إنَّ لحاظ كل جهاز بسيط أو معقد (كقلم أو عقل الكتروني) يدلنا على أنَّ صانعه عالم بما يسود ذلك الجهاز من القوانين و العلاقات.
كما تدل دائرة معارف ضخمة على علم مؤلفيها و جامعيها بما فيها.
و بعبارة أخرى : إنَّ وجود المعلول كما يدل على وجود العلة ، فخصوصياته تدل على خصوصية في علته ، فالعالَم بما أنه مخلوق لله سبحانه يدل ما فيه من بديع الخلق و دقيق التركيب على أنَّ خالقَه عالمٌ بما خلق ، عليم بما صنع. فالخصوصيات المكنونة في المخلوق ترشدنا إلى صفات صانعه.
و قد وقع هذا البرهان موضع عناية عند المتفكرين. فإِنَّ المصنوع يدلّ من جهة الترتيب الذي في اجزائه أي كون صنع بعضها من أجل بعض ، و من جهة موافقة جميعها للغرض المقصود من ذلك المصنوع ، على أنَّه لم يحدث عن فاعل غير عالم بتلك الخصوصيات ، بل حدث عن صانع رتب ما قبل الغاية ، فيجب أنْ يكون عالماً به.
و الإِنسان إذا نظر إلى بيت و أدرك أنَّ الأساس قد صُنع من أجل الحائط و أنَّ الحائط من أجل السقف ، يتبين له أنَّ البيت قد وُجِدَ عن عالِم بصناعة البناء.
و الحاصل ، أنَّ المصنوع بما فيه من إتقان ودقة و نظام بديع و مقادير معينة و مضبوطة يحكي عن أنّ صانِعَه مطّلع على هذه القوانين و الرموز ، عارف بما يتطلبه ذلك المصنوع من مقادير و أنظمة.
و من هنا يشهد الكون ابتداءً من الذرة الدقيقة و انتهاء إلى المجرة الهائلة ، و من الخلية الصغيرة إلى أكبر نجم ، بما يسوده من أنظمة و تخطيطات بالغة الدقة ، على أنَّ خالق الكون عالم بكل ما فيه من أسرار و قوانين و أن من المستحيل أن يكون جاهلا.
و قد أشار القرآن الكريم إلى هذا الدليل بقوله : ( أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (1).
و قال تعالى : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الاِْنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ) (2).
و قال الإِمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) : « عَلِمَ ما يَمْضِي و ما مَضَى ، مُبْتَدِعُ الخلائِقِ بِعِلْمِه و مُنْشِؤُوها بِحِكْمَتِه » (3).
و قال الإِمام علي بن موسى الرضا ( عليه السَّلام ) : « سبحان من خَلَقَ الخَلْقَ بِقُدْرتِه ، أتقَنَ ما خَلَق بِحِكْمَتِه وَ وَضَعَ كُلَّ شيء موضِعَهُ بِعِلْمِه » (4).
و إلى هذا الدليل أشار المحقق الطوسي في تجريد الاعتقاد بقوله : « و الإِحكامُ دليلُ العِلْم ».
فإن قُلتَ : قد يصدر من بعض الحيوانات أفعال متقنة في ترتيب مساكنها و معيشتِها ، كما في النحل و النمل و كثير من الوحوش و الطيور ، مع أنها ليست من أولي العلم؟
قلتُ : إنَّ ما ذكرنا من أن الإِتقان في الفعل يدل على علم الفاعل قضيةٌ عقلية غيرُ قابلة للتخصيص ، و أما هذه الحيوانات فإن عملها بإِلهام من خالقها كما عليه النصوص القرآنية.
قال سبحانه : ( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِّقَوْم يَتَفَكَّرُونَ ) (5).
و ما ربما يقال من تفسير هذه الأفعال العجيبة بغرائز الحيوانات ، فلا ينافي ما ذكرنا. فإن الغرائز الصَّمَّاء لا تزيد عن كونها مادة عمياء لا تقدر على إيجاد شيء موزون إلاّ إذا كانت هناك قيادة عالية تسوقها إلى ما هو المطلوب منها.
و للتفسير مجال آخر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ سورة الملك : الآية 14.
2 ـ سورة ق : الآية 16.
3 ـ نهج البلاغة ، قسم الحكم ، 191.
4 ـ بحار الأنوار ج 4 ، ص 65.
5 ـ سورة النحل : الآيتان 68 ـ 69.
source : اهل بیت