عربي
Monday 25th of November 2024
0
نفر 0

بعض أفعاله تعالى بعيد عن الحكمة - ظاهراً -

الشبهة الأولى: بعض أفعاله تعالى بعيد عن الحكمة - ظاهراً -

لقد تحدثنا في فصل حكمة أفعال الله وبيّنا هنالك أن الإنسان لا يستطيع أن يحيط الوجود علماً ومعرفة فلربما يرى شيئاً يعتبره ضاراً وسلبياً وبعد فترة يكتشف أثره الإيجابي في الحياة فغياب الحكمة عن الإنسان ليس دليلاً على عدم وجود الحكمة وأوضحنا كذلك فكرة الضرورة التكوينية في الخلق فجزء من خلايا الإنسان ظاهر وجزء غير ظاهر وجزء في ظلمات التجاويف الداخلية وجزء في الواجهة الظاهرية ولابد من التكاملية وتوزيع الأدوار كضرورة تكوينية - الواحد يكمل دور الآخر - فلربما الأول غير ظاهر الحكمة ولكنه ضروري لإظهار حكمة الثاني - وهكذا -.

فإذن لا يوجد من أفعال الله بعيد عن الحكمة وإنما قد يتوهم قاصر النظر ذلك. فكل أفعاله وأحكامه حكيمة وهادفة ولا عبرة بالتوهم البيّن خطأه.

الشبهة الثانية: شبهة خلق الكافر والمنافق والشقي

بيان الشبهة: إن الله تعالى يعلم بكفر الكافر وكذب المنافق وظلم الشقي من بداية حياتهم وقبل ارتكابهم للمعاصي وهذا العلم لابد أن يتحقق فلو لم يتحقق يعني أن هذا الأمر قد خالف علم الله أو بمعنى آخر كان الله جاهلاً أو خاطئاً في حالة عدم الوقوع - والعياذ بالله - ومن جهة أخرى إن الكافر لا يستطيع إلا أن يكفر والمجرم لابد أن يعصي وذلك تصديقاً لعلم الله عز وجل.

والجواب على الجزء الثاني من الشبهة قد تحدثنا عنه فيما سبق بالجبر والتفويض في الأعمال والتصرفات أما الجزء الأول من الشبهة فمن الممكن أن يكون لأول وهلة من الأمور العصيبة لكن ببعض الوضوح نلاحظ انقلاب السحر على الساحر - ففي الحقيقة إن العلم بالشيء لا يصنع واقع ذلك الشيء بل لا يؤثر في تحقيقه أبداً كما أنك تعلم أن القوة الكهربائية بإمكانها أن تقتل الإنسان لو مسّها مباشرة وكذلك تعلم أن أمواج البحر المتلاطمة لا تتحطم على صدر الإنسان بل هو سيتحطم أمام ضربات أمواج البحر العاتية فيموت الإنسان المعترض لها وأنت تعلم أن الطفل لو سقط من الطابق العاشر إلى الأرض سيموت.. وإذا دهسته سيارة كبيرة سيموت أيضا.. هذا العلم واليقين هل يصنع الموت لأخي وصديقي وطفلي فلو قدّر أن مات صديقي بالكهرباء أو بالغرق أو مات الطفل سحقاً بالسيارة هل أن علمي المسبق بالنتيجة هو السبب في ذلك؟ ونفس المثال ينطبق على علمي بأن الأخ المنحرف الذي اختار طريق الفساد إلى آخر حياته فإنه سيهلك في النار فهل إني أدخلته هذه المهلكة لمجرد علمي بالنتيجة؟ وخاصة لو عرفنا أن المسألة محاطة بمجمل أسباب ومسببات وعلل ومعلولات وهذا ما يفسره قول النبي نوح (عليه السلام) كما ورد في القرآن الكريم:

(إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفّاراً). [سورة نوح، الآية27].

هذا العلم من النبي (عليه السلام) بنتيجة أبناء المنحرفين هل إنه هو السبب في انحرافهم وهل من عاقل يدّعي ذلك؟ والمعروف أن رسالة الأنبياء هي رسالة الإصلاح والتغيير ولكن هذه القناعة بانحراف الأجيال القادمة من أولاد المنحرفين وجدت للنبي نوح (عليه السلام) عبر أسباب ومسببات وتجارب وخبرات، إضافة لذلك نلاحظ أن الإنسان في وجدانه يعرف أنه مخيّر في أعماله وسلوكه وقد مر معنا - في موضوع الجبر والتفويض - فبمجرد علمي بأن أحد طلابي مثلاً سيختار فرع الرياضة البدنية في دراساته الجامعية أو كاختصاص في دراسته العليا وعلمي بأن احدهم سيختار الطب البشري اختصاصاً مفضلاً وله القابلية في ذلك هل إني صنعت الاختيار لهما أم أن الطالب بملء إرادته وخصوصياته المتأثرة بمجمل الأسباب المحيطة والموروثة أحياناً ومن جملتها الدرجة المؤهلة والاستعداد النفسي وغيرهما فبالنتيجة يختار لنفسه مستقبله فإذن مجرد علمي بالنتائج ليس هو السبب الصانع للواقع الخارجي كما هو معروف من خلال الأمثلة المتعددة.

وهكذا بالنسبة للشقي والظالم حيث تساهم الظروف غير المستقيمة في خلق هذه النفسية الدموية المتكبرة فمثلاً ابن الزنا وآكل مال اليتيم وآكل الحرام، صحيح أن هؤلاء قد أثرت فيهم الظروف التعيسة التي جنت عليهم من آبائهم أو محيطهم كما ورد في الأثر (السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه) أو من أعمالهم الشريرة كشرب الخمر والمقامرة والربا... ولكن هذه الظروف بشكل أو بآخر تخلق عنده حب العمل الشرير ضمن مناخ نفسي مناسب ومع ذلك فإن ممارسة العمل الانحرافي بحاجة إلى قرار الإنسان حيث الاختيار الإرادي فبإمكان ابن الزنا أن يحترم حقوق الناس ويطيع الله ويحافظ على استقامته ليتقرب إلى الله وبإمكانه أن ينتقم ويبطش بالمجتمع متى ما سنحت له الفرصة للانتقام ثأراً من الجناية على أمه. لذلك نلاحظ صلاحية ابن الزنا في الإسلام أقل من صلاحيّة ومنزلة الابن الشرعي ومع ذلك فأمام ابن الزنا فرص للاستقامة وإن كان الأمر فيه نوع من الصعوبة كالتائب من الذنب فبإمكانه أن يتوب ويعود إلى الطريقة المستقيمة التي يختارها لنفسه مخالفةً لهواه.

إذن فالمسألة طبيعية وليست خادشة لعدل الله سبحانه حيث خلق الله الكافر والمنافق والشقي وذلك لأن الله قد وفّر فرصاً متساوية للجميع لغرض الاختيار وزوّدهم بالعقل المميّز والمدرك للمصلحة وهو العادل (سبحانه) وميزانه دقيق فقد قال في محكم كتابه الكريم:

(فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره). [سورة الزلزلة، الآيتان 7-8].

و(إن الله لا يظلم مثقال ذرة...). [سورة النساء، الآية 40].

بل إن ميزانه العادل في منتهى الدقة والعدالة فالله سبحانه يقدّر لهذه الظروف المحيطة بالشقي التي سببت قلقه من دون إرادته ومدى معاناته من هذه الظروف القاسية التي جاءته عبر معاصي أبيه مثلاً فكل الأمور تؤخذ بالحسبان في ميزانه يوم القيامة وتبقى في الدنيا مسألة الاختيار بيد الإنسان فكم من الأولاد الشرعيين هم وقود جهنم لانحرافهم وكم من الأولاد غير الشرعيين تظهر استقامتهم في الدنيا لإصرارهم على المبدأ القويم. فقد قال سبحانه: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). فالمفروض أن نعبده تعالى رغم كل الظروف والتراكمات السلبية المورثة أو القادمة من جراء الأعمال الخاطئة التي يمارسها الإنسان، فالإنسان لديه القدرة في صياغة نفسه بالطاعة والاستقامة مهما كانت ظروفه النفسية والوراثية والاجتماعية.

يقول سبحانه: (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب). [سورة الطلاق، الآيتان 2-3].

الشبهة الثالثة: هل الشفاعة يوم القيامة من العدل الإلهي؟

لما استحق المجرمون عقاب الله عز وجل يأتي الشفيع ينقذ المجرم من العذاب برأفته ورحمته مستغلاً منزلته عند الله وبهذا تصبح رحمة الشفيع هذا أوسع من رحمة الله تعالى! فينقذ من العقاب جماعة من المذنبين لهذه الوساطة ويترك جماعة من المذنبين في العقاب الأليم. هل هذه الشفاعة وبهذه الكيفية من العدالة الإلهية؟

في الحقيقة إن هذه الشبهة وبهذا الأسلوب من الطرح نلمس فيها كثيراً من التداخلات في المفاهيم وعموماً لو سايرنا أصحاب هذه الشبهة يفترض علينا تفكيك تداخلاتها وتوضيح الرد عليها.

فالشفاعة على شكلين، شكل مرفوض شرعا وعقلاً وهذا ما يردده اكثر الناس فقد قال تعالى:

(واتقوا يوماً لا تجزى نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون). [سورة البقرة، الآية 148].

والشكل الثاني للشفاعة ما نسميه بالشفاعة المقبولة شرعاً وعقلاً وهو الشكل الثاني. فقد قال تبارك وتعالى:

(ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً). [سورة النساء، الآية 64].

فاستغفار الرسول لهم هو جزء من عناية الله ولطفه فلا تعارض بين الأمرين والإراديتين بل أن شفاعة الرسول وطلب المغفرة لهم من الله عز وجل بالنتيجة فالشفاعة بيد الله كما قال سبحانه في آية أخرى:

(ولا يشفعون إلا لمن ارتضى). [سورة الأنبياء، الآية 28].

(من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم..). [سورة البقرة، الآية 255].

إذن الشفاعة هي من الله العظيم. فهو مصدر العفو والمغفرة والتجاوز وهذه هي الشفاعة الصحيحة والمقبولة بينما الشفاعة الباطلة هي التي تنصب إرادةً ما فوق إرادة الله وأي فرق بين هذا التصور ووضع شريك الله - سبحانه - فقد قال في القرآن الكريم:

(إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء). [سورة النساء، الآية 116].

فالشفاعة المشروعة قد جعلها الله وسيلة للوصول إلى رضاه ومغفرته حيث قال في محكم الكتاب العزيز:

(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة). [سورة المائدة، الآية 35].

فالوسائل الموصلة إلى رضوان الله تعالى من أبرزها الشفاعة المشروعة من قبل أولياء الله للمذنبين والعاصين فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (حسين مني وأنا من حسين أحب الله من أحب حسيناً)(23).

فالحسين وسيلة شرعية بحبه يتحقق حب الله والذي يحب الله يطيعه ولا يعصيه فالسير على منهجية الإمام الحسين يعني إطاعة الحسين وطاعة الحسين تعني إطاعة النبي وإطاعة النبي إطاعة الله:

(أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم). [سورة النساء، الآية 59].

وفي الرواية: (الراد عليهم كالراد علينا والراد علينا كالراد على النبي والراد على النبي كالراد على الله والراد على الله كحد الشرك به).

فإذن الشفاعة والصفح والتجاوز ضمن المقاييس الشرعية والوسائط المشروعة تصل نتيجتها إلى الله تعالى:

(قل لله الشفاعة جميعاً). [سورة الزمر، الآية 44].

(ما من شفيع إلا من بعد إذنه). [سورة يونس، الآية 3].

فالرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) هو الشفيع الأول يوم القيامة لأنه وسيلة الله لعباده (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) وهي ضمن المقاييس الشرعية فقد ورد - يدخل النار ولو كان سيداً قرشياً ويدخل الجنة ولو كان عبداً حبشياً -.

إذن الموازين المطلوبة ليست هي القرابة أو الأعمال السطحية وإنما بالقيم الإيمانية وضمن القنوات التي حددها سبحانه وتعالى تتم الشفاعة بإرادة الله من دون أي تأثّر أو تأثير فقد قال سبحانه في محكم الكتاب العزيز:

(الذي يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كلّ شيء رحمة وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم). [سورة غافر(المؤمن)، الآية 7].

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (إن شفاعتنا لا تنال مستخفاً بالصلاة)(24).

من هنا نستخلص فكرة الشفاعة من القرآن الكريم حيث الشفاعة المشروعة عكس ما يتصور البعض أنه سينال الجنة دون صلاة وصيام والواجبات الأخرى بل بمجرد بعض المستحبات، وفي الروايات - من بكى وأبكى وتباكى غفرت ذنوبه ووجبت له الجنة، ولكن مع شرطها وشروطها. فالشفاعة حق يتحقق ضمن وسائل الله المشروعة فللمؤمن الذي يقول بيتاً من الشعر في مصاب الإمام الحسين يرزقه الله بيتاً في الجنة - من قال فينا بيتاً من الشعر رزقه الله بيتاً في الجنة - أما غير المؤمن فلا تشمله هذه الشفاعة، لأن المؤمن سلك المسلك الإلهي حيث وسيلة الله بينما غيره هو الذي نصب نفسه متوهماً في تجاوز إطاعة الله ورسوله والإتيان ببعض المستحبات لنيل الشفاعة والحال إن شفاعة النبي والأئمة هي كرامة ومنحة من الله سبحانه للنبي والقرآن فإنه شافع مشفع والأئمة الأطهار والمؤمنين الصالحين وهذه الكرامة هي من رحمة الله فلو شملت بعض العاصين فإنها تشملهم بعد استيفاء العدل الإلهي حقه من عصيانهم حيث تصفية الحساب في الدنيا أو في عالم البرزخ (القبر) أو سنوات من العذاب الأليم في الآخرة وهكذا. فإذن الشفاعة المشروعة هي عين اللطف الإلهي والعناية الإلهية والعدل الإلهي أيضا.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

دواء القلوب
المُناظرة العشرون /مناظرة الاِمام الكاظم عليه ...
محكمة الآخرة
الجبر والاختيار
سياحة في الغرب أو مسير الأرواح بعد الموت 3
صفات الخالق وخصائصه
آراء الحكماء في المعاد الجسماني
المناظرة الحادية عشر/سماحة الشيخ مصطفى الطائي
أسباب النزول بين العموم والخصوص
الصفات الذاتية الثبوتية

 
user comment