم بأن يسلبهم إياها ليزيد ذلك في حسرتهم وعذابهم ومكروههم ، ويشد على قلوبهم بأن يميتهم على هذه الحال المكروهة . وهذا جواب قريب من الصواب والسداد .
تنزيه موسى عن سؤال الرؤية لنفسه :
( مسألة ) : فإن قيل : فما الوجه في قوله تعالى : ( ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب ارني انظر اليك قال لن تراني ) ( 19 ) أو ليس هذه الآية تدل على جواز الرؤية عليه تعالى لانها لو لم تجز لم يسغ أن يسألها موسى ( ع ) كما يجوز ان يسأله اتخاذ الصاحبة والولد ؟ .
( الجواب ) : قلنا : أولى ما اجيب به عن هذه الآية ان يكون موسى عليه السلام لم يسأل الرؤية لنفسه ، وانما سألها لقومه . فقد روي ان قومه طلبوا ذلك منه ، فأجابهم بأن الرؤية لا تجوز عليه تعالى . فلجوا به وألحوا عليه في ان يسأل الله تعالى ان يريهم نفسه ، وغلب في ظنه ان الجواب اذا ورد من جهته جلت عظمته كان أحسم للشبهة وأنفى لها ، فاختار السبعين الذين حضروا للميقات لتكون المسألة بمحضر منهم ، فيعرفوا ما يرد من الجواب ، فسئل عليه السلام على ما نطق به القرآن ، وأجيب بما يدل على ان الرؤية لا يجوز عليه عزوجل . ويقوي هذا الجواب امور :
منها : قوله تعالى : ( يسألك اهل الكتاب ان تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى اكبر من ذلك فقالوا ارنا الله جهرة ، فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ) ( 20 ) .
ومنها : قوله تعالى : ( واذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فاخذتكم الصاعقة وانتم تنظرون ) ( 21 ) .
ومنها : قوله تعالى : ( فلما اخذتهم الرجفة قال رب لو شئت اهلكتهم من قبل وإياي اتهلكنا بما فعل السفهاء منا ان هي إلا فتنتك ) ( 22 ) فاضاف ذلك إلى السفهاء ، وهذا يدل على انه كان بسببهم من حيث سألوا ما لا يجوز عليه تعالى .
ومنها : ذكر الجهرة في الرؤية وهي لا تليق الا برؤية البصر دون العلم ، وهذا يقوي ان الطلب لم يكن للعلم الضروري على ما سنذكره في الجواب التالي لهذا الكلام .
ومنها : قوله تعالى : ( انظر اليك ) لانا إذا حملنا الآية على طلب الرؤية لقومه ، امكن ان يكون قوله انظر اليك على حقيقته ، واذا حملنا الآية على العلم الضروري احتيج إلى حذف في الكلام ، فيصير تقديره أرني انظر إلى الآيات التي عندها اعرفك ضرورة . ويمكن في هذا الوجه الاخير خاصة أن يقال : إذا كان المذهب الصحيح عندكم أن النظر في الحقيقة غير الرؤية ، فكيف يكون قوله انظر اليك على حقيقته ، في جواب من حمل الآية على طلب الرؤية لقومه ، فإن قلتم : لا يمتنع ان يكونوا انما التمسوا الرؤية التي يكون معها النظر والتحديق إلى الجهة فسأل على حسب ما التمسوا ، قيل لكم : هذا ينقض قولكم في هذا الجواب بين سؤال الرؤية وبين سؤال جميع ما يستحيل عليه من الصاحبة والولد ، وما يقتضي الجسمية بأن تقول : الشك في الرؤية لا يمنع من صحة معرفة السمع ، والشك في جميع ما ذكر يمنع من ذلك ، لان الشك الذي لايمنع من معرفه السمع انما هو في الرؤية التي يكون معها نظر ولا يقتضي التشبيه .
فان قلتم يحمل ذكر النظر على ان المراد به نفس الرؤية على سبيل المجاز ، لان عادة العرب ان يسموا الشئ باسم طريقه وما قاربه وما داناه ، قيل لكم فكأنكم قد عدلتم عن مجاز إلى مجاز ، فلا قوة في هذا الوجه ، والوجوه التي ذكرناها في تقوية هذا الجواب المتقدمة أولى ، وليس لاحد أن يقول : لو كان موسى ( ع ) انما سأل الرؤية لقومه لم يضف السؤال إلى نفسه فيقول ارني انظر اليك ، ولا كان الجواب ايضا مختصا به في قوله : لن تراني ، وذلك انه غير ممتنع وقوع الاضافة على هذا الوجه ، مع ان المسألة كانت من أجل الغير اذا كان هناك دلالة تؤمن من اللبس ، فلهذا يقول احدنا اذا شفع في حاجة غيره للمشفوع اليه : أسألك ان تفعل بي كذا وكذا وتجيبني إلى كذا وكذا ، ويحسن ان يقول المشفوع اليه : قد اجبتك وشفعتك وما جرى مجرى هذه الالفاظ . وإنما حسن هذا لان للسائل في المسألة غرضا ، وإن رجعت إلى الغير لتحققه بها وتكلفه كتكلفه اذا اختصه .
فإن قيل : كيف يسأل الرؤية لقومه مع علمه باستحالتها ، ولئن جاز ذلك ليجوز ان يسأل لقومه سائر ما يستحيل عليه من كونه جسما وما اشبهه متى شكوا فيه .
قلنا : انما صحت المسألة في الرؤية ولم تصح فيما سألت عنه ، لان مع الشك في جواز الرؤية التي لا يقتضي كونه جسما يمكن معرفة السمع ، وانه تعالى حكيم صادق في اخباره ، فيصح ان يعرفوا بالجواب الوارد من جهته تعالى استحالة ما شكوا في جوازه ، ومع الشك في كونه جسما لا يصح معرفة السمع فلا ينتفع بجوابه ولا يثمر علما . وقد قال بعض من تكلم في هذه الآية : قد كان جايز ان يسأل موسى ( ع ) لقومه ما يعلم استحالته وان كان دلالة السمع لا تثبت قبل معرفته متى كان المعلوم أن في ذلك صلاحا للمكلفين في الدين ، وأن ورود الجواب يكون لطفا لهم في النظر في الادلة واصابة الحق منها ، غير ان من اجاب بذلك شرط ان يبين النبي ( ع ) انه عالم باستحالة ما سأل فيه ، وأن غرضه في السؤال ان يرد الجواب فيكون لطفا .
وجواب آخر في الآية : وهو أن يكون موسى عليه السلام انما سأل ربه تعالى ان يعلمه نفسه ضرورة باظهار بعض اعلام الآخرة التي يضطر عندها إلى المعرفة ، فتزول عنه الخواطر ومنازعة الشكوك والشبهات ، ويستغني عن الاستدلال ، فتخف المحنة . عنه بذلك ، كما سأل ابراهيم عليه السلام ربه تعالى ان يريه كيف يحي الموتى طلبا لتخفيف المحنة ، وان كان قد عرف ذلك قبل ان يراه . والسؤال وان وقع بلفظ الرؤية فإن الرؤية تفيد العلم كما تفيد الادراك بالبصر . قال الشاعر :
رأيت الله اذا سمى نزارا * واسكنهم بمكة قاطنينا واحتمال الرؤية للعلم اظهر من ان يدل عليه لاشتهاره ووضوحه . فقال الله تعالى لن تراني اي لم تعلمني على هذا الوجه الذي التمسته ، ثم اكد ذلك بأن اظهر في الجبل من الآيات والعجائب ما دل به على ان المعرفة الضرورية في الدنيا مع التكليف وبيانه لا يجوز ، فان الحكمة تمنع منها ، والوجه الاول اولى لما ذكرناه متقدما من الوجوه ، لان موسى ( ع ) لا يخلو من ان يكون شاكا في ان المعرفة الضرورية لا يصح حصولها في الدنيا او غير شاك ، فإن كان شاكا فالشك فيما يرجع إلى اصول الديانات وقواعد التكليف لا يجوز على الانبياء ( ع ) ، لا سيما وقد يجوز ان يعلم ذلك على حقيقته بعض امتهم فيزيد عليهم في المعرفة ، وهذا ابلغ في التنفير عنهم من كل شئ يمنع منهم ، وان كان موسى عليه السلام عالما بذلك وغير شاك فيه ، فلا وجه لسؤاله الا ان يقال انه سأل لقومه ، فيعود إلى معنى الجواب الاول . فقد حكي جواب ثالث في هذه الآية عن بعض من تكلم في تأويلها من أهل التوجيه ، وهو انه قال : يجوز ان يكون موسى عليه السلام في وقته مسألته ذلك كان شاكا في جواز الرؤية عليه تعالى ، فسأل عن ذلك ليعلم هل يجوز عليه أم لا ، قال : وليس شكه في ذلك بمانع ان يعرف الله تعالى بصفاته ، بل يجري مجرى شكه في جواز الرؤية على بعض ما لا يرى من الاعراض في انه غير مخل بما يحتاج اليه في معرفته تعالى ، قال ولا يمتنع ان يكون غلطه في ذلك ذنبا صغيرا وتكون التوبة الواقعة منه لاجله . وهذا الجواب يبعد من جهة ان الشك في جواز الرؤية التي لا تقتضي تشبيها وإن كان لا يمتنع من معرفته بصفاته ، فإن الشك في ذلك لا يجوز على الانبياء عليهم السلام من حيث يجوز من بعض من بعثوا اليه ان يعرف ذلك على حقيقته ، فيكون النبي ( ع ) شاكا فيه وامته عارفون به مع رجوعهم في المعارف بالله تعالى ، وما يجوز عليه تعالى وما لايجوز ، وهذا يزيد في التنفير على كل ما يوجب تنزيه الانبياء عليهم السلام عنه .
فان قيل : فعن أي شئ كانت توبة موسى عليه السلام على الجوابين المتقدمين ؟ .
قلنا : أما من ذهب إلى ان المسألة كانت لقومه ، فإنه يقول انما تاب لانه اقدم على ان يسأل عن لسان قومه يؤذن له وليس للانبياء عليهم السلام ذلك ، لانه لا يؤمن من ان يكون الصلاح في المنع منه ، فيكون ترك اجابتهم منفرا عنهم . وليس تجري مسألتهم على سبيل الاستسرار ، وبغير حضور قومهم يجري مجرى ما ذكرناه لانه ليس يجوز ان يسألوا مستسرين ما لم يؤذن لهم فيه ، لان منعهم منه لا يقتضي تنفيرا . ومن ذهب إلى انه سأل المعرفة الضرورية يقول انه تاب من حيث سأل معرفة لا يقتضيها التكليف . وفي الناس من قال انه تاب من حيث ذكر في الحال ذنبا صغيرا مقدما . والذي يجب ان يقال في تلفظه بذكر التوبة انه وقع على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى والرجوع اليه والتقرب منه وان لم يكن هناك ذنب معروف . وقد يجوز ان يكون ايضا الغرض في ذلك مضافا إلى ما ذكرناه من الاستكانة والخضوع والعبادة وتعليمنا وتفهيمنا على ما نستعمله وندعو به عند نزول الشدائد وظهور الاهوال وتنبيه القوم المخطئين خاصة على التوبة مما التمسوه من الرؤية المستحيلة عليه تعالى ، فإن الانبياء ( ع ) وان لم يقع منهم القبائح فقد يقع من غيرهم ، ويحتاج من وقع ذلك منه إلى التوبة والاستغفار والاستقالة وهذا بين بحمد الله ومنه .
بيان الوجه في اخذ موسى برأس اخيه يجره :
( مسألة ) : فان قيل : فما وجه قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام : ( والقى الالواح وأخذ برأس أخيه يجره اليه قال ابن ام ان القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الاعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين ) ( 23 ) أو ليس ظاهر هذه الآية يدل على ان هرون عليه السلام أحدث ما اوجب ايقاع ذلك الفعل منه ؟ وبعد فما الاعتذار لموسى ( ع ) من ذلك وهو فعل السخفاء والمتسرعين وليس من عادة الحكماء المتماسكين ؟ .
( الجواب ) قلنا : ليس فيما حكاه الله تعالى من فعل موسى وأخيه عليهما السلام ما يقتضي وقوع معصية ولا قبيح من واحد منهما ، وذلك ان موسى ( ع ) اقبل وهو غضبان على قومه لما احدثوا بعده مستعظما لفعلهم مفكرا منكرا ما كان منهم ، فأخذ برأس اخيه وجره اليه كما يفعل الانسان بنفسه مثل ذلك عند الغضب وشدة الفكر . ألا ترى ان المفكر الغضبان قد يعض على شفيته ويفتل اصابعه ويقبض على لحيته ؟ فأجرى موسى ( ع ) اخاه هرون مجرى نفسه ، لانه كان أخاه وشريكه وحريمه ، ومن يمسه من الخير والشر ما يمسه ، فصنع به ما يصنعه الرجل بنفسه في احوال الفكر والغضب ، وهذه الامور تختل احكامها بالعادات ، فيكون ما هو اكرام في بعضها استخافا في غيرها ، ويكون ما هو استخفاف في موضع اكراما في آخر . وأما قوله : لاتأخذ بلحيتي ولا برأسي ، فليس يدل على انه وقع على سبيل الاستخفاف ، بل لا يمتنع ان يكون هرون ( ع ) خاف من ان يتوهم بنو اسرائيل لسوء ظنهم انه منكر عليه معاتب له ، ثم ابتدأ بشرح قصته فقال في موضع آخر : ( اني خشيت ان تقول فرقت بين بني اسرائيل ولم ترقب قولي ( 24 ) وفي موضع آخر : ( ابن ام ان القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني ) إلى آخر الآية ، ويمكن أن يكون قوله : ( لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي ) ليس على سبيل الامتعاظ والانفة ( اي الغيرة ) ، لكن معنى كلامه : ( لا تغضب ولا يشتد جزعك وأسفك ) لانا اذا كنا قد جعلنا فعله ذلك دلالة الغضب والجزع فالنهي عنه في المعنى نهي عنهما . وقال قوم ان موسى عليه السلام لما جرى من قومه من بعده ما جرى اشتد حزنه وجزعه ، ورأى من اخيه هرون عليه السلام مثل ما كان عليه من الجزع والقلق ، أخذ برأسه اليه متوجعا له مسكنا له ، كما يفعل احدنا بمن تناله المصيبة العظيمة فيجزع لها ويقلق منها . وعلى هذا الجواب يكون قوله " لا تشمت بي الاعداء " لا يتعلق بهذا الفعل ، بل يكون كلاما مستأنفا . وأما قوله على هذا الجواب " لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي " ، فيحتمل أن يريد أن لا تفعل ذلك وغرضك التسكين مني فيظن القوم انك منكر علي . وقال قوم في هذه الآية ان بني اسرائيل كانوا على نهاية سوء الظن بموسى عليه السلام ، حتى ان هرون ( ع ) كان غاب عنهم غيبة فقالوا لموسى انت قتلته ، فلما وعد الله تعالى موسى ثلاثين ليلة واتمها له بعشر وكتب له في الالواح كل شئ وخصه بأمور شريفة جليلة الخطر بما أراه من الآية في الجبل ومن كلام الله تعالى له وغير ذلك من شريف الامور ، ثم رجع إلى أخيه ، أخذ برأسه ليدنيه اليه ويعلمه ما جدده الله تعالى له من ذلك ويبشره به ، فخاف هرون ( ع ) ان يسبق إلى قلوبهم ما لا اصل له ، فقال اشفاقا على موسى عليه السلام : لا تأخذ بلحيتي ، ولا برأسي لتبشرني بما تريده بين ايدي هؤلاء فيظنوا بك ما لا يجوز عليك ولا يليق بك والله تعالى اعلم بمراده من كلامه .
في قدرة موسى على الصبر وتنزيهه عن النسيان :
( مسألة ) فان قيل : فما وجه قوله تعالى فيما حكاه عن موسى عليه السلام والعالم الذي كان صحبه وقيل انه الخضر عليه السلام من الآيات التي ابتداؤها : ( فوجدا عبدا من عبادنا اتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما قال له موسى هل اتبعك على ان تعلمني مما علمت رشدا قال انك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا قال ستجدني انشاء الله صابرا ولا اعصي لك امرا قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شئ حتى احدث لك منه ذكرا ) ( 25 ) إلى آخر الآيات المتضمنة لهذه القصة . وأول ما تسألون عنه في هذه الآيات ان يقال لكم كيف يجوز ان يتبع موسى عليه السلام غيره ويتعلم منه ، وعندكم ان النبي ( ع ) لا يجوز ان يفتقر إلى غيره ؟ وكيف يجوز ان يقول له انك لن تستطيع معي صبرا والاستطاعة عندكم هي القدرة وقد كان موسى عل مذهبكم قادرا على الصبر ؟ وكيف قال موسى ستجدني ان شاء الله صابرا ولا اعصي لك أمرا فاستثنى المشيئة في الصبر واطلق فيما ضمنه من طاعته واجتناب معصيته ؟ وكيف قال لقد جئت شيئا أمرا وشيئا نكرا وما اتي العالم منكرا في الحقيقة ؟ وما معنى قوله لا تؤاخذني بما نسيت وعندكم ان النسيان لا يجوز على الانبياء عليهم السلام ؟ ولم نعت موسى ( ع ) النفس بأنها زكية ولم تكن كذلك على الحقيقة ؟ ولم قال في الغلام : ( فخشينا ان يرهقهما طغيانا وكفرا ) ( 26 ) فإن كان الذي خشية الله تعالى على ما ظنه قوم ، فالخشية لايجوز عليه تعالى ؟ وان كان هو الخضر ( ع ) فكيف يستبيح دم الغلام لاجل الخشية والخشية لا تقتضي علما ولا يقينا ؟ .
( الجواب ) : قلنا : ان العالم الذي نعته الله تعالى في هذه الآيات فلا يجوز إلا أن يكون نبيا فاضلا ، وقد قيل انه الخضر عليه السلام ، وأنكر أبو علي الجبائي ذلك وزعم انه ليس بصحيح قال : لان الخضر ( ع ) يقال انه كان نبيا من انبياء بني اسرائيل الذين بعثوا من بعد موسى ( ع ) ، وليس يمتنع ان يكون الله تعالى قد اعلم هذا العالم ما لم يعلمه موسى ، وارشد موسى ( ع ) اليه ليتعلم منه ، وانما المنكر ان يحتاج النبي ( ع ) في العلم إلى بعض رعيته المبعوث اليهم . فأما ان يفتقر إلى غيره ممن ليس له برعية فجائز ، وما تعلمه من هذا العالم إلا كتعلمه من الملك الذي يهبط عليه بالوحي ، وليس في هذا دلالة على ان ذلك العالم كان أفضل من موسى في العلم ، لانه لا يمتنع ان يزيد موسى في سائر العلوم التي هي أفضل وأشرف مما علمه ، فقد يعلم أحدنا شيئا من سائر المعلومات وان كان ذلك المعلوم يذهب إلى غيره ممن هو افضل منه وأعلم .
وأما نفي الاستطاعة فانما أراد بها ان الصبر لا يخف عليك انه يثقل على طبيعتك ، كما يقول أحدنا لغيره : انك لا تستطيع ان تنظر الي . وكما يقال للمريض الذي يجهده الصوم وان كان قادرا عليه : انك لا تستطيع الصيام ولا تطيقه ، وربما عبر بالاستطاعة عن الفعل نفسه كما قال الله تعالى حكاية عن الحواريين : ( هل يستطيع ربك ان ينزل علينا مائدة من السماء ) ( 27 ) فكأنه على هذا الوجه قال : انك لن تصبر ولن يقع منك الصبر . ولو كان إنما نفى القدرة على ما ظنه الجهال ، لكان العالم وهو في ذلك سواء ، فلا معنى لاختصاصه بنفي الاستطاعة ، والذي يدل على انه نفي عنه الصبر لاستطاعته قول موسى ( ع ) في جوابه : ( ستجدني ان شاء الله صابرا ) ولم قل ستجدني ان شاء الله مستطيعا . ومن حق الجواب أن يطابق الابتداء ، فدل جوابه على ان الاستطاعة في الابتداء هي عبارة عن الفعل نفسه .
وأما قوله : ( فلا اعصي لك أمرا ) فهو ايضا مشروط بالمشيئة ، وليس بمطلق على ما ذكر في السؤال ، فكأنه قال ستجدني صابرا ولا اعصي لك امرا ان شاء الله . وانما قدم الشرط على الامرين جميعا وهذا ظاهر في الكلام .
وأما قوله : ( لقد جئت شيئا امرا ) فقد قيل انه أراد شيئا عجبا ، وقيل أنه أراد شيئا منكرا ، وقيل أن الامر أيضا هو الداهية . فكأنه قال جئت داهية . وقد ذهب بعض أهل اللغة إلى ان الامر مشتق من الكثرة من أمر القوم اذا كثروا ، وجعل عبارة عما كثر عجبه ، واذا حملت هذه اللفظة على العجب فلا سؤال فيها ، وان حملت على المنكر كان الجواب عنها وعن قوله لقد جئت شيئا نكرا واحدا . وفي ذلك وجوه :
منها : ان ظاهر ما اتيته المنكر ومن يشاهده ينكره قبل ان يعرف علته . ومنها : ان يكون حذف الشرط فكأنه قال ان كنت قتلته ظالما فقد جئت شيئا نكرا .
ومنها : أنه أراد انك أتيت أمرا بديعا غريبا ، فإنهم يقولون فيما يستغربونه ويجهلون علته أنه نكر ومنكر ، وليس يمكن ان يدفع خروج الكلام مخرج الاستفهام والتقرير دون القطع . ألا ترى إلى قوله : ( أخرقتها لتغرق أهلها ) والى قوله : ( أقتلت نفسا زكية بغير نفس ) . ومعلوم انه ان كان قصد بخرق السفينة إلى التغريق ، فقد اتى منكرا . وكذلك ان كان قتل النفس على سبيل الظلم .
وأما قوله : ( لا تؤاخذني بما نسيت ) فقد ذكر فيه وجوه ثلاثة : أحدها : انه أراد النسيان المعروف ، وليس ذلك بعجب مع قصر المدة ، فإن الانسان قد ينسى ما قرب زمانه لما يعرض له من شغل القلب وغير ذلك .
والوجه الثاني : انه أراد لا تأخذني بما تركت . ويجري ذلك مجرى قوله تعالى : ( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ) ( 28 ) أي ترك ، وقد روي هذا الوجه عن ابن عباس عن ابي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : " وقال موسى لا تؤاخذني بما نسيت " . يقول بما تركت من عهدك .
والوجه الثالث : انه أراد لا تؤاخذني بما فعلته مما يشبه النسيان فسماه نسيانا للمشابهة كما قال المؤذن لاخوة يوسف عليه السلام : انكم لسارقون اي انكم تشبهون السراق . وكما يتأول الخبر الذي يرويه ابوهريرة عن النبي صلى الله عليه وآله انه قال : " كذب ابراهيم ( ع ) ثلاث كذبات في قوله سارة اختي ، وفي قوله بل فعله كبيرهم هذا . وقوله اني سقيم " ، والمراد بذلك ان كان هذا الخبر صحيحا أنه فعل ما ظاهره الكذب . واذا حملنا هذه اللفظة على غير النسيان الحقيقي فلا سؤال فيها . واذا حملناها على النسيان في الحقيقة كان الوجه فيه ان النبي صلى الله عليه وآله انما لا يجوز عليه النسيان فيما يؤديه عن الله تعالى أو في شرعه أو في امر يقتضي التنفير عنه . فأما فيما هو خارج عما ذكرناه فلا مانع من النسيان ، ألا ترى انه اذا نسي أو سهى في مأكله أو مشربه على وجه لا يستمر ولا يتصل ، فنسب إلى انه مغفل ، فإن ذلك غير ممتنع ، وأما وصف النفس بأنها زكية فقد قلنا ان ذاك خرج مخرج الاستفهام لا على سبيل الاخبار . واذا كان استفهاما فلا سؤال على هذا الموضع . وقد اختلف المفسرون في هذه النفس ، فقال اكثرهم انه كان صبيا لم يبلغ الحلم ، وأن الخضر وموسى عليهما السلام مرا بغلمان يلعبون ، فأخذ الخضر ( ع ) منهم غلاما فاضجعه وذبحه بالسكين . ومن ذهب إلى هذا الوجه يجب أن يحمل قوله زكية على انه من الزكاة الذي هو الزيادة والنماء ، لان الطهارة في الدين من قولهم : زكت الارض تزكو اذا زاد ريعها . وذهب قوم إلى أنه كان رجلا بالغا كافرا ولم يكن يعلم موسى ( ع ) باستحقاقه القتل ، فاستفهم عن حاله . ومن أجاب بهذا الجواب إذا سئل عن قوله تعالى : ( حتى اذا لقيا غلاما فقتله ) ( 29 ) يقول لا يمتنع تسمية الرجل بأنه غلام على مذهب العرب وان كان بالغا .
فأما قوله : ( فخشينا ان يرهقهما طغيانا وكفرا ) فالظاهر يشهد ان الخشية من العالم لا منه تعالى . والخشية ههنا قيل : العلم . كما قال الله تعالى : ( وان امرأة خافت من بعلها نشوزا أو اعراضا ) ( 30 ) وقوله تعالى : ( الا ان يخافا الا يقيما حدود الله ) ( 31 ) وقوله عزوجل : ( وان خفتم علية ) ( 32 ) وكل ذلك بمعنى العلم .
وعلى هذا الوجه كأنه يقول انني علمت بإعلام الله تعالى لي ان هذا الغلام متى بقى كفر أبويه ( كفروا ابواه ) ، ومتى قتل بقيا على ايمانهما . فصارت تبقيته مفسدة ووجب احترامه ، ولا فرق بين ان يميته الله تعالى وبين أن يأمر بقتله . وقد قيل ان الخشية هاهنا بمعنى الخوف الذي لا يكون معه يقين ولا قطع . وهذا يطابق جواب من قال ان الغلام كان كافرا مستحقا للقتل بكفره ، وانضاف إلى استحقاقه ذلك بالكفر خشية ادخال ابويه في الكفر وتزيينه ( وترديده ) لهما . قال قوم ان الخشية ههنا هي الكراهية . يقول القائل : فرقت بين الرجلين خشية ان يقتتلا ، أي كراهة لذلك ، وعلى هذا التأويل والوجه الذي قلنا أنه بمعنى العلم لا يمتنع ان تضاف الخشية إلى الله تعالى .
فإن قيل : فما معنى قوله تعالى ( أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر ) ( 33 ) والسفينة البحرية تساوي المال الجزيل ، وكيف يسمى مالكها بأنه مسكين والمسكين عند قوم شر من الفقير ؟ وكيف قال : ( وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ) ( 34 ) ومن كان وراءهم قد سلموا من شره ونجوا من مكروهه وانما الحذر مما يستقبل .
قلنا أما قوله : لمساكين ففيه أوجه :
منها أنه لم يعن بوصفهم بالمسكنة الفقر ، وإنما أراد عدم الناصر وانقطاع الحيلة . كما يقال لمن له عدو يظلمه ويهضمه انه مسكين ومستضعف وان كان كثير المال واسع الحال . ويجري هذا مجرى ما روي عنه عليه السلام من قوله : " مسكين مسكين رجل لا زوجة له " . وانما أراد وصفه بالعجز وقلة الحيلة وان كان ذا مال واسع .
ووجه آخر : وهو ان السفينة الواحده البحرية التي لا يتعيش الا بها ولا يقدر على التكسب إلا من جهتها كالدار التي يسكنها الفقير هو وعياله ولا يجد سواها ، فهو مضطر اليها ومنقطع الحيلة إلا منها . فاذا انضاف إلى ذلك ان يشاركه جماعة في السفينة حتى يكون له منها الجزء اليسير ، كان اسوأ حالا وأظهر فقرا .
ووجه آخر : ان لفظه المساكين قد قرئت بتشديد السين وفتح النون ، فإذا صحت هذه الرواية فالمراد بها البخلاء . وقد سقط السؤال . فأما قوله تعالى : ( وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ) فهذه اللفظة يعبر بها عن الامام والخلف معا . فهي ها هنا بمعنى الامام . ويشهد بذلك قوله تعالى : ( ومن ورائه جهنم ) يعني من قدامه وبين يديه . وقال الشاعر :
ليس على طول الحياة ندم * ومن وراء المرء ما لا يعلم وقال الآخر :
اليس ورائي ان تراخت منيتي * لزوم العصى تحنى عليها الاصابع ولا شبهة في أن المراد بجميع ذلك : القدام . وقال بعض أهل العربية إنما صلح ان يعبر بالوراء عن الامام اذا كان الشئ المخبر عنه بالوراء يعلم انه لابد من بلوغه ثم يسبقه ويخلفه . فتقول العرب : البرد وراءك وهو يعني قدامك ، لانه قد علم أنه لابد من ان يبلغ البرد ثم يسبق .
ووجه آخر : وهو أنه يجوز ان يريد ان ملكا ظالما كان خلفهم وفي طريقهم عند رجوعهم على وجه لا انفكاك لهم منه ولا طريق لهم إلا المرور به ، فخرق السفينة حتى لا يأخذها اذا عادوا عليه . ويمكن ان يكون وراءهم على وجه الاتباع والطلب والله اعلم بمراده .
تنزيه موسى عن تبرئته بهتك عورته :
( مسألة ) : فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها ) ( 35 ) أو ليس قد روي في الآثار ان بني اسرائيل رموه ( ع ) بأنه أدر وبأنه ابرص ، وأنه ( ع ) القى ثيابه على صخرة ليغتسل ، فأمر الله تعالى تلك الصخرة بأن تسير فسارت وبقي موسى ( ع ) مجردا يدور على محافل بني اسرائيل حتى رأوه وعلموا انه لا عاهة به .
( الجواب ) : قلنا ما روي في هذا المعنى ليس بصحيح وليس يجوز ان يفعل الله تعالى بنبيه عليه السلام ما ذكروه من هتك العورة ليبرئه من عاهة أخرى ، فإنه تعالى قادر على ان ينزهه مما قذفوه به على وجه لا يلحقه معه فضيحة أخرى ، وليس يرمى بذلك انبياء الله تعالى من يعرف اقدارهم . والذي روي في ذلك من الصحيح معروف ، وهو ان بني اسرائيل لما مات هارون عليه السلام قذفوه بأنه قتله لانهم كانوا إلى هرون ( ع ) أميل ، فبرأه الله تعالى من ذلك بأن امر الملائكة بأن تحمل هرون ( ع ) ميتا ، فمرت به على محافل بني اسرائيل ناطقة بموته ومبرئة لموسى عليه السلام من قتله . وهذا الوجه يروى عن امير المؤمنين عليه الصلاة والسلام . وروي ايضا ان موسى ( ع ) نادى اخاه هرون فخرج من قبره فسأله هل قتله قال لا ؟ ثم عاد إلى قبره . وكل هذا جائز والذي ذكره الجهال غير جائز .
( 1 ) القصص الآية 16
( 2 ) الاعراف الآية 23
( 3 ) القصص الآية 19
( 4 ) الشعراء الآية 19
( 5 ) الشعراء الآية 20
( 6 ) الشعراء الآية 18
( 7 ) الشعراء الآية 12 - 13
( 8 ) طه الآية 29 - 30
( 9 ) البقرة الآية 23
( 10 ) الاعراف الآيات 113 - 119
( 11 ) طه الآية 67
( 12 ) طه الآية 68
( 13 ) يونس الآية 88
( 14 ) القصص الآية 8
( 15 ) المجبرة : أو الجبرية : فرقة تنسب إلى جهم بن صفوان تقول أن الانسان مجبر في أعماله
( 16 ) يونس الآية 88
( 17 ) يونس الآية 88
( 18 ) التوبة 55
( 19 ) الاعراف 143
( 20 ) النساء 153
( 21 ) البقرة 55
( 22 ) الاعراف 155
( 23 ) الاعراف 150
( 24 ) طه 94
( 25 ) الكهف 65 - 70
( 26 ) الكهف 80
( 27 ) المائدة 112
( 28 ) طه 115
( 29 ) الكهف 74
( 30 ) النساء 128
( 31 ) البقرة 229
( 32 ) التوبة 28
( 33 ) الكهف 79
( 34 ) الكهف 79
( 35 ) الاحزاب 69