أ_ معناه في اللغة:
كلمة وحي، كلمة أصيلة في اللغة العربية، وقد ورد لفظ الوحي ليدل على مجموعة معان، مناسبة للإعلام في الخفاء.
وتدل هذه المادة على الإخبار السريع، أو على الإعلام بمختلف صوره، قال الفيروز آبادي: "الوحي: الإشارة والكتابة والمكتوب والرسالة والإلهام والكلام الخفي، وكل ما ألقيته الى غيرك. والصوت يكون في الناس وغيرهم كالوحي والوحاة وأوحى إليه: بعثه وألهمه، ونفسه وقع فيها خوف.
ونلاحظ أن الشرع استعمل كلمة الوحي في غالب الاستعمال لتدل على الإعلام الخفي والسريع والإلهام، حتى جعل القول الجامع في معنى الوحي اللغوي أنه الإعلام الخفي السريع الخاص بمن يوجه إليه بحيث يخفى على غيره.
2_ وروده في القرآن ومعناه:
ورد ذكر الوحي ومشتقاته في القرآن في سبعين موضعا، منها أربعة وستون موضعا في القرآن المكي، وستة مواضع منها في القرآن المدني.
وأكثر ما استعمل فيه صيغة الفعل ماضيا ومضارعا. وكلمة "الوحي" جاءت في ستة مواضع في القرآن وكلها في العهد المكي. وهذا يبين أثر هذا القضية واعتبارها أساس ما يدور عليه العهد المكي، من صراع حول قضايا يتميز بها هذا الدين الجديد، ويعلنها صريحة. مصححة لأوضاع المجتمع، ابتداء من قضية الاعتقاد، والاعتقاد _في حد ذاته _ معرفة أو علم. ومن ثم فإن للمعرفة طريقا جديدا غير طريق الحس والعقل، وغير ما تناقلته الأجيال عن الآباء والأجداد، هذا الطريق هو الوحي إلى النبي (ص)، وقضية الوحي هنا رئيسية إذ على أساسها يكون موقف الناس فبين مؤمن مسلم وبين كافر منكر. وهذا بدوره جعل توحيد مصدر المعرفة، واعتبار هذه المعرفة إحدى القضايا الرئيسية حينذاك. ونجد تدعيما لهذا الرأي أن كثيراً من أوائل السور المكية، كان يتحدث عن الوحي وإثباته طريقا للمعرفة. من ذلك: أوائل سورة فصلت وسورة غافر وسورة الزمر والشورى والزخرف والنجم، فكلها تتحدث عن الوحي وإثباته طريقا للمعرفة. يقول سبحانه: (حم* تنزيل من الرحمن الرحيم* كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون* بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون* وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون* قل إنما انا بشرٌ مثلكم يوحى إليَّ أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين).
(حم* عسق* كذلك يوحى إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم).
(وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه).
(والنجم إذا هوى* ما ضل صاحبكم وما غوى* وما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحيٌ يوحى).
وقد ورد الوحي في القرآن دالا على كثير من معانيه اللغوية. من ذلك:
قال تعالى: (فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين) (ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة) والموحى إليهم الأنبياء عليهم الصلوات والسلام.
وقد ورد ذكر الوحي إلى غير الأنبياء، ولم يكن ذلك الإلقاء بواسطة الملك على سبيل النبوة، بل بعضه كان بواسطة الرسل، وبعضه بواسطة ملك على غير سبيل النبوة. ومنه ما كان لغير الإنسان على سبيل الهداية الغريزية والتسخير، ومنه ما كان بإيحاء بعض المخلوقات لبعضها كإيحاء شياطين الجن والإنس لبعضهما البعض، ومنه ما كان بمعنى الإشارة وتفصيل ذلك:
_ فمما ورد مثلا من إيحاء الله إلى غير الأنبياء من الإنس، ومنه ما كان إعلاما لهم بواسطة الرسل كما قال تعالى: (وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي). وقوله (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه). فالوحي هنا لا إلى أنبياء ولكنه بوساطة أنبياء أوحى الله إليهم. أو بأن يبعث اليهم ملكا لا على وجه النبوة كما بعث إلى مريم، أو يريها ذلك في المنام فتنتبه عليه أو يلهمها، أي أوحي إليها أمراً لا سبيل إلى العلم به إلا بالوحي، وفيه مصلحة دينية، وهو أمر عظيم بحق بأنه يوحي. والوحي هنا بمعنى القول.
_ ومما أوحي إلى بعض الحيوان كالإيحاء إلى النحل فيكون بالإلهام والقذف في النفس والاهتداء الغريزي لما يصدر عنه من فعل فيه حياته وصلاحه وقد يكون فيه دقة وحذق وقد يعبر عنه بالتسخير. كما قال تعالى (وأوحي ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا).
_ ومما كان وحيا إلى الملائكة بواسطة اللوح والقلم أو بوساطة أو بغير وساطة _والله أعلم _ بما ذكره سبحانه بقوله: (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا).
_ ومما كان وحيا إلى الجماد بأن ألقى فيه التسخير إلى ما أراد له من وظيفة ما ذكره تعالى بقوله: (فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها).
_ ومما نسب فيه الإيحاء في القرآن إلى الإنس والجن وأريد به الإعلام الخفي السريع بالأقوال الباطلة المزينة ما ذكره تعالى بقوله: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا).
ب_ كما أريد بالوحي الإشارة إذ نسب إلى زكريا عليه السلام، إذ قال تعالى عنه لما خرج إلى قومه من المحراب: (فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا).
ومقصودنا هنا هو الوحي إلى جبريل كواسطة بين الله ونبيه على أحد وجوه تفسير قوله تعالى: (فأوحى إلى عبده ما أوحى) وكما في قوله تعالى: (أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء).
وقد ذكر الوحي في القرآن وأريد به الموحى من باب إطلاق المصدر على المفعول كما في قوله تعالى: (إن هو إلا وحي يوحى)، و (قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون).
كما ذكر وأريد به أحد أوجه التكليم كما قال تعالى: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب).
والذي يهمنا هنا هو المعنى الجامع للوحي بأنه إعلام من الله سبحانه لنبيه عليه الصلاة والسلام علما لا يحصل للإنسان بحسه ولا بعقله.
والنبي هو الذي يخصه الله تعالى بالوحي من البشر لهداية الناس. وسمى من اصطفاه الله لهذه المهمة نبيا، لما فيه من معنى الإبلاغ والإعلام، ولكونه الطريق لمعرفة جديدة ولما في هذا الطريق من رفعة وعلو.
قال الفيروز ابادى في معنى كلمة نبي: النبي: الطريق. والنباوة ما ارتفع من الأرض. ونابى: محدث، وقال أيضاً: النبىء (بالهمزة) مشتقة من النبأ وهو الخبر، والنبىء هو المخبر عن الله تعالى. ونبأ ما ارتفع عليه وطلع من أرض إلى أرض. وقد ترك الهمز فأصبحت النبي لأن أعرابيا قال للنبي (ص) يا نبىء الله، أي الخارج من مكة إلى المدينة، فأنكر عليه النبي(ص) ذلك وقال: "لا تنبر باسمى فإنما أنا نبي الله".
ضرورة الوحي في المعرفة
إذا كان للإنسان حواس يحس بها، وعقل يعقل به. والإنسان مخلوق لله سبحانه وتعالى، يعيش في هذا الكون مع بني جنسه، ويتعامل مع عناصر الكون من حيوان وجماد. فهل يستطيع بحسه وعقله أن يعيش ويؤدي دوره في هذا الكون، ويقوم بوظيفة الخلافة في الأرض ويتوجه في كل ما يعمل إلى الله خالقه سبحانه؟ وهل يستطيع بهذا كله أن يحدد وظيفته وأن تكون له معرفة صحيحة بخالقه، وبما يطلب منه؟ وهل يستطيع بهذه الكفايات _الحس والعقل _ أن يعرف ما ينتظره بعد موته.
إن الإنسان في أشد الحاجة إلى مصدر آخر للمعرفة، يسلمه عقله، وتتطلبه فطرته، ويكرمه به ربه رحمة منه وفضلا، أنه طريق النبوة، ومصدرها: الوحي النازل من رب العالمين على من اصطفاه من خلقه، كي سعف هذه الفطرة بما فيها من حس مرهف وعقل سليم مفكر، بطريق رباني دقيق ثابت شامل للمعرفة، يضمن لها أن تؤدي دور الخلافة في الأرض، وأن تقوم بالعبادة الشاملة التي خلقت من أجلها، يصدق فيها قوله سبحانه: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون).
1_ الوحي ممكن في نظر العقل:
وليس في اعتماد النبوة طريقا للمعرفة، هضم لقيمة العقل والحس ودورهما في المعرفة، ذلك أن للحس والعقل ميدانا لا يتجاوزانه، هو عالم الشهادة. كما أنه يقع في دائرة العقل نفسه التسليم بأنه نفسه محدود بعالم الشهادة وقوانينها، ولا يستطيع إنكار ميدان آخر وطريق آخر للمعرفة، فضلا عن أنه من خلال نظره السليم إلى عالم الشهادة، ومن خلال قوانينه يستطيع أن يحكم بمبدأ وجود عالم الغيب والذي لا يمثل عالم الشهادة إلا أثرا من آثاره _عالم الغيب _. فكيف يدعى العقل إذن أن فيه الكفاية النهائية للمعرفة، وهو نفسه لا يستطيع أن يدعي عصمة معرفته العقلية، بدلالة اختلاف العقول فيما بينها في القضية الواحدة بل واختلاف العقل مع نفسه في القضية الواحدة أيضا بين وقت وآخر.
2_ لا كفاية في العقل:
أما أن العقول قاصرة، فأمر لا ريب فيه، في كل مجالات الحياة والكون بل والإنسان نفسه، "وفي الحق لقد بذل الجنس البشري جهدا جبارا لكي يعرف نفسه، ولكن على الرغم من أننا نملك كنزا من الملاحظة التي كدسها العلماء والفلاسفة والشعراء وكبار العلماء الروحانيين في جميع الأزمان، فإننا استطعنا أن نفهم جوانب معينة فقط من أنفسنا. إننا لا نفهم الإنسان ككل... وواقع الأمر أن جهلنا مطبق، فمعظم الأسئلة التي يوجهها أولئك الذين يدرسون الجنس البشري إلى أنفسهم تظل بلا جواب، لأن هناك مناطق غير محدودة في دنيانا الباطنية ما زالت غير معروفة.. كيف تتحد جزئيات المواد الكيميائية لكي تكون المركب والأعضاء المؤقتة للخلية؟ وما طبيعة تكويننا النفساني والفسيولوجي؟ ... إلى أي مدى تؤثر الإرادة في الجسم؟ كيف يتأثر العقل بحالة الأعضاء؟ إننا ما زلنا بعيدين جداً من معرفة ماهية العلاقات الموجودة بين الهيكل العظمى والعضلات والأعضاء، ووجوه النشاط العقلي والروحي. إننا لا نستطيع أن نهب أي فرد ذلك الاستعداد لقبول السعادة. كيف نستطيع أن نحول دون تدهور الإنسان وانحطاطه في المدينة العصرية ؟.
وإن أكثر من قدس العقل وهم المعتزلة لم يجعلوا في العقل كفاية عن النبوة. بل جعلوا النبوة واجبا يقتضيه العقل بناء على مذهبهم في أن الحسن ما حسنه العقل والقبيح ما قبحه العقل. ولم يمانعوا أن تكون البعثة مؤكدة لما في العقل ومفصلة لما تقرر جملته فيه. ووجهوا الوجوب لما هو مستقر في العقول من أن دفع الضرر عن النفس واجب وجلب النفع اليها حسن، فمجىء الرسل بتقرير ما ركبه الله تعالى في عقولنا، وتفصيله ليس مخالفا لما في عقولنا حتى يتعارض معها، وليس في العقل غنية عنه، إذ لا يقدح ما تقرر في حصول ما يكون طريقا إلى الأمر بما ينفع وإلى النهي عما يضر، بل تتأكد الدلالة بطريقين: أحدهما: العقل، والآخر: السمع، أو الشرع.
3_ الحاجة إلى الوحي:
ومن هذه الأمور اللازمة للإنسان لأداء دوره في الحياة، وليست معرفته العقلية واصلة إليها، ولا شافية فيها:
أ_ الحاجة إلى الوحي في الاعتقاد:
إن التصور الاعتقادي للألوهية وصفاتها ومقتضياتها أو عالم الغيب بحقيقته وتفصيلياته والتي تعد هذه القضية أساسا له ليس في قدرة العقل أن يقدم فيه معرفة دقيقة. فإذا كان الإنسان بما أولى من عقل يفكر وينظر ويتفكر في نفسه وفي عالم الشهادة من حوله فإنه يستطيع أن يؤمن بوجود أثر، ترجع إليه هذه الآثار. ولكن كيف تتفق العقول على تصور موحد لهذا الإله. أليست الفلسفات البشرية، قديمها وحديثها، تعيش في تية وركام من التصورات المختلفة للألوهية؟ وما قيمة ألوهية ليست واضحة ومتفقا عليها في حياة الناس؟ فالوحي إذن أو طريق النبوة تعطينا تصورا سليما صحيحا للعقيدة في أهم قضاياها وهي الألوهية. ومن ثم كان أول ما نزل على رسول الله (ص) قوله تعالى: (أقرأ باسم ربك الذي خلق* خلق الإنسان من علق* اقرأ وربك الأكرم* الذي علم بالقلم* علم الإنسان ما لم يعلم).
ثم ما يتبع الإيمان بالله من إيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وما في ذلك كله من تفصيلات. كيف يكون للعقل سبيل إليها بغير طريق النبوة؟ وماذا يمكنه أن يقدم عنها، سوى تخمينات من خلال عالم الشهادة، إن كان لها في حياته المشغولة والمنهمكة في عالم المادة والفكر نصيب.
ب_ الحاجة إلى الوحي في التشريع:
وإذا كان الإنسان عارفا بأن له ربا يوحده، فمقتضيات هذه الوحدانية في الاعتقاد تقديم شعائر معينة ومحدودة ومفصلة ومقسمة وموقتة. وتلقى شرائع وقوانين ونظم تنظم بها حياته الفردية والأسرية، وتقوم بها حياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية. والتزام بأخلاق معينة تنبثق من ذلك التصور وتحوط تلك النظم في تعامله معها. أقول فمقتضيات الوحدانية من ذلك كله، أنى للعقل أن يعرفها أو أن يدعى بأنه يستطيع أن يقدم فيها معرفة سليمة شافية وافية موحدة؟ وكل هذه المقتضيات يشملها الوجود الإنساني في هذا الكون في الحياة الدنيا، ومن ثم فإنه لا يعلم حقيقتها وحقيقة ما يلزم الإنسان منها إلا الله سبحانه، خالق الإنسان والأشياء جميعا وهو يقرر ذلك فيقول: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير). وكيف تصل إلى الإنسان بغير طريق معصوم معتمد منه سبحانه، ويقع في دائرة تسليم العقل بالأدلة عليه، ألا وهو طريق النبوة أو عن طريق ظاهرة الوحي.
ويرى كثير ممن عبروا عن الحاجة إلى الوحي أو إلى البعثة، أن فيها تيسيرا على العاقل فيما يمكن وصول العقل إليه، إذ إنه يريحه من ملازمة التفكير والنظر الدائم والبحث الكامل، بحيث لو اشتغل بذلك لتعطل أكثر مصالحه، فيكون التنبيه على ذلك بواسطة الرسل فضلا ورحمة. وإن كان في هذا القول تأثر بكفاية العقل في المعرفة. لكننا نؤكد أن ما جاء به الوحي ليس من اختصاص العقل، وأن العقل لو فكر ونظر منذ أن خلق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فما كان له أن يأتي بشيء من ذلك، إذ العقل أعد لأن يسلم من خلال قوانين عالم الشهادة بأن له رباً، ولكن ما يريده ربه سبحانه وما يلزم الإنسان أو يحتاج إليه من تصور واعتقاد، وما ينفعه من عبادة وطاعة، وما يصلحه من نظام وتشريع، وما ينتظره من جزاء _ثواب أو عقاب _ ليس للعقل فيه كفاية أبدا، إلا الفهم وتوجيه الإنسان بحسب هذا الفهم، فالعقل مخلوق عابد، إذ هو ميزة الإنسان المستخلف في الأرض لعبادة الله عز وجل.
ج_ ابن سينا والحاجة إلى الوحي:
يلخص ابن سينا وجه الحاجة إلى الوحي في المعرفة، وهو فيلسوف عقلي، إسلامي، يجعل النبوة واجبة يقتضيها وجود الإنسان وبقاؤه وإنما نأتي بكلامه مستدلين بأنه حتى من خاض في العقل وقدسه يعترف بأهمية الوحي وضرورته والحاجة الماسة إليه. ونخالفه سلفا فلا نرى أنها واجبة بمعنى أنها واجبة على الله، وإنما اقتضتها حكمته ورحمته. يلخص ابن سينا هذه الحاجة فيقول:
"من المعلوم أن الإنسان يفارق سائر الحيوانات بأنه لا يحسن معيشته لو انفرد شخصا واحدا، يتولى تدبير أمره. من غير شريك يعاونه على ضرورات حاجاته وأنه لابد أن يكون الإنسان مكفيا بآخر من نوعه، يكون ذلك أيضا مكفيا به وبنظيره، فيكون مثلا: هذا ينقل إلى ذاك وذاك يخبز لهذا وهذا يخيط للآخر والآخر يتخذ الابرة لهذا حتى اذا اجتمعوا كان أمرهم مكفيا.
واذا كان هذا ظاهرا فلا بد في وجود الإنسان وبقائه من مشاركة ولا تتم المشاركة إلا بمعاملة.. ولابد في المعاملة من سنة وعدل. ولا بد للسنة والعدل من سان ومعدل، ولا بد أن يكون هذا بحيث يجوز أن يخاطب الناس ويلزمهم السنة، ولا بد أن يكون هذا إنسانا. ولا يجوز أن يترك الناس ورآءهم في ذلك فيختلفون، ويرى كل منهم ماله عدلا، وما عليه ظلما. فالحاجة إلى هذا الإنسان في أن يبقى نوع الناس... فلا يجوز أن تكون العناية الأولى _أي عناية الله تعالى _ تقتضي تلك المنافع، ولا تقتضي هذه التي هي أسها.. فواجب اذن أن يوجد نبي وواجب أن يكون إنسانا وواجب أن يكون له خصوصية ليست لسائر الناس، حتى يستشعر الناس فيه أمرا لا يوجد لهم، فيتميز به عنهم. فهذا الإنسان إذا وجد وجب أن يسن للناس في أمورهم سننا بأمر الله تعالى وإذنه ووحيه وإنزاله الروح القدس عليه فيكون الأصل فيما يسنه تعريفه إياهم أن لهم صانعا واحدا قادرا، وأنه عالم بالسر والعلانية، وأن من حقه أن يطاع أمره وأن يجب أن يكون الأمر لمن له الخلق. وأنه قد أعد لمن أطاعه السعد، ولمن عصاه المعاد الشقي".
4_ النبوة فيها حجة على الخلق:
ولا يفوتنا إن نقول أن الإنسان مكلف بعمارة الأرض، ومن ثم فالوحي فيه إقامة الحجة عليه. ذلك أنه خلق وفيه دوافع الخير ونوازع الشر، فالوحي يدعم مسيرة الخير ويقوى دواعيه عنده، ويقصر من نوازع الشرور. والإنسان محاسب بحسب عمله، وهو بحكم طبيعته كثير النسيان ومحب لشهواته، ودواعي الشيطان. فكانت النبوة مذكرة له بالاستقامة ومبينة له الخير، ومؤكدة عنده دوافعه، ومزودة له بما على أساسه يجازي، كما يقول سبحانه: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)، ويقول (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) فعلى أساس من الوحي يقوم التبليغ وتثبت الحجة على الخلق، ويترتب عليه مصيرهم في الآخرة.
5_ الإقرار بالنبوة شطر الإيمان:
وهذا الطريق في المعرفة، ذو أثر كبير في نظرية المعرفة، إذ يخرجها عن أن تكون مجرد دراسة نظرية فلسفية، تعبد العقل وتقدسه. بل يضع العقل في مكانه الصحيح، ويسعف البشرية بعلم معصوم، ليس نظريا وإنما يحملها تبعة العمل والتكليف ذلك أن إيمانا يقوم في أساسه على نظرية المعرفة القرآنية يضبط العقل ويوجهه، ويجعله مناطا للتكليف، وفاهما للتشريع. وأن انكار هذا الطريق كفر. فأساس الإيمان وقاعدته، والمعرفة بالله وبرسوله، ومن ثم كانت الشهادة بنبوة رسول الله(ص) الركن الثاني في الشهادة، فركنها الأول إقرار بوحدانية الله _أشهد أن لا إله إلا الله _، وركنها الآخر شهادة بنبوة محمد(ص) وأشهد أن محمد رسول الله ومن ثم أمر الله سبحانه بهذه المعرفة فقال مشيرا إلى ركنها الاول: (فاعلم أنه لا إله إلا الله)، وقال سبحانه مشيراً الى ركنها الثاني: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما).
source : البلاغ