عربي
Friday 29th of March 2024
0
نفر 0

اللغة والكلام وأثرهما في المدارس اللسانية

اللغة والكلام وأثرهما في المدارس اللسانية

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ والصلاةُ والسلامُ على أشرفِ خلقِ اللهِ أجمعينَ أبي القاسمِ محمّدٍ وعلى آلهِ الطيبينَ الطاهرينَ وأصحابهِ المُنتَجبينَ ومَن والاهُم أجمعينَ الى قيامِ يومِ الدينِ 0  وبعدُ :   هذا بحث وسم بـ ( اللغة والكلام وأثرهما في المدارس اللسانية) تحدثتُ  فيه أولاً عن اللغة والكلام عند فردينان دي سوسير ومن ثم انتقلتُ إلى علمــاء اللغة الآخريـن من أمثـال : بلومفيلد ، ونوام تشومسكي ، ويسبرسن ، وسابير ، وهلمسليف ، وشارل بالي ، وفندريس  وقد أعقبتْ ذلك خاتمة بأبرز النتائج تليها قائمة المصادر والمراجع التي اعتمدتها في هذا البحث .  وآخر دعوانا أن الحمدُ للـهِ رَبِّ العالميـن .    اللغة والكلام واللسان عند دي سوسير  يرى دي سوسير أن هناك كياناً عاماً يضم النشاط اللغوي الإنساني ، في صورة ثقافة منطوقة ، او مكتوبة ، معاصرة أو متوارثة ، وبعبارة أخرى كل ما يمكن أن يدخل في نطاق النشاط اللغوي من رمز صوتي أو كتابي أو إشارة أو اصطلاح ، فخص هذا الاصطلاح بكلمة اللغة . ثم انه ينظر إلى اللغة المعينة بطريقتين : فإما أن تكون في صورة منظمة ذات قواعد وقوانين ، وذات وجود اجتماعي فيطلق عليها اللسان ، وهي اللغة المعينة التي تتخذ موضوعاً للدراسة مثل العربية أو الانكليزية . وأمّا أن تكون في صورة ممارسة فردية منطوقة على أي مستوى أو بعبارة أخرى النشاط العضلي الصوتي الذي يقوم به الفرد الواحد ويطلق عليها بالكلام . أمّا اللسان فهو النموذج الاجتماعي الذي استقرت عليه اللغة أو هو السلوك السوي لأغلبية عظمى من أبناء الأمة الواحدة ، وذلك لان الفرد حينما يتكلم فانه ولا شك ينحرف قليلاً عن لسانه القومي . ونجد أن الفرد يحاول دائماً أن يكون لسانه قريباً من الفصحى لأنها النموذج المثالي الذي يسعى إليه الفرد , ونجد إن لسان امة من الأمم يشتمل على عدة لغات ، واللغة في حد ذاتها تتألف من كلام كل فرد ، فاللسان العربي مثلاً يتضمن عدة لغات وان كانت هذه لا تختلف إلا من حيث الجزئيات . وبناءً على هذا نقول ، إن الكلام واللغة كل منهم سابق للسان من حيث النشأة ، لان اللسان لا يستقر إلا بعد مضي أجيال ، فاللسان يتأثر بالكلام واللغة ويؤثر فيهما ، يتأثر بهما لأنه نتاج كل ما يصدر عن الأفراد من أقوال لأنه يتلقى رصيده من الأفراد والجماعات ويؤثر فيهما لان المتكلم يحاول دائماً أن يتقن أساليب التعبير ويقلّد البلغاء إلى أن تصبح لغته ملكة راسخة وأداة مطواعاً لفكره  . وصفوة القول إن " الكلام عمل واللغة حدود هذا العمل ، والكلام سلوك واللغة معايير هذا السلوك ، والكلام نشاط واللغة قواعد هذا النشاط ، والكلام حركة واللغة مظاهر هذه الحركة ، والكلام يحسن بالسمع نطقاً والبصر كتابة ، واللغة تفهم بالتأمل في الكلام  فالكلام هو المنطوق وهو المكتوب ، واللغة هي الموصوفة في كتب القواعد والمعاجم ونحوها ، والكلام قد يكون عملاً فردياً ولكن اللغة لا تكون إلا اجتماعية "  .   والخلاصة – كما يرى سوسير – إن الكلام لا يمكن دراسته دراسة علمية لأنه فردي ، والفردي يقوم على عنصر الاختيار ، وعنصر الاختيار لا يمكن التنبؤ به ، وما لا يمكن التنبؤ به لا يمكن دراسته دراسة علمية , واللغة كذلك لا تدرس بشكل علمي لأنها لا تمثل واقعة اجتماعية خالصة حيث إنها تخص الفرد وتخص الجماعة ، لم يبق إذن إلا اللسان فهو وحده الذي يمكن دراسته دراسة علمية لأنه موضوع محدد يتصف بالتجانس ولذا يمكن ملاحظته وتصنيفه ، وله بذلك مكان بارز بين الحقائق الإنسانية "      اللغة والكلام عند بلومفيلد  إن بلومفيلد في أمريكا يقع موقع سوسير في أوربا من حيث: الأهمية في التأثير وجدة الأفكار، وتنوعها ، وكثرة الأتباع والتلاميذ . وإن كان الثاني أسعد حظاً من صاحبه في الشهرة واتساع دائرة الأتباع والمريدين لا في الحقل اللغوي وحده، وإنما في دوائر علمية أخرى كالنقد الأدبي وعلم الأسلوب . وذلك لأنه كان أسبق زمناً وريادة في الابتكار والتجديد في الفكر اللغوي ، ولما اتسمت به أفكاره من عمق ومذاق جديد غير معهود آنذاك. وقد أفاد بلومفيلد من المعين السويسري؛ إذ تأثر به و أخذ عنه فكرتين مهمتين: الفكرة الأولى: النظرة السنكرونية في التعامل مع اللغة ، والأخرى: الفكرة البنيوية للغة في عموم معناها ، وهما نظرتان أو فكرتان متلازمتان في المنهج البنيوي في عمومه  ، فاستطاع أن يكوّن مدرسة أو منهجاً لغوياً واضحاً ومستقلاً هي منهج السلوكية أو مدرسة "بيل" ، وهو اسم الجامعة التي كان يعمل بها أستاذاً.  والبنيوية عند "بلومفيد" وأتباعه بنيوية من نوع خاص ، وهي في الوقت نفسه مبدأ من منظومة من المبادئ التي تكون منهجاً عاماً لا يمكن فهمه أو التعرف عليه بوجه مقبول إلا    علم اللغة بين التراث والمعاصرة / 29   بالنظر في جملة هذه المبادئ بصورة ما ،  فلقد  التزم بلومفيلد بالمنهج البنيوي الوصفي ولكن بطريقة خاصة أصبحت علما عليه وعلى مدرسته، ولعل اتصاله بعالم النفس السلوكي واطسن  – صاحب المنهج السلوكي الذي فضل استحداث المنهج السلوكي بوصفه ثورة على المنهج الذهني -  كان له أكبر الأثر في توجيه نظريته اللغوية على وفق تعاليم ومبادئ المذهب السلوكي ، وهو مذهب يرى أن اختلاف الناس يرجع إلى اختلاف البيئة التي يعيشون فيها وأن سلوكهم رهن هذه البيئة.   واللغة عند بلومفيلد وأتباعه من السلوكيين ليست إلا نوعاً من الاستجابات الصوتية لحدث معين ؛ فالإنسان يسمع جملة معينة ، أو يرى شيئاً ، أو يشعر بشعور فيتولد عن ذلك استجابة كلامية ، دون أن ترتبط هذه الاستجابة بأي صورة من صور التفكير العقلي ، والإنسان في هذا يشبه الآلة أو الحيوان . ولعل أهم ما تميزت به مدرسة بلومفيلد اللغوية، هي أنها كانت تنظر إلى اللغة على أنها (مادة) قابلة للملاحظة المباشرة، وصالحة للقياس الاعتيادي، وترفض أي منحى من الدرس يقوم على النظر العقلي، أو التأمل الذهني. ومن هنا ثبتت هذه المدرسة الاتجاه الذي يقوم على تحليل شكل اللغة، دون دلالتها لان الشكل يقع في نطاق الملاحظة المباشرة، أمّا المحتوى فخارج عن هذا النطاق.ومعنى ذلك أن اللغة عند بلومفيلد هي سلوك، بل هي ثمرة العمليات البيواجتماعية، وأنها لا تفهم إلا في ضوء ما يعرف بالمثيرات والاستجابات التي تحدث في البيئة التي تحيط بأي كائن حي، وتنطبق على سلوك كل فرد حي بدءاً بالاميبا وانتهاء بالإنسان.وقد أدّتْ مقولة بلومفيلد هذه إلى أن يقرر إنّ الحدث الكلامي هو حلقة في سلسلة عمليات هي:   * أحداث عملية سابقة للحدث الكلامي.  * الحدث الكلامي .  * أحداث عملية لاحقة للحدث الكلامي.ولا شك في أن عمل اللغوي يقتصر من هذه السلسلة من العمليات على الحدث الكلامي الذي هو محصلة لظواهر فسلجية وفيزيائية ولذا لا يرى اللغوي بُداً من الاستعانة على عمله بجملة علوم كالتشريح وعلم الفيزياء.ونتيجة لفهم بلومفيلد لطبيعة اللغة ووظيفتها شاع في الدرس اللغوي أن المدرسة السلوكية ترفض دراسة المعنى، أو البحث في الدلالة، لأنها اقتصرتْ في دراسة اللغة على تحليل الجانب الشكلي، الذي يتمثل في الصوت والبنية، والحقيقة أن بلومفيلد لم يرفض دراسة المعنى، ولكنه كان يرى انه قد يعوق الوصول إلى القوانين العامة التي تحكم السلوك اللغوي، وكان يرى أيضاً إن دراسة المعنى تحتاج إلى ألوان من المعرفة لا تزال الإنسانية غير متوفرة عليه.فالذي ميز مدرسة بلومفيلد إذن، أنها تدعو إلى المذهب الشكلي الآلي في دراسة اللغة، وتنأى عن الاتجاه العقلي أو التأملي في دراستها، وتستعيض من التعريفات العقلية والملاحظات التأملية، بدراسة العناصر اللغوية، ومعرفة طبيعة سلوكها، وما يعرض لها داخل البنية اللغوية، وذلك بملاحظة ما تشغله من مواقع، وما تؤديه من وظائف في الكلام .    اللغة والكلام نوام تشومسكي   يعد تشومسكي مؤسس المدرسة التوليدية التحويلية والتي كانت رد فعل للمدرسة السلوكية التي ترفض الجانب العقلي التأملي في دراسة اللغة وتقتصر على دراسة الشكل، وتحليل عناصر الكلام.لقد مزجت مدرسة تشومسكي أصولاً ومبادئ لغوية بأصول ومبادئ غير لغوية، منها الفلسفية والنفسية والفسلجية والاجتماعية والرياضية، ولذا يمكن القول إنّ هذه النظرية ثمرة اطلاع واسع وعميق على الفكر الإنساني اللغوي.لقد انطلق تشومسكي في نظريته من مقولة تقرر إن للغة صلة وطيدة بتركيب العقل الإنساني، وان ثمة خصائص لغوية عامة تجمع بين كل اللغات، مما يعد دليلاً قوياً على أن هذا الجانب من النشاط الإنساني ذو طبيعة واحدة لدى جميع البشر، بغض النظر عن الأصل العرقي أو الطبقة الاجتماعية أو الفروق الشخصية.لقد تأثر تشومسكي بنظريته هذه إلى اللغة بآراء الفلاسفة واللغويين العقلانيين، أمثال ديكارت وهمبولدت، ورد بها على آراء بلومفيلد الذي كان يتعامل مع الإنسان كأنه حيوان أو آلة، وان الحدث اللغوي ما هو إلا استجابة لمثير، ومن ثم اقتصر في دراسة اللغة على التحليل الشكلي، ورصد العناصر اللغوية وملاحظة سلوكها.لقد أغفل بلومفيلد قوى أعمق، وابعد اثراً، تقف وراء الحدث اللغوي، وتتمثل في العقل، الذي يمنح الإنسان القدرة الإبداعية، التي تجعله قادراً على إنتاج عدد غير محدود من الجمل التي لم تطرق سمعه، ولم ينطق بها احد قبله، ثم فهمها.       فتشومسكي إذن اظهر في نظريته أن الإنسان ينفرد عن الكائنات الأخرى بأن له وسيلة اتصال غير غريزية، تتجلى في اللغة، وانه يتميز بالقدرة الإبداعية، التي تجعل لغته غير محدودة وأما نظم الاتصال عند الكائنات الأخرى، فهي محدودة ومغلقة لا تنتج إلا عدداً ضئيلاً من الرسائل اللغوية، ذات الدلالات المحدودة. إنّ أهم ما يميز تشومسكي إذن، هو انه لغوي عقلي يرى إن للعقل أثراً في إنتاج الكلام وفهمه .         وقد قسّم تشومسكي الكلام الإنساني على جانبين : الأول : ما ينطق به الإنسان فعلاً وقد سماه البنية السطحية للكلام . الثاني : هو ما يجري في أعماق الإنسان ساعة التكلم فيدفعه إلى تفضيل هذه الصيغة أو ذلك التركيب وسماه البنية العميقة للكلام ، ومعنى ذلك أن اللغة التي ننطق بها فعلاً إنما تكون تحتها عمليات عقلية عميقة ، ودراسة بنية السطح تقدم التفسير الصوتي للغة ، أمّا دراسة بنية العمق فتقدم التفسير الدلالي لها .     ونستطيع أن نحدد منهج تشومسكي الالسني بالآتي :
 1-   إن لغة الإنسان لغة متميزة عن سائر التنظيمات الاتصالية الحيوانية والآلية .
 2-   إن لغة الإنسان لغة تجددية إبداعية وليست تقليداً ولا تكراراً لما سبق ولا هي نتاج مؤثر واستجابة كما هو مذهب السلوكيين بل تتصف بالإبداع والتوليد غير المتناهي
 3-   الاستعمال اللغوي يرتبط بظروف المتكلم وينسجم مع هذه الظروف وهذا الانسجام هو مظهر مميز للغة الإنسانية عن سائر أنظمة التعبير والاتصال وهذا الأمر يتنافى مع سيطرة المثيرات الخارجية التي تقول بها المدرسة السلوكية .
 4-   التمييز بين الكفاية اللغوية والأداء الكلامي ، والمعروف أن الكفاية اللغوية هي القدرة على إنتاج الجمل وتفهمها ، وتعني الارتباط الوثيق بقواعد اللغة والربط بين الأصوات اللغوية والمعاني وملاءمة هذا الربط لقواعد اللغة دون الخروج عنها .      أمّا الأداء فهو التطبيق العملي لهذه القواعد وتنفيذها في صياغة الكلام وادائه بشكل منطوق ، والأداء هو كيفية الاستعمال الآني للغة ضمن سياق معين ، وفي الأداء الكلامي   يعود متكلم اللغة – بصورة طبيعية إلى القواد الكامنة ضمن الكفاية اللغوية كلما استعمل اللغة في مختلف ظروف التكلم فالكفاية اللغوية – بالتالي هي التي تقود عملية الأداء الكلامي .     اللغة والكلام واللسان يسبرسن    تصدّى العالم الدانماركي لآراء سوسير فلم يرتض قوله إن الكلام من نتاج الأفراد ، وان اللسان من نتاج المجتمع ، بل ذهب إلى أن الكلام واللسان " هما في حقيقة الأمر جانبان لشيء واحد وكلام الفرد ليس شيئاً منفصلاً عن لغة الجماعة ، انه مثل أو صورة لها , فالكلام وإن كان نشاطاً فردياً إلا انه يرتبط بعنصر اجتماعي هو الإفهام , ومفردات اللسان المعين هي جميع ما ينطق به كل أفراده من ألفاظ مهما اختلفت درجة شيوعها ، والأمر كذلك بالنسبة للتراكيب ومخارج الحروف "  .   فالعلاقة بين " اللسان والكلام – كما يرى يسبرسن – شبيهة بعلاقة النوع بالفرد ، فكل ( خروف ) يختلف عن كل ( خروف ) آخر ، وبالرغم من ذلك نستطيع أن نتصور معنى عاماً مشتركاً بين جميع ( الخراف ) نطلق عليها كلمة ( خروف ) , والخروف بالمعنى المطلق ليس له وجود في عالم الواقع وإنما هو أمر ذهني ، وكذلك اللسان بالنسبة للكلام , فالموجود فعلاً هو النشاط الإنساني الذي يقوم به فرد أو أفراد "    وقد جاء يسبرسن بثلاثة تقسيمات فيه ثلاثة مصطلحات وهي :
 1-   الحدث اللغوي وهو نطق فرد معين بعبارة معينة مرة واحدة ، ولو أن الفرد نفسه كرر العبارة نفسها ، فان هذا يشكل حدثاً لغوياً جديداً ، لأنه لا يمكن أن تتشابه المواقف أو الدوافع للأحداث اللغوية في جميع تفصيلاتها .
 2-   لغة الفرد وهي القيم اللغوية الموجودة لدى فرد من الأفراد .
 3-   لغة الجماعة وهي مجموعة القيم اللغوية لدى أفراد الجماعة اللغوية الواحدة . ويفهم من ذلك " إن الواقع اللغوي يكون أحداثاً لغوية ، أمّا العلاقات والقواعد والأمور التجريدية فهي لغة وقد تكون اللغة فردية حين تكون هذه القواعد والعلاقات والتجريدات خاصة بفرد من الأفراد ، وقد تكون اللغة جماعية حين تكون هذه الأمور عامة تشمل الجماعة كلها " .     اللغة و الكلام عند العالم اللغوي سابير هو رائد البنيوية الأمريكية ومعلم الأجيال من علماء اللغة الأمريكيين وتلميذ من تلامذة (  بواز )، وكان واسع الثقافة له اهتمامات علمية وكثيرة ومتنوعة . ويبدو أنه قد بدأ دراسته للغة بعيدة عن أفكار سوسير ولكن فكرة النماذج اللغوية التي نادى بها لا تبعد كثيرا عن التفرقة التي وضعها سوسير بين اللغة والكلام .   وفكرة النماذج اللغوية هي أن كل إنسان يحمل في داخله الملامح الأساسية لنظام لغته.أي إن جميع النماذج الفعلية التي تقدمها اللغة لتأكيد عملية الاتصال ،هي نماذج ثابتة وهي الخليقة بالدراسة لأنها الأهم والأكثر حيوية في حياة اللغة. وذلك مقابل الاستخدام الفعلي للغة المتمثل في المادة اللغوية المنطوقة(2).   وفكرة النماذج اللغوية التي قصد بها سابير أن كل إنسان يحمل في داخله الملامح الأساسية لنظام لغته، أي ما تقدمه اللغة من نماذج ثابتة، تتم بها عملية الاتصال في محيطه، ويقابل هذه النماذج الثابتة، ما يمارسه الإنسان من استخدام فعلي للغة، يتمثل في الحدث الكلامي المنطوق، ولا شك في أن تشومسكي قد أفاد من فكرة سابير هذه، فيما اسماه (القدرة اللغوية) في مقابل ( الأداء اللغوي ) .ومن مقولات سابير المهمة ما قرره من علاقة وثيقة بين ثقافة شعب ما ولغته، فالثقافة عند سابير تعني التصورات والمفاهيم والعادات، التي تتألف منها نظرة ذلك الشعب إلى الحياة والى العالم الذي يحيط به، ومعنى ذلك إن اللغة هي جزء من ثقافة الشعب، الذي يتكلم بها، بل هي إحدى مكونات تلك الثقافة.واللغة عند سابير نظام من الأصوات الإنسانية، وهي وسيلة الاتصال غير الغريزية التي يعبر بها الإنسان عن أفكاره ومشاعره وقد قادت مقولة سابير هذه التي تربط بين اللغة والثقافة، إلى تطور الدراسات الانثروبولوجية، والى إرساء مبادئ علم اللغة الاجتماعي.ومما تميز به فكر سابير اللغوي، زيادة على ما تقدم، ما وضع من تصور جديد (للفونيم)، خالف به تصور مدرسة (براغ)، بل أغناه، وزاده عمقاً ، فهو يرى إن (الفونيم) ذو جانبين:احدهما نفسي يتمثل بالصورة النموذجية التي يحملها الإنسان لكل صوت من أصوات لغته، والآخر الصورة الفعلية التي ينطق بها ابن اللغة ذلك الفونيم أو الصوت، محاكياً في نطقه ما وضعه من تصور نفسي للصوت، وواضح إنّ النموذج النفسي للصوت لا يتحقق عادة في الكلام الواقعي .   وذهب سابير إلى إن الكلام ظاهرة عادية جداً في الحياة اليومية حتى أننا لا نقف لنفكر في تعريفه ، وإنه ليبدأ طبيعياً للإنسان كما يبدو المشي – وهو اقل في طبيعته من التنفس فحسب – ومع ذلك فلا نحتاج إلا إلى لحظة من التأمل لنقتنع بأن الإحساس بالمظهر الطبيعي في الكلام ليس إلاّ إحساساً خادعاً , فعملية اكتساب الكلام تختلف عن تعلم المشي , وفي حالة المشي لا تظهر الثقافة على المسرح فللطفل عوامل مركبة تسمى الوراثة العضوية هي كل ما يحتاجه في التكييفات العضوية والعصبية التي نسميها المشي , والحقيقة أن الإنسان الطبيعي مقدر له أن يمشي لا لأن الكبار سيساعد منه على أن يتعلم المشي ولكن لأن أعضاءه قد أعدت لذلك  .   ولكن اللغة ليست كذلك , وباعتبار معنى خاص يمكن القول بأن الإنسان مقدر له كذلك أن يتكلم ، ولكن هذا يتوقف تماماً على الظروف التي يولد فيها لا من ناحية الطبيعة فحسب ، ولكن من ناحية المجتمع الذي سيقوده في طريق التقاليد العامة , فإذا نفينا المجتمع من الصورة فسوف يتعلم الإنسان المشي ، إن عاش ولكنه سوف لا يتعلم الكلام أبداً , فإذا أخذت المولود من مجتمعه إلى مجتمع آخر فسوف يتعلم المشي ، كما كان سيتعلم في مجتمعه الأول ، ولكنه سيتكلم لغة المجتمع الثاني الذي نشأ فيه , فالكلام نشاط إنساني يختلف إلى غير حد بحسب انتقالنا من مجتمع إلى مجتمع لأنه وراثة تاريخية للجماعة ، ونتيجة من نتائج الاستعمال الجماعي المستمر في العصور الطويلة , وهو يختلف كما تختلف كل المجهودات الخالقة ، وربما لا يكون ذلك بنفس الدرجة من الوعي ، ولكن على أي حال بنفس الدرجة من الحقيقة ، كما في الأديان والمعتقدات والعادات والفنون في الشعوب المختلفة 0 وإذا كان المشي وظيفة عضوية غرزية للشخص فإن الكلام وظيفة مكتسبة ثقافية غير غرزية .      اللغة والكلام عند العالم اللغوي هلمسليف هلمسليف هو مؤسس مدرسة كوبنهاجن ( 1899 – 1965) اهتم باللغة لا بالكلام ، ونظر إليها على أنها بنية أو هيكل أو نظام ، وأن اللغة هدف لذاتها وليست وسيلة ، وهي نظام مغلق منعزل عن العوامل الخارجية الاجتماعية والثقافية والأدبية، والتاريخية. وأنّ الوظيفة الأساسية للغويّ – عنده -  هي أن يضع نظاماً تجريدياً لفهم اللغة ، وإنما يتم له ذلك بالنظر إلى اللغة على أنها عملية رمزية تدخل في إطار علم الرموز. وهو يأخذ الوظيفة في الحسبان ، ويعنى بها الدور الذي يلعبه العنصر اللغوي  (وحدة صوتية – وحدة صرفية – كلمة – تركيب ) في البنية النحوية للتعبير ، فكل عضو أو عنصر في الجملة له قيمة في تشكيل المعنى العام للجملة .والفرق بينة وبين سوسير معني أولاً و أخيراً باللغة المعينة ، فهذا هلمسليف يحاول دراسة اللغة بالمعنى العام دون النظر إلى خصائص اللغة المعنية ؛ فاللغات عنده تشترك في بعض النقاط ، وعلى الدارسين والباحثين البحث عن هذه النقاط .     اللغة والكلام عند العالم اللغوي شارل بالي يرى شارل بالي وهو احد تلاميذ دي سوسير أن أستاذه قد بالغ في إعطاء اللغة كل هذه الصبغة الذهنية بجعلها نتيجة الحكمة الجمعية , ويضغط على فكرة اللغة العاطفية وفي رأيه أن هناك صراعاً دائماً بين كلام الأفراد وبين النظام اللغوي الذي لا يمكن أن يرضي الجميع , فاللغة المنظمة العادية الثقافية تكفي الرغبة في نقل الأفكار وفهمها ؛ ولكن الكلام من ناحية أخرى يقف في خدمة الحياة العملية ؛ فأما ما يعبر الكلام عنه فهو الإحساس والرغبة والعمل ، وإنتاج الكلام عاطفي ذاتي في الغالب , وفي هذه الحرب الحضارية بين الكلام واللغة ينجح الكلام دائماً في إدخال بعض جنوده في القلعة المحاصرة ؛ هذه الجنود هي الكلمات أو الصيغ المتحدثة بالعاطفة .      اللغة والكلام عند العالم فندريس ذهب فندريس إلى أن اعم تعريف للغة هو أنها نظام من العلامات ويقصد بالعلامات هذه الرموز التي تستخدم في خلق اتصال بين شخص وآخر ، وما دامت أنواع هذه الرموز متعددة فمن الواضح أن هناك لغات متعددة ، فكل حاسة يمكن أن تستخدم في خلق لغة ما ، فهناك لغة للشم ولغة للمس وأخرى للسمع وأخيرة للبصر ، ولكن أهم لغة هي لغة السمع التي ربما تساعدها أحياناً لغة بصرية هي الإشارات باليد والوجه ، واغلب اللغات البصرية المستعملة الآن مشتقة من اللغة السمعية ، وهذا يصدق على الكتابة ، ونظم الإشارة المختلفة , ولا تصبح اللغة حقيقة اجتماعية إلاّ إذا كان العقل الإنساني نامياً ليستخدمها , واصل اللغة من الناحية النفسية يتلخص في خلق قيمة للرموز ، وهذا ما يفرق بين لغة الإنسان ولغة الحيوان . والعلم الذي يدرس الكلام في اللغة ( علم الأصوات ) يمكن أن يدرس ثلاث جهات من نشاطه ، عملية إنتاج الصوت ، ثم انتقاله بين المتكلم والسامع ، ثم سماعه .  والإنتاج والسماع متساويان من ناحية الأهمية للغة ، لان اللغة إذا قدر لها أن توجد فلا بد لها له من شخصين متصلين على الأقل , ولا بد أن يقصد بالكلمة أن تكون مسموعة ، ويلعب السماع دوراً هاماً في تغيرات اللغة ، وبواسطة الأذن يحصل كل متكلم على عاداته النطقية ، ولكن من الناحية النظرية لا نستطيع أن نعطي السماع مكاناً هاماً في الدراسات اللغوية , ومن ثم أصبح علم الأصوات مقصوراً زمناً طويلاً على إنتاج الكلام . ولا يضيف فندريس كثيراً إلى نظرية الكلام ، وإنما يشرح الوسائل والأجهزة التي تساعد على إنتاجه ، وأما نظرته إلى اللغة فهي في نطاق نظرة المدرسة الفرنسية التي على رأسها دي سوسير ، وهو يتبع بالي في التفريق بين اللغة العقلية واللغة العاطفية . فعنده إن " الفرق الأساسي بين اللغة العاطفية واللغة العقلية إنما يتضح في تركيب الجملة ؛ وهذا الفرق يبدو جلياً حين نقارن لغة الكتابة بلغة الكلام " (2) .     الخاتمـة وأخيراً فهذه كانت ابرز آراء العلماء اللغويين في مجال تفريقهم بين اللغة والكلام ومن ابرز النتائج التي توصلت إليها الآتي :
1- مرحلة دي سوسير والأوروبيين في عمومهم ، كان جل اهتمامهم باللغة لا بالكلام ، وبيان العلاقات الداخلية بين وحدات الجملة ، تلك العلاقات التي تعد النواة للمعنى التام للجملة .
2-  أهم ملامح البنيوية الأمريكية أنها أهملت دراسة المعنى ؛ وذلك لأنه موضوع لعلم آخر كعلم النفس، فلكي نفهم المعنى علينا الوقوف على حالات الكلام والأحداث السابقة واللاحقة ، وهذا ليس من اختصاص اللغوي بل اختصاص علوم أخرى، لذلك يجب تنحية المعنى في الدرس اللغويّ.
 3-  المناداة بوجوب إتباع إجراءات الاستكشاف ، ووضع قواعد الإجراءات ، وهي إجراءات آلية تعتمد على اللغة في بدايتها وانتهائها فمن اللغة نبدأ وإلى اللغة ننتهي.
 4-  طرح الأشياء الذهنية التجريدية والتركيز على الأشياء المادية في الدراسات اللغوية ؛ وذلك لإفضاء العلمية و الموضوعية على الدراسات اللسانية ، لأنّ إقحام الذهن من شأنه أن يعوق الدراسة الوصفية الموضوعية ، لأنها لا تتعامل مع أشياء محسوسة يتحكم بها بشكل منضبط عند الجميع ، لذلك طرح كل ما يمت إلى الذهنية والدعوة لدراسة اللغة كدراسة الكيمياء والفيزياء .
5- قوام المعنى عند بلومفيلد علاقة بين مثير واستجابة فقط، دون أبعاد أخرى ، فاللغة سطح لا عمق له. 6- بنيوية بلومفيلد وأتباعه الخلص تهتم بالكلام لا باللغة، وتحصر عملها في البنية السطحية على أساس من النظر الشكلي ، دون الاهتمام بالمعنى.
 7- هوجمت مدرسة بلومفيلد بأنها  نظرت إلى المكونات المباشرة للغة وتغافلت عن البنية العميقة لها. وفي هذا عجز عن بيان حقيقة الشيء،  فكيف بنا معرفة حقائق اللغة والوصول إلى البنية العميقة في الإنسان ، التي هي تمدّه بالزاد من الجمل والعبارات.
 8-  اكتفت بوصف المكونات المباشرة ، وهذا لا يمكّنه من أن يقعد للغة أو العينة التي تحت الدراسة.
 9-  عدم استطاعتها تحليل كل أنواع الجمل ، فالجمل قد تطول وتتعقد العلاقات بين مكوناتها.    
 10 – العالم يسبرسن لم يبتعد كثيراً عن سوسير فكلاهما أكّد أنَّ الذي يدرس في علم اللغة هو ما يمثل الجماعة لا ما هو فردي خالص ، وقد أشار سوسير فيما مرّ إلى أن اللغة هي اللسان بعد أن نطرح منه الكلام ويُفهم من هذا أن موضوع علم اللغة هو الأحداث اللغوية التي تمثل الجماعة لا الأحداث اللغوية التي تمثل الفرد .
 11- اهتم  هلمسليف باللغة لا بالكلام ، ونظر إليها على أنها بنية أو هيكل أو نظام ، وأن لها  هدفا لذاتها وليست وسيلة .

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

علماء السنة يجيزون لعن يزيد بن معاوية
آية اليوم يئس الذين ومسألة الإمام
العقل والروح مسيرة إحيائية واحدة
اليوم الآخر في القرآن الكريم
الرعية في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك ...
بغض بعض الصحابة لعلي(عليه السلام)
هل ان عيسی عليه السلام ابن الله جل وعلا
كيف يجزى الانسان بثار عمله في الدنيا
المعاد (1)
الامام علي (ع ) يرفض المبايعة على سيرة الشيخين :

 
user comment