عربي
Thursday 7th of November 2024
0
نفر 0

الرؤية الحسّية فكرة يهودية مستوردة

 لما انتشر الإسلام في الجزيرة العربية  وضرب بجرانه أراضيها، ودخل الناس في الإسلام زرافات ووحداناً، لم تجد اليهود والنصارى محيصاً إلاّ الاستسلام للأمر الواقع، فدخلوا في الإسلام متظاهرين به غير معتقدين غالباً، إلاّ من شملتهم العناية الإلهية منهم و كانوا قليلين، ولكن الأغلبية الساحقة منهم خصوصاً الأحبار والرهبان بقوا على ما كانوا  عليه من العقائد.
كانت الأحبار والرهبان عارفين بما في العهدين من القصص والحكايات والأُصول والعقائد، فعمدوا إلى نشرها بين المسلمين بخداع خاص وبطريقة علمية، وكانت السذاجة سائدة على أكثر المسلمين فزعموهم علماء ربانيّين يحملون العلم، فأخذوا منهم ما يلقون، بقلب واع ونيّة صادقة، فأوجد ذلك أرضية صالحة لنشر القصص الخرافية والعقائد الباطلة خصوصاً فيما يرجع إلى التجسيم والتشبيه وتحقير الأنبياء في أنظار المسلمين بإسناد المعاصي الموبقة إليهم ، ولم تكن رؤية الله بأقلّ ممّا سبق في تركيزهم عليها، فما ترى في كتب الحديث قديماً وحديثاً من الأخبار الكثيرة حول التجسيم والتشبيه والرؤية ونسبة المعاصي إلى الأنبياء والتركيز على القدر والقضاء السالبين للاختيار، فكلّها من آفات المستسلمة من اليهود والنصارى، فحسبَها بعضُ السلف حقائق راهنة وقصصاً صادقة، فتلقّوها بقبول حسن ونشروها بين الخلف، ودام الأمر على ذلك حتّى يومنا هذا. ويكفيك الحديث التالي:
قصد الحنابلة الإمام العلاّمة محمد بن جرير الطبري يوم الجمعة في الجامع وسألوه عن حديث جلوسه سبحانه على العرش ، فقال أبو جعفر: أمّا أحمد بن حنبل فلا يعتدّ بخلافه، فقالوا له: فقد ذكره العلماء في الاختلاف; فقال: ما رأيته روي عنه، ولا رأيت له أصحاباً يعوّل عليهم، وأمّا حديث الجلوس على العرش فمحال، ثمّ أنشد:
سبحان من ليس له أنيس *** ولا له في عرشه جليس
فلما  سمعوا ذلك وثبوا فرموه بمحابرهم، وقد كانت أُلوفاً، فقام بنفسه ودخل داره فردموا داره بالحجارة حتّى صار على بابه كالتل العظيم، وركب «نازوك» صاحب الشرطة في عشرات أُلوف من الجند يمنع عنه العامّة، ووقف على بابه إلى الليل، وأمر برفع الحجارة عنه، وكان قد كتب على بابه البيت المتقدّم فأمر «نازوك» بمحو ذلك، وكتب مكانه بعضُ أصحاب الحديث:
لأحمدَ منزلٌ لا شك عَال *** إذا وَافى إلى الرحمن وافِدْ
فيُدْنيه ويقعده كريماً *** على رغم لهم في أنفِ حاسِدْ
عَلى عرشِ يُغَلِّفُهُ بطيب *** على الأكبادِ من بَاغ وعَانِدْ
له هذا المُقامُ يكونُ حقا *** كَذاك رواه ليثٌ عن مُجَاهِدْ( [1])
أهكذا  يُتعامل مع إمام كبير وفقيه عظيم، ومحدّث بصير مثل الطبري ولا ذنب له إلاّ أنّه إمام مفكّر، لا يؤمن بأساطير اليهود، و إن تلقّاها «مجاهد» ونظراؤه حقيقة راهنة؟!
ومن العوامل التي فسحت المجال للأحبار والرهبان لنشر ما في العهدين بين المسلمين، حظر تدوين حديث الرسول (صلى الله عليه وآله) ونشره ونقله والتحدّث به أكثر من مائة سنة، فأوجد الفراغ الذي خلفه هذا  العمل، أرضية مناسبة لظهور بدع يهودية ونصرانية وسخافات مسيحية وأساطير يهودية خصوصاً من قبل كهنة اليهود و رهبان النصارى. يقول الشهرستاني: وضع كثير من اليهود الذين اعتنقوا الإسلام أحاديث متعدّدة في مسائل التجسيم والتشبيه، وكلّها مستمدة من التوراة.( [2])
قال ابن خلدون: إنّ العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم وإنّما غلبت عليهم البداوة والأُمّية، وإذا تشوّقوا إلى معرفة شيء ممّا تتوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكوّنات وبدء الخليقة وأسرار الوجود فإنّما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم، ويستفيدونه منهم و هم أهل التوراة من اليهود و من تبع دينهم من النصارى مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه و عبد الله بن سلام و أمثالهم
فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم، و تساهل المفسرون  في مثل ذلك وملأوا كتب التفسير بهذه المنقولات، وأصلها كلّها كما قلنا من التوراة أو ممّا كانوا يفترون.( [3])
ومن أكابر أحبار اليهود الذين تظاهروا بالإسلام هو كعب الأحبار، فقد خدع عقول المسلمين وحتى الخلفاء والمترجمين له من علماء الرجال، وقد أسلم في زمن أبي بكر، وقدم من اليمن في خلافة عمر فأخذ عنه الصحابة وغيرهم.
قال الذهبي: العلاّمة الحبر الذي كان يهودياً فأسلم بعد وفاة النبيّ، وقدم المدينة من اليمن في أيام عمر، وجالس أصحاب محمد، فكان يحدّثهم عن الكتب الإسرائيلية ويحفظ عجائب ـ إلى أن قال: ـ حدّث عنه أبو هريرة ومعاوية وابن عباس وذلك من قبيل رواية الصحابي عن تابعي وهو نادر عزيز، وحدّث عنه أيضاً أسلم «مولى عمر» وتبيع الحميري ابن امرأة كعب، وروى عنه عدّة من التابعين كعطاء بن يسار وغيره مرسلاً، وقع له رواية في سنن أبي داود والترمذي والنسائي.( [4])
وعرّفه الذهبي أيضاً في بعض كتبه بأنّه من أوعية العلم.( [5]) فقد وجد الحبر الماكر جوّاً ملائماً لنشر الأساطير والقصص الوهمية، وبذلك بثّ سمومه القتّالة بين الصحابة والتابعين، وقد تبعوه وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً.
وقد تنبّه إلى جسامة الخسارة التي أحدثها ذلك الحبر، لفيف من السابقين،
منهم ابن كثير في تفسيره حيث إنّه بعد ما أورد طائفة من الأخبار في قصة ملكة سبأ مع سليمان(عليه السلام) قال: والأقرب في مثل هذه السياقات أنّها متلقّاة عن أهل الكتاب، ممّا وجد في صحفهم كروايات كعب ووهب ـ سامحهما الله تعالى ـ في ما نقلاه إلى هذه الأُمّة من أخبار بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب ممّا كان وما لم يكن، وممّا حُرِّف وبُدِّل ونُسِخَ، وقد أغنانا الله سبحانه عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ.( [6])
والذي يدلّ على عمق مكره وخداعه لعقول المسلمين أنّه ربّما ينقل شيئاً من العهدين، وفي الوقت ذاته نرى أنّ بعض الصحابة الذين تتلمذوا على يديه وأخذوا منه، ينسب نفس ما نقله«كعب» إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) ، والذي يبرّر ذلك العمل حسن ظنّهم وثقتهم به، فحسبوا المنقول شيئاً صحيحاً، فنسبوه إلى النبيّ، زاعمين أنّه إذا كان كعب الأحبار عالماً به، فالنبيّ أولى بالعلم منه.
فإن كنت في شك من ذلك فاقرأ نصّين في موضوع واحد أحدهما للإمام الطبري في تاريخه ينقله عن كعب الأحبار في حشر الشمس والقمر يوم القيامة، والآخر للإمام ابن كثير صاحب التفسير ينقله عن أبي هريرة عن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) ، ومضمون الحديث ينادي بأعلى صوته بأنّه موضوع مجعول على لسان الوحي نشره الحبر الخادع وقَبِلَه الساذج من المسلمين ونسبه إلى نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) .
1.قال الطبري: عن عكرمة قال: بينا ابن عباس ذات يوم جالس إذ جاءه رجل فقال: يا ابن عباس سمعت العجب من كعب الحبر يذكر في الشمس والقمر قال: وكان متّكئاً فاحتفر ثم قال: وما ذاك؟ قال: زعم يُجاء بالشمس والقمر يوم القيامة كأنّهما ثوران عقيران فيُقذفان في جهنم، قال عكرمة: فطارت من ابن عباس شفة ووقعت أُخرى غضباً، ثم قال: كذب كعب، كذب كعب، كذب كعب، ثلاث مرّات، بل هذه يهودية يريد إدخالها في الإسلام، الله أجلّ وأكرم من أن يعذّب على طاعته، ألم تسمع قول الله تبارك وتعالى: (وسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ والقَمَرَ دائِبَيْـنِ) إنّما يعني دؤوبهما في الطاعة، فكيف يعذِّب عبدين يُثني عليهما أنّهما دائبان في طاعته. قاتلَ الله هذا الحبر وقبّح حبريته، ما أجرأه على الله وأعظم فريته على هذين العبدين المطيعين للّه، قال: ثم استرجع مراراً.( [7])
2. قال ابن كثير: روى البزار عن عبد العزيز بن المختار قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن في هذا المسجد مسجد الكوفة، وجاء الحسن فجلس إليه فحدث قال: حدثنا أبو هريرة أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «إنّ الشمس والقمر ثوران في النار عقيران يوم القيامة» فقال الحسن: وما ذنبهما؟ فقال: أُحدثك عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتقول أحسبه قال: وما ذنبهما؟! ثم قال: لا يروى عن أبي هريرة إلاّ من هذا الوجه.( [8])
إنّ كعب الأحبار لمّا أسلم بعد رحيل الرسول لم يتمكّن من إسناد ما رواه من الأسطورة إلى النبيّ الأكرم، ولو كان مدركاً لحياته وإن كان قليلاً لنسبها إليه ولكن حالت المشيئة الإلهية دون أمانيّه الباطلة.
ولكنّ أبا هريرة لمّا صحب النبي واستحسن الظن بكعب الأحبار ـ أُستاذه في الأساطير ـ نسب الرواية إلى النبي(صلى الله عليه وآله) .
هذا نموذج قدّمته إلى القارئ لكي يقف على دور الأحبار والرهبان في نشر البدع اليهودية والنصرانية بين المسلمين، ولا يُحسن الظن بمجرّد النقل بلا تأكيد من صحته.
هذا غيض من فيض وقليل من كثير ممّا لعب به مستسلمة اليهود والنصارى في أحاديثنا وأُصولنا، ولولا أنّ الله سبحانه قيّض في كل آونة رجالاً مصلحين كافحوا هذه الخرافات وأيقظوا المسلمين من السبات، لذهبت هذه الأساطير بروعة الإسلام وصفائه وجلاله.
(وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله
وَاللهُ خَيرُ الماكِرين)( [9])
2
الرؤية في العهد القديم
قد سبق انّ الرؤية فكرة مستوردة أدخلها مستسلمة أهل الكتاب بين المسلمين ونشروها بينهم حتّى صارت عقيدة إسلامية ربما يُكفّر من ينكرها، وقد استمد الأحبار والرهبان في نشر تلك الفكرة من العهدين المتوفّرين بين أيديهم، و ها نحن نذكر نصوصاً من العهد القديم حول الرؤية ليتّضح صدق ما قلناه.
1. وقال (الرب) لا تقدر أن ترى وجهي لأنّ الإنسان لا يراني ويعيش. قال الرب هو ذا عندي مكان، فتقف على الصخرة، ويكون من اجتاز مجدي أني أضعك في نقرة من الصخرة وأترك بيدي حتّى أجتاز، ثمّ أرفع يدي فتنظر ورائي و أمّا وجهي فلا يُرى .
سفر الخروج آخر الاصحاح الثالث والثلاثين.
وعلى هذا فالرب يُرى قفاه ولا يرى وجهه.
2. رأيت السيد جالساً على كرسي عال ... فقلت ويل لي لأنّ عيني قد رأتا الملك رب الجنود.
سفر أشعيا الاصحاح 6 الفقرة 1ـ6.
والمقصود من السيد هو الله جلّ ذكره.
3. كنت أرى  انّه  وضعت عروش وجلس القديم الأيام، لباسَه أبيض كالثلج وشعر رأسه كالصوف النقي وعرشه لهيب نار.
سفر دانيال الاصحاح 7 الفقرة 91.
4. أمّا أنا فبالبرّ أنظر وجهك.
مزامير داود الاصحاح 17 الفقرة15.
5. فغضب الرب على سليمان لأنّ قلبه مال عن الرب إله إسرائيل الذي تراءى له مرتين.
سفر الملوك الأوّل الاصحاح 11 الفقرة 9. وقد رأيت الرب جالساً على كرسيه و كلّ جند البحار وقوف لديه.
سفر الملوك الأول  الاصحاح 22 الفقرة 19.
6.  كان في سنة الثلاثين في الشهر الرابع في الخامس من الشهر وأنا بين المسبيين عند نهر خابور، انّ السماوات انفتحت فرأيت رؤى الله  إلى أن قال ـ هذا منظر شبه مجد الرب، ولمّا رأيته خررت على وجهي و سمعت صوت متكلّم.
سفر حزقيال الاصحاح 1، الفقرة 1ـ28.
هذه نماذج  ممّا في العهد القديم حول الرؤية، وعليه اعتمد الحبر الماكر في نشر أفكاره، و قد كان يركّز على فكرتين يهوديتين.
الأُولى: فكرة التجسيم.
الثانية: رؤية اللّه.
يقول في الفكرة الأُولى: إنّ الله تعالى نظر إلى الأرض فقال: إنّي واطئ على بعضك.فاستعلت إليه الجبال، وتضعضعت له الصخرة، فشكر لها ذلك فوضع عليها قدمه فقال: هذا مقامي، ومحشر خلقي و هذه جنتي و هذه ناري، و هذا موضع ميزاني، و أنا ديان الدين.( [10])
ففي هذه الكلمة من هذا الحبر تصريح على تجسيمه تعالى أوّلاً، و تركيز على أنّ الجنة والنار والميزان ستكون على هذه الأرض، ومركز سلطانها سيكون على الصخرة، و هذا من صميم الدين اليهودي المحرّف. هذا حول التجسيم.
وأمّا تركيزه على الرؤية فقد أشاع فكرة التقسيم، فقال: إنّ الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين موسى و محمد، و منه انتشرت هذه الفكرة، أي فكرة التقسيم بين المسلمين.( [11])
ومن أعظم الدواهي انّ الرجل تزلّف إلى الخلفاء في خلافة عمر و عثمان و حدّث عن الكثير من القصص الخرافية، و بعدما توفّي  عثمان تزلّف إلى معاوية و نشر في عهده ما يؤيد به ملكه و دولته، و من كلماته  في حقّ الدولة الأموية، يقول: مولد النبي بمكة، و هجرته بطيبة، وملكه بالشام.( [12])
وبذلك أضفى على الدولة الأموية صبغة شرعية، وجعل ملكهم وسلطتهم امتداداً لملك النبي وسلطته.
إنّ فكرة الرؤية تسرّبت إلى المسلمين من المتظاهرين بالإسلام كالأحبار و الرهبان، و صار ذلك سبباً لجرأة طوائف من المسلمين على جعلها في ضمن العقيدة الإسلامية( [13])، بحيث يُكفّر منكرها أحياناً و يفسق.
ولمّا صارت تلك العقيدة راسخة  في القرنين الثاني والثالث بين المسلمين، عاد المتكلّمون للبرهنة والاستدلال على بطلان الفكرة من الكتاب أوّلاً و السنّة ثانياً، ولولا رسوخها بينهم لما تحمّلوا عبء الاستدلال وجهد البرهنة، و سوف يوافيك انّ الكتاب العزيز يرد فكرة الرؤية ويستعظم أمرها وينكرها ويستفظعها بشدة وحماس، وما استدلّ به على جواز الرؤية من الكتاب فلا مساس له بالموضوع، فانتظر حتّى يأتيك البيان.
3
الرؤية في منطق العلم  والعقل
إنّ الرؤية  في منطق العلم والعقل لا تتحقّق إلاّ إذا كان الشيء مقابلاً أو حالاً في المقابل، من غير فرق بين تفسيرها حسب رأي القدماء أو حسب العلم الحديث، فإنّ القدماء كانوا يفسرون الرؤية على النحو التالي:
خروج الشعاع من العين وسقوطه على الأشياء ثمّ انعكاسه عن الأشياء وبرجوعه إلى العين تتحقق الرؤية، ولكن العلم الحديث كشف بطلان هذا التفسير، و قال:
إنّها عبارة عن  صدور الأشعة من الأشياء ودخولها إلى العين عن طريق عدستها وسقوطها على شبكية العين فتتحقّق الرؤية.
وعلى كلّ تقدير فالضرورة قاضية على أنّ الإبصار بالعين متوقّف على حصول المقابلة بين العين والمرئي، أو حكم المقابلة كما في رؤية الصور في المرآة، و هذا أمر تحكم به الضرورة وإنكاره مكابرة واضحة، فإذا كانت ماهية الرؤية هي ما ذكرناه فلا تتحقّق فيما إذا تنزّه الشيء عن المقابلة أو الحلول في المقابل.
وبعبارة واضحة: انّ العقل والنقل اتّفقا على كونه سبحانه ليس بجسم ولا جسماني ولا في جهة، والرؤية فرع كون الشيء في جهة خاصة، وما شأنه هذا لا يتعلّق إلاّ بشيء جسمانىّ واقع في جهة خاصة لا بالمجرد عن هذه الأُمور.
المحاولة اليائسة في تجويز الرؤية
إنّ مفكّري الأشاعرة الذين لهم قدم راسخة في المسائل العقلية لمّا وقفوا أمام هذا الدليل ذهبوا يميناً و يساراً للجمع بين الرؤية والتنزيه، وإليك بيان ذلك:
1. الرؤية بلا كيف
هذا  العنوان هو الذي يجده القارئ في كتب الأشاعرة وربّما يعبر عنه خصومهم بـ«البلكفة» ومعناه انّ الله تعالى يُرى بلا كيف و انّ المؤمنين في الجنة يرونه بلا كيف، أي منزّهاً عن المقابلة والجهة والمكان.
يلاحظ عليه: أنّ تمنّي الرؤية بلا مقابلة ولا جهة ولا مكان، أشبه برسم أسد بلا رأس ولا ذنب على جسد بطل، فالرؤية التي لا يكون المرئي فيها مقابلاً للرائي ولا متحقّقاً في مكان ولا متحيزاً في جهة كيف تكون رؤية بالعيون والأبصار؟!
والحقّ انّ قول الأشاعرة أو بعض أهل الحديث «بلا كيف» مهزلة لا يعتمد عليها، فانّ الكيفية ربما تكون من مقوّمات الشيء و لولاها لما كان له أثر، فمثلاً يقولون: إنّ لله يداً و رجلاً و عيناً وسمعاً بلا كيف، ويصرحون بثبوت واقعيات  هذه الصفات حسب معانيها اللغوية لله سبحانه لكن بلا كيفية.
وهذا كما ترى فأنّ اليد في اللغة العربية وضعت للجارحة حسب ما لها من الكيفية، فإثبات اليد لله بالمعنى اللغوي مع حذف الكيفية، يكون مساوياً لنفي معناها اللغوي و يكون راجعاً إلى تفسيرها بالمعاني المجازية التي يفرّون منها فرار المزكوم من المسك، و مثله القدم والوجه.
وبعبارة أُخرى: انّ الحنابلة والأشاعرة يصرّون على أنّ الصفات الخبرية كاليد والرجل والقدم و الوجه في الكتاب والسنّة يجب ان تفسر بنفس معانيها اللغوية، ولا يجوز لنا حملها على معانيها المجازية  كالقدرة في اليد مثلاً، و لمّا رأوا انّ ذلك يلازم التجسيم التجأوا إلى قولهم: «يد بلا كيف» أو «وجه بلا كيف»، ولكنّهم غفلوا عن انّ الكيفية في اليد والوجه وغيرهما مقوّمة لمفاهيمها، فنفي الكيفية يساوق نفي المعنى اللغوي، فكيف يمكن الجمع بين المعنى اللغوي والحمل عليه بلا كيف؟! ومنه يعلم حال الرؤية بالبصر والعين فإنّ التقابل مقوّم لمفهومها، فإثباتها بلا كيف يلازم نفي أصل الرؤية، و الكلام في المقام إنّما هو النظر بالبصر والرؤية بالعين، لا الرؤية بالقلب أو في النوم فانّها خارجة عن محط البحث.
2. اختلاف الأحكام باختلاف الظروف
إنّ بعض المتّفقين من الجدد لمّا وجدوا انّ الرؤية لا تنفك عن الجهة التجأوا إلى القول بأنّ كلّ شيء في الآخرة غيره في الدنيا، ولعلّ الرؤية تتحقّق في الآخرة بلا هذا اللازم السلبي. وهذا ما سمعته عن بعض المشايخ في دمشق. في مجلس كان غاصّا بالمشايخ.
يلاحظ عليه: بأنّه رجم بالغيب، فإن أرادوا من المغايرة بأنّ الآخرة ظرف للتكامل وانّ الأشياء توجد في الآخرة بأكمل وجودها وأمثلها، فهذا لا مناقشة فيه، يقول سبحانه: (كُلّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرة رِزقاً قالُوا هذا الَّذي رُزِقنا مِنْ قَبلُ وأُوتُوا بِهِ مُتشابهاً) .( [14]) وإن أرادوا انّ القضايا العقلية البديهية تتبدّل في الآخرة إلى نقيضها، فهذا يوجب انهيار النُّظم الكلامية والأساليب العلمية التي يعتمد عليها المفكّرون من أتباع الشرائع وغيرهم، إذ معنى ذلك انّ النتائج المثبتة في جدول الضرب سوف تتبدّل في الآخرة إلى ما يباينها، فتكون النتيجة ضرب 2×2=5 أو 10 أو...و انّ قولنا: «كلّ ممكن يحتاج إلى علّة» يتبدّل في الآخرة إلى أنّ الممكن غني عن العلّة، فعند ذلك لا يستقر حجر على حجر و تنهار جميع المناهج الفكرية، ويصير الإنسان سوفسطائياً بحتاً.
3. عدم المبالاة بإثبات الجهة
إنّ أساتذة الجامعات الإسلامية في الرياض ومكة المكرمة والمدينة المنورة بدل أن يجهدوا أنفسهم في فهم المعارف ويتجردوا في مقام التحليل عن الآراء المسبقة، نرى أنّهم يدعمون شباب الجامعات و خرّيجيها بدعم مالي وفكري ليجمعوا من هنا و هناك أُموراً حول الرؤية، فخرجوا بنتيجة هي إثبات الجهة لله حتّى يتسنّى لهم إثبات الرؤية، و هذا العمل أشبه بدفع الفاسد بالأفسد، وإن كنت في شك من ذلك فاستمع لما يلي:
يقول الدكتور أحمد بن محمد آل حمد خريج جامعة أُم القرى: إنّ إثبات رؤية حقيقية بالعيان من غير مقابلة أو جهة، مكابرة عقلية لأنّ الجهة من لوازم الرؤية، وإثبات اللزوم ونفي اللازم مغالطة ظاهرة.
ومع هـذا الاعتـراف تخلّص عـن الالتـزام بإثبـات الجهـة لله  بقـوله: إنّ إثبـات صفة العلـو لله تبـارك و تعالـى ورد في الكتـاب والسنّـة في مـواضـع كثيـرة جدّاً، فلا حرج في إثبات رؤية الله تعالى في هذا العلو الثابت له تبارك وتعالى، ولا يقدح هذا في التنزيه، لأنّ من أثبت هذا أعلم البشر بما يستحقّ الله تعالى من صفات الكمال.
أمّا لفظة الجهة فهي من الألفاظ المجملة التي لم يرد نفيها ولا إثباتها بالنص
فنأخذ حكم مثل هذه الألفاظ.( [15])
يلاحظ عليه:
أوّلاً: من أين ادّعى انّ الكتاب والسنّة أثبت العلو لله الذي  هو مسـاوق للجهـة، فإن أراد قـوله سبحانه: (الرَّحمنُ عَلى العَرشِ استَوى) ( [16]) فقد حقّق في محلّه بأنّ استواءه على العرش كناية عن استيلائه على السماوات والأرض، وعدم عجزه عن التدبير، وأين هو من إثبات العلوّ للّه؟! وقد أوضحنا مفاد هذه الآيات في محاضراتنا الكلامية.( [17])
وإن أراد ما جمعه ابن خزيمة وأضرابه من حشويات المجسّمة والمشبّهة، فكلّها بدع يهودية أو مجوسية تسرّبت إلى المسلمين يرفضها القرآن الكريم وروايات أئمة أهل البيت(عليهم السلام) .
ثانياً: إذا افترضنا صحّة كونه موجوداً في جهة عالية ينظر إلى السماوات والأرض، فكيف يكون محيطاً بكل شيء وكلّ شيء قائماً به؟! (وهُوَ مَعَكُمْ أَيْن ما كُنتم) ( [18]) فإذا كان هذا معنى التنزيه فسلام الله على التجسيم، ولعلّ شاعر المعرة تمنّى الموت لمثل  هذه الأقوال والآراء وقال:
يا موت زر إنّ الحياة ذميمة *** ويا نفس جدي إنّ دهرك هازل
أقول: إنّ الذي تستهدفه رسالات السماء كان يتلخّص في توحيده سبحانه وأنّه واحد لا نظير له ولا مثيل أوّلاً، وتنزيهه سبحانه عن مشابهة الممكنات والموجودات ثانياً.
لكنّ لفيفـاً مـن  أصحاب الحديث بعد رحيل الرسول توغّلوا في وحل الشرك والتجسيم وأبطلوا كلتا النتيجتين; فقالوا بحماس بقدم القرآن وعدم حدوثه، فأثبتوا بذلك مِثْلاً لله في الأزلية وكونه قديماً كقدمه سبحانه.
وأثبتوا لله سبحانه العلوَّ والجهة اغتراراً ببعض الظواهر والأحاديث المستوردة، فأبطلوا بذلك تنزيهه سبحانه وتعاليه عن مشابهة المخلوقات.
فخالفوا رسالات السماء في موردين أصليّين:
1. التوحيد، بالقول بقدم القرآن.( [19])
2. التنزيه بإثبات الجهة والرؤية.
(كالَّتي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوّة أنْكاثاً) . ( [20])
4
موقف الذِّكر الحكيم
من أمر الرؤية إجمالاً
إنّ الذكر الحكيم يصف الله سبحانه بصفات تهدف جميعها إلى أنّه منزّه عن الجسم والجسمانية، وأنّه ليس له مثل ولا نظير، ولا ندّ ولا كفو، وأنّه محيط بكل شيء، ولا يحيطه شيء،  إلى غير ذلك من الصفات المنزّهة التي يقف عليها الباحث عند جمع الآيات الواردة في هذا المجال، وبدورنا نشير إلى بعض منها:
قال سبحانه:
1. (فاطِرُ السَّمواتِ والأرضِ جَعلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الأنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فيهِ لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وهوَ السَّميعُ البَصيرُ) .( [21])
2. (قُلْ هُوَ الله أحدٌ  * الله الصَّمَدُ  * لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ  * ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أحَدٌ) .( [22])
3.  (هُوَ الأوّلُ والآخِرُ والظّاهرُ والباطِنُ وهُوَ بِكُلِّ شَيء عَلِيمٌ) .( [23])
4. (هُوَ الَّذِي خَلقَ السَّمواتِ والأرضَ في سِتَّةِ أيّام ثُمَّ اسْتَوى عَلَى العَرشِ
يَعْلَمُ ما يَلِجُ في الأرضِ وما يَخْرُجُ مِنْها وما يَنزِلُ مِنَ السَّماءِ وما يَعْرُجُ فِيها وهوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنتُمْ والله بِما تَعمَلُونَ بَصِيرٌ) .( [24])
5. (هُوَ الله الَّذِي لا إلهَ إلاّ هُوَ المَلِك القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤمِنُ المُهَيْمِنُ العَزيزُ الجَبّارُ المُتَكَبِّرُ سُبحانَ الله عَمّـا يُشرِكُونَ) .( [25])
6. (هُوَ الله الخالِقُ البارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأسماءُ الحُسنى يُسبِّحُ لَهُ ما في السَّمواتِ وَالأرضِ وَهُوَ العَزيزُ الحكيمُ) .( [26])
7. (ما يَكونُ مِنْ نَجوى ثَلاثَة إلاّ هُوَ رابِعُهُم ولا خَمسة إلاّ هُوَ سادِسُهُمْ ولا أَدنى مِنْ ذلك ولا أكثرَ إلاّ هوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يومَ القِيامة إنَّ الله بِكُلِّ شَيء عَليمٌ) .( [27])
8. (ألا إنَّهُمْ في مِرْيَة مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ ألا إنَّهُ بِكُلِّ شَـيء مُحيطٌ) .( [28])
9. (الله لا إلهَ إلاّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَومٌ لَهُ ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاّ بِإذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَينَ أيْدِيهِمْ وما خَلْفَهُمْ ولا يُحِيطُونَ بِشَيء مِنْ عِلمِهِ إلاّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمواتِ والأرضَ ولا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وهوَ العَليُّ العَظيمُ) .( [29])
10. (لا تُدرِكُهُ الأبصارُ وهوَ يُدرِك الأبصارَ وهوَ اللَّطِيفُ الخَبيرُ ) .( [30])
وحصيلة هذه الآيات أنّه لا يوجد في صحيفة الوجود له مثل، وهو أحد لا كفو له، لم يلد ولم يولد بل هو أزليّ، فبما أنّه أزليّ الوجود، فوجوده قبل كل شيء أي لا وجود قبله، وبما أنّه أبديّ الوجود فهو آخر كل شيء إذ لا وجود بعده، وبما أنّه خالق السماوات والأرض فالكون قائم بوجوده فهو باطن كل شيء، كما أنّ النظام البديع دليل على وجوده فهو ظاهر كل شيء.
لا يحويه مكان لأنّه خالق السماوات والأرض وخالق الكون والمكان، فكانَ قبل أن يكون أيّ مكان، وبما أنّ العالم دقيقه وجليله، فقير محتاج إليه قائم به، فهو مع الأشياء معيّة قيومية لا معيّة مكانية، ومع الإنسان أينما كان. فلا يكون من نجوى ثلاثة إلاّ هو رابعهم ولا خمسة إلاّ هو سادسهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلاّ هو معهم أينما كانوا وذلك مقتضى كونه قيّوماً وما سواه قائماً به، ولا يمكن للقيوم الغيبوبة عمّـا قام به، وفي النهاية هو محيط بكل شيء لا يحيطه شيء، فقد أحاط كرسيّه السماوات والأرض، فالجميع محاط وهو محيط، ومن كان بهذه المنزلة لا تدركه الأبصار الصغيرة الضعيفة ولا يقع في أُفقها ولكنّه لكونه محيطاً ، يدرك الأبصار.
هذه صفاته سبحانه في القرآن ذكرناها على وجه الإيجاز وأوردناها بلا تفسير. وقد ثبت في محله أنّ من سمات العقيدة الإسلامية كونها عقيدة سهلة لا إبهام فيها ولا لغز فلو وجدنا شيئاً في السنّة أو غيرها يصطدم بهذه الصفات فيحكم عليه بالتأويل إن صحّ السند، أو بالضرب عرض الجدار إن لم يصح، فمن تلا هذه الآيات وتدبّر فيها، يحكم بأنّه سبحانه فوق أن يقع في وهم الإنسان وفكره ومجال بصره وعينه; وعند ذلك لو قيل له: إنّه جاء في الأثر أنّكم سترون ربّكم يوم القيامة كما ترون هذا (البدر) لا تضامون في رؤيته( [31]) ، يتلقّاه أمراً مناقضاً لما تلوناه من الآيات ويحدث في نفسه ويقول: الخالق البارئ الذي هو ليس بجسم ولا جسماني، لا يحويه مكان، محيط بالسماوات والأرض، كيف يُرى يوم القيامة كالبدر في جهة خاصة وناحية عالية مع أنّه كان ولا علو ولا جهة، بل هو خالقهما؟! وأين هذه الرؤية من وصفه سبحانه بأنّه لا يحويه مكان ولا يقع في جهة وهو محيط بكل شيء؟!
ولا يكون التناقض بين الوصفين بأقل من التناقض الموجود في العقيدة النصرانية من أنّه سبحانه واحد وفي الوقت نفسه ثلاثة، وكلّما حاول القائل بالرؤية الجمع بين العقيدتين، لا يستطيع أن يرفع التعارض والاصطدام بين المعرفتين في أنظار المخاطبين بهذه الآيات والرواية، ومن جرّد نفسه عن المجادلات الكلامية والمحاولات الفكرية للجمع بين المعرفتين يرى التعريفين متصادمين، فأين القول بأنّه سبحانه بعيد عن الحسّ والمحسوسات، منزّه عن الجهة والمكان، محيط بعوالم الوجود، ومن تنزّله سبحانه وتعالى منزلة الحسّ والمحسوسات، واقعاً بمرأى ومنظر من الإنسان يراه ويبصره كما يبصر البدر، يشاهده في أُفق عال؟! وقد تعرّفت على أنّ السهولة في العقيدة وخلوّها من الألغاز من سمات العقيدة الإسلامية، فالجمع بين المعرفتين كجمع النصارى بين كونه  سبحانه واحداً وثلاثاً.
هذا من جانب، ومن جانب آخر نرى أنّه سبحانه كلّما طرح مسألة الرؤية في القرآن الكريم فإنّما طرحها باستعظام من أن ينالها الإنسان ويتلقّى سؤالها وتمنّيها من الإنسان أمراً فظيعاً وقبيحاً وتطلّعاً إلى ما هو دونه.
1. قال سبحانه: (وإذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَك حَتّى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وأنْتُمْ تَنْظُرونَ * ثُمَّ بَعثناكُمْ مْن َبعدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرونَ) .( [32])
2. وقال سبحانه: (يَسأَلُك أهْلُ الكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أكبَرَ مِنْ ذلك فَقالُوا أرِنَا الله جَهْرَةً فَأَخذتْهُمُ الصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا العِجْلَ مِنْ بَعدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلك وآتَينا مُوسى سُلطاناً مُبِيناً) .( [33])
3. وقال سبحانه: (ولَمّا جاءَ مُوسى لمِيقاتِنا وكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيك قَالَ لَنْ تَرانِي ولكِنِ انْظُرْ إلَى الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسوفَ تَراني فَلَمّا تَجَلّـى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّـا أفاقَ قالَ سُبحانَك تُبتُ إلَيك وأنَا أوّلُ المؤمنينَ) .( [34])
4. وقال سبحانه: (و اختـارَ مُـوسى قَـومَهُ سَبعِيـنَ رَجُـلاً لِميقاتِنـا فَلَمّـا أَخَـذَتْهُـمُ الرَّجْفَـةُ قـالَ رَبِّ لَـوْ شِئْتَ أهْلَكْتَهُـم مِـنْ قَبـلُ وإيّايَ أَتُهلِكُنا بِما فعلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إنْ هِيَ إلاّ فِتْنَتُك تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وتَهدِي مَنْ تَشاءُ أَنتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وارحَمنا وأنتَ خَيرُ الغافِرينَ) .( [35]) فالمتدبّر في هذه الآيات يقضي بأنّ القرآن الكريم يستعظم الرؤية ويستفظع سؤالها ويقبّحه ويعدّ الإنسان قاصراً عن أن ينالها على وجه ينزل العذاب غبَّ سؤالها. فلو كانت الرؤية أمراً ممكناً ولو في وقت آخر لكان عليه سبحانه أن يتلطّف عليهم بأنّكم سترونه في الحياة الآخرة لا في الحياة الدنيا، ولكنّا نرى أنّه سبحانه يقابلهم بنزول الصاعقة فيقتلهم ثم يحييهم بدعاء موسى، كما أنّ موسى لمّا طلب الرؤية وأُجيب بالمنع، تاب إلى الله سبحانه وقال: (أنا أوّل المؤمنين) بأنّك لا تُرى.
فإذا كانت الرؤية نعمة عظمى كما يدّعيها القوم، فلا وجه لنزول العذاب عند طلبها، غاية الأمر يجاب السائل بعدم الإمكان في الدنيا.
فالإمعان بما ورد فيها من عتاب وتنديد، بل وإماتة وإنزال عذاب يدلّ بوضوح على أنّ الرؤية فوق قابلية الإنسان، وطلبه إليها أشبه بالتطلّع إلى أمر محال.
فعند ذلك لو قيل للمتدبّر بالآيات: إنّه روى قيس بن أبي حـازم أنّـه حـدّثـه جـرير و قال: خرج علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليلة البدر فقال: «إنّكم سترون ربّكم يوم القيامة كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته»( [36]) ; يجد الحديث مناقضاً لما ورد في هذه الآيات، ويحدِّث نفسه أنّه كيف صار الأمر الممتنع أمراً ممكناً، والإنسان غير المؤهّل للرؤية مؤهّلاً لها؟!
5
موقف الذكر الحكيم من الرؤية تفصيلاً
قد عرفت تعبير الكتاب عن الرؤية إجمالاً، وانّه يعد طلب الرؤية وسؤالها أمراً فظيعاً قبيحاً موجباً لنزول الصاعقة والعذاب، فالآيات السابقة وضّحت موقف الكتاب من هذه المسألة  لكن على وجه الإجمال، غير أنّا إذا استنطقنا ما سبق من الآيات، نقف على قضاء الكتاب في أمر الرؤية على وجه التفصيل. وقد عقدنا هذا الفصل لدراسة بعض ما سبق حتّى نتأكد ممّا فهمنا من الكتاب العزيز، وإليك البيان:
الآية الأُولى: عدم قدرة الأبصار على إدراكه
قال سبحانه: (ذلكُمُ الله ربّكُمْ لا إلهَ إلاّ هُوَ خالِقُ كُلّ شَيء فاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيء وَكِيل) .
(لا تُدْرِكُهُ الأَبصار وَهُوَ يُدْرِك الأَبْصار وَهُوَ اللَّطيفُ الخَبير) .( [37])
تقرير الاستدلال يتم في مرحلتين:
المرحلة الأُولى: في بيان مفهوم الدرك
الدرك في اللغة: اللحوق و الوصول وليس بمعنى الرؤية، ولو أريد منه الرؤية فإنّما هو باعتبار قرينية المتعلّق .
قال ابن فارس: الدرك له أصل واحد (أي معنى واحد)  وهو لحوق الشيء بالشيء ووصوله إليه، يقال: أدرك الغلام والجارية إذا بلغا، وتدارك القوم: لحق آخرهم أوّلهم.( [38]) وذكر ابن منظور نحو ما ذكره ابن فارس وأضاف: ففي الحديث أعوذ بك من درك الشقاء أي لحوقه، يقال: مشيت حتّى أدركته، وعشت حتّى أدركته، وأدركته ببصري أي رأيته.( [39])
ومنه قوله سبحانه: (حتّى إِذا  أَدْرَكَهُ الغَرقُ قالَ آمَنْتُ أنَّهُ لا إلهَ إلاّ الذِي آمَنَت بهِ بَنُو إسرائيل) .( [40])  أي حتّى إذا لحقهم الغرق فأظهروا الإيمان و لات حين مناص.
إذا كان الدرك بمعنى اللحوق والوصول فدرك كلّ شيء و وصوله بحسبه، فالإدراك بالبصر، التحاق من الرائي بالمرئي بالبصر، والإدراك بالمشي كما في قول ابن منظور «مشيت حتى أدركت»، التحاق الماشي المتأخر بالمتقدّم بالمشي، و هكذا.
فإذا قال سبحانه: (لا تدركه الأبصار) يتعيّن ذلك المعنى الكلّي، أي اللحوق والوصول بالرؤية، ويكون المعنى انّ الأبصار لا تلحق بالله بالرؤية، فإنّ لحوق البصر يتحقّق عن طريق الرؤية، وهذا الوصف ممّا تفرّد به سبحانه.
الثانية: في مفهوم الآيتين
إنّه سبحانه  لما قال: (وَهُوَ عَلى كُلّ شَيء وَكيـل) ربّما يتبادر إلى بعض الأذهان انّه إذا صار وكيلاً على كلّ شيء، يكون جسماً قائماً بتدبير الأُمور الجسمانية، فدفعه بأنّه سبحانه مع كونه وكيلاً لكلّ شيء(لا تدركه الأبصار) .
ولما يتبادر من ذلك الوصف إلى بعض الأذهان انّه إذا  تعالى عن تعلّق الابصار فقد خرج عن حيطة الأشياء الخارجية وبطل الربط الوجودي الذي هو مناط علمه بمخلوقاته، دفعه بقوله: (وَهُوَ يُدْرِك الأَبصار)   مشيراً إلى وجود الربط الذي هو مناط علمه بهم.
ثمّ علله بقوله: (وَهُوَ اللَّطيفُ الخَبير) و«اللطيف» هو الرقيق النافذ في الشيء، و«الخبير» من له الخبرة الكاملة، فإذا كان تعالى محيطاً بكلّ شيء كان  شاهداً على كلّ شيء لا يفقده ظاهر كلّ شيء وباطنه، ومع ذلك فهو عالم بظواهر الأشياء وبواطنها من غير أن يشغله شيء عن شيء أو يحتجب عنه شيء بشيء.
وبعبارة أُخرى: انّ الأشياء في مقام التصوّر على أصناف:
1. ما يَرى و يُرى، كالإنسان.
2. ما لا يَرى ولا يُرى، كالأعراض النسبية كالأُبوّة والبنوة.
3. ما يُرى ولا يَرى كالجمادات.
4. ما يَرى و لايُرى، وهذا القسم تفرّد به خالق جميع الموجودات بأنّه يَرى ولا يُرى، والآية بصدد مدحه وثنائه، بأنّه جمع بين الأمرين يَرى ولا يُرى نظير قوله سبحانه: (فاطِرِ السَّمواتِ والأرْضِ وَهُوَ يُطعِمُ ولا يُطْعَم) .( [41]) ودلالة الآية على انّه سبحانه لا يُرى بالأبصار بمكان من الوضوح.
الآية الثانية: الرؤية إحاطة علمية بالله سبحانه
قال سبحانه: (يومَئذ لا تَنفَعُ الشفاعةُ إلاّ مَن أذِنَ لَهُ الرَّحمنُ وَرضي لَهُ قولاً * يعلمُ ما بينَ أيدِيهم وما خَلفَهُم ولا يُحِيطون به عِلماً) .( [42])
إنّ الآية تتركب من جزءين:
الأوّل: قوله: (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) .
الثاني: قوله: (ولا يُحيطون به علماً) .
والضمير المجرور في قوله: «به» يعود إلى الله سبحانه.
ومعنى الآية: الله يحيط بهم لأنّه: (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) ويكون معادلاً لقوله: (وهُوَ يدرك الأبصار) ولكنّهم (لا يحيطون به علماً) و يساوي قوله: (لا تدركه الأبصار) .
وأمّا كيفية الاستدلال فبيانها انّ الرؤية سواء أوقعت على جميع الذات أم على جزء منه، نوع إحاطة علمية من البشر به سبحانه، وقد قال: (ولا يحيطون به علماً) .
الآية الثالثة: ردّ السؤال بنفي الرؤية مؤبّداً
قال سبحانه: (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنْي أَنْظُرُ إِلَيْك قالَ لَنْ تَراني وَلكِنْ انْظُرْ إِلَى الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جعَلهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَك تُبْتُ إِلَيْك وَأَنَا أَوّلُ الْمُؤْمِنينَ) .( [43])
لا شك انّنا إذا عرضنا الآية على عربي صميم لم يتأثّر ذهنه بالمناقشات الكلامية الدائرة بين النفاة والمثبتين وطلبنا منه أن يبيّن الإطار العام للآية ومفادها ومنحاها وانّها  بصدد بيان امتناع الرؤية أو جوازها، يجيب بصفاء ذهنه بأنّ الإطار العامّ لها هو تعاليه سبحانه عن الرؤية وانّ سؤاله أمر عظيم فظيع لا يُمحى أثره إلاّ بالتوبة، ففهم ذلك العربي حجة علينا لا يجوز لنا العدول عنها، والقرآن نزل بلسان عربي مبين ولم  ينزل بلسان المتكلّمين أو المجادلين.
كمـا أنّـا إذا أردنـا أن نفسـر مفـاد الآية تفسيراً صناعياً، فلا شك أنّه يدلّ أيضاً على تعاليه عنها وذلك بوجوه:
1. الإجابة بالنفي المؤبّد
لمّا سأل موسى رؤية الله تبارك و تعالى أُجيب بـ(لن تراني) و المتبادر من هذه الجملة أي قوله (لن تراني) هو النفي الأبدي الدالّ على عدم تحقّقها أبداً.
والدليل على ذلك هو تتبّع موارد استعمال كلمة «لن» في الذكر الحكيم، فلا تراها متخلّفة عن ذلك حتّى في مورد واحد.
1. قال سبحانه: (إِنَّ الّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمعُوا لَه) .( [44])
2. (إِنْ تَسْتَغْفِر لَهُمْ سَبْعِينَ مَرّة فَلَنْ يَغْفِرَ الله لَهُمْ) .( [45])
3. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبيلِ الله ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفّار فَلَنْ يَغْفِر الله لَهُمْ) .( [46])
4. (سَواء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِر الله لَهُمْ) .( [47])
5. (وَلَنْ تَرضى عَنْك الْيَهُود وَلاَ النَّصارى حَتّى تَتَّبعَ مِلّتهُمْ) .( [48])
6. (فإِنْ رَجَعَك الله إِلى طائِفَة مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوك لِلْخُرُوج فَقُل لَنْ تخرُجُوا مَعي أَبداً وَلَنْ تقاتِلُوا مَعي عَدوّاً) .( [49])
إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في أنّ «لن» تفيد التأبيد.
2. تعليق الرؤية على أمر غير واقع
علّق سبحانه الرؤية على استقرار الجبل وبقائه على الحالة التي هو عليها عند التجلّي، وعدم تحوّله إلى ذرات ترابية صغار بعده، والمفروض انّه لم يبق على حالته السابقة وبطلت هويته وصار تراباً مدكوكاً، فإذا انتفى المعلّق عليه ينتفي المعلّق، وهذا النوع من الكلام طريقة معروفة حيث يعلّقون وجود الشيء بما يعلم أنّه لا يكون والله سبحانه بما أنّه يعلم أنّ الجبل لا يستقرّ في مكانه ـ بعد التجلّي ـ فيعلّق الرؤية على استقراره، حتّى يستدلّ بانتفائه على انتفائه، قال سبحانه: (ولا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الخِياط) .( [50])
3. تنزيهه سبحانه ـ بعد الافاقة ـ عن الرؤية
تذكر الآية بأنّ موسى لما أفاق فأوّل ما تكلّم به هو تسبيحه سبحانه و تنزيهه وقال: (سبحانك) ، وذلك لأنّ الرؤية لا تنفك عن الجهة والجسمية وغيرهما من النقائص، فنزّه سبحانه عنها، حيث إنّ طلبها كان نوع تصديق للرؤية.
4. توبته لأجل طلب الرؤية
إنّه(عليه السلام) بعد ما أفاق، أخذ بالتنزيه أوّلاً، والتوبة والإنابة إلى ربّه ثانياً، وظاهر الآية انّه تاب من سؤاله كما أنّ الظاهر من قوله: (وَأَنَا أَوّل المُؤْمنين) أنّه أوّل المصدّقين بأنّه لا يُرى بتاتاً.
إجابة عن سؤال
إنّ سؤال الرؤية  من الكليم دليل على إمكانها، فلو كان أمراً محالاً لما سألها.
والجواب عن الشبهة واضح، فإنّ الاستدلال بطلب موسى إنّما يصحّ إذا طلبها الكليم باختيار ومن دون ضغط من قومه، فعندئذ يصلح للتمسّك به ظاهراً، لكن القرائن تشهد على أنّه سأل الرؤية على لسان  قومه حين كانوا مصرّين على ذلك .
ويدلّ عليه قوله سبحانه: (يَسْأَلُك أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلك فَقالُوا أَرِنَا الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِم) .( [51])
وبعد ما عادوا إلى الحياة بدعاء موسى طلبوا منه أن يسأل الرؤية لنفسه لا لهم حتّى تحلّ رؤيته لله مكان رؤيتهم كما حلّ سماعه للوحي سبحانه محلّ سماعهم لكلامه تعالى حتّى يؤمنوا به.
فعند ذاك لم يكن لموسى محيص إلاّ الإقدام على السؤال وقال: (ربّ أرني أنظر إليك) فأجيب بقوله: (لن تراني) .
قال الزمخشري:«ما كان طلب الرؤية إلاّ ليكبت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء و ضُلاّلاً وتبرّأ من فعلهم، وذلك أنّهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم و أعلمهم الخطأ ونبّههم على الحقّ فلجّوا وتمادوا في لجاجهم، وقالوا لابدّ و لن نؤمن حتّى نرى الله جهرة، فأراد أن يسمعوا النص  من  عند الله باستحالة ذلك و هو قوله: (لن تراني) ليتيقّنوا وينزاح عنهم ما دخلهم من الشبهة، فلذلك قال: (ربّ أرني أنظر إليك) .( [52])
إلى هنا تمت دراسة الآيات الصريحة في امتناع رؤية الله تبارك و تعالى بطرق مختلفة، ومن أمعن فيها وتجرد عن العقيدة التي تربّى عليها منذ نعومة أظفاره لرأى انّ الذكر الحكيم صريح في تعاليه سبحانه عن أن يقع في إطار الرؤية وأنّ طلب الرؤية تمنّي باطل.
6
الرؤية في كلمات أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)
إنّ المراجع إلى خطب الإمام علي(عليه السلام) في التوحيد وما أُثر عن أئمّة العترة الطاهرة في مجال الرؤية، يقف على أنّ مذهبهم هو امتناعها وانّه سبحانه لا تدركه أوهام القلوب، فكيف بأبصار العيون؟ وإليك نزراً يسيراً ممّا ورد في هذا الباب.
1. قال الإمام علي(عليه السلام) في خطبة الأشباح: «الأوّل الذي لم يكن له قبل فيكون شيء قبله، والآخر الذي ليس له بعد فيكون شيء بعده، والرادع أناسي الأبصار عن أن تناله أو تدركه».( [53])
2. وقد سأله ذعلب اليماني، فقال: هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين؟ فقال(عليه السلام) : «أفأعبد مالا أرى؟» فقال: وكيف تراه؟ فقال: «لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان، قريب من الأشياء غير ملابس، بعيد منها غير مبائن».( [54])
3. وقال(عليه السلام) : «الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد، ولا تحويه المشاهد، ولا تراه النواظر، ولا تحجبه السواتر».( [55])
إلى غير ذلك من خطبه(عليه السلام) الطافحة بتقديسه وتنزيهه عن إحاطة القلوب والأبصار به.( [56])
وأمّا المروي عن سائر أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) فحدث عنه  ولا حرج.
1. روى الصدوق عن عبد الله بن سنان، عن أبيه قال: حضرت أبا جعفر (محمد الباقر)(عليه السلام) فدخل عليه رجل من الخوارج فقال له: يا أبا جعفر أيّ شيء تَعبد؟ قال: «اللّه»، قال: رأيته؟ قال: «لم تره العيون بمشاهدة العيان ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، لا يُعرف بالقياس ولا يُدرك بالحواس، ولا يُشبه بالناس، موصوف بالآيات، معروف بالعلامات، لا يجور في حكمه، ذلك الله لا إله إلاّ هو» قال: فخرج الرجل وهو يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته.( [57])
2. روى الصدوق عن أبي الحسن الموصلي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «جاء حبر إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربّك حين عبدته؟ فقال: ويلك ما كنت أعبد ربّاً لم أره، وقال: كيف رأيته؟ قال: ويلك لا تُدرِكه العيون بمشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان».( [58])
3.  ما روي عن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) في مناظرته مع أحد المحدّثين باسم أبي قرة، ذكر أبو قرة الحديث الموروث عن الحبر الماكر كعب الأحبار من أنّه سبحانه قسم الرؤية والكلام بين نبيّين فقسّم لموسى(عليه السلام) الكلام ولمحمّد (صلى الله عليه وآله) الرؤية.
فقال أبو الحسن(عليه السلام) :«فمن المبلّغ عن الله إلى الثقلين الجن والإنس إنّه (لا تدركه الأبصار) ، (لا يحيطون به علماً) و (ليس كمثله شيء) أليس محمّد (صلى الله عليه وآله) ؟» قال: بلى.
قال أبو الحسن(عليه السلام) :«فكيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم انّه جاء من عند اللّه، وانّه يدعوهم إلى الله بأمر اللّه، ويقول إنّه: (لا تدركه الأبصار) ، (لا يحطيون به علماً) و (ليس كمثله شيء) ثمّ يقول: أنا رأيته بعيني وأحطت به علماً وهو على صورة البشر، أما تستحيون؟! أما قدرت الزنادقة ان ترميه بهذا، أن يكون أتى عن الله بأمر ثمّ يأتي بخلافه من وجه آخر».( [59])
7
شبهات القائلين بالرؤية
إنّ للقائلين  بالرؤية في الآخرة شبهات ربّما يغتر بها من ليس له إلمام بالكتاب والسنّة فيتصوّر المغالطة دليلاً، نذكر منها ما هو المهم، وهو:
قوله سبحانه: (إِلى ربّها ناظرة)
استدلّوا على تحقّق الرؤية في الآخرة بهذا المقطع الوارد في الآيات التالية:
(كَلاّ بل تُحِبُّون العاجِلة * و تَذَرُونَ الآخِرَة * وُجُوهٌ يَومَئِذ ناضِرَة * إِلى رَبّها ناظِرَة * وَوُجُوهٌ يَومَئِذ باسِرَة * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَة) .( [60])
يقول المستدل: إنّ النظر إذا كان بمعنى الانتظار يستعمل بغير صلة، ويقال: انتظرته، وإذا  كان بمعنى التفكّر يستعمل بلفظة «في»، و إذا كان بمعنى الرأفة يستعمل بلفظة «اللام»، وإذا كان بمعنى الرؤية استعمل بلفظة «إلى» فيحمل على الرؤية.( [61])
أقول: سواء أقلنا إنّ النظر في الآية بمعنى الانتظار أم قلنا بمعنى الرؤية،
فالآية لا تدلّ على جواز الرؤية يوم القيامة بتاتاً، وذلك لوجوه:
الأوّل: انّه سبحانه نسب النظر إلى الوجوه لا إلى العيون، فلم يقل عيون يومئذ ناظرة إلى ربّها ناضرة، بل قال:(وُجوهٌ يَومَئِذ ناظرة) ، فلو كان المراد الجدّي هو الرؤية الحسّية لكان المتعيّن استخدام العيون بدل الوجوه، و أنت لا تجد في الأدب العربي قديمه وحديثه مورداً نسب فيه النظر إلى الوجوه وأُريدت به الرؤية الحسية بالعيون والأبصار، بل كلّما أُريد منه الرؤية نسب إلى العيون أو الأبصار.
يقول سبحانه: (يرونه مِثليهم رأي العين) .( [62])
وقال سبحانه:(وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها) .( [63])
وقال سبحانه: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنات يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِن) .( [64])
فأداة الرؤية في القرآن الكريم هي العين والبصر لا الوجه، يقول سبحانه: (وَهُوَ الَّذي أَنشأ لَكُمُ السَّمْع وَالأَبْصار وَالأَفْئِدَة) .( [65])
الثاني: نحن نوافق المستدلّ بأنّ النظر إذا استعمل مع إلى يكون بمعنى الرؤية، لكن ربّما تكون الرؤية كناية عن معنى آخر، فعندئذ يكون المقصود الحقيقي هو المكنّى عنه لا المكنّى به. مثلاً إذا أريد وصف زيد بالجود يقال: «زيد كثير الرماد»، فالمعنى اللغوي ذم حيث يحكي عن كثرة النفايات في الدار، ولكن المعنى المكنّى عنه الذي هو المتبادر العرفي هو مدح، يحكي عن جوده وسخائه، فالعبرة في تفسير الآية هو المراد الجدي لا المراد الاستعمالي.
والآية الكريمة ـ أعني قوله: (إلى ربّها ناظرة) ـ من هذا القبيل فهو حسب الإرادة الاستعمالية بمعنى وجوه ناظرة إلى الله سبحانه أي رائية له، ولكنّه كناية عن انتظار الرحمة أو العذاب مثلاً: يقول الشاعر:
وجوه ناظرات يوم بدر *** إلى الرحمن يأتي بالفلاح
فلا يشك  الإنسان انّ قوله: «وجوه ناظرات» بمعنى رائيات، ولكنّه كُنّي به عن انتظار النصر والفتح.
ومنه الشعر التالي:
أني إليك لما وعدت لناظر *** نظر الفقير إلى الغني الموسر
لا شك  انّ المراد من النظر في كلا الموردين هو الرؤية، استعمالاً، ولكنّه كناية عن انتظار إنجاز الوعد ووصول العطاء.
والحاصل: انّ النظر إذا أُسند إلى العيون يكون المعنى الاستعمالي والجدي هو الرؤية، ولكن إذا أُسند إلى الشخص أو الوجه تكون بمعنى الرؤية استعمالاً ويكون كناية عن الانتظار جداً، مثلاً يقال: أنا ناظر إلى فلان  ماذا يصنع بي، يريد معنى التوقع والرجاء.
ينقل الزمخشري انّه سمع سروية مستجدية بمكة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقائلهم، تقول: «عُيينتّي نويظرة إلى الله وإليكم» تقصد راجية ومتوقعة لإحسانهم إليها كما هو معنى قولهم: «أنا أنظر إلى الله ثمّ إليك» أي أتوقع فضل الله ثمّ فضلك.( [66])
الثالث: كان  على من يستدلّ بالآية  أن يرفع إبهامها بمقابلها، فإنّ الآيات تتألف من ثلاث مقاطع متقابلة، بالنحو التالي:
1. (كلاّ بَل تُحِبُّون العاجلة)   يقابلها (وتَذَرُونَ الآخرة) .
2. (وُجُوهٌ يومئذ ناضرة)   يقابلها  (وجوه يومئذ باسرة) .
3. (إِلى ربّها ناظرة)    يقابلها  (تظن أن يفعل بها فاقرة) .
فقوله: (إِلى ربّها ناظرة) كما ترى يقابلها قوله: (تظن أن يفعل بها فاقرة) ، فبما انّ الجملة المقابلة صريحة في أنّ أصحاب الوجوه الباسرة ينتظرون العذاب الكاسر لظهرهم ويظنون نزوله و مثل هذا الظن لا ينفك عن الانتظار، فتكون قرينة على أنّ أصحاب الوجوه المشرقة ينظرون إلى ربّهم، أي يرجون رحمته، حتّى تكون الجملة متقابلة لمقابلها.
وإلاّ فلو حمل قوله سبحانه: (إِلى ربّها ناظرة) إلى رؤية الله خرجت الجملة عن التقابل ويعود كلاماً عارياً عن البلاغة و يكون مفاد المتقابلين كالشكل التالي:
أصحاب الوجوه الناضرة ... ...ينظرون إلى الله ويرونه سبحانه. أصحاب الوجوه الباسرة......ينتظرون نزول العذاب والنقمة.
وهو كما ترى لا يليق أن ينسب إلى الوحي.
على أنّك تجد هذا التقابل والانسجام في آيات أُخرى وكأنّ الجميع سبيكة واحدة.
1. (وجوهٌ يَومئد مُسْفِرَة)         (ضاحِكةٌ مُستبشِرة) .
2. (ووُجوهٌ يَومئِذ عَليها غَبرَة)       (تَرهَقُها قَتَرة) .( [67])
فإنّ قوله: (ضاحكة مستبشرة) قائم مقام قوله: (إِلى ربّها ناظرة) فيرفع إبهام الثاني بالأوّل.
3. (وُجُوهٌ يَومئذ خاشِعَة)   (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ * تَصْلَى ناراً حامِيَة) .( [68])
4. (وُجُوهٌ يومئذ ناعِمَة) (لِسَعْيِها راضِيةٌ  * في جَنَّة عالية) .( [69])
انظر إلى الانسجام  البديع، والتقابل الواضح بينها ، والاستهداف الواحد، والجميع بصدد تصنيف الوجوه يوم القيامة، إلى ناضرة ومسفرة، وناعمة وإلى باسرة، (غبرة)سوداء وخاشعة.
أفبعد هذا البيان يبقى الشك في أنّ المراد من (إِلى ربّها ناظرة) هو انتظار الرحمة، والقائل بالرؤية يتمسّك بهذه الآية ويغض النظر عمّا حولها من الآيات، وعمله هذا من قبيل محاولة إثبات المدّعى بالآية، لا محاولة الوقوف على مفادها.
وفي الختام أرى من الجدير بالذكر أن أنقل الحوار القصير الذي دار بيني و بين أحد المثّقفين في تركيا، وكان يُجيد اللغتين التركية والعربية والثانية كانت لغته الأُمّ، لأنّه كان من اسكندرون المحتلّة ـ حسب زعم السوريين ـ ، وقد كان يرافقني عندما حللت ضيفاً على تركيا لإلقاء محاضرة في المؤتمر الذي انعقد لبيان أحكام السفر، وقد استرسلنا في الحوار إلى أن سألني عن رؤية الله تبارك و تعالى في الآخرة؟
فأجبته بالنفي. قال: لماذا؟
قلت له: هل يُرى سبحانه كلّه أو بعضه.
فعلى الأوّل يكون الرائي محيطاً والله سبحانه محاطاً مع أنّه تعالى محيط بكلّ شيء. 
وعلى الثاني يكون  مركباً ذا أجزاء ويكون بعض أجزائه غائبة من البعض الآخر محتاجاً إليه والحاجة آية الإمكان وهو آية الفقر والذي هو على طرف النقيض من الله الغني.
فتحيّر السائل من جوابي هذا ولم يجب بشيء.
8
رؤيته تعالى في الأحاديث النبوية
قد تعرّفت على موقف الكتاب من رؤيته سبحانه وأنّه كلّما يذكر الرؤية وسؤالها وطلبها، يستعظمه ويستفظعه إجمالاً، وعندما يطرحها تفصيلاً، يعدّها أمراً محالاً، كما عرفت أنّ ما تمسك به القائلون بجواز الرؤية من الآيات لا يدلّ على ما يدّعون.
بقي الكلام في الروايات الواردة حول الرؤية في الصحاح والمسانيد، ودلالتها على المطلوب واضحة كما ستوافيك، لكن الكلام في حجية الروايات التي تضاد الذكر الحكيم، وتباينه، فإذا كان الكتاب العزيز مهيمناً على سائر الكتب فلماذا لا يكون مهيمناً على السنن المروية عن الرسول(صلى الله عليه وآله) التي دوّنت بعد مضي 143 سنة من رحيله (صلى الله عليه وآله) ولم تَصُن عن دسّ الأحبار والرهبان؟! قال سبحانه: (وأنزلنا إليك الكتابَ بالحقِّ مُصدِّقاً لِما بينَ يديهِ منَ الكتابِ ومُهيمناً عليهِ فاحكُمْ بينَهمْ بما أنزلَ الله ولا تتَّبعْ أهواءَهمْ عمّا جاءك من الحقِّ) ( [70]) وقال تعالى: (إنّ هذا القرآنَ يقصُّ على بني إسرائيلَ أكثرَ الَّذي هُمْ فيهِ يَختلفونَ) ( [71]) ولا يعني ذلك، حذف السنّة من الشريعة ورفع شعار: حسبنا كتاب اللّه، بل يعني التأكد من الصحّة ثم تطبيق العمل عليها.
وإليك ما ورد في الصحاح حول الرؤية:
روى البخاري في باب «الصراط جسر جهنم» بسنده عن أبي هريرة قال: قال أُناس: يا رسول الله هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ فقال: «هل تضارّون في الشمس ليس دونها سحاب؟» قالوا: لا يا رسول اللّه، قال: «هل تضارّون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟» قالوا: لا يا رسول اللّه، قال: «فإنّكم ترونه يوم القيامة، كذلك يجمع الله الناس فيقول: من كان يعبد شيئاً فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمسَ، ويتبع من كان يعبد القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت، وتبقى هذه الأُمّة فيها منافقوها، فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون:  نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربّنا فإذا أتانا ربّنا عرفناه فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربّنا فيتبعونه ويضرب جسر جهنم ... ـإلى أن يقول:ـ ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار فيقول: يا ربّ قد قشبني ريحها، وأحرقني ذكاؤها، فاصرف وجهي عن النار، فلا يزال يدعو الله فيقول: لعلّك إن أعطيتك أن تسألني غيره.
فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيره، فيصرف وجهه عن النار، ثم يقول بعد ذلك: يا رب قرّبني إلى باب الجنة، فيقول: أليس قد زعمت أن لا تسألني غيره؟ ويلك ابن آدم ما أغدرك، فلا يزال يدعو فيقول: لعلّـي إن أعطيتك ذلك تسألني غيره، فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيره، فيعطي الله من عهود ومواثيق أن لا يسأله غيره، فيقرّبه إلى باب الجنّة فإذا رأى ما فيها، سكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: ربي أدخلني الجنّة، ثم يقول: أو ليس قد زعمت أن لا تسألني غيره، ويلك يابن آدم ما أغدرك، فيقول: يا رب لا تجعلني أشقى خلقك، فلا يزال يدعو حتى
يضحك (اللّه) فإذا ضحك منه أذن له بالدخول فيها ... الحديث.( [72])
ورواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة مع اختلاف يسير( [73]).
ورواه أيضاً عن أبي سعيد الخدري باختلاف غير يسير في المتن وفيه: حتى إذا لم يبق إلاّ من كان يعبد الله تعالى من برّ وفاجر أتاهم ربّ العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورة من التي رأوه فيها، قال: فما تنتظر تتبع كل أُمّة ما كانت تعبد، قالوا: يا ربّنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنّا إليهم ولم نصاحبهم، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، لا نشرك بالله شيئاً، مرتين أو ثلاثاً حتى أنّ بعضهم ليكاد أن ينقلب، فيقول: هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن ساق، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه، إلاّ أذن الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاءً ورياءً إلاّ جعل الله ظهره طبقة واحدة، كلما أراد أن يسجد خرّ على قفاه ... الحديث.( [74])
وقد نقل الحديث في مواضع من الصحيحين بتلخيص، ورواه أحمد في مسنده( [75])
تحليل الحديث
إنّ هذا الحديث مهما كثرت رواته، وتعددت نقلته لا يصح الركون إليه في منطق الشرع والعقل بوجوه:
1. إنّه خبر واحد لا يفيد شيئاً في باب الأُصول والعقائد، وإن كان مفيداً في باب الفروع والأحكام، إذ المطلوب في الفروع هو الفعل والعمل، وهو أمر ميسور سواء أذعن العامل بكونه مطابقاً للواقع أم  لا، بل يكفي قيام الحجّة على لزوم تطبيق العمل عليه، ولكن المطلوب في العقائد هو الإذعان وعقد القلب ونفي الريب والشك عن وجه الشيء، وهو لا يحصل من خبر الواحد ولا من خبر الاثنين، إلاّ إذا بلغ إلى حدّ يُورِث العلم والإذعان، وهو غير حاصل بنقل شخص أو شخصين.
2. إنّ الحديث مخالـف للقرآن، حيث يثبـت لله صفات الجـسم ولوازم الجسمانية كما سيوافيك بيانه عن السيد الجليل شرف الدين (رحمه الله) .
3. ماذا يريد الراوي في قوله: «فيأتي الله في غير الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم»؟! فكأنَّ لله سبحانه صوراً متعددة يعرفون بعضها، وينكرون البعض الآخر، وما ندري متى عرفوا التي عرفوها، فهل كان ذلك منهم في الدنيا، أو كان في البرزخ أم في الآخرة؟!
4. ماذا يريد الراوي من قوله: «فيقولون: نعم، فيكشف عن ساق، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه ...»؟ فإنّ معناه أنّ المؤمنين والمنافقين يعرفونه سبحانه بساقه، فكانت هي الآية الدالّة عليه.
5. كفى في ضعف الحديث ما علّق عليه العلاّمة السيد شرف الدين(رحمه الله) حيث قال: إنّ الحديث ظاهر في أنّ لله تعالى جسماً ذا صورة مركّبة تعرض عليها الحوادث من التحوّل والتغيّر، وأنّه سبحانه ذو حركة وانتقال، يأتي هذه الأُمّة يوم حشرها، وفيها مؤمنوها ومنافقوها، فيرونه بأجمعهم ماثلاً لهم في صورة غير الصورة التي كانوا يعرفونها من ذي قبل. فيقول لهم: أنا ربكم، فينكرونه متعوذين بالله منه، ثم يأتيهم مرّة ثانية في الصورة التي يعرفون. فيقول لهم: أنا ربكم، فيقول المؤمنون والمنافقون جميعاً: نعم، أنت ربّنا. وإنّما عرفوه بالساق، إذ كشف لهم عنها، فكانت هي آيته الدالة عليه، فيتسنّى حينئذ السجود للمؤمنين منهم، دون المنافقين، وحين يرفعون رؤوسهم يرون الله ماثلاً فوقهم بصورته التي يعرفون لا يمارونَ فيه، كما كانوا في الدنيا لا يُمارون في الشمس والقمر، ماثلين فوقهم بجرميهما النيرين ليس دونهما سحاب، وإذا به، بعد هذا يضحك ويعجب من غير معجب، كما هو يأتي ويذهب إلى آخر ما اشتمل عليه الحديثان ممّا لا يجوز على الله تعالى، ولا على رسوله، بإجماع أهل التنزيه من أشاعرة وغيرهم، فلا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.( [76])
2. روى البخاري في كتاب الصلاة، باب مواقيت الصلاة، وفضيلتها عن قيس (بن أبي حازم) عن جرير قال: كنّا عند النبي (صلى الله عليه وآله) فنظر إلى القمر ليلة ـ يعني البدر ـ فقال: إنّكم ترون ربّكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثمّ قرأ: (وَسَبِّحْ بحمدِ ربِّك قَبلَ طُلوعِ الشَّمسِ وقبلَ الغُروبِ) ( [77]) . وحديث قيس بن أبي حازم مع كونه مضاداً للكتاب ضعيف من جانب السند وإن رواه الشيخان، ويكفي فيه وقوع قيس بن أبي حازم في سنده، ترجمه ابن عبد البر وقال: قيس بن أبي حازم الأحمسي جاهلي إسلامي لم ير النبي (صلى الله عليه وآله) في عهده وصدق إلى مصدِّقه، وهو من كبار التابعين، مات سنة ثمان أو سبع وتسعين وكان عثمانياً.( [78])
وقال الذهبي: قيس بن أبي حازم عن أبي بكر وعمر، ثقة حجة كاد أن يكون صحابياً، وثّقه ابن معين والناس، وقال علي بن عبد الله عن يحيى بن سعيد: منكر الحديث، ثم سمّى له أحاديث استنكرها، وقال يعقوب الدوسي: تكلّم فيه أصحابنا، فمنهم من حمل عليه، وقال: له مناكير، فالذين أطروه عدّوها غرائب وقيل: كان يحمل على عليّ ـ رضي الله عنه ـ إلى أن قال: والمشهور أنّه كان يقدم عثمان، وقال إسماعيل: كان ثبتاً قال: وقد كبر حتى جاوز المائة وخرف.( [79])
وقد اشتهر أنّ العدل والتنزيه علويان، كما أنّ الجبر والتشبيه أمويان، وهل يصح في ميزان النصفة الأخذ برواية رجل عثماني الهوى، معرضاً عن الإمام علي(عليه السلام) ، وعاش حتى خرف؟! أو أنّ الواجب ضربها عرض الحائط؟
نرجو من الله سبحانه أن تكون هذه البحوث مصباحاً منيراً للشباب المتطلّعين إلى الحقيقة الذين استهدفوا من قبل أعداء الإسلام بغية سلب هويتهم وأصالتهم الإسلامية.
الحمد لله الذي
بنعمته تتم الصالحات

--------------------------------------------------------------------------------

[1] .  قال الطبري في التفسير: حدثنا عباد بن  يعقوب الأسدي قال: حدثنا ابن فضيل عن ليث عن مجاهد في قوله: عسى أن يبعثك، الخ قال: يجلسه معه على عرشه. لاحظ مقدمة اختلاف الفقهاء للطبري: 11.
[2] . الملل والنحل:1/ 117.
[3] . مقدّمة ابن خلدون: 439.
[4] . سير أعلام النبلاء: 3/ 489.
[5] . تذكرة الحفّاظ: 1/ 52.
[6] . ابن كثير: التفسير، قسم سورة النمل: 3/ 339.
[7] . الطبري: التاريخ: 1/44، ط بيروت.
[8] . ابن كثير: التفسير: 4/475، ط دار الاحياء.
[9] . الأنفال: 30.
[10] . حلية الأولياء لابن نعيم الاصفهاني:6/ 20.
[11] . شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد:3/ 237.
[12] . الدارمي في السنن:1/ 5.
[13] . مقالات الإسلاميين رسالة الأشعري في عقيدة أهل الحديث، الفقرة 21.
[14] . البقرة: 25.
[15] . رؤية الله تعالى: 61، نشر معهد البحوث العلمية في مكة المكرمة.
[16] . طه: 5.
[17] . الإلهيات:1/330ـ 340.
[18] . الحديد: 4.
[19] . القول بقدم القرآن غير القول بقدم علمه سبحانه،. فلا يختلط عليك الأمر.
[20] . النحل : 92.
[21] . الشورى: 11 .
[22] . الإخلاص: 1ـ 4 .
[23] . الحديد: 3.
[24] . الحديد : 4.
[25] . الحشر : 23 .
[26] . الحشر : 24 .
[27] . المجادلة : 7.
[28] . فصلت: 54.
[29] . البقرة : 255 .
[30] . الأنعام: 103.
[31] . البخاري:الصحيح:4/ 200.
[32] . البقرة:55 ـ 56 .
[33] . النساء : 153.
[34] . الأعراف :143 .
[35] . الأعراف : 155 .
[36] . البخاري:الصحيح:4/ 200.
[37] . الأنعام:102ـ 103.
[38] . مقاييس اللغة:2/ 366.
[39] . لسان العرب:10/419، نفس المادة.
[40] . يونس: 90.
[41] . الأنعام: 14.
[42] . طه:109ـ 110.
[43] . الأعراف: 143.
[44] . الحج: 73.
[45] . التوبة: 80.
[46] . محمد: 34.
[47] . المنافقون: 6.
[48] . البقرة: 120.
[49] . التوبة: 83.
[50] . الأعراف: 40.
[51] . النساء: 153.
[52] . الزمخشري:  الكشاف:1/573ـ 574. وبين ما قاله وما ذكرناه يوجد أدنى تفاوت فلاحظ.
[53] . نهج البلاغة، الخطبة 87.
[54] . نهج البلاغة، الخطبة 174.
[55] . نهج البلاغة، الخطبة 180.
[56] . لاحظ الخطبتين 48و 81.
[57] . التوحيد:108، باب ما جاء في الرؤية الحديث5، والسائل كان من الخوارج.
[58] . التوحيد:109، الحديث 6. والسائل أحد أحبار اليهود.
[59] . الاحتجاج:2/ 375.
[60] . القيامة:20ـ 25.
[61] . شرح التجريد للقوشجي: 334.
[62] . آل عمران: 13.
[63] . الأعراف: 179.
[64] . النور: 31.
[65] . المؤمنون: 87.
[66] . الكشاف:3/ 294.
[67] . عبس:38ـ 41.
[68] . الغاشية 2ـ 4.
[69] . الغاشية:8ـ 10.
[70] . المائدة: 48.
[71] . النمل: 76.
[72] . البخاري: الصحيح: 8/117 باب الصراط جسر جهنم.
[73] . مسلم: الصحيح: 1/113، باب معرفة طريق الرؤية.
[74] . مسلم: الصحيح: 1/115، باب معرفة طريق الرؤية.
[75] . أحمد بن حنبل: المسند: 2/ 368.
[76] . كلمة حول الرؤية:65، وهي رسالة قيّمة في تلك المسألة وقد مشينا على ضوئها ـ رحم الله مؤلفها رحمة واسعة ـ.
[77] . البخاري: الصحيح:1/111 ـ115، الباب26 و35 من أبواب المواقيت الصلاة، طبع مصر، ورواه مسلم في صحيحه لاحظ: صحيح مسلم بشرح النووي:5/136 وغيرهما.
[78] . الاستيعاب:3 برقم 2126.
[79] .  ميزان الاعتدال:3برقم 6908.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الزهراء عليها السلام وعلاقتها بالتوحيد
عصمة الأنبياء (عليهم السلام) عند المذاهب ...
الخروج من القبر
التقية المحرمة والمکروهة عند الشيعة الإمامية
عناصر ديمومة التشريع
من هم الصادقون في التوبة؟
هل تعلم لماذا تبدأ عزاء الحسين (عليه السلام) من ...
ما هو صبر أيوب ؟
محكمة الآخرة
تشريع صلاة التراويح

 
user comment