بالعقل نقول إنه بدون رؤية فالحركة مجازفة بالغة الخطورة. والإنسان كأحد مفردات هذا الوجود يتحرك مع الكون كله نحو الغد، والغد مجهول، والتحرك في المجهول يلزمه مرشدات، نور وخريطة وبوصلة لتحديد اتجاه الحركة وتعديله كل فترة. مطلوب رؤية للكون الذي نعيش فيه، لأنه يحتوينا ونخضع لسننه وحركته وتقلباته.
وفي زمن المادية الصارخة بقسوتها وعنفوانها، يحسب الكثير من الناس أن الرؤية هي مجرد الرؤية الحسية المشاهدة بالعين، وربما ما يدرك بالحواس الخمس أو بالأجهزة المادية التي صنعها الإنسان، ولا يعترفون بغير ذلك، وتلك بداية خاطئة تغرق الإنسان في ظلمات مهلكات، ومَن يفعل ذلك يكون كمن يختار العمى. فالحواس بدون النشاط العقلي (المعنوي) تصبح محدودة الفائدة، وتعمل بالفطرة شبه الآلية ـ بدون تصور ـ كما هو الحال عند الأنعام.
ـ محدودية الحواس وزيغها:
بصر الإنسان لا يستطيع أن يستشعر إلا في أضيق نطاق كمّاً وكيفاً، ضيق في ضيق. فالمشاهدة المباشرة للأجسام المعتمة محدودة كمّاً بعشرات الكيلومترات، أما من حيث النوع فالانسان لا يدرك من الأشعة إلا في النطاق الضيق المحصور بين عالمي الأشعة فوق البنفسجية والأشعة تحت الحمراء. وخارج هذا النطاق الضيق جداً فالإنسان في هذه الدنيا أعمى بشهادات المختبرات والعلم الحديث. وحتى في نطاق الألوان التي نعرفها فما نراه أو نعيه قد يكون غير الحقيقة تماماً والإشارات التي نستقبلها في زمن متقارب جداً يتعامل المخ معها وكأنها متزامنة.
ومنذ أربعة عشر قرناً من الزمان أخبرنا ربنا ـ تبارك اسمه ـ بقصور أبصارنا عن رؤية الشيطان وهو يسرح بيننا، إذ يقول عز من قائل: ( ... إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ... ) الآية 27، سورة الأعراف. والثقوب السوداء في السماء يتعذر رؤيتها برغم عملقتها في السماء الدنيا، لأنها تبتلع كل ما يصادفها حتى الضوء الذي هو وسيط الرؤية البصرية.
ويرى الإنسان الأشياء المجسمة وهذه تسمى رؤية ـ مجازاً ـ أو رأى العين وهذه المجسمات لا يشترط أن تكون هي الحقيقة، بل غالباً ما تكون الحقيقة غير ذلك والسراب أوضح مثال على ذلك، يحسبه الظمآن ماء، وهذا خطأ في الحساب العقلي. فوظيفة العين هي النظر أما البصر فهو وظيفة العقل. وزيغ البصر سببه عقلي قبل أن يكون بسبب العين، فالبصر يزيغ، والأمثلة المادية على زيغ البصر عديدة وتفوق الحصر، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، ما ورد في محكم التنزيل بشأن ملكة سبأ: ( ... فلما رأته حسبته لجة ... ) الآية 44، سورة النمل. أي أنها نظرته بعينيها السليمتين، ولكن حسبته بعقلها المذهول، وعلى ذلك كانت النتيجة والتصرف الخاطئ، (وكشفت عن ساقيها).
بالنسبة للقضايا المعنوية فالعمى والصمم والبكم أشد وأخطر من القضايا المجسمة مادياً، لأن الحاسة هنا محدودة الحيلة وغير واضحة المعالم أو ربما لا حيلة لها، فهل آن للإنسان أن يتواضع! وكثيراً ما نسمع قائلاً صادقاً يقول: رأيي في هذه المسألة كذا وكذا. فيرد عليه آخر أصدق منه قائلاً: إنني أرى غير ذلك. يحدث ذلك في الأمور المعنوية كثيراً، فبماذا يرى كل منهما رأيه؟ بأي حاسة، أو بأي وسيلة إدراك؟ بل إن الإنسان يبيت برأي ويصبح برأي آخر.
وإن كان عشرة أفراد أو أكثر يتحاورون في قضية، فكيف يراها كل منهم بصورة مختلفة وهو صادق! هل حقيقة القضية متعددة؟ الجواب: لا، إنها نفس القضية، ولكن قد تكون عديدة الوجوه، وهي في الغالب كذلك. وسبب الاختلاف أن كل شخص يرى القضية بوسيلة رؤية مختلفة، وهذه الوسيلة هي العقل. وأحياناً يقال إن كل شخص ينظر للقضية من وجهة نظره، كيف والمسألة ليست بصرية؟ إنها الرؤية بالعقل وهي أعمق من رؤية البصر أو إدراك الحواس. الرؤية تبنى على المعلومات التي تتدفق على العقول ليل نهار، وعلى الخبرات والخلفيات التي تتشكل بها. ولذلك فالرؤية المعنوية ذات طبيعة ديناميكية متطورة وليست استاتيكية، وعليه فلا بأس من تغير الرؤية فذلك هو الأمر الطبيعي طول العمر، ولكن الخطورة تكون في كثرة التذبذب أو ضعف الرؤية.
والتفاوت الشديد في الرؤى يمكن أن يؤدي إلى الصدام، فالآخر يرى الشيء (أو يراك) بعقله هو وليس بعقلك أنت، وكل منكما لا يرى الحقيقة مكتملة بل تتفاوت الرؤى في إدراك ما يتيسر من الحقيقة. ومن المهم والمفيد أن تضع رؤية الآخر لك في الاعتبار، لأنها أساس تصرفه تجاهك. ويمكن تغيير هذه الرؤية نسبياً بتوصيل بعض المعلومات ليقين الآخر، وذلك يحتاج لصبر وتحين الفرص المناسبة.
أيضاً من تكون حدود رؤيته محصورة في بضع سنين أشد تواضعاً ممن تكون رؤيته ممتدة لعشرات السنين وكلاهما حبيس في ظلمات المادة وفي أوحالها، أما مَن تنطلق بصيرته نحو الخلود فتكون رؤيته نورانية وغايته عظمى ومداركه أوسع.
ـ تأثير المعاني على الرؤية:
الرؤية تكون بالخلفية المعلوماتية للعقل، أي أن الرؤية إدراك عقلي. والمجهول منعدم الرؤية، فالإنسان يرى (أو يدرك من) الحقيقة بقدر ما لديه من معارف ومعلومات صحيحة عنها. فصاحب العلم الغزير في مسألة ما تكون رؤيته لها جيدة، وصاحب العلم المحدود بقضية ما تكون رؤيته لها قاصرة. والمعلومات الصحيحة تدل على نسبة من الحقيقة بقدر اكتمال المعلومات وحسن تنظيمها. والمعلومات الخاطئة تدل على وهم لا وجود له في الحقيقة. والمعلومات التي هي مخاليط من الصحة والخطأ تدل على صور مزيفة للحقيقة ولكن كثرة إعمال العقل فيها يمكن من تنقيتها. ومعلومات العقل التي تشكل أساس رؤيته لها أكثر من مصدر:
1 ـ إدراك بالحواس والتجارب والخبرة، وهذا المصدر لا يخلو من الزيغ والقصور ويجدى فيه التطوير المستمر، وهو مطلوب.
2 ـ أخذ عن مبلغين ليسوا كلهم صادقين ولا أقوياء الذاكرة، لذلك يلزم التيقن من صدقهم قبل الأخذ عنهم، أو عن مُعلم لا يخلو من النقص، فيلزم الحذر.
3 ـ استنتاج عقلي وإدراك للمعاني لا يخلو من الخطأ، ولذلك يحتاج لمراجعة.
إذن معلومات الإنسان هي مخاليط ولذلك فرؤيته للحقيقة مهزوزة ـ حتى في أحسن الحالات ـ ، ولهذا السبب يجب أن يكون العقل أنشط ما يتيسر أو ما يمكن.
مما سبق، يتبين أن رؤية ما يتيسر من الحقيقة في الدنيا يلزمها بصيرة، ولا تكفي الأبصار ولا الحواس ولا الجوارح. وفي الشكل نحاول تصور علاقة البصيرة بالعقل وعلاقة العقل بالجوارح:
(صورة) تصور اتصال الحواس والجوارح والبصيرة بالعقل
والحقيقة ليست كلها مشهودة، بل لها شق يمكن مشاهدته ولا يجوز إنكاره، وشقها الأعظم غيبي يتعذر مشاهدته، وليس من العقل إنكاره أو رفضه، إلا إذا توفر لدينا دليل يدحضه. ولكن بعض المسائل الغيبية يمكن الاستدلال عليها بما وهبنا الله من عقل. ومَن يتجاهل الشق الغيبي فسوف ينحصر تفكيره في حدود الحواس والجوارح، والذهن وسيظل يدور في حدودهما المحدودة، ولن يشعر بالراحة النفسية أبداً ما دام على هذا الحال، برغم ما قد يتوصل إليه من نتائج مادية نتيجة المجهود الذهني المضني.
أما مَن يفتح عقله لفكرة وجود شق غيبي ـ تدل عليه المعاني ـ يقابل الشق المشاهد، فسوف يجد أن القضية صارت أكمل وأرحب بكثير مما كان يظن، وأن للعقل رؤية أبعد وأعمق مما تلمسه الحواس وأن ما لدى الإنسان من علوم ومعارف هي القاعدة التي يرتفع فوقها لا ليغتر، ولكن ليتمكن من حسن الرؤية وسعة الأفق.
فمن يُحاط علماً وتأكيداً بثلاثة أرباع القضية ـ مثلاً ـ يمكنه الاستدلال على الربع الباقي أو توقع هيئته أو حالته ويمكنه تقييم الخبر الخاص به ـ عقلياً ـ وإلا فما الفرق بين الإنسان وبين العجماوات! وما معنى التصور؟ ولنضرب أمثلة كالموضحة في الشكل الآخر. ففي شكل (A) يمكن بالعقل، وبالعقل فقط، أن ندرك أن الرقم الغائب (الخفي) في المستطيل الأخير من الشكل هو العدد 10، فإن أتانا مبلغ يبلغنا بذلك فيجب على العقلاء أن يرحبوا بهذا التبليغ، لأنه يتفق مع ما عرفوه ورأوه بعقولهم، قبل أن يأتيهم خبره أو يتجسد أمام أعينهم.
وإذا جاء مبلغ يقول بأن الرقم المغيب من المستطيل الأخير في شكل (B) هو الرقم 8 فسوف يكون الرفض هو الأسبق إلى حين تقديم دليل وشرح وتعليل التناقض القائم بين الاستنتاج العقلي والخبر المتجسد أو المبلغ، لأن العقل يرى من السياق ن الرقم المغيب هو 0 . وتلك أيضاً رؤية عقلية بمعلومية معلومات (أرقام) مشاهدة وواضحة في المستطيلات الخمسة التي تسبق المستطيل موضع الخلاف.
A
B
C
(صورة) أمثلة الاستدلال العقلي
والآن نترك للعقل المتجرد من عقابيله ـ مهما كانت بساطته أو عبقريته ـ ليكمل المستطيل الأخير في شكل (C)، فبماذا سيكمله؟ نترك الجواب للقارئ.
فعلاً لقد كنا في حالة عدم (موت أول)، ثم أصبحنا في حالة حياة، وحالة الموت الثاني ماثلة أمام أعيننا يومياً ونحن ميتون لا محالة. إذن المستطيلات الثلاثة من شكل (C) مكتملة أمام أعيننا وحالة المستطيل الرابع هي المغيبة مؤقتاً عن حواسنا، ولكن هل يجوز أن تكون غائبة عن عقولنا!
ـ الرؤية بالعقل:
يتميز الإنسان بين بقية المخلوقات التي نعرفها بالقدرة على التصور وإدراك الأشياء غير الحاضرة أمامه، أي الغائبة. فالإنسان يستطيع بناء على المعلومات والوصف أن يكون قدراً معتبراً من الصورة أو الموقف ويستخلص منها نتائج وتكون له رؤية حول موقف أو مشهد لم يشهده، أو لم يتجسد بعد، وفي التقنيات الحديثة أصبح للنمذجة والمحاكاة دور نشط في استحضار غير الموجود حقيقة، ويُستنتج من ذلك نتائج علمية يبنى عليها.
ومن أمثلة الرؤية بالعقل، ما جاء في السيرة العطرة أنه (ص) كان يحفر في الخندق، ليحتمي المسلمون خلفه، من شدة طغيان قوى الشر، ويحدثهم عن فتح حصون كسرى بن هرمز، رغم عسر الموقف وضعف المقومات المادية. تلك عظمة البصيرة، وقدرة العقل على تخطي حواجز الزمان والمكان.
ومن خلال النصوص القرآنية يرقى بنا ربنا في مستوى الخطاب على أساس أنه ـ جل شأنه ـ قد أنعم علينا وزودنا بنعمة العقل الذي يمكننا من التصور واستحضار مواقف لم نحضرها، وقد ورد ذلك في مواضع عديدة، فمثلاً يقول ـ سبحانه وتعالى ـ : (ألم تر كيف فعل ربك بعاد) الآية 6 سورة الفجر. (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) الآية 1، سورة الفيل. مشاهد لم يشهدها المخاطب، لا رسول الله (ص) ولا أتباعه، ولكنها كانت مشهورة وأخبارها معروفة وشهودها حضور، ويمكن للعقل أن يتصورها ويستخلص منها النتائج والعبر، وماذا يفيد حضور المشهد أكثر من ذلك! وكل مشهد حاضر سوف يصبح بعد لحظات غير مشهود، ولكن تبقى العبر والمواعظ لمن يريد أن يتعظ. إنّه الأسلوب القرآني الفريد للتدريب على الإيمان بالغيب، لمن يريد أن يتدرب ويرقى عقلياً. إن للمشهد مكونات مادية تتبدل وتزول لكن يبقى المعنى. والكثير من المشاهد القرآنية عرضت دون التركيز على مادياتها أو تواريخها أو مواقعها، بل كان التركيز على معانيها، فهي التي تفيد.
غيب الماضي أيسر قبولاً وتصوراً من غيب المستقبل، لأن غيب الماضي يكون موصوفاً، وأحياناً يكون وصفه مفصلاً وموثقاً وبقاياه وآثاره ما زالت موجودة، أما غيب المستقبل فمجرد إخبار موجز بلا بقايا ولا آثار ولا شهود ولا وثائق، ولذلك فيحتاج إلى جهد أكبر للتصور ومصدر موثوق، لزوم التصديق.
( ... ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون) الآية 93، سورة الأنعام. مشاهد لم يشهدها أحد من أحياء البشر، ولكن على العاقل أن يتصورها، فإن لم يستطع فليحذرها ويتقي عذابها.
ـ خصوصية الرؤية:
الإنسان المبصر يرى لنفسه، أما الأعمى فيضطر للانقياد لمبصر ويفتقد نسبة كبيرة من حرية حركته مضطراً، ولا إثم عليه ولا حرج، لأن التعويض في المجال المادي محدود ـ لحكمة ـ في هذه الحياة الدنيا. ولكن الحال يختلف في المجال المعنوي ولا يحتاج العاقل لأن يسلم عقله لغيره، كل عاقل مطالب بأن تكون له رؤيته الخاصة وملزم بطائره في عنقه. يمكن أن يتحرك الإنسان بجسمه وجوارحه خلف قائده، طائعاً أو مكرهاً، ولكن يجب ألا يكون كذلك في رؤيته. يمكن أن أتفق مع القائد في كثير من النقاط والآراء لكن تظل لي رؤيتي العامة المميزة لكياني وشخصيتي. أما تلاشي رؤية الانسان فتلك مصيبة كبرى ومثالها الصارخ ـ لمن يعتبر ـ ورد في محكم التنزيل بتصوير بياني معجز: ( ... قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) الآية 29، سورة غافر. الطاغية يريدهم ألا يروا إلا من خلال عقله رغم غبائه وحماقته، يريد تعطيل عقولهم وتعمية بصائرهم، حتى لا يبصروا الحقيقة، فينكشف زيف أسس الطغيان.
الرؤية الصحيحة تدرك ما يتيسر من الحقيقة، والرؤية المغشوشة الزائغة ترى الوهم متجسداً عنكبوتياً. وحين تزيغ الرؤية تبدو الأشياء على غير حقيقتها، وزيغ الرؤية ينتج عن الجهل فكلما تعمق الجهل كلما زاد الزيغ وتترجم إلى سلوكيات خاطئة. ولكل انسان رؤية يتصرف على أساسها، وتتباين الرؤى كالتباين بين السماء والأرض. وحالة الغفلة تجعل الانسان يرى أو يود أن يرى الأشياء متوافقة مع رؤيته وخلفيته هو، وإن كانت غير ذلك فيحاول أن يجعلها كذلك بشتى الوسائل وكلما اقتربت صورة الأشياء من الصورة التي يودها كلما شعر بسعادة.
بالعقل نقول إن سلامة الرؤية شرط لسلامة الحركة، ولذلك فضعف البصيرة يوجب شدة الحذر، لا الاندفاع الأحمق، لكن كيف تجتمع سلامة العقل وضعف البصيرة؟ لا يجتمعان، وكذلك ضعف العقل وسلامة الرؤية لا يجتمعان. الإنسان في تحريك جوارحه وفي كل نشاطاته المادية في الحياة يتجه نحو المستقبل مجبراً حتى ولو كان فكره مجذوباً للوراء، لأن الزمن محكوم بأمر الله واللحظة التي تمر لا تعود أبداً، إلى يوم القيامة، لذلك فالانسان أحوج ما يكون للرؤية السليمة لما أمامه، لمستقبله، للمحصلة النهائية التي لن تقبل التعديل ولا التصحيح.
الرؤية ليست ثابتة بل تتبدل وتتطور بتطور معلومات الانسان. ورؤية الأشياء غير الحكم عليها، فالرؤية هي أساس الحكم الحسن النية. وبما أن الرؤية تتطور بالمعلومات فيمكن للحكم المبنى عليها أن يتغير أيضاً. ويمكن أن توجد الرؤية، كأساس للحكم في مسألة ما، دون أن يبنى عليها حكم فوري، فلا داعي لإصدار الأحكام دون ضرورة، فالرؤية في حد ذاتها نشاط عقلي مطلوب، لكن الحُكم لا يُطلب دائماً. والتأني يتيح الفرصة لمزيد من وضوح الرؤية وبالتالي سلامة الحكم فقط حين يلزم، فالانسان لا يحاسب على رؤيته، لأنها أمر داخلي ولكن يحاسب على ما يبنى عليها من أحكام وأفعال. رؤية العاقل خاصة به (لنفسه)، أما الحكم فقد يمس الغير، فالحذر الحذر من التسرع في إصدار الأحكام.
ـ الشيطان وحساسية الرؤية:
ما هو الحال حين يكون للشيطان نوع من الوجود في عقولنا، أو حين يحتل الشيطان العقل! عندئذ تكون الرؤية بعيون الشيطان وتصبح التوجهات نحو ما يريد والسلوكيات تلبي رغباته هو، وأعمالنا طاعة لأوامره غير المباشرة، ونحسب أننا نطيع عقولنا ولكن الحقيقة ليست كلها كذلك.
الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق، كما جاء في الحديث الشريف، ولا يكف عن الوسوسة، حتى أثناء النوم يوسوس، فقط عند ذكر الله يخنس، وبعد ذلك يعود لممارسة نشاطه ولا نعرف متى يتعب أو يستريح، ولا نحسب أنه يتركنا ما دامت الروح فينا. والشيطان لا نعرف له جوارح، لأن طبيعة تكوينه لا ترى لعيوننا، ولم نتأكد من أن شيطاناً قطع طريقاً بيديه، أو أسال دماً بسكينه، أو ألقى قنبلة على مصنع، أو نفث سموماً لوثت البيئة، ولكن الشيطان من خلال عقول أعوانه من البشر يحرك جوارحهم لتفعل ما يريد من تضليل وإفساد.
ولنتأمل بعض الجمل التلقائية التي تتداولها كل الألسنة مروراً بكل العقول في اللحظة انتفاضة عقلية (ندم) دون أن نتدبر ما وراءها! مثل:
هذا تصرف غير إنساني!
إنني لا أعرف كيف أقدمت على هذا الفعل!
أين كان عقلي حين فعلت ذلك!
هذا السلوك غير مقبول ولا معقول!
هذا العمل يتنافى مع أبسط مبادئ الإنسانية!
مثل هذه العبارات تشير إلى مُحرض خفي وراء الأعمال الشاذة التي تتنافى مع منطق العقل الانساني، ولا يعقل أن يكون المحرض جماداً أو نباتاً أو حيواناً، والانسانية تتبرأ منه، إذن فمن يكون المحرض غير الشيطان الذي يعيث فساداً في العقول الغافلة عن ذكر الله!
هناك عوامل وظروف تساعد الشيطان على افتراس العقل البشري، لأنه يكون في حالة غفلة أو ضعف أو عدم توازن، ويذكر من هذه العوامل ما يلي:
ـ الجهل وسوء الظن بالله البعد عنه.
ـ وفرة وسائل الترف والرفاهية واتباع الشهوات، فيركن العقل للكسل والخمول.
ـ شدة المرض وآلامه، مما يضيق الخلق ويضعف التحمل وينهك المخ.
وكم من البؤساء ـ الذين غرقوا في بحار الجهل والغفلة ـ كفروا في لحظات الاحتضار وخرجوا من الدنيا سود الوجوه، خاسرين أنفسهم وأموالهم وأهليهم، تشيعهم شماتة إبليس.
إن الثانية التي تمر من عمر الكون لا تعود أبداً، ولا يوجد لحظتان في عمر الكون متماثلتان إطلاقاً، فكل لحظة فريدة بظروفها ومكوناتها وخلائقها. والدور الفطري للعقل هو إدارة الكيان البشري وتوجيهه في كل لحظة حسب الظروف التي لا تكف عن التجدد، ففي كل وقت يلزم ضبط اتجاه الحركة نحو الغاية، ومراجعة معدلاتها في حدود الطاقة. ونظراً للتبدل المستمر للظروف والأحوال، فيجب يقظة العقل باستمرار، للتأكد من سلامة الرؤية أولاً، ثم ضبط مؤشرات الحركة ثانياً. فأي نتائج نتوقع إن تمكن إبليس من المشاركة في تشكيل الرؤية! الحذر الحذر، يا أولي الأبصار.