تقييم الاقوال المخالفة على ضؤ الاية
في الاية خمس مسائل لا بد من تحديدها لمعرفة السبب الصحيح في نزولها:.
المسالة الاولى : في المامور به في الاية :.
لا يستقيم معنى الاية الشريفة الا بحمل ( انزل ) فيها على الماضي الحقيقي ,لانها قالت (بلغ ما انزل اليك ) ولم تقل : بلغ ما سوف ينزل اليك وبيان ذلك :.
اولا , ظـهور الفعل في الماضي الحقيقي , وعدم وجود قرينة توجب حمله على ما سوف ينزله اللّه تـعالى في المستقبل بل لم اجد استعمال ( انزل ) في القرآن لماسوف ينزل ابدا , على كثرة وروده في الايات .
ثانيا , ان الاية نزلت في آخر شهور نبوته (ص ) , واذا حملنا الفعل على المستقبل يكون معناها : انك ان لم تبلغ ما سوف ننزله عليك في هذه الشهور الباقية من نبوتك ,فانك لم تبلغ رسالة ربك ابدا معنى لم تجئ به رواية , ولم يقل به احد من علما الشيعة , ولا السنة واذا تعين حمل لفظ ( انزل اليك ) على الماضي الحقيقي , دل على ان اللّه تعالى كان انزل على رسوله امـرا ثـقيلا , وامره بتبليغه فكان الرسول يفكر في ثقله على الناس , وفي كيفية تبليغه لهم , فجات الايـة لـتـقـول له : لا تتاخر في التنفيذ , ولا تفكرفي موقف الناس , هل يؤمنون او يكفرون ولكن نـطـمـئنك بانهم سوف لن يكفروا ,وسنعصمك منهم وهذا هو تفسير اهل البيت (ع ) وما وافقه من احاديث السنيين .
المسالة الثانية : فيما يصحح الشرط والمشروط به في التبليغ :.
وقد اتضح ذلك من المسالة الاولى , وانه لا معنى لقولك : يافلان بلغ رسائلي التي سوف ارسلها معك , فـانك ان لم تفعل لم تبلغ رسائلي من نوع قول الشاعر:.
وفسر الما بعد الجهد بالما نعم يصح ان تقول له عن رسالة معينة فعلية او مستقبلية : ان هذه الرسالة مهمة وضرورية جدا , وان لم تبلغها , فانك لم تبلغ شيئا من رسائلي ـ قال في تفسير الميزان : 6 / 49:.
فالكلام موضوع في صوره التهديد وحقيقته بيان اهميه الحكم , وانه بحيث لو لم يصل الى الناس ولم يراع حقه كان كان لم يراع حق شي من اجزا الدين .
فـقـولـه : وان لـم تفعل فما بلغت , جملة شرطية سيقت لبيان اهميه الشرط وجوداوعدما , لترتب الجزا الاهم عليه وجودا وعدما , وليست شرطيه مسوقة على طبع الشرطيات الدائرة عندنا , فانا نستعمل ان الشرطيه طبعا فيما نجهل تحقق الجزاللجهل بتحقق الشرط , وحاشا ساحة النبي (ص ) من ان يقدر القرآن في حقه احتمال ان يبلغ الحكم النازل عليه من ربه , وان لا يبلغ المسالة الثالثة : في نوع تخوف النبي (ص ):.
ولا بـد من القول بان الخوف الذي كان عند النبي (ص ) كان خوفا على الرسالة ,وليس على شخصه من القتل او الاذى , وذلك لعصمته وتقواه وشجاعته (ص ).
فـان اللّه تـعـالى كان اخبر رسوله (ص ) من الايام الاولى لبعثته , بثقل مسؤولية النبوة والرسالة , وجسامة تبعاتها وكان صلوات اللّه عليه وآله موطنا نفسه على كل ذلك , فلا معنى لان يقال بانه تلكا بعد ذلك او تباطا او امتنع في اول البعثة , او في وسطها او في آخرها , حتى جاه التهديد والتطمين وقـد تـبين مما تقدم ان الخوف على الرسالة الذي كان يعيشه النبي (ص ) عندنزول الاية , ليس الا خوفه من ارتداد الامة , وعدم قبولها امامة عترته من بعده .
المسالة الرابعة : في معنى الناس في الاية :.
ـ قال الفخر الرازي في تفسيره : 6 جز 12 / 50:.
واعـلـم ان الـمراد من ( الناس ) ها هنا الكفار بدليل قوله تعالى : ان اللّه لا يهدي القوم الكافرين لا يمكنهم مما يريدون انتهى .
ولا يمكن قبول ذلك , لان نص الاية العصمة من ( الناس ) وهو لفظ اعم من المسلمين والكفار , فلا وجه لحصره بالكفار.
وقد تصور الرازي ان المعصوم منهم هم الذين لا يهديهم اللّه تعالى , وان المعنى :ان اللّه سيعصمك من الكفار ولا يهديهم ولكنه تصور خاطئ , لان ربط عدم هدايته تعالى للكفار بالاية يتحقق من وجوه عـديـدة فقد يكون المعنى : سيعصمك من كل الناس , ولا يهدي من يقصدك باذى لانه كافر او يكون الـمعنى : بلغ وسيعصمك اللّه من الناس , ومن ابى ما تبلغه فهو كافر , ولا يهديه اللّه تعالى وقد ورد شـبيه هذا المعنى في البخاري : 8 / 139 قال : عن ابي هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : كل امتي يدخلون الجنة الا من ابى , ومن عصاني فقد ابى انتهى .
فـابـقا لفظة ( الناس ) على اطلاقها وشمولها للجميع , يتناسب مع مصدر الاذى والخطر على النبي (ص ) الـذي هو غير محصور بالكفار , بل يشمل المنافقين من الامة ايضا بل عرفت ان الخطر كاد يكون عند نزول الاية محصورا فيهم .
ولـكن الرازي يريد ابعاد الذم في الاية عن المنافقين , وابعاد الامر الالهي فيها عن تبليغ ولاية امير المؤمنين علي (ع ) المسالة الخامسة : في معنى العصمة من الناس :.
وقـد اتضح مما تقدم ان العصمة الالهية الموعودة في الاية , لابد ان تكون متناسبة مع الخوف منهم , ويـكون معناها عصمته (ص ) من ان يطعنوا في نبوته ويتهموه بانه حابى اسرته واستخلف عترته , وقـد كـان مـن مـقـولاتهم المعروفة ان محمدا (ص ) يريد ان يجمع النبوة والخلافة لبني هاشم , ويحرم قبائل قريش وكانه (ص ) هو الذي يملك النبوة والامامة ويعطيهما من جيبه فـهـذا هو المعنى المتناسب مع خوف الرسول (ص ) وانه كان يفكر بينه وبين نفسه بما سيحدث من تبليغه ولاية علي (ع ).
فـهـي عصمة في حفظ نبوته عند قريش , وليست عصمة من القتل او الجرح اوالاذى , كما ادعت الاقـوال المخالفة ولذلك لم تتغير حراسته (ص ) بعد نزول الاية عما قبلها , ولا تغيرت المخاطر والاذايا التي كان يواجهها , بل زادت .
والـقدر المتيقن من هذه العصمة حفظ نبوة النبي (ص ) في الامة وان ثقلت عليهم اوامره , وقرروا مخالفته والغرض منها بقا النبوة , وتمام الحجة للّه تعالى .
وهي غير العصمة الالهية الاصلية للرسول (ص ) في افعاله واقواله وكل تصرفاته وقد وفى اللّه سبحانه لرسوله (ص ) بما وعد , فقد اعلن (ص ) في يوم الغديرخلافة علي والعترة (ع ) ثـم امر ان تنصب لعلي خيمة , وان يهنؤوه بالولاية الالهية عليهم ففعلوا في نبوة النبي (ص ).
ولـكـنـهم عندما توفي فعلوا مايريدون , واقصوا عليا والعترة (ع ) على بيعة صاحبهم
مسالتان تتعلقان بية العصمة من الناس
يوجد مسالتان ترتبطان بالاية الشريفة , نتعرض لهما باختصار:.
المسالة الاولى : محاربة علي (ع ) بية تبليغ ولايته :
يـشهد جميع المسلمين للنبي (ص ) بانه بلغ عن ربه كل ما امره به , ونصح لامته ,وتحمل اكثر من جميع الانبيا (ص ).
لكنك تجد في مصادر السنيين تهمة للشيعة بانهم يقولون ان النبي (ص ) كتم اشيا ولم يبلغها الى الامة , والعياذ باللّه ويستدلون لردهم بية ( بلغ ما انزل اليك ).
ـ قال القرطبي في تفسيره : 6 / 243.
من قال ان محمدا صلى اللّه عليه وسلم كتم شيئا من الوحي فقد كذب اللّه تعالى يقول : يا ايها الرسول بـلـغ ما انزل اليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته , وقبح اللّه الروافض حيث قالوا : انه صلى اللّه عليه وسلم كتم شيئا مما اوحى اليه كان بالناس حاجة اليه انتهى .
ـ وقال القسطلاني في ارشاد الساري : 7 / 106.
وقال الراغب فيما حكاه الطيبي : فان قيل : كيف قال : وان لم تفعل فما بلغت رسالته , وذلك كقولك ان لم تبلغ فما بلغت قيل : معناه وان لم تبلغ كل ما انزل اليك , تكون في حكم من لم يبلغ شيئا مماانزل اللّه , بخلاف ماقالت الشيعة انه قد كتم اشيا على سبيل التقية والـظـاهـر ان قصة هذه التهمة وبيت القصيد فيها هو حديث عائشة القائل : من زعم ان رسول اللّه (ص ) كـتـم شـيئا من كتاب اللّه , فقد اعظم على اللّه الفرية وقد رووه عنهاواكثروا من روايته وقصدهم به الرد على علي (ع ) وتكذيبه فـقـد كـان عـلـي (ع ) يقول انه وارث علم النبي (ص ) وان عنده غير القرآن حديث النبي (ص ) ومواريثه فعنده جامعة فيها كل ما يحتاج اليه الناس حتى ارش الخدش .
وكـان يـقـول ان الـنـبي (ص ) قد اخبره بما سيحدث على عترته من بعده حتى هجومهم على بيته واحراقه , واجباره على بيعتهم , وانه امره في كل ذلك باوامره .
ونحن الشيعة نعتقد بكل ذلك , وتروي مصادرنا , بل ومصادر السنيين عن مقام علي (ع ) وقربه من النبي (ص ) ومكانته عنده , وشهاداته (ص ) في حقه ما يوجب اليقين بان النبي (ص ) كان مامورا من اللّه تـعـالـى ان يـعد عليا اعدادا خاصا , ويورثه علمه مضافا الى ما اعطى اللّه عليا (ع ) من صفات ومؤهلات والهام .
ونعتقد بان عليا (ع ) طاهر مطهر , صادق مصدق , في كل ما يقوله ولو كان شهادة لنفسه وعترته .
قال السيوطي في الدر المنثور : 6 / 260.
واخـرج ابـن جرير , وابن ابي حاتم , والواحدي , وابن مردويه , وابن عساكر ,وابن النجاري , عن بريدة قال : قال رسول اللّه (ص ) لعلي : ان اللّه امرني ان ادنيك ,ولا اقصيك , وان اعلمك , وان تعي وحق لك ان تعي فنزلت هذه الاية : وتعيها اذن واعية انتهى .
ثم ذكر السيوطي رواية ابي نعيم في الحلية وفيها : فانت اذن واعية لعلمي انتهى .
واذا كـان حـذيـفة بن اليمان صاحب سر النبي (ص ) وهو من اتباع علي (ع ) , فان عليا هو صاحب اسرار النبي (ص ) وعلومه .
وقـد روى الـجـمـيع انه (ص ) عهد اليه ان يقاتل على تاويل القرآن من بعده ,واخبره انه سيقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين بـل الظاهر ان وصايا النبي (ص ) لعلي كان بعضها معروفا في حياته , ومن ذلك وصيته له بان يسجل مـظـلـوميته ويقيم الحجة على القوم , ولا يقاتلهم من اجل الخلافة فلو لم يكونوا يعرفون ذلك , لما كـانـت عندهم جراة ان يهاجموا عليا في بيته بعشرين مسلح او خمسين , ويقتحموا داره , ثم يلقوا القبض عليه , ويجروه بحمائل سيفه الى البيعة لقد كان علي (ع ) معجزة واسطورة في القوة والشجاعة , وفي الهيبة والرعب في قلوب الناس واكثر الـذين هاجموه في داره كانوا معروفين بالخوف والفرار في عدة حروب ولم يكن احد منهم ولا من غيرهم يجرا ان يقف في وجه علي (ع ) اذا جرد ذاالفقار ولـكنهم كانوا مطمئنين ان اطاعته للنبي (ص ) تغلب شجاعته وغيرته , وانه سيعمل بالوصية , ولن يجرد ذا الفقار , حتى لو ضربت الزهرا (س ) واسقط جنينها والـحاصل ان الخلافة القرشية قد ردت اقوال علي بان عنده مواريث النبي (ص )وعلمه , ونفت ان يـكـون الـنبي (ص ) ورث عترته شيئا لا علما ولا اوقافا ولا مالا فـدك , التي كان النبي (ص ) اعطاها الى فاطمة (س )عندما نزل قوله تعالى ( وآت ذا القربى حقه ) بـل زادت الـسلطة على نفي كلام علي , وحاولت ان تستفيد من آية الامر بالتبليغ التي هي موضوع بـحـثنا فقالت : من قال ان النبي (ص ) قد بلغه وحده امورا واحكاما, ولم يبلغهاالى الامة عامة , فقد اتهم النبي (ص ) بانه قصر في تبليغ الامة , وهو نوع من الكفر به (ص ) هي مقولة السلطة في رد قول علي (ع ).
ـ قال البخاري في صحيحه : 5 / 188:.
بـاب يـا ايها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك عن عائشة رضي اللّه عنها قالت : من حدثك ان محمدا (ص ) كتم شيئا مما انزل عليه , فقد كذب , واللّه يقول يا ايهاالرسول بلغ ما انزل اليك من ربك الاية انـتـهـى ثم كرر البخاري ذلك في : 6 / 50 و8 /210 , ومسلم : 1 / 10 , والترمذي : 4 / 328 وغيرهم .
ولـكـن هذه العملية من السلطة تتضمن مغالطتين : في توسيع معنى المامور بتبليغه وفي توسيع معنى المامور بتبليغهم كما تتضمن تحريفا لمقولة علي (ع ) وشيعته فليس كل شي قاله اللّه تعالى لرسوله اوجب عليه ان يبلغه فان علوم النبي (ص ) وما اوحى اللّه اليه , ومـا الهمه اياه , وما شاهده في اسرائه ومعراجه اوسع مما بلغه لعامة الناس , باضعاف مضاعفة , ولا يمكن ان يوجب اللّه تعالى عليه تبليغها , لان الناس لا يطيقونها حتى لو كانوا مؤمنين ولا كـل شـي امـره ان يبلغه , امره ان الى كل الناس بدون استثنا فهناك امور عامة لكل الناس , وقد بـلغها لهم , وامور خاصة لاناس خاصين مؤمنين او كافرين , وقدبلغها لاصحابها , مثل قوله تعالى ( قل لهم في انفسهم قولا بليغا ) الخ .
ولـم يـقـل عـلـي (ع ) ولا احد من شيعته ان النبي (ص ) لم يبلغ , بل قالوا انه كلم الناس على قدر عـقولهم , وعلى قدر تحملهم وتقبلهم , وانه لذلك بلغ عليا (ع ) اكثرمن غيره واستودعه علومه , كما امره اللّه تعالى .
ولـيـس في هذا تهمة بعدم التبليغ , كما زعم القرطبي والقسطلاني بل هي قول بتبليغ اضافي خاص بعلي والزهرا والحسنين (ع ) بل ان عليا وشيعته قالوا ان النبي (ص ) قد بلغ الامة امورا كثيرة , تتعلق بعترته وغيرهم كما ترى في كتابنا هذا فتبليغه عندهم اوسع مما يقول به القرشيون .
ولـكن القرشيين يظلمون عليا (ع ) ويفترون عليه , ويتغاضون عن تصريح عمربان النبي (ص ) لم يبين عدة آيات مثل الكلالة والربا والنتيجة ان الامر بالتبليغ وامتثاله , لا يتنافى مع تخصيص النبي (ص ) لعلي (ع )بعلوم عن غيره , لان ذلك مما امره بتبليغه له .
كـمـا لا يـتـنـافى مع التقية التي قد يستعملها النبي (ص ) مع قريش او غيرها , لانه مامور بالعمل بالحكمة لاهداف الاسلام , وبالتقية ومداراة الناس .
ـ فـفي الكافي : 2 / 117 , عن الامام الصادق (ع ) قال : قال رسول اللّه (ص ) : امرني ربي بمداراة الناس , كما امرني بادا الفرائض .
ـ وفي مجمع الزوائد 8 / 17.
عـن ابـي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : راس العقل بعد الايمان باللّه التودد الى الناس .
وعن بريدة قال : كنا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم , فاقبل رجل من قريش فادناه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقربه , فلما قام قال : يا بريدة اتعرف هذا؟.
قلت : نعم , هذا اوسط قريش حسبا , واكثرهم مالا , ثلاثا.
فقلت يا رسول اللّه قد انباتك بعلمي فيه , فانت اعلم .
فقال : هذا ممن لا يقيم اللّه له يوم القيامة وزنا.
وقد عقد البخاري في صحيحه اكثر من باب لمدارة الناس , قال في : 7 / 102.
بـاب الـمـداراة مع الناس ويذكر عن ابي الدردا انا لنكشر في وجوه اقوام , وان قلوبنالتلعنهم عن عروة بن الزبير ان عائشة اخبرته انه استاذن على النبي صلى اللّه عليه وسلم رجل فقال : ائذنوا له فبئس ابن العشيرة او بئس اخو العشيرة , فلما دخل الان له الكلام , فقلت يارسول اللّه : قلت ما قلت , ثـم الـنت له في القول ؟ اتقا فحشه انتهى .
ـ وفي وسيط النيسابوري 2 / 208.
وقـال الانـبـاري : كان النبي (ص ) يجاهر ببعض القرآن ايام كان بمكة , ويخفي بعضه اشفاقا على نفسه من شر المشركين اليه , والى اصحابه انتهى .
المسالة الثانية : الرد بالاية على من زعم ان النبي (ص ) قد سحر:
فـقـد اسـتدل عدد من علما الفريقين بالاية على كذب الروايات التي تزعم ان يهوديا قد سحر النبي (ص ) فاخذ مشطه (ص ) وبعض شعره , وجعل فيه سحراودفنه في بئر وزعموا ان ذلك السحر اثـر فـي الـنبي (ص ) فصار يتخيل انه فعل الامرولم يفعله مـسـحـورا والـمـشـاطـة , فـذهب النبي (ص ) الى البئر , ولكنه لم يستخرج المشط منها , لانه كان شفي من السحر ,ولم يرد ان يثير فتنة , فامر بدفن البئر فقد روى البخاري هذه التهمة عن عائشة في خمس مواضع من صحيحه , ففي : 4 /91:.
عن عائشة قالت : سحر النبى صلى اللّه عليه وسلم , وقال الليث كتب الى هشام انه سمعه ووعاه عن ابيه عن عائشة قالت سحر النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى كان يخيل اليه انه يفعل الشئ وما يفعله , حـتـى كان ذات يوم دعا ودعا , ثم قال : اشعرت ان اللّه افتاني فيما فيه شفائي ؟ اتاني رجلان فقعد احدهما عند راسي , والاخر عندرجلي , فقال احدهما للاخر:.
ما وجع الرجل ؟.
قال : مطبوب قال : ومن طبه ؟.
قال : لبيد بن الاعصم ؟.
قال : في ماذا؟.
قال : في مشط ومشاقة وجف طلعة ذكر قال : فاين هو؟.
قال : في بئر ذروان فـخـرج الـيـهـا الـنـبي صلى اللّه عليه وسلم , ثم رجع فقال لعائشة حين رجع : نخلهاكانها روس الشياطين فقلت : استخرجته ؟.
فـقـال : لا , امـا انا فقد شفاني اللّه , وخشيت ان يثير ذلك على الناس شرا , ثم دفنت البئر ورواه في : 4 / 68 , و : 7 / 28 ـ 29 و 164 , ورواه مسلم في : 7 / 14,وغيره وغيره .
وقد رد هذه التهمة علما الشيعة قاطبة , وقد تجرا قليل من العلما السنيين على ردها به آية ( واللّه يعصمك من الناس ).
ـ قال الطوسي في تفسير التبيان : 1 / 384.
مـاروي مـن ان الـنـبـي (ص ) سحر ـ وكان يرى انه يفعل مالم يفعله ـ فاخبار آحادلايلتفت اليها , وحـاشا النبي (ص ) من كل صفة نقص , اذ تنفر من قبول قوله , لانه حجة اللّه على خلقه , وصفيه من عباده , واختاره اللّه على علم منه , فكيف يجوزذلك مع ما جنبه اللّه من الفظاظة والغلظة وغير ذلك من الاخلاق الدنيئة والخلق المشينة , ولا يجوز ذلك على الانبيا الا من لم يعرف مقدارهم , ولا يـعـرفـهـم حـقيقة معرفتهم وقد قال اللّه تعالى : واللّه يعصمك من الناس , وقد اكذب اللّه من قال : ان يـتـبـعون الا رجلا مسحورا فقال : وقال الظالمون ان يتبعون الا رجلا مسحورا فنعوذباللّه من الخذلان .
ـ وقال ابن ادريس العجلي في السرائر : 3 / 534.
والـرسـول (ع ) مـا سـحـر عـندنا بلا خلاف , لقوله تعالى : واللّه يعصمك من الناس وعند بعض المخالفين انه سحر , وذلك بخلاف التنزيل المجيد ـ وقال المجلسي في بحار الانوار : 60 / 38.
ومـنـهـا سـورة الفلق , فقد اتفق جمهور المسلمين على انها نزلت فيما كان من سحرلبيد بن اعصم اليهودي لرسول اللّه (ص ) حتى مرض ثلاث ليال .
ومنها ما روي ان جارية سحرت عايشة , وانه سحر ابن عمر حتى تكوعت يده فـان قيل : لو صح السحر لاضرت السحرة بجميع الانبيا والصالحين , ولحصلوالانفسهم ( على ) الـملك العظيم , وكيف يصح ان يسحر النبي (ص ) وقد قال اللّه :واللّه يعصمك من الناس , ولا يفلح الساحر حيث اتى وممن رد هذه التهمة من السنيين : النووي في المجموع : 19 / 243 , قال :.
قلت : واكتفي بهذا القدر من احاديث سحر الرسول (ص ) تنبيه : قال الشهاب بعد نقل في التاويلات : عن ابي بكر الاصم انه قال : ان حديث سحره صلى اللّه عليه وسلم المروي هنا متروك لما يلزمه من صدق قول الكفرة انه مسحور , وهو مخالف لنص القرآن حيث اكذبهم اللّه فيه .
ونقل الرازي عن القاضي انه قال : هذه الرواية باطلة , وكيف يمكن القول بصحتهاواللّه تعالى يقول : واللّه يـعـصـمـك من الناس , وقال : ولا يفلح الساحر حيث اتى , ولان تجويزه يفضي الى القدح في النبوة , ولانه لو صح ذلك لكان من الواجب ان يصلواالى ضرر جميع الانبيا والصالحين انتهى .
ـ والرازي في تفسيره : 16 جز 32 / 187 قال : قول جمهور المسلمين ان لبيد بن اعصم اليهودي سحر النبى (ص ) فى احدى عشرة عقدة فاعلم ان المعتزلة انكرواذلك باسرهم وكيف يمكن القول بصحتها واللّه تعالى يقول : واللّه يعصمك من الناس قال الاصحاب : هذه القصة قد صحت عند جمهور اهل النقل الخ انتهى .
ولكن هؤلا قلة من علما السنة , فاكثرهم يقبلون احاديث سحر نبيهم واصـل المشكلة عندهم انهم يقبلون كلام عائشة وكلام البخاري مهما كان , ولايسمحون لانفسهم ولا لاحـد ان يـبـحـثـه وينقده وقد اوقعهم هذا المنهج في مشكلات عقائدية عديدة , في التوحيد والـنـبـوة والشفاعة ومنها احاديث بدالوحي وورقة بن نوفل , وحديث الغرانيق الذي اخذه المرتد سـلـمان رشدي وحرفه وسماه الايات الشيطانية ومنها احاديث ان اليهود سحروا النبي (ص ) التي رواهاالبخاري عن عائشة وقد تحيروا فيها كما رايت , ولم يجرا احد منهم على القول انها من المكذوبات على عائشة , او من خيالات النسا.
والـرد الصحيح ان تهمة السحر تتنافى مع اصل النبوة , وانها تهمة الكفار التي برااللّه نبيه (ص ) , منها بنص القرآن , كما تقدم .
اما ردها بية العصمة فهو ضعيف , لانه قد يجاب عنه بان آية العصمة نزلت في آخر عمره (ص ) , وقصة السحر المزعومة كانت قبلها.
وامـا عـلـى تفسيرنا للاية , فقد عرفت ان القدر المتيقن من العصمة فيهاعصمته (ص ) من ارتداد قـريـش والـمـسـلمين في حياته , بسبب تبليغه ولاية عترته من بعده فيقتصر فيها على هذا القدر المتيقن , ما لم يقم دليل على شمولها لغيره .
وقد اكثر المفسرون والشراح السنييون من الكلام في هذا الموضوع , وتجشموااحتمالات كثيرة كل ذلك بسبب تفسيرهم الخاطئ للاية وتصورهم انها تفيدعصمته (ص ) من القتل والسم والجرح والاذى .
ومن ذلك انهم تصوروا ان الاية تعارض الرواية القائلة ان موته (ص ) استند الى اللقمة التي اكلها من الـشـاة المسمومة التي قدمتها اليه اليهودية , ثم اتاه جبريل (ع )فاخبره فامتنع عن الاكل , فانتقض عليه سم تلك اللقمة بعد سنة فتوفي بسببه .
ـ قال في هامش الشفا 1 / 317:.
فـان قـيـل : مـاالـجمع بين قوله تعالى ( واللّه يعصمك من الناس ) وبين هذا الحديث المقتضي لعدم العصمة , لان موته (ع ) بالسم الصادر من اليهودية ؟.
والجواب : ان الاية نزلت عام تبوك , والسم كان بخيبر قبل ذلك .
ومن ذلك ما تحيروا فيه من ان النبي (ص ) قد تمنى القتل في سبيل اللّه تعالى ,مع انه الاية تدل على عـصمته من القتل , فهل يجوز ان يتمنى النبي شيئا وهو يعلم انه لا يكون ؟ شرح البخاري : 8 / 2644 :عن ابي هريرة قال سمعت النبي (ص ) يقول والذي نفسي بيده لوددت ان اقـتـل فـي سـبيل اللّه استشكل بعض الشراح صدور هذا التمني من النبي صلى اللّه عليه وسلم مـع عـلـمه بانه لا يقتل , واجاب بن التين بان ذلك لعله كان قبل نزول قوله تعالى : واللّه يعصمك من الـنـاس , وهو متعقب فان نزولها كان في اوائل ما قدم المدينة , وهذاالحديث صرح ابو هريرة بانه سمعه من النبي صلى اللّه عليه وسلم , وانما قدم ابوهريرة في اوائل سنة سبع من الهجرة .
والذي يظهر في الجواب : ان تمنى الفضل والخير لا يستلزم الوقوع , فقد قال صلى اللّه عليه وسلم : وددت لـو ان مـوسـى صبر , كما سياتي في مكانه , وسياتي في كتاب التمني نظائر لذلك , وكانه صـلـى اللّه عليه وسلم اراد المبالغة في بيان فضل الجهاد وتحريض المسلمين عليه , قال بن التين : وهذا اشبه .
وحكى شيخنا بن الملقن ان بعض الناس زعم ان قوله ( ولوددت ) مدرج من كلام ابي هريرة , قال : وهو بعيد ونحوه في عمدة القاري : 7 جز 14 / 95.
ونـقـول : لـو ثبت ذلك عنه (ص ) لكان تمنيا حقيقيا , لان الاية انما تضمن عدم ردة الناس في حياته (ص ) , ولا ربط لها بضمان عدم القتل والجرح والاذى .
رايـت فـي احاديث حجة الوداع كيف ركز النبي (ص ) في خطبه وكلامه وتصرفاته على مقام اهل بيته (ع ) فبشر الامة بالائمة الاثني عشر منهم وبلغها ان اللّه تعالى جعل وجوب طاعتهم الى جانب القرآن , فسماهم مع القرآن ( الثقلين ) , وانه تعالى حرم عليهم الصدقات وجعل لهم مالية خاصة هي : الخمس الخ .
لـقـد كـانـت خـطـبـه (ص ) في الحج , وما رافقها من اعماله واقواله , في علي وفاطمة والحسن والـحـسـين (ع ) , اقصى ما يمكن ان تتحمله قريش من ترسيخ قيادة بني هاشم , و (حرمان ) بقية قبائل قريش من القيادة حسب زعمهم , بل تكريس قريش عبيدا طلقا لبني هاشم ولا تذكر المصادر السنية ردة الفعل الصريحة لزعما قريش المعروفين على هذه الخطب والاعمال النبوية في حجة الوداع .
ومـن الـطبيعي ان لا تذكر ذلك فهل تريد من مصدر قرشي ان يعترف لك بان قريشا لم تكن مرتاحة لـكـلام الـنـبي (ص ) ؟ وحـكـيـم بـن حـزام , وصهيب بن سنان , وابا الاعورالسلمي وغيرهم , وغيرهم كانوا مكفهري الوجوه من تمهيد النبي (ص ) لبني هاشم , وانهم نشطوا في اتصالاتهم مع القرشيين المهاجرين , من غير بني هاشم لمعالجة هذا الاتجاه النبوي الخطير ؟ امـا مصادرنا الشيعية فتذكر انهم نشطوا ضد بني هاشم في حجة الوداع , وان نشاطهم زاد في منى فـي ايـام الـتـشريق , وكانت نتيجة مشاوراتهم ومحادثاتهم ان كتبوابينهم صحيفة تسميها مصادرنا (الصحيفة الملعونة ) لانهم تعاهدوا فيها ان لايسمحوا لبني هاشم ان يجمعوا بين النبوة والخلافة وتذكر ان بضعة نفر من ممثليهم انسلوا خفية من منى الى مكة , ووقعوا الصحيفة في داخل الكعبة فـكانت صحيفة قرشية جديدة ضد بني هاشم , ولكنها هذه المرة ليست لمحاصرتهم في الشعب باسم اللات والعزى بل لعزلهم سياسيا وحرمانهم من القيادة بعد النبي (ص ) , باسم الاسلام وذكـرت مـصـادرنـا ان اللّه تـعالى اطلع نبيه (ص ) على هذه الصحيفة , فاخبراصحابها بفعلتهم , فارتعدت فرائصهم ولـكـنـه (ص ) اكـتـفى باتمام الحجة عليهم , وترك لهم حرية العمل وفق قانون تبليغ الانبيا (ع ) وواجبهم في اقامة الحجة للّه تعالى على عباده واذا كان ما ذكرته الصحاح السنية من لغط وكلام وضجة وصراخ في وسط خطبة النبي (ص ) في عرفات , عندما وصل الى نسب الائمة الاثني عشر من بعده ـ اذا كان ذلك واحدا من فعاليات قريش الـمـنـظمة ضد بني هاشم ـ فلا بد ان يكون النبي (ص ) انبهم عليه ايضا , وعرفهم انه مطلع عليه جيدا
عـلـى اي حـال , فقد اعتبر القرشيون ان حجة الوداع مرت بسلام نسبيا , فقدتحدث النبي (ص ) كثيرا عن بني هاشم وعن عترته وعن ذريته من فاطمة , وعن اختيار اللّه تعالى لهم , وللائمة منهم , وعـن تحريم الصدقات عليهم , وفرض الخمس لهم ولكنه لم يتخذ اجرا عمليا والحمد للّه , ولم يطلب من قريش والمسلمين ان يبايعوا عليا كبير العترة , بصفته الامام الاول من العترة امـا الـنـبي (ص ) فقد اعتبر انه بلغ رسالة ربه في عترته باقصى ما يمكنه , وان قريشا لا تتحمل اكثر من ذلك فقد وصل الامر عندها الى آخر حدود الصبر , ولوطلب .
منها بيعة علي بخلافته , فانها قد تطعن في نبوته وتتهمه بان هدفه اقامة ملك لبني هاشم , شبيها بملك كسرى وقيصر وبذلك تستطيع قريش ان تقود حركة ردة في العرب , وتخوفهم من القبول بملك .
بـني هاشم بعد النبي (ص ) , ملك يبدا بعلي ثم يكون للحسن ثم للحسين , ثم لايخرج من ابنا فاطمة الى يوم القيامة وقـد سجلت المصادر شبيه هذه العبارات , على السنة زعما قريش وكانه هو الذي اعطاه او يريد ان يعطيه لعترته (ع )
الوحي يضغط على النبي (ص ) من السما وقريش من الارض
كـان جبرئيل (ع ) في حجة الوداع وظروفها المصيرية ينزل على النبي (ص )باوامر ربه , وقد يكون رافقه طوال موسم الحج , واملى عليه عبارات خطبه وكان مما قال له في المدينة :.
يا محمد ان اللّه عز وجل يقرؤك السلام ويقول لك انه قد دنا اجلك , واني مستقدمك علي , ويامرك ان تدل امتك على حجهم , كما دللتهم على صلاتهم وزكاتهم وصيامهم .
وحج النبي (ص ) بالمسلمين , وعلمهم حجهم , وواصل تركيز مبادئ الاسلام في نفوسهم , ومكانة الائمة من عترته , كما مر في حديث الائمة الاثني عشر ,وحديث الثقلين , وحديث فرض الخمس لهم , وتحريم الصدقات عليهم الخ .
وفـي آخـر ايـام الحج نزل عليه جبرئيل (ع ) ان اللّه تعالى يامرك ان تدل امتك على وليهم , فاعهد عـهدك , واعمد الى ماعندك من العلم وميراث الانبيا فورثه اياه ,واقمه للناس علما , فاني لم اقبض نبيا من انبيائي الا بعد اكمال ديني , ولم اترك ارضي بغير حجة على خلقي .
فاخذ النبي (ص ) يفكر في طريقة الاعلان , نظرا الى وضع قريش المتشنج ,وقال في نفسه : امتي حـديثو عهد بالجاهلية ومتى اخبرتهم بهذا في ابن عمي يقول قائل , ويقول قائل هذا الامر الالهي الجديد في عترته , بعدرجوعه الى المدينة , بالتمهيد المناسب , وبمعونة الانصار.
ورحـل الـنبي (ص ) من مكة وهو ناو ان يكون اول عمل يقوم به في المدينة اعلان ولاية عترته , كما امره ربه تعالى .
لـكـن فـي اليوم الثالث من مسيره , عندما وصل الى كراع الغميم , وهو كما في مراصد الاطلاع : موضع بين مكة والمدينة , امام عسفان بثمانية اميال جاه جبرئيل (ع ) لخمس ساعات مضت من النهار , وقال له : يامحمد ان اللّه عز وجل يقرؤك السلام ويقول لك ( ياايها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك , وان لم تفعل فمابلغت رسالته , واللّه يعصمك من الناس , ان اللّه لايهدي القوم الكافرين ).
فـخـاف الـنبي (ص ) وخشع لربه , وتسمر في مكانه , واصدر امره الى المسلمين بالتوقف , وكان اولـهـم قـد وصل الى مشارف الجحفة , وكانت الجحفة بلدة عامرة على بعد ميلين او اقل من كراع الغميم , ولكن النبي (ص ) اراد تنفيذ الامر الالهي المشدد , فورا في المكان الذي نزل فيه الوحي قـال (ص ) لـلـنـاس : انيخوا ناقتي فواللّه ما ابرح من هذا المكان حتى ابلغ رسالة ربي وامرهم ان يردوا من تقدم من المسلمين اليه , ويوقفوا من تاخر منهم حين يصلون اليه .
ونـزل (ص ) عـن ناقته , وكان جبرئيل الى جانبه , ينظر اليه نظرة الرضا , وهو يراه يرتجف من خـشـيـة ربه , وعيناه تدمعان خشوعا وهو يقول : تهديد ووعد ووعيدلامضين في امر اللّه , فان يتهموني ويكذبوني فهو اهون علي من ان يعاقبنى العقوبة الموجعة في الدنيا والاخرة وقبل ان يفارقه جبرئيل اشار اليه فنظر النبي (ص ) فاذا على يمينه دوحة اشجار, فودع جبرئيل ومال اليها , وحط رحال النبوة عند غدير خم .
قـال بـعض المسلمين : فبينا نحن كذلك , اذ سمعنا رسول اللّه (ص ) وهو ينادي :ايها الناس اجيبوا داعي اللّه فاتيناه مسرعين في شدة الحر , فاذا هو واضع بعض ثوبه على راسه .
ونـادى منادي النبي (ص ) في الناس بالصلاة جامعة , ووقت الصلاة لم يحن بعدولكن حانت قبلها ( صلاة ) اخرى لا بد من ادائها قبل صلاة الظهر.
انـهـا فـريضة ولاية عترته الطاهرة , ولا بد ان يبلغها عن ربه الى المسلمين مهما قال فيه قائلون , وقال فيهم قائلون فقد شدد عليه ربه في ذلك : وافهمه ان مسالة عترته ليست مسالة شخصية تخصه وانك ان كنت تخشى الناس , فاللّه احق ان تخشاه وسيعصمك منهم , فاصدع بما تؤمر ونـزل الـمسلمون حول نبيهم (ص ) , وكان ذلك اليوم قائظا شديد الحر , فامرهم ان يكسحوا تحت الاشـجـار لتكون مكانا لخطبة الولاية , ثم للصلاة في ذلك الهجير ,وامرهم ان ينصبوا له احجارا كهيئة المنبر , ليشرف على الناس .
ورتب المسلمون المكان والمنبر , ووضعوا على احجاره حدائج الابل , فصارمنصة اكثر ارتفاعا , وحسنا.
وورد الـمـسـلـمون ما الغدير فشربوا منه , واستقوا , وتوضؤوا وتجمعوا لاستماع الخطبة قبل الصلاة , ولم يتسع لهم المكان تحت دوحة الغدير , وكانت ست اشجاركبيرة , فجلس كثير منهم في الشمس , او استظل بظل ناقته .
عـرف الـجميع ان امرا قد حدث , وان النبي (ص ) سيخطب فقد نزل عليه وحي او حدث امر مهم اوجب ان يوقفهم في هذا الهجير , ولا يصبر عليهم حتى يصلوا الى مدينة الجحفة العامرة , التي تبعد عنهم ميلين فقط كان مجموع المشاركين في حجة الوداع من مئة الف الى مئة وعشرين الفاكما.
ذكـرت الروايات , ولكن هذا العدد كان في عرفات ومنى اما بعد تمام الحج فقدتوزعوا , فمنهم من اهـل مـكة وقد رجعوا اليها , ومنهم بلادهم عن طريق الطائف فسلكوا طريقها , وآخرون بلادهم عن طريق جدة وما اليها.
والـذين هم مع الرسول (ص ) عن طريق الجحفة والمدينة الوف كثيرة ايضا نحوعشرة آلاف فقد قال الامام الصادق (ع ) مؤرخا تضييع قريش لحادثة الغدير:.
الـعجب مما لقي علي بن ابي طالب ياخذ حقه بشاهدين لـم يـدم طـويـلا تـطلع المسلمين الى ما سيفعله النبي (ص ) وما سيقوله فقد راوه صعد على منبر الاحـجـار والاحـداج , وبدا باسم اللّه تعالى , واخذ يرتل قصيدة نبوية في حمد اللّه تعالى , والثنا عليه ويشهد اللّه والناس على عبوديته المطلقة لربه .
ثـم قـدم لهم عذره , لانه اضطر ان ينزلهم في مكان قليل الما والشجر , وما امهلهم حتى يصلوا الى بـلـدة الـجـحفة المناسبة لنزول مثل هذا القافلة الكبيرة , المتوفر فيها مايحتاج اليه المسافر ولا انتظر بهم وقت الصلاة , بل ناداهم قبل وقتها , وكلفهم الاستماع اليه في حر الظهيرة .
واخبرهم انه نزل عليه جبرئيل (ع ) في مسجد الخيف , وامره ان يقيم عليا.
للناس ثم قال لهم : ان اللّه عز وجل بعثني برسالة فضقت بها ذرعا , وخفت الناس ان يكذبوني , فقلت في نفسي من غير ان ينطق به لساني : امتي حديثو عهدبالجاهلية , ومتى اخبرتهم بهذا في ابن عمي , يـقول قائل , ويقول قائل ابلغهاليعذبني .
وقـد ضمن لي تبارك وتعالى العصمة من الناس , وهو الكافي الكريم , فاوحى الي :يا ايها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك , وان لم تفعل فما بلغت رسالته , واللّه يعصمك من الناس , ان اللّه لايهدي القوم الكافرين .
ثـم قـال (ص ) : لا الـه الا هـو , لا يـؤمن مكره , ولا يخاف جوره , اقر له على نفسي بالعبودية , واشـهـد لـه بالربوبية , واؤدي ما اوحى الي , حذرا من ان لا افعل فتحل بي منه قارعة , لا يدفعها عني احد , وان عظمت حيلته .
ايها الناس : اني اوشك ان ادعى فاجيب , فما انتم قائلون ؟.
فقالوا : نشهد انك قد بلغت ونصحت .
فـقـال : اليس تشهدون ان لا اله الا اللّه , وان محمدا رسول اللّه , وان الجنة حق وان النار حق وان البعث حق ؟.
قالوا : يا رسول اللّه بلى .
فاوما رسول اللّه الى صدره وقال : وانا معكم .
ثم قال رسول اللّه : انا لكم فرط , وانتم واردون علي الحوض , وسعته مابين صنعا الى بصرى , فيه عدد الكواكب قدحان , ماؤه اشد بياضا من الفضة فانظرواكيف تخلفوني في الثقلين .
فقام رجل فقال : يارسول اللّه وما الثقلان ؟.
قـال : الاكـبـر : كتاب اللّه , طرفه بيد اللّه , وسبب طرفه بايديكم فاستمسكوا به ولاتزلوا ولا تضلوا.
والاصغر : عترتي اهل بيتي , اذكركم اللّه في اهل بيتي , اذكركم اللّه في اهل بيتي ,اذكركم اللّه فـي اهـل بيتي , وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض سالت ربي ذلك لهما فلا تقدموهم فتهلكوا ولا تتخلفوا عنهم فتضلوا ولا تعلموهم فانهم اعلم منكم .
ايـهـا الـنـاس : الـسـتـم تعلمون ان اللّه عز وجل مولاي , وانا مولى المؤمنين , واني اولى بكم من انفسكم ؟.
قالوا : بلى يا رسول اللّه .
قال : قم يا علي فقام علي , واقامه النبي (ص ) عن يمينه , واخذ بيده ورفعهاحتى بان بياض ابطيهما , وقال :.
من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه , وعاد من عاداه , وانصر من نصره واخذل من خذله , وادر الحق معه حيث دار.
فـاعـلموا معاشر الناس ان اللّه قد نصبه لكم وليا واماما مفترضا طاعته على المهاجرين والانصار , وعلى التابعين لهم باحسان , وعلى البادي والحاضر , وعلى الاعجمي والعربي , والحر والمملوك , والصغير والكبير.
فقام احدهم فساله وقال : يارسول اللّه ولاؤه كماذا؟.
فقال (ص ) : ولاؤه كولائي , من كنت اولى به من نفسه فعلي اولي به من نفسه وافـاض الـنـبـي (ص ) فـي بيان مكانة علي والعترة الطاهرة والائمة الاثني عشر من بعده : علي والـحـسـن والـحسين , وتسعة من ذرية الحسين , واحد بعد واحد , مع القرآن والقرآن معهم , لا يفارقونه ولا يفارقهم , حتى يردوا علي حوضي .
ثم اشهد المسلمين مرات انه قد بلغ عن ربه فشهدوا له .
وامرهم ان يبلغ الشاهد الغائب فوعدوه وقالوا : نعم .
وقام اليه آخرون فسالوه فاجابهم .
ومـا ان اتـم خطبته , حتى نزل جبرئيل بقوله تعالى ( اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا ) فكبر رسول اللّه (ص ) وقال :اللّه اكبر على اكمال الدين واتمام النعمة , ورضى الرب برسالتي , وولاية علي بعدي .
ونزل عن المنبر , وامر ان تنصب لعلي خيمة , وان يهنئه المسلمون بولايته عليهم حتى انه امر نساه بتهنئته , فجئن الى باب خيمته وهنانه وكـان من اوائل المهنئين عمر بن الخطاب فقال له : بخ بخ لك يابن ابي طالب ,اصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة وجـا حـسـان بن ثابت , وقال : ائذن لي يارسول اللّه ان اقول في علي ابياتاتسمعهن , فقال : قل على بركة اللّه , فانشد حسان :.
يناديهم يوم الغدير نبيهم ـــــ بخم فاسمع بالرسول مناديا.
بقول فمن مولاكم ووليكم ـــــ فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا.
الهك مولانا وانت ولينا ـــــ ولم تر منا في الولاية عاصيا.
فقال له قم يا علي فانني ـــــ رضيتك من بعدي اماما وهاديا.
فمن كنت مولاه فهذا وليه ـــــ فكونوا له انصار صدق مواليا.
هناك دعا اللهم وال وليه ـــــ وكن للذي عادى عليا معاديا.
اخـذنـا هذا التسلسل في قصة الغدير من مصادرنا المتعددة مثل : كمال الدين وتمام النعمة للصدوق / 276 , والاحـتـجـاج للطبرسي : 1 / 70 , وروضة الواعظين للنيسابوري / 89 , والمسترشد / 117 , وغيرها.
وقد روت مصادر السنة حديث الغدير قريبا مما في مصادرنا , وتجد ذلك في كتاب الغدير للاميني .
ونكتفي هنا بنقل رواية مسلم في صحيحه : 7 / 122 قال :.
عن يزيد ابن حيان قال : انطلقت انا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم , الى زيد بن ارقم , فلما جلسنا اليه قال له حصين :.
لقد لقيت يازيد خيرا كثيرا , رايت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم , وسمعت حديثه ,وغزوت معه , وصليت خلفه , لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا.
حدثنا يازيد ما سمعت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم .
قـال : يا ابن اخي , واللّه لقد كبرت سني وقدم عهدي , ونسيت بعض الذي كنت اعي من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم , فما حدثتكم فاقبلوا , وما لا , فلا تكلفونيه .
ثـم قـال : قـام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوما فينا خطيبا , بما يدعى خما بين مكة والمدينة , فحمد اللّه واثنى عليه , ووعظ وذكر , ثم قال :.
اما بعد , الا ايها الناس , فانما انا بشر يوشك ان ياتي رسول ربي فاجيب , واناتارك فيكم ثقلين :.
اولـهـمـا كتاب اللّه , فيه الهدى والنور , فخذوا بكتاب اللّه واستمسكوا به , فحث على كتاب اللّه ورغب فيه , ثم قال :.
واهل بيتي , اذكركم اللّه في اهل بيتي , اذكركم اللّه في اهل بيتي , اذكركم اللّه في اهل بيتي .
فقال له حصين : ومن اهل بيته يا زيد ؟ اليس نساؤه من اهل بيته ؟.
قال : نساؤه من اهل بيته , ولكن اهل بيته من حرم الصدقة بعده .
قال : ومن هم ؟.
قال : هم آل علي , وآل عقيل , وآل جعفر , وآل عباس .
قال : كل هؤلا حرم الصدقة .
قال : نعم انتهى ورواه احمد في مسنده : 2 / 366 , وغيره وغيره .
ـ وقال الحاكم في المستدرك 3 / 148.
عـن زيـد بن ارقم رضي اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : اني تارك فيكم الثقلين , كتاب اللّه واهل بيتي , وانهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض .
هذا حديث صحيح الاسناد على شرط الشيخين , ولم يخرجاه انتهى .
وقـد رايـت ان مـسلما رواه , ولكن لفظ الحاكم فيه اخبار نبوي باستمرار وجود امام من اهل بيته (ص ) الى يوم القيامة .
ـ وانظر كيف صور ابن كثير القضية في بدايته : 5 / 408 , قال :.
لما تفرغ النبي من بيان المناسك , ورجع الى المدينة خطب خطبة عظيمة الشان في اليوم الثامن عشر مـن ذي الـحـجة بغدير خم , تحت شجرة هناك , فبين فيها اشيا,وذكر في فضل علي بن ابي طالب وامانته وعدله وقربه اليه , وازاح به ما كان في نفوس كثير من الناس منه , وقد اعتنى بامر حديث غـديـر خم ابو جعفر الطبري ,فجمع فيه مجلدين , واورد فيها طرقه والفاظه , وكذلك الحافظ الكبير ابو القاسم بن عساكر اورد احاديث كثيرة في هذه الخطبة انتهى .
فـقـد جـعـل القضية ان كثيرا من المسلمين كانوا غاضبين من علي بن ابي طالب ,متحاملين عليه في انـفـسـهـم , فاوقف النبي المسلمين (ص ) في غدير خم , لكي يثبت لهم براة علي ويرضيهم عنه , فذكر فضله وقربه منه ( وازاح به ما كان في نفوس كثير من الناس منه ) وبين في خطبته ( اشيا ) من هذا القبيل ان هـذا الاسـلـوب انما يكتب به مؤرخ من عشيرة بني عبد الدار , الذين قتل علي منهم بضعة عشر فارسا منهم حملوا لوا قريش في وجه رسول اللّه (ص ) , ولكن المؤرخ المسلم لا يستطيع ان يكتب به الا اذا كان مبغضا لعلي بن ابي طالب فهل عرفت لماذا يحب (السلفيون ) ابن كثير ويهتمون بنشر كتبه ؟