استعمالات ( البدعة ) في الحادث المذموم :
#(( ورد ان رجـلا قـد اخـبر عبداللّه بن مسعود بان قوما يجلسون في المسجد بعدالمغرب , فيهم رجـل يـقـول : كـبـروا اللّه كذا وكذا , وسبحوا اللّه كذا وكذا , واحمدوا اللّه كذاوكذا , فقال عبداللّه بن مسعود للرجل : فاذا رايتهم فعلوا ذلك فائتني فاخبرني بمجلسهم ,فاتاهم الرجل فجلس , فلما سمع ما يقولون , قام فاتى ابن مسعود , فاخبره , فجا ابن مسعود , وكان رجلا حديدا , فقال : انا عـبـداللّه بـن مـسـعـود , واللّه الـذي لا الـه غـيره لقدجئتم ببدعة ظلما , ولقد فضلتم اصحاب مـحـمـد(ص ) علما , فقال عمرو بن عتبة : استغفر اللّه , فقال عبداللّه : عليكم الطريق فالزموه , ولئن اخذتم يمينا وشمالا لتضلن ضلالابعيدا )) ((408)) .
فبغض النظر عن طبيعة الاسلوب الذي عالج به عبداللّه بن مسعود هذه الحادثة التي لم يكن لها سابق مـثـال فـي حياة الرسول (ص ) واصحابه , نجد انه قد استعمل لفظ( البدعة ) في مورد الذم , وعد انحراف الانسان عن طريق الحق نحو اليمين او الشمال بدعة وضلالا بعيدا , والظاهر من الحديث ان هذا المعنى لـ ( البدعة ) هو المرتكز في اذهان القوم آنذاك .
#روي عن ابن مسعود ايضا انه قال : (( اتبعوا آثارنا , ولا تبتدعوا , فقدكفيتم )) ((409)) .
#وروي ايضا عن ابن مسعود انه قال : (( ان للّه عند كل بدعة كيد بها الاسلام وليا من اوليائه , يذب عنها , وينطق بعلامتها , فاغتنموا حضور تلك المواطن , وتوكلواعلى اللّه )) ((410)) .
فاستعمال لفظ ( البدعة ) مذمومة واضح في الحديث , حيث عد ( البدعة ) ممايكاد به الاسلام , وان للّه تـعـالى في كل زمن وليا , يدافع عن الاسلام , ويذب هذه المحدثات عنه , ولعل كلام ابن مسعود هذا مستفاد من قوله (ص ) :
(( ان للّه عـند كل بدعة تكون بعدي يكاد بها الايمان وليا من اهل بيتي موكلا به ,يذب عنه , ينطق بـالـهام من اللّه , ويعلن الحق , وينوره , ويرد كيد الكائدين , ويعبر عن الضعفا , فاعتبروا يا اولي الابصار , وتوكلوا على اللّه )) ((411)) .
وسوف نعود الى هذا الحديث مرة اخرى , عندما نصل الى البحث عن دور اهل البيت (ع ) في مواجهة ظاهرة الابتداع , ان شا اللّه تعالى .
#عن عبداللّه بن الحلبي عن ابي جعفر وابي عبداللّه (ع ) انهما قالا :
(( حـج عمر اول سنة حج وهو خليفة , فحج تلك السنة المهاجرون والانصار ,وكان علي (ع ) قد حـج تـلـك السنة بالحسن والحسين (ع ) وبعبداللّه بن جعفر , قال : فلمااحرم عبداللّه , لبس ازارا وردا ممشقين مصبوغين بطين المشق , ثم اتى , فنظر اليه عمر وهو يلبي , وعليه الازار والردا , وهو يسير الى جنب علي (ع ) , فقال عمر من خلفهم : ما هذه البدعة التي في الحرم ؟.
فـالـتـفت اليه علي (ع ) فقال له : يا عمر , لا ينبغي لاحد ان يعلمنا السنة , فقال عمر :صدقت يا ابا الحسن , لا واللّه ما علمت انكم هم )) ((412)) .
فـنـرى فـي هـذا الـحـديـث ان عـمـر يستعمل لفظ ( البدعة ) في مورد الذم بنظره الا ان امير الـمـؤمـنين (ع ) يبين له ان هذا العمل ليس ببدعة كما يتصور , وانما هو من صميم السنة ,فيعتذر لاجل ذلك , وينسحب عما تفوه به من كلام .
#روى ( الـبخاري ) عن مجاهد انه قال : (( دخلت انا وعروة بن الزبير المسجد ,فاذا عبداللّه بن عـمـر جـالس الى حجرة عائشة , واذا اناس يصلون في المسجد صلاة الضحى , قال : فسالناه عن صلاتهم , فقال : بدعة )) ((413)) .
وقال في ( فتح الباري ) بصدد عدد الاقوال الواردة في ( صلاة الضحى ) , وهي ستة : (( السادس : انـهـا بـدعـة , صـح ذلـك من رواية عروة عن ابن عمر , وسئل انس عن صلاة الضحى فقال : ( الـصـلوات خمس ) , وعن ابي بكرة انه راى ناسا يصلون الضحى فقال : ما صلاها رسول اللّه , ولا عامة اصحابه )) ((414)) .
وهذا يدل ان الاستعمال كان في مورد الذم , وانه في خصوص الامر الذي يدخل الى الدين من دون ان يستند الى اصل شرعي , من خلال اطلاق لفظ ( البدعة ) في كلام عبداللّه بن عمر.
#قـال ( الـشاطبي ) في ( الاعتصام ) : (( وخرج ابو داود وغيره عن معاذ بن جبل (رض ) انه قال يوما : ان من ورائكم فتنا يكثر فيها المال , ويفتح فيها القرآن ,حتى ياخذه المؤمن والمنافق , والرجل والمراة , والصغير والكبير , والعبد والحر , فيوشك قائل ان يقول : ما للناس لا يتبعوني وقد قرات القرآن ؟ ما هم بمتبعي حتى ابتدع لهم غيره , واياكم وما ابتدع فان ما ابتدع ضلالة )) ((415)) .
فاستعملت ( البدعة ) هنا ايضا مذمومة , واطلق القول بان كل ما ابتدع واحدث فهو ضلالة .
#نـقل ابن وضاح عن حذيفة : (( انه اخذ حجرين فوضع احدهما على الاخر , ثم قال لاصحابه : هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور ؟ قالوا : يا ابا عبداللّه مانرى بينهما من النور الا قليلا , قال :
والـذي نـفسي بيده لتظهرن البدع حتى لا يرى من الحق الا بقدر ما بين هذين الحجرين من النور , واللّه لتفشون البدع حتى اذا ترك منهاشي قالوا : تركت السنة )) ((416)) .
#وخـرج ابـن وضـاح عـن ابـن عباس انه قال : (( ما ياتي على الناس من عام الا احدثوا فيه بدعة , واماتوا سنة , حتى تحيا البدع , وتموت السنن )) ((417)) .
وعنه ايضا انه قال : (( عليكم بالاستفاضة والاثر , واياكم والبدع )) ((418)) .
ولـسـان الـمـقوليتن واضح في ذم البدع , وعدها في مقابل السنة , والتحذير منها ,وهذا يعني انها استعملت في كلام ابن عباس في مورد الذم ايضا.
#قـال الـكاندهلوي في ( حياة الصحابة ) : (( اخرج الطبراني عن عمرو بن زرارة قال : وقف علي عبداللّه ـ يعني ابن مسعود(رض ) ـ وانا اقص , فقال : يا عمرو لاهدى من محمد(ص ) واصحابه ؟.
ولقد رايتهم تفرقوا عني , حتى رايت مكاني ما فيه احد )) ((419)) .
والكلام في قول ابن مسعود : (( لقد ابتدعت بدعة ضلالة )) كالكلام في قول النبي الاكرم (ص ) :
(( ومن ابتدع بدعة ضلالة )) ((420)) , وقد تقدم ان هذا القيد لا يدل على المفهوم , ولا يخرج ( البدعة ) عن اصل وضعها لخصوص الموارد الحادثة المذمومة .
#روي انــه لما عاقب علي (ع ) المغالين الذين ادعوا الوهيته , وانكروا نبوة الرسول الاكرم (ص ) , بـان قـتـلهم بالدخان , قدم عليه يهودي من اهل يثرب , قد اقر له في يثرب من اليهود انـه اعلمهم , وكان معه عدة من قومه واهل بيته , فبادر عليا(ع ) بالقول :
(( يا بن ابي طالب ما هذه البدعة التي احدثت في دين محمد ؟ فقال (ع ) :واية بدعة ؟ فقال اليهودي :
زعم قوم من اهل الحجاز انك عهدت الى قوم شهدوا ان لا اله الا اللّه , ولم يقروا ان محمدا رسوله , فـقتلتهم بالدخان , فقال امير المؤمنين (ع ) : فنشدت ك بالتسع الايات التي انزلت على موسى بطور سـينا , وبحق الكنائس الخمس القدس ,وبحق السمت الديان , هل تعلم ان يوشع بن نون اتي بقوم بعد وفـاة مـوسى (ع ) شهدوا ان لا اله الا اللّه , ولم يقروا ان موسى (ع ) رسول اللّه , فقتلهم بمثل هذه القتلة ؟ فقال اليهودي : نعم الى آخر الحديث )) ((421)) .
فمن الواضح ايضا من خلال هذه الواقعة ان المرتكز في اذهان هؤلا المحاججين عن ( البدعة ) هو انـهـا لا تـرد الا مـذمـومـة , ولا تستعمل الا في هذا المجال , ولذا نراهم يوجهون النقد الى امير الـمـؤمنين (ع ) من خلال وصف عمله بالابتداع بادئ بذي بد , الا انهم يتراجعون عن ذلك , بعد ان يبين لهم علي (ع ) دوافع هذا الاجرا , وبعد ان يعلموا ان عمله (ع ) انما كان نابعا من صميم التشريع , ومتخذا من اجل صيانته والذب عنه .
#ذكر ابن وضاح عن ابي حفص المدني انه قال : (( اجتمع الناس في يوم عرفة في مسجد النبي (ص ) يـدعـون بـعد العصر , فخرج نافع مولى ابن عمر من دار آل عمر , فقال :ايها الناس , ان الذي انتم عـلـيـه بـدعة وليست بسنة , انا ادركنا الناس ولا يصنعون مثل هذا , ثم رجع فلم يجلس , ثم خرج الثانية , ففعل مثلها , ثم رجع )) ((422)) .
فـعـلى الرغم من ان فهم ( نافع ) لمفهوم ( البدعة ) كان فهما مغلوطا الا ان الذي يخصنا ذكره في الـمـقـام هـو ان لـفظ ( البدعة ) قد استعمل في مورد الذم المقابل للسنة , وطبق على هذا المورد بالخصوص في , نظر القائل .
#جـا في مدخل ( ابن الحاج ) : (( ان مروان لما احدث المنبر في صلاة العيد عندالمصلى , قام اليه ابو سعيد الخدري , فقال : يا مروان ما هذه البدعة ؟ فقال : انها ليست ببدعة , هي خير مما تعلم , ان الـنـاس قـد كثروا فاردت ان يبلغهم الصوت , فقال ابوسعيد : واللّه لا تاتون بخير مما اعلم ابدا , واللّه لا صليت وراك اليوم .
فانصرف ولم يصل معه صلاة العيد )) ((423)) .
وعـلـى الرغم ايضا من ان معالجة ابي سعيد الخدري لهذا الموقف المحدث لم تكن مبنية على اساس فهم صحيح لمفهوم ( البدعة ) , وبقطع النظر عن طبيعة المواقف الصادرة من طرفي هذه الواقعة , نـجـد ان ( الـبدعة ) قد استعملت مذمومة ايضا , وقد فهم الطرف المقابل خصوص هذا المعنى من استعمالها تبادرا.
#وجـا في ( المدخل ) ايضا : (( قال ابو معمر رايت يسارا ابا الحكم يستاك على باب المسجد , وقاصا يقص في المسجد , فقلت له : يا ابا الحكم , انا في سنة وهم في بدعة )) ((424)) .
فاطلقت ( البدعة ) فيما يقابل السنة في نظر القائل .
#وجا في ( فتح الباري ) : (( وقد اخرج احمد بسند جيد عن غضيف بن الحارث قال : بعث الي عبد الملك بن مروان فقال : انا جمعنا الناس على رفع الايدي على المنبر يوم الجمعة , وعلى القصص بعد الصبح والعصر , فقال : اما انهما امثل بدعكم عندي ,ولست بمجيبكم الى شي منهما , لان النبي قال : ( ما احدث قوم بدعة الا ر فع من السنة مثلها , فتمسك بسنة خير من احداث بدعة ) )) ((425)) .
فـالاستشهاد بالحديث النبوي , وسياق المحاورة واضح في اطلاق لفظ ( البدعة )في مورد الذم من وجهة نظر المتكلم .
#روي عـن الـحسن البصري انه قال : (( ان اهل السنة كانوا اقل الناس فيما مضى ,وهم اقل الناس فيما بقي , الذين لم يذهبوا مع اهل الترف في اترافهم , ولا مع اهل البدع في بدعهم , وصبروا على سنتهم , حتى لقوا ربهم , فكذلك فكونوا )) ((426)) .
ونـقل عنه انه قال : (( صاحب البدعة لا يزداد اجتهادا , وصياما , وصلاة , الا ازداد من اللّه بعدا )) ((427)) .
وقال ايضا : (( لا تجالس صاحب بدعة , فانه يمرض قلبك )) ((428)) .
#وخرج ابن وهب عن ابي ادريس الخولاني انه قال : (( لئن ارى في المسجد نارالا استطيع اطفاها , احب الي من ان ارى فيه بدعة لا استطيع تغييرها )) ((429)) .
#وروي عـن ايـوب الـسـختياني انه قال : (( ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا , الا ازداد من اللّه بعدا )) ((430)) .
#وروي عن ابي قلابة انه قال : (( ما ابتدع رجل بدعة , الا استحل السيف )) ((431)) .
#وروي عـن يحيى بن ابي كثير انه قال : (( اذا لقيت صاحب بدعة في طريق ,فخذفي طريق آخر )) ((432)) .
#وروي عـن يـحيى بن ابي عمر الشيباني انه قال : (( كان يقال : يابى اللّه لصاحب بدعة بتوبة , وما انتقل صاحب بدعة الا الى شر منها )) ((433)) .
#وروي عن مالك انـه كثيرا ما كان ينشد :
وخير امور الدين ما كان سنة وشر الامور المحدثات البدائع ((434)) .
#وروي عن عبداللّه بن المبارك قوله : (( فالى اللّه نشكو وحشتنا ,وذهاب الاخوان , وقلة الاعوان , وظهور البدع )) ((435)) .
#وروي عـن عمر بن عبد العزيز انه لما بايعه الناس , صعد المنبر فقال : (( الاواني لست بمبتدع , ولكني متبع )) ((436)) .
وكـتـب الـى عامل له : (( واعلم ان الناس لم يحدثوا بدعة , الا وقد مضى قبلها ماهو دليل عليها , وعبرة فيها )) ((437)) .
#وقال عروة بن اذينة عن اذينة يرثيه :
ففي كل يوم كنت تهدم بدعة وتبني لنا من سنة ما تهدما ((438)) .
#وروي عن الفضل بن عياض انه قال : (( من جلس مع صاحب بدعة , لم يعطالحكمة )) ((439)) .
#وقال يحيى بن معاذ الرازي : (( اختلاف الناس كلهم يرجع الى ثلاثة اصول ,فلكل واحد منها ضد , فـمـن سقط عنه وقع في ضده : التوحيد وضده الشرك , والسنة وضدها البدعة , والطاعة وضدها المعصية )) ((440)) .
#وروي انـه قيل لابي علي الحسن بن علي الجوجزاني : (( كيف الطريق الى السنة ؟ فقال : مجانبة البدع )) ((441)) .
#وقـال ابـو بكر الترمذي : (( لم يجد احد تمام الهمة باوصافها , الا اهل المحبة , وانمااخذوا ذلك باتباع السنة , ومجانبة البدعة )) ((442)) .
#وقـال ابـو بـكـر بـن سـعـدان : (( الاعـتصام باللّه هو الامتناع من الغفلة , والمعاصي ,والبدع , والضلالات )) ((443)) .
#وروي انـه سئل حمدون القصار : (( متى يجوز للرجل ان يتكلم على الناس ؟فقال : اذا تعين عليه ادا فـرض مـن فـرائض اللّه فـي عـلمه , او خاف هلاك انسان في بدعة يرجو ان ينجيه اللّه منها )) ((444)) .
#وروي عـن ابـي عـثمان الجبري انه قال : (( من امر السنة على نفسه قولا وفعلانطق بالحكمة , ومن امر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة )) ((445)) .
#وروي انـه سـئل ابـراهيم الخواص عن العافية , فقال : (( العافية : اربعة اشيا :دين بلا بدعة الخ )) ((446)) .
#وروي عـن ابي محمد عبداللّه بن منازل انه قال : (( لم يضيع احد فريضه من الفرائض , الا ابتلاه اللّه بتضييع السنن , ولم يبتل بتضييع السنن احد , الا يوشك ان يبتلي بالبدع )) ((447)) .
#وقال بندار بن الحسين : (( صحبة اهل البدع تورث الاعراض عن الحق )) ((448)) .
ففي كل هذه المقولات المتقدمة , نلاحظ ان لفظ ( البدعة ) قد استعمل في مواردالذم بشكل واضح وصـريـح , وتـشير السياقات اللفظية في كل الموارد المتقدمة الى ان الارتكاز الحاصل في ذهنية الـمـسـلمين حول هذا المفهوم ينحصر بالطابع المقيت والمذموم له , وانها لم تستعمل في محاورات الـمـتشرعة الامذمومة , وانهم انما تلقوا هذا المعنى من الشريعة , وتعاملوا معه على هذا الاساس , ولم يحتملوا ان ( البدعة ) في الاصطلاح الشرعي يمكن ان تطبق على الحادث الممدوح .
#وروي عن يونس بن عبد الرحمن انه قال :
(( مـات ابـو ابـراهيم الكاظم (ع ) , وليس من قوامه احد الا وعنده المال الكثير ,وكان ذلك سبب وقـفـهـم , وجـحدهم لموته , طمعا في الاموال كان عند زياد بن مروان القندي سبعون الف دينار , وعند علي بن ابي حمزة ثلاثون الف دينار , فلمارايت ذلك وتبينت الحق , وعرفت من امر ابي الحسن الرضا(ع ) ما علمت , تكلمت ,ودعوت الناس اليه , فبعثا الي وقالا لي : كف , فابيت , وقلت لهما : انا رويـنـا عـن الـصادقين (ع ) انهما قالا : اذا ظهرت البدع , فعلى العالم ان يظهر علمه , فان لم يفعل سـلـب نور الايمان , وما كنت لادع الجهاد في امر اللّه على كل حال فناصباني , واضمرا لي العداوة )) ((449)) .
فـالملاحظ هنا ايضا ان يونس بن عبد الرحمن قد طبق لفظ ( البدعة ) على الامرالمذموم في نظر الشريعة المقدسة .
مع النافين للتقسيم :
وبـما ان التقسيم المزعوم لـ ( البدعة ) لا يمتلك ايا من المرتكزات الشرعية اوالعقلية التي تبرره بشكل مطلق , بل ولكونه يصطدم بشكل مباشر مع حكم العقل ,ونصوص الشرع كما اسلفنا ذلك في الـبـحـث الـسـابق فقد التفت مجموعة من علما العامة الى هذا الامر , وابطلوا القول بالتقسيم بشكل صريح .
ولـكن هؤلا ظلوا يعيشون في نفس الوقت هاجس ( التراويح ) , وتحيروا في تبرير اطلاق لفظ ( الـبـدعة ) عليها في مقولة : (( نعمت البدعة هذه )) , اذ لابد ان يكون المراد منها احد امرين : اما المعنى الاصطلاحي , واما المعنى اللغوي , فان كان المراد منهاهو المعنى الاصطلاحي , فهو غير قـابل للانطباق الا في خصوص الموارد المذمومة , بنص كلام النافين للتقسيم , وهذا يعني كون ( الـتـراويـح ) بدعة لا اصل لها في الدين , واما ان يكون المقصود منها هو المعنى اللغوي الذي يعني الامـر الـحـادث لا عـلى مثال سابق , على مااجمع عليه اللغويون , وهذا ينتهي بهم ايضا الى كون ( الـتـراويح ) بدعة لا اصل لها في الدين ايضا , اذ ان من اجلى قيود ( البدعة ) وشروطها بالاتفاق , هو عدم وجود اصل شرعي للعمل في الدين .
هذا الامر يطرح نفسه بالحاح امام النافين للتقسيم , فماذا ياترى انهم يجيبون عليه ؟ وما هو التبرير الذي بوسعهم ان يقدموه في هذا المجال ؟.
هذا ما ستقف عليه ايها القارئ الكريم , بعد ان تطالع معنا هذه الطائفة التي انتخبناها لك من بين اقوال النافين للتقسيم :
1 ـ الـحـافـظ ابـن رجب الحنبلي : يقول في ابطال القول بتقسيم البدعة الى ممدوحة ومذمومة : (( والـمراد بالبدعة : ما احدث مما لا اصل له في الشريعة يدل عليه , اما ما كان له اصل من الشرع يدل عليه , فليس ببدعة شرعا , وان كان بدعة لغة )) ((450)) .
ويضيف الى ذلك القول : (( فقوله (ص ) ( كل بدعة ضلالة ) , من جوامع الكلم , لايخرج عنه شي , وهو اصل عظيم من اصول الدين , وهو شبيه بقوله (ص ) : ( من احدث في امرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) , فكل من احدث شيئا , ونسبه الى الدين , ولم يكن له اصل من الدين يرجع اليه , فهو ضلالة , والـديـن بـري مـنه , وسوا من ذلك مسائل الاعتقدات , او الاعمال , او الاقوال الظاهرة والباطنة )) ((451)) .
2 ـ ابـن حـجـر الـعـسقلاني : يقول في ( فتح الباري ) موضحا معنى ( المحدثة في الدين ) : (( الـمـحدثات بفتح الدال , جمع محدثة , والمراد بها ما احدث وليس له اصل في الشرع , ويسمى في عرف الشرع ( بدعة ) , وما كان له اصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة , فالبدعة في عرف الشرع مذمومة بخلاف اللغة , فان كل شي احدث على غيرمثال يسمى بدعة , سوا كان محمودا او مذموما , وكـذا الـقول في المحدثة , وفي الامر المحدث الذي ورد في حديث عائشة : ( ما احدث في امرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) )) ((452)) .
3 ـ ابـو اسـحـاق الـشـاطـبـي : وهو يفصل القول بابطال تقسيم البدعة الى ممدوحة ومذمومة في الاصطلاح الشرعي , ويقصرها على خصوص مورد الذم من خلال ادلة وحجج كثيرة , فيقول بشان الـنـصـوص الشرعية التي تناولت مفهوم ( البدعة ) بالذم والتقريع : (( انها جات مطلقة عامة على كـثـرتـها , لم يقع فيها استثنا البتة , ولم يات فيهامما يقتضي ان منها ما هو هدى , ولا جا فيها : كل بـدعة ضلالة الا كذا وكذا , ولاشي من هذه المعاني , فلو كان هناك محدثة يقتضي النظر الشرعي فـيـها الاستحسان , اوانها لاحقة بالمشروعات , لذكر ذلك في آيه او حديث , لكنه لا يوجد , فدل على ان تلك الادلة باسرها على حقيقة ظاهرها من الكلية , التي لا يتخلف عن مقتضاها فرد من الافراد ان مـتـعقل البدعة يقتضي ذلك بنفسه , لانـه من باب مضادة الشارع , واطراح الشرع , وكل ما كان بهذه المثابة فمحال ان ينقسم الى حسن وقبيح , وان يكون منه مايمدح ما يذم )) ((453)) .
ويقول منتقدا الراي القائل بتقسيم ( البدعة ) الى احكام الشريعة الخمسة :
(( ان هـذا الـتقسيم امر مخترع لا يدل عليه دليل شرعي , بل هو في نفسه متدافع ,لان من حقيقة البدعة ان لا يدل عليها دليل شرعي , لا من نصوص الشرع , ولا من قواعده , اذ لو كان هناك ما يدل مـن الـشـرع عـلـى وجوب , او ندب , او اباحة , لما كان ثم بدعة , ولكان العمل داخلا في عموم الاعـمـال الـمـامور بها , او المخير فيها , فالجمع بين تلك الاشيا بدعا , وبين كون الادلة تدل على وجوبها , او ندبها , او اباحتها , جمع بين متنافيين )) ((454)) .
4 ـ الـشـيخ محمد بخيت : يقول في رسالته عن ( البدعة ) : (( ان البدعة الشرعية هي التي تكون ضـلالة ومذمومة , واما البدعة التي قسمها العلما الى واجب وحرام الخ ,فهي البدعة اللغوية , وهي اعم من الشرعية , لان الشرعية قسم منها )) ((455)) .
5 ـ الـدكـتـور دراز : يقول ما مضمونه : (( صارت كلمة البدعة في الاستعمال الشرعي الى معنى اخص من معناها في الاستعمال اللغوي , فلا تتناول على حقيقتهاالشرعية في الصدر الاول الا ما هو بـاطـل , وهـو تـلـك الـطرائق المخترعة التي ليس لها مستندمن كتاب او سنة او ما استنبط منها )) ((456)) .
6 ـ مـحـمـد جميل زينو : يقول في ( العقيدة الاسلامية ) : (( ليس في الدين بدعة حسنة والدليل قوله تعالى : ( اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا ) ((457)) .
وقال (ص ) : ( اياكم ومحدثات الامور , فان كل محدثة بدعة , وكل بدعة ضلالة ,وكل ضلالة في النار ) [ صحيح رواه النسائي وغيره ] )) ((458)) .
وقد نص اكثر علما الامامية على بطلان تقسيم ( البدعة ) , واثبتوا عدم صحة هذا التقسيم المبني اسـاسـا عـلـى مـقولة ( نعمت البدعة هذه ) , وان الصحيح هو ان ( البدعة )لا تطلق في مصطلح الشريعة الا مذمومة .
يقول ( الشهيد الاول (ره ) ) في قواعده :
(( مـحدثات الامور بعد النبي (ص ) تنقسم اقساما , لا تطلق اسم البدعة عندنا الا على ما هو محرم منها )) ((459)) .
ويقول العلامة ( محمد باقر المجلسي (ره ) ) في توضيح قوله (ص ) : (( كل بدعة ضلالة )) :
(( يـدل عـلى ان قسمة بعض اصحابنا البدعة الى اقسام خمسة تبعا للعامة باطل ,فانها انما تطلق في الـشـرع عـلى قول او فعل او راي قرر في الدين , ولم يرد فيه من الشارع شي , لا خصوصا ولا عموما , ومثل هذا لا يكون الا حراما , او افتراا على اللّه ورسوله )) ((460)) .
ويقول الشيخ ( عباس القمي (ره ) ) في ( سفينة البحار ) :
(( اذ لا تـطـلق البدعة الا على ما كان محرما كما قال رسول اللّه (ص ) (( كل بدعة ضلالة , وكل ضلالة سبيلها الى النار )) ((461)) .
ويقول العلامة المحقق السيد ( جعفر مرتضى العاملي ) :
(( ان مـا ذكـر مـن تقسيم البدعة الى حسنة ومذمومة , ومن كونها تنقسم الى الاحكام الخمسة , ثم الاستشهاد بقول عمر بن الخطاب عن صلاة التراويح : نعمت البدعة هي ان ذلك كله ليس في محله , ولا يـسـتند الى اساس صحيح , وذلك لان البدعة الشرعية هي : ادخال ما ليس من الدين في الدين , اسـتنادا الى ما روي عنه (ص ) : ( من احدث في امرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) , لان قوله : ( في امرنا ) معناه : ادخل في تشريعاتنا الدينية ما ليس منها.
بـل لقد قال السيد الامين عن البدعة : ( ولا يحتاج تحريمها الى دليل خاص , لحكم العقل بعدم جواز الـزيـادة عـلى احكام اللّه تعالى , ولا التنقيص منها , ولا ختصاص ذلك به تعالى , وبانبيائه الذين لا يصدرون الا عن امره ).
فـالـبدعة في الشرع , وبعنوان التشريع لا تقبل القسمة المذكورة , بل هي من غيرصاحب الشرع قبيحة مطلقا , واما الابتكار والابتداع في العادات والتقاليد , وامورالمعاش والحياة , فهو الذي يقبل القسمة الى الحسن والقبيح , ويكون موضوعا للاحكام الخمسة : الوجوب , والحرمة , والاستحباب , والكراهة , والاباحة )) ((462)) .
ويقول العلامة المحقق الشيخ ( جعفر السبحاني ) :
(( واما البدعة بمعنى ادخال ما ليس من الدين في الدين , فهو قبيح مطلقا لاينقسم , وليس له الا قسم واحد , وهو انـه قبيح محرم على الاطلاق )) ((463)) .
.