لا بد من صفات عسكرية يحملها المجاهد في سبيل الله، صفات نابعة من صميم عمله ولها علاقة مباشرة بأموره الجهادية، فبعد أن فرغنا من الحديث عن الوظائف العامة للمجاهد على الصعيد الديني والخلقي والثقافي والاجتماعي، بقي علينا أن نتحدث عن الوظائف والصفات العسكرية وهذا ما سنضيء عليه بشيء من التفصيل إن شاء الله تعالى.
يلخص أمير المؤمنين عليه السلام هذه الحقوق في إحدى خطبه حيث يقول عليه السلام:
"أيها الناس! إن لي عليكُمْ حقَّاً، ولكم عليَّ حقٌ: فأما حقكم علي فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كي لا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا، وأما حقّي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم"(1).
وسنتعرض لما ورد في هذه الخطبة بشيء من التفصيل، فهي قد أشارت لمجمل الحقوق، ويكفي لنا لكي ندرك الحقوق هذه أن ندقق في هذه الرواية الجامعة المهمة.
حق المجاهد على القائد
تشير الرواية إلى حقوقٍ أساسية للمجاهد على القائد ليقوم بها، أهمها:
توجيه المجاهد وتعليمه
بمعنى أن يرشده لمواطن الخير، وما فيه صلاح أمره، وتوجيهه أيضاً يتضمن توضيح مهامه التي ينبغي أن يقوم بها بشكل لا يترك له سؤالاً في موضع حيرة يقع فيها، وهي مسائل قد تكون ذات صلة بتأدية العمل على أكمل وجه بأقل خسائر ممكنة، ويتضمن مسألة التدريب العسكري وتأهيل المجاهد ليكون في أعلى مستويات الجهوزية، وهذا ما دأب عليه أمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول ابن عباس: "عقم النساء أن يأتين بمثل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، والله ما رأيت ولا سمعت رئيساً يوزن به، لرأيته يوم صفين وعلى رأسه عمامة قد أرخى طرفيها، كأن عينيه سراجاً سليط، وهو يقف على شرذمة يحضهم، حتى أنتهى إليّ وأنا في كنف من الناس فقال: "معاشر المسلمين استشعروا الخشية، وغضوا الأصوات، وتجلببوا السّكينة، وأعملوا الأسنّة، وأقلقوا السيوف قبل السلة، وأطعنوا الشزر(الشزر بالفتح الطعن بالجوانب يميناً وشمالاً.)، ونفحوا بالظبا(نفحوا كافحوا وضاربوا، والظبا بالضم جمع طرف السيف وحدّه.)، وصلوا السيوف بالخطا(صلوا من الوصل أي اجعلوا سيوفكم متصلة بخطا أعدائكم.)، والنبال بالرماح، فإنكم بعين الله ومع ابن عم نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.
عاودوا الكرّ، واستحيوا من الفرّ، فإنه عار باق في الأعقاب والأعناق، ونار يوم الحساب. وطيبوا عن أنفسكم أنفساً، وامشوا إلى الموت مشياً سجحاً(سجحاً أي سهلاً.)، وعليكم بهذا السواد الأعظم، والرّواق المطنب. فاضربوا ثبجه(ثبجه أي وسطه.)، فإن الشيطان راكب صعبة، ومفرش ذراعيه، قد قدم للوثبة يداً، وأخّر للنكوص رجلاً، فصمداً صمداً حتى يتجلى لكم عمود الدين "وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ"(2).
وهذا من رعاية الإمام لجنده إذ يحضرهم معنوياً ويعلمهم طرق القتال وأصلحها وأكثرها فاعلية في ذلك الزمان.
ومن الروايات التي تظهر شدة حرص الإمام على القدرات العسكرية لجنده هذه الرواية التي يشير فيها إلى أدق تفاصيل القتال في عصره سلام الله عليه حيث يقول عليه السلام: "عضوا على النواجذ، فإنه أنبى للسيوف عن الهام وأكملوا اللامة"(3).
حيث فسر كلامه عليه السلام وقوله عضوا على النواجذ والنواجذ جمع ناجذ وهو أقصى الأضراس. ولكل إنسان أربعة نواجذ، ويسمى الناجذ ضرس العقل لأنه ينبت بعد البلوغ. ومراده عليه السلام وإذا عضضت على ناجذك تصلبت أعصابك وعضلاتك المتصلة بدماغك فكانت هامتك أصلب وأقوى على مقاومة السيف فكان أنبى عنها وأبعد عن التأثير فيها. والهام جمع هامة وهي الرأس.
والمراد من قوله عليه السلام وأكملوا اللامة وهي الدرع، وإكمالها أن يزاد عليها البيضة "وهي ما يوضع الرأس وتسمى بالخوذة هذه الأيام" والسواعد ونحوها، وقد يراد من اللامة آلات الحرب والدفاع واستيفاؤها.
فخلاصة الأمر أن الإمام عليه السلام يوصي أصحابه بأمور هي من صميم العمل العسكري وهي تمس حماية وفعالية المقاتل بشكل مباشر.
العطف على الجند وتكريمهم
فتكريم المجاهد ومن قدّم انجازاً كبيراً وتحفيز المجاهدين بالثناء على جهادهم وعظمة ما يقومون به يخلق في أنفسهم دافعاً كبيراً لتقديم الأكثر والحفاظ على القدرات، ويبقي الهمم في أعلى درجاتها، كما أن في ذكر ما أبدى أهل الشجاعة منهم تشجيعاً لمن يطرق الخوف قلبه، وتحفيزاً له على التجرؤ للقتال، ففي الرواية عن الإمام علي عليه السلام من عهده للأشتر: "وليكن آثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته... فافسح في آمالهم، وواصل في حسن الثناء عليهم، وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم، فإن كثرة الذكر لحسن أفعالهم تهزّ الشجاع، وتحرّض الناكل إن شاء الله"(4).
حق القائد على المجاهد
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أطع من فوقك يطعك من دونك، وأصلح سريرتك يصلح الله علانيتك"(5).
تشير الرواية الشريفة إلى منهج التعاطي بين القائد والمنقاد أي بين المسؤول والمسؤول عنه، وهي الطاعة، وهي الحق الأول والأهم على المجاهد تجاه قائده.
واستشارة الجنود والاستماع لنصائحهم لا يعني بالضرورة الالتزام بآرائهم، بل للقائد اختيار ما يراه مناسباً، وعليهم الالتزام، وهذا ما أشار له أمير المؤمنين عليه السلام لعبد الله بن عباس، وقد أشار عليه في شيء لم يوافق رأيه: "لك أن تشير عليّ وأرى، فإن عصيتك فأطعني"(6).
وطاعة المجاهد للقائد في الشريعة أمر واجبٌ، وأمر القائد أمر لعناصرهِ ليس نصيحة يمكن للمجاهد أن يقبلها أو لا، بل هي تكليف شرعي كما أي تكليف شرعي آخر يثاب المرء على أدائه ويعصي بتركه أو التهاون فيه...
ولترك التكليف هذا آثار على الصعيد الدنيوي، فلا يستقيم العمل ولا ينتظم إذا عمل كل فرد فيه على ما يهواه، بل التراتبية في الأعمال شرط لنجاح أي عمل في الحياة فكيف إذا كان العمل جهاداً في سبيل الله تعالى، وفيه تحمل لمسؤوليات الدماء، وأمانة على أرواح الآخرين.
وهذا ما أشار له أمير المؤمنين عليه السلام بقوله:
(ولي عليكم الطّاعة، وألا تنكصوا عن دعوة، ولا تفرطوا في صلاح، وأن تخوضوا الغمرات الى الحق، فإن أنتم لم تستقيموا لي على ذلك لم يكن أحد أهون علي ممن اعوجّ منكم ثم أعظِّمُ له العقوبة، ولا يجد عندي فيها رخصة، فخذوا هذا من أمرائكم، وأعطوهم من أنفسكم ما يصلح الله به أمركم)(7).
الخلاصة هي الانضباط التام
إن الالتزام التام بأمر القيادة هي استجابة لله أولاً ولما أوصانا به الدين الحنيف، وهي سبب أول وأساسي لنجاح أي عمل، عن أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته للحسن والحسين لما ضربه ابن ملجم: "أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي، بتقوى الله ونظم أمركم(8)
والانضباط يكون بعدم التهاون في الأمور وعدم الاستعجال بها في غير أوقاتها، وهذا ما أوضحه الإمام علي عليه السلام في عهده إلى مالك الأشتر: "وأمضِ لكل يوم عمله، فإن لكل يوم ما فيه... وإياك والعجلة بالأمور قبل أوانها، أو التسقط فيها عند إمكانها، أو اللجاجة فيها إذا تنكرت أو الوهن عنها إذا استوضحت. فضع كل أمر موضعه، وأوقع كل أمر موقعه"(9)
إبراهيم عليه السلام والتوكل على اللَّه
أمر نمرود بجمع الحطب في سواد الكوفة عند نهر كوثا من قرية قطنانا وأوقد النار، فعجزوا عن رمي إبراهيم، فعمل لهم إبليس المنجنيق فرمي به، فتلقاه جبرائيل في الهواء فقال: هل لك من حاجة؟ فقال: أما إليك فلا! حسبي اللَّه ونعم الوكيل، فاستقبله ميكائيل فقال: إن أردت أخمدت النار فإن خزائن الأمطار والمياه بيدي؟ فقال: لا أريد! وأتاه ملك الريح فقال: لو شئت طيرت النار؟ قال: لا أريد! فقال جبرائيل: فاسأل اللَّه، فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي.
وفي رواية أخرى قال جبرائيل: يا إبراهيم هل لك إليّ من حاجة؟ فقال إبراهيم عليه السلام: أما إليك فلا، وأما إلى رب العالمين فنعم، فدفع إليه خاتماً عليه مكتوب لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه، ألجأت ظهري إلى اللَّه، أسندت أمري إلى اللَّه، وفوضت أمري إلى اللَّه، فأوحى اللَّه إلى النار كوني برداً وسلاماً.
فتأمل في هذا التوكل الذي كان يتحلى به نبينا إبراهيم عليه السلام في أحلك الساعات وأشد اللحظات وهو متجه نحو زنار من النار يقال أن الإقتراب منها كان يكلّف الإنسان حياته لشدة قوتها وتوهجها، ولذلك رموه إليها من بعيد بالمنجنيق.
نسأل اللَّه تعالى أن يرزقنا هذا اليقين والتوكل الكبير حتى نستشعر بالرضا والتسليم في كل ما نتلقاه من مصائب الدهر ونوب الزمان وحينئذٍ فلا شيء على وجه الأرض يخيفنا سوى غضب اللَّه وناره...
الشهادة
لا بد من صفات عسكرية يحملها المجاهد في سبيل الله، صفات نابعة من صميم عمله ولها علاقة مباشرة بأموره الجهادية، فبعد أن فرغنا من الحديث عن الوظائف العامة للمجاهد على الصعيد الديني والخلقي والثقافي والاجتماعي، بقي علينا أن نتحدث عن الوظائف والصفات العسكرية وهذا ما سنضيء عليه بشيء من التفصيل إن شاء الله تعالى.
معنى الشهادة
تترد كلمة الشهادة على ألسنتنا بشكل متكرر كل يوم، وقد لا يعرف الكثير منا ما هو المعنى الحقيقي لكلمة الشهادة، ولماذا سمي الشهيد شهيداً؟
وأما الجواب على هذا السؤال المهم، فنذكر هنا أسباباً عديدة ذكرها العلماء لعلة تسمية الشهيد بالشهيد منها:
1- لقيامة بشهادة الحق على جهة الإخلاص وإقراره به، ودعائه إليه، حتى قتل، بمعنى أنه قتل في سبيل أن يعلو الحق فيشهده الناس.
2- سمي شهيداً، لأنه من شهداء الآخرة على الناس، وإنما يستشهدهم الله بفضلهم وشرفهم(10).
3- سمي الشهيد شهيداً لأن الله وملائكته شهود له بالجنة.
4- سموا شهداء لأنهم ممن يستشهد يوم القيامة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الأمم الخالية(11).
5- سمي الشهيد شهيداً لأن روحه شهدت دار السلام وروح غيره لا تشهدها إلا يوم القيامة.
6- سمي بذلك لأن الله وملائكته يشهدون له بالجنة.
7- سمي شهيداً لأنه أشهد عند خروج روحه ما له من الثواب والكرامة.
8- لأنه يشهد له بالإيمان وخاتمة الخير بظاهر حاله.
9- لأن عليه شاهداً يشهد بكونه شهيداً وهو دمه(12).
ولعل لكل هذه الأسباب مجتمعة سمّي الشهيد شهيداً ولأسباب قد خفيت عنا، وأما الشهادة في دلالتها فهي أن يقتل المرء في سبيل الله.
هل الشهادة مطلوبة لنفسها؟
لعل البعض من الناس يظن، أن الشهادة مطلوبة بحد ذاتها أي لكونها إنهاء لحياة الإنسان بحسب ظاهرها، إلا أن الشهادة لا تطلب لذاتها، بل تطلب لأنها من الطرق المؤدية لرضا الله تعالى.
فالمجاهد في سبيل الله تعالى لم يخرج من حياة الدعة التي يعيشها ليقضي أيامه على الثغور وفي المعارك طالباً للهناء والراحة هناك ولأن الراحة ليست فيما يطلبه بل هي بين أهله وأطفاله وعياله، بينما يقاسي من الصعاب والأذى في مواطن الجهاد لأجل قضية يحملها، هذه القضية المحقة هي التي دعته، طلباً لرضا الله تعالى، أن يترك كل الدنيا ويحشر نفسه في هذه الصعاب، والتي قد تكون في آخرتها الشهادة.
الشهادة التي تترك آثاراً في المجتمع، وهي التي قد تكون مناراً للأمة، وبدمائه يكتب في سجل الكرامات ما معنى التضحية من أجل مبدأ وقضية.
إذاً الشهادة ليست طلباً للموت والفناء كاليائس من الحياة.
هل الشهادة تنافي ثقافة الحياة؟
يحاول البعض النيل من أهل الجهاد بترديد شعار نحن نريد الحياة والعيش بسلام، ويعرّضون بالجهاد وأهله وأن الشهادة وطلبها هي ثقافة موت.
ولو دققنا قليلاً في فلسفة الشهادة ومعناها الحقيقي وآثارها في الأمة، لعرفنا أن الشهادة في سبيل الله تعالى وثقافة الشهادة هي ثقافة الحياة السعيدة.
وما ذلك إلا لأننا نؤمن بالغيب كما أمرنا الله تعالى حيث يقول في كتابه: "الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ"(13).
وإيماننا بالغيب يعلمنا أن الحياة الحقيقية هي الحياة الأخروية وليست الحياة الدنيوية "وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ"(14).
فالحياة الحقيقية هي الحياة الأخروية وليست الحياة العابرة التي هي ممر لنا لنحمل منها العمل الصالح للآخرة، وأهم الأعمال التي توصلنا لتلك الحياة هي الشهادة، والموت بكرامة، لأن من يموت رفضاً للظلم وفي سبيل رفعه عن رأس أمته هو الشهيد، كما يقول إمامنا الحسين عليه السلام في مسيره إلى كربلاء: "إني لا أرى الموت إلا سعادة، ولا الحياة مع الظالمين إلا برماً"(15).
ولهذا فالشهيد هو الحي الحقيقي لأنه وصل لتلك الحياة الخالدة الباقية التي فيها من النعيم المقيم ما فيها ولهذا منعنا الله تعالى من أن نقول للشهيد ميتاً حيث يقول: "وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ"(16).
فمن يسير على الدرب التي رسمها الشهيد يشعر تماماً بمعنى الحياة الحقيقية، وبمقدار تفاهة أعوام تمضي على الإنسان كلمح للبصر قد يقضيها ذليلاً خانعاً تابعاً أو عبداً مأموراً عند أناس ترأسوا في الحياة ظاهراً وهم في واقعهم قد استعبدهم إبليس وارتهنتهم أنفسهم الأمارة بالسوء.
هذه إذاً ثقافة الحياة الحقيقية، أما ثقافة الموت، فهي ثقافة موت القلوب بغرقها في تفاهات الحياة وشهواتها وقشورها، التي تخرج الإنسان من إنسانيته ليصبح كالبهيمة التي همها علفها ومرعاها.
فضل الشهيد عند الله تعالى
هذا كله على مستوى الفرد، وأما على مستوى المجتمع فلا شك أن المجتمع الخانع الذليل هو مجتمع ميت لا هوية ولا شخصية حقيقية له، وليس إلا ساحة يعربد عليها كل طامع ومحتل، وأما مجتمع المجاهدين والشهداء فهو مجتمع ينبض بالحياة والكرامة والعزة، له هويته وحضوره، ويملك أرضه ويحقق مصالحه.
إن قطرة الدماء تلك ربما تكون قطرة من جهة الحجم، ولكنها ليست كباقي القطرات، إنها تختصر كل شيء، إنها التوحيد الحقيقي الذي نطق به لسان العمل مع كل ما يتفرع عنه، هي إثبات الإخلاص حيث يرفع الإنسان يديه عن كل شيء ليتوجه نحو خالق كل شيء، هي تكبيرة الإحرام العملية التي يرفع فيها المؤمن يده تعبيراً عن نفض يديه من كل شيء، من الدنيا وما فيها من مال وجاه وفتن ويتوجه إلى الحق سبحانه وتعالى: "قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ"(17).
وقد ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "فوق كل ذي بر بر حتى يقتل في سبيل الله، فإذا قتل في سبيل الله فليس فوقه بر"(18).
لعل تلك القطرة حصلت في شهادة حصلت في لحظة من الزمن، ولكنها لحظة أشرف من سنين طويلة، وكأنها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، تنزل فيها الملائكة لتبشر الشهيد وتحتضنه وترفعه إلى جوار الأنبياء والأولياء والشهداء، ترفعه إلى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر!
الشهادة هي لقاء الله
إن لقاء الله سبحانه وتعالى هو حلم الأنبياء وأمنية الأولياء والشهداء، كل أمر يصبح بمقارنتها أمراً تافهاً وصغيراً ولا قيمة له، هذه الأمنية هي من أهم الأمور التي يحصل عليها الشهيد بالإضافة إلى مجاورة الأنبياء والشهداء، لذلك نجد الآية الكريمة تؤكد على اللقاء الذي سيتفرع عنه كل رزق ونعمة "وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ"(19).
مقام الشهيد في الجنة
في رواية عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا، وأن له ما على الأرض من شيء(20)، غير الشهيد، فإنه يتمنى أن يرجع فيُقتل عشر مرات، لما يرى من كرامة الله"(21).
وتتحدث الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الشهادة وبركاتها على الإنسان: "للشهيد سبع خصال من الله: أول قطرة من دمه مغفور له كل ذنب، والثانية يقع رأسه في حجر زوجتيه من الحور العين، وتمسحان الغبار عن وجهه، وتقولان: مرحباً بك ويقول هو مثل ذلك لهما، والثالثة يكسى من كسوة الجنة، والرابعة تبتدره خزنة الجنة بكل ريح طيبة أيهم يأخذه معه، والخامسة أن يرى منزله، والسادسة يقال لروحه: اسرح في الجنة حيث شئت، والسابعة أن ينظر في وجه الله وإنها لراحة لكل نبي وشهيد"(22).
كيف نتجهز للشهادة؟
سؤال في غاية الأهمية، لأن الشهادة هي انتقال لعالم آخر، فهل ينتقل الإنسان إليه بدون أن يكون قد جهز نفسه له؟
إذاً لا بد من أمور يحصّلها الإنسان قبل أن ينتقل من هذه الدار الفانية إلى الدار الباقية ومنها:
أ- الاستعداد النفسي بتصفية القلب:
أي أن يحافظ الإنسان على نور الإيمان في قلبه بالابتعاد عّما يسوّد القلب من الآثام، وهذا ما ينير درب الآخرة أمامه، فقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى "أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّه"(23).
"إن النور إذا وقع في القلب انفسح له وانشرح، قالوا: يا رسول الله! فهل لذلك علامة يعرف بها؟، قال: التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزول الموت"(24).
ب- عدم الغفلة:
والمراد بالغفلة الاستغراق في التفكر بالدنيا والاهتمام لأجلها، فكثيراً ما يصير الإنسان بحالة لا يفكر بها سوى بما يعني دنياه، فينسى الآخرة ولقاء الله تعالى، وإلى هذا يشير أمير المؤمنين عليه السلام في الشعر المنسوب إليه، والذي يخاطب به الإمام الحسن عليه السلام قائلاً:
أبني إن من الرجال بهيمة *** في صورة الرجل السميع المبصرِ
فطنٌ لكلِّ رزيَّةٍ في ماله *** وإذا أصيبَ بدينهِ لم يشعُرِ
وقد ورد في الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام: "استعدوا للموت فقد أظلكم، وكونوا قوماً صيح بهم فانتبهوا، وعلموا أن الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا... وما بين أحدكم وبين الجنة أو النار إلا الموت أن ينزل به... نسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإياكم ممن لا تبطره نعمة، ولا تقصر به عن طاعة ربه غاية، ولا تحلّ به بعد الموت ندامة ولا كآبة"(25).
وعنه عليه السلام: "إياك أن ينزل بك الموت وأنت آبق عن ربك في طلب الدنيا"(26).
ج- التجهز بالعمل الصالح:
فعن الإمام علي عليه السلام: "إنك لن يغني عنك بعد الموت إلا صالح عمل قدمته، فتزود من صالح العمل"(27).
فما ينتظر المرء المنتقل لذلك العالم، والذي يرتبط مصيره هناك بعمله في دار الدنيا؟ إن احتمال الخسران يحفّز الإنسان على أن يصحّح أمر دينه في هذا العالم تحسّباً من الوقوع في ذلك الخسران، فعن الإمام علي عليه السلام: "إنّ قادماً يقدم بالفوز أو الشقوة لمستحق لأفضل العدة"(28).
د- أداء الحقوق:
إن الحقوق على قسمين، حق الله وحق النّاس، فأما حق الله تعالى فهو العبادات التي ينبغي على المرء أن يؤديها ولا يبقي ذمته مشتغلة بشيء منها، وهذا ما على المرء أن يكون قد انتهى منه قبل أن يطرقه الأجل، وأما حق الناس فهو أخطر ما يمكن أن نتصوره في الآخرة، ولنتأمل في هذه الروايات الشريفة التي تبين لنا مدى صعوبة هذا الأمر فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الشهادة تكفّر كل شيء إلا الدَّين"(29).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "أول ما يهراق من دم الشهيد يغفر له ذنبه كله إلا الدَّين"(30).
فعلى المجاهد الاهتمام بأداء الحقوق لكي لا يدركه الأجل قبل أن يؤدي ما عليه ولا ينسى هنا الاهتمام بتدوين ما بحوزته من أمانات وديون خوف الضياع، فإن الأمر هنا لا ينحل إلا بعفو صاحب الحق، أو بإبراء ذمته بدفع الحق إليه، عن الإمام الباقر عليه السلام: "كل ذنب يكفره القتل في سبيل الله إلا الدَّين، فإنه لا كفارة له إلا أداؤه، أو يقضي صاحبه، أو يعفو الذي له الحق"(31).
إذاً هذه بعض الأمور التي ينبغي للمجاهد أن يلتفت إليها في دار الممر قبيل انتقاله لذلك الدار وهو المقر الأبدي.
مراتب الشهادة
للشهادة مراتب، فليست كل الشهادات بنفس المرتبة، وليس كل الشهداء في نفس الرتبة في الجنة، فأفضل الشهداء كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أفضل الشهداء الذين يقاتلون في الصف الأول، فلا يلفتون وجوههم حتى يقتلوا، أولئك يتلبطون في الغرف العلى من الجنة، يضحك إليهم ربك، فإذا ضحك ربك إلى عبد في موطن فلا حساب عليه"(32).
ولنية الإنسان ومدى ارتباطه بالله تعالى وإخلاصه له الدور الأهم في رفعة مقام الشهادة التي وصل إليها.
شهداء لم يُقتلوا
هناك بعض المجاهدين ممن قضى عمره في الجهاد وطلب الشهادة، لكنه لم يوفّق لها، ولم تكن من نصيبه وقد يتوفى في نهاية المطاف وهو على الفراش، فهل مثل هذا المجاهد الصابر الذي بقي في خط الجهاد والشهادة حتى آخر رمق من حياته، هل هو محروم من الشهادة؟
يجيب عن ذلك الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من سأل الله الشهادة بصدق، بلّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه"، وفي رواية أخرى عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "من طلب الشهادة صادقاً أعطيها ولو لم تصبه".
إذاً فلتكن مع الشهداء وفي خطهم واحمل بين جنبيك روحيتهم، فستكون شهيداً ولو متّ على فراشك.
وقد تحدثت كثير من الروايات عن حالات يكتب فيها أجر الشهيد لمن مات بأسباب خاصة، وسنستعرض بعض من لهم أجر الشهيد من خلال ما ورد في الروايات:
من قتل دفاعا عن أهله:
أي اعتدي على داره وأهله، بل حتى دفاعاً عن جاره، وعن ماله ومصالحه التي ينتفع منها في رزق عياله. فقام يدافع عن ذلك وقتل، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من قتل دون أهله ظلماً فهو شهيد ومن قتل دون ماله ظلماً فهو شهيد، ومن قتل دون جاره ظلماً فهو شهيد، ومن قتل في ذات الله عز وجل فهو شهيد"(33).
الموت في معرفة الله:
فمن مات على معرفة حقيقية بالله تعالى وحقّه وحقّ رسوله وأهل البيت عليه السلام، كتب له أجر شهيد في سبيل الله تعالى، عن الإمام علي عليه السلام: "من مات منكم على فراشه وهو على معرفة حقّ ربه وحقّ رسوله وأهل بيته، مات شهيداً، ووقع أجره على الله، واستوجب ثواب ما نوى من صالح عمله، وقامت النية مقام إصلاته لسيفه"(34).
الموت على حب آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:
والحب هنا ليس الادعاء اللفظي، بل هو ارتباط قلبي لا بد وأن يظهر في الأعمال، فهو الحب العملي، الحب الذي يدفع الإنسان للالتزام بما حملوه إلينا من أحكام الدين، ففي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من مات على حب آل محمد مات شهيداً"(35)
وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق عليه السلام: "من مات منكم على هذا الأمر شهيد بمنزلة الضارب بسيفه في سبيل الله"(36).
في رفعة مقام الشهادة التي وصل إليها، ومن حمل روحية الشهداء والتحق بركبهم فهو معهم حتى لو مات على فراشه.
المصادر :
1- نهج البلاغة: الخطبة 34
2- سورة محمد، الآية: 35
3- نهج البلاغة: الخطبة 66
4- نهج البلاغة: الكتاب 53
5- غرر الحكم: 2475
6- نهج البلاغة: الحكمة 321 - الكتاب 13
7- نهج البلاغة: الكتاب 50
8- نهج البلاغة: الكتاب 47
9- نهج البلاغة: الكتاب 53
10- ورد هذان المعنيان في تفسير مجمع البيان، الشيخ الطبرسي، ج3، ص126
11- ورد هذان المعنيان في لسان العرب، ابن منظور، ج3، ص242
12- المعاني الخمسة الأخيرة من كتاب فطرة الناس على معرفة الله وتوحيده - مركز المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
13- البقرة:2
14- العنكبوت:64
15- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، دار الحديث، الطبعة الأولى، ج2، ص1512
16- البقرة:154
17- الأنعام:162
18- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، دار الحديث، الطبعة الأولى، ج2، ص1512
19- آل عمران:169-170
20- يعني لا يجب الرجوع ولو أعطي كل ما على الأرض
21- الطبرسي، مستدرك الوسائل ومستنبط الوسائل، مؤسسة أهل البيت لإحياء التراث، الطبعة الأولى، ج11، ص13
22- الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة، مؤسسة أهل البيت، الطبعة الثانية، 1414هـ.ق.، ج15، ص16
23- الزمر:22
24- الرشهري، محمد، ميزان الحكمة، دار الحديث، الطبعة الأولى، ج2، ص1172
25- الرشهري، محمد، ميزان الحكمة، دار الحديث، الطبعة الأولى، ج2، ص2966
26- الرشهري، محمد، ميزان الحكمة، دار الحديث، الطبعة الأولى، ج2، ص2966
27- الرشهري، محمد، ميزان الحكمة، دار الحديث، الطبعة الأولى، ج2، ص2968
28- الرشهري، محمد، ميزان الحكمة، دار الحديث، الطبعة الأولى، ج2، ص2967
29- الرشهري، محمد، ميزان الحكمة، دار الحديث، الطبعة الأولى، ج2، ص1514
30- الرشهري، محمد، ميزان الحكمة، دار الحديث، الطبعة الأولى، ج2، ص1514
31- الرشهري، محمد، ميزان الحكمة، دار الحديث، الطبعة الأولى، ج2، ص1514
32- الرشهري، محمد، ميزان الحكمة، دار الحديث، الطبعة الأولى، ج2، ص1518
33- الرشهري، محمد، ميزان الحكمة، دار الحديث، الطبعة الأولى، ج2، ص1516
34- الرشهري، محمد، ميزان الحكمة، دار الحديث، الطبعة الأولى، ج2، ص1517
35- الرشهري، محمد، ميزان الحكمة، دار الحديث، الطبعة الأولى، ج2، ص1517
36- الرشهري، محمد، ميزان الحكمة، دار الحديث، الطبعة الأولى، ج2، ص1517
source : rasekhoon