هذه قصّة سكرة الموت، ونزع الروح، ونهاية الجسد، بنهاية العمر، لذلك ألا يجدر بهذا الإنسان الذي يسعى ليبقى في راحة، والذي يخاف من هذه اللحظات التي لا مفرّ منها، أن يعمل لكي يهوّن منها، ولا تمرّ عليه صعبة ثقيلة كما وصفها أمير المؤمنين؟
وكما حذّرت الروايات من شدّة هذه اللحظات على الإنسان، فقد وردت الروايات ببيان سُبُل الخلاص أو التخفيف منها، لكي لا يعيشها الإنسان صعبة وثقيلة، ومن هذه السبل برّ الوالدين.
فقد ورد عن الإمام عليّ عليه السلام: "البارّ يطير مع الكرام البررة، وإنّ ملكَ الموت يتبسّم في وجه البارّ، ويكلح في وجه العاقّ"1.
كما ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "من أحبَّ أن يخفِّف الله عزّ وجلّ عنه سكرات الموت، فليكن لقرابته وصولاً وبوالديه بارّاً، فإذا كان كذلك هوّن الله عزّ وجلّ عليه سكرات الموت، ولم يصبه في حياته فقرٌ أبداً"2.
قصّة وعبرة
عن أبي عبد الله عليه السلام: "أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حضر شابّاً عند وفاته، فقال له صلى الله عليه وآله وسلم: قل: لا إله إلا الله.
قال: فاعتقل لسانه مراراً، فقال لامرأةٍ عند رأسه: هل لهذا أمّ؟
قالت: نعم أنا أمّه.
قال: أفساخطة أنت عليه؟
قالت: نعم، ما كلّمتُه منذ ستّ حجج.
قال لها: آرضِ عنه.
قالت: رضي الله عنه برضاك يا رسول الله.
فقال: له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قل لا إله إلا الله.
قال: فقالها. فقال النبيّّ صلى الله عليه وآله وسلم: ما ترى؟
فقال: أرى رجلاً أسودَ قبيحَ المنظر، وسخ الثياب، منتن الريح، قد وليني الساعة، فأخذ بكظمي.
فقال له النبيّّ صلى الله عليه وآله وسلم: قل "يا من يقبل اليسير ويعفو عن الكثير، اقبل منّي اليسير واعفُ عنّي الكثير، إنك أنت الغفور الرحيم" فقالها الشاب.
فقال له النبيّّ صلى الله عليه وآله وسلم: انظر ما ترى؟
قال: أرى رجلاً أبيض اللون، حسن الوجه، طيب الريح حسن الثياب، قد وليني، وأرى الأسودَ قد تولّى عنّي.
قال صلى الله عليه وآله وسلم: أعد، فأعاد.
قال: ما ترى؟
قال: لست أرى الأسود، وأرى الأبيض قد وليني، ثمّ طفي على تلك الحال"3.
أنّ رحمة الله بعباده أوسع من أن يحيطها إدراك مخلوق، فقد فتح الله عزّ وجلّ بابَ الرحمة لعباده، حتّى بعد موت الوالدين، فبرّ الوالدين لا يختصّ بحياتهما، بل من لم يوفّق لبرّهما في حياتهما، أو كان عاقّاً لهما في حياتهما، فإنّ باب تدارك ذلك مفتوح أمامه، وذلك بأن يبرّهما بعد وفاتهما.
برّهما بعد الموت
قد يظنّ بعضٌ ممّن مات أحد والديه أو كلاهما، بأنّه لا يستطيع برّهما، ولا الاستفادة من هذا السبيل، وهذا يعني أنّ السبيل لتخفيف سكرة الموت قد انسدّ أمامه، ولا يستطيع بعد موتهما التخفيف عن نفسه من سكرة الموت. والحقّ أنّ رحمة الله بعباده أوسع من أن يحيطها إدراك مخلوق، فقد فتح الله عزّ وجلّ بابَ الرحمة لعباده، حتّى بعد موت الوالدين، فبرّ الوالدين لا يختصّ بحياتهما، بل من لم يوفّق لبرّهما في حياتهما، أو كان عاقّاً لهما في حياتهما، فإنّ باب تدارك ذلك مفتوح أمامه، وذلك بأن يبرّهما بعد وفاتهما.
ففي الرواية عن أبي جعفر عليه السلام قال: "إنّ العبد ليكون باراً بوالديه في حياتهما، ثمّ يموتان، فلا يقضي عنهما دينهما، ولا يستغفر لهما، فيكتبه الله عزّ وجلّ عاقّاً، وإنّه ليكون عاقّاً لهما في حياتهما، غير بارٍّ بهما، فإذا ماتا قضى دينهما واستغفر لهما، فيكتبه عزّ وجلّ باراً"4.
وعنه عليه السلام: "ما يمنع الرجل منكم أن يبرّ والديه حيَّين أو ميّتين، يصلّي عنهما، ويتصدّق عنهما، ويحجّ عنهما، ويصوم عنهما، فيكون الذي صنع لهما، وله مثل ذلك، فيزيده الله عزّ وجلّ ببرّه وصلته خيراً كثيراً"5.
ختام
فلنتأمّل كثيراً في سكرات الموت، والغصّة التي ستنتاب كلّ إنسانٍ، ولنسعى أن لا نعيش الغصّة والحسرة، ونهتمّ بآخرتنا والعمل لها، فلا نجمع لغيرنا، ولنسعى جاهدين أن تخفّف عنّا سكرة الموت، وتكون أهون علينا من النومة الهادئة بعد عناء طويل، ويكون اسئناسنا بالموت كاستيناس الطائر الشريد للعشّ المهجور، ونعمل على برّ الوالدين حيّين كانا أم ميّتين، بالصدقة أو الصلاة أو الصيام أو الحجّ عنهما، والله يضاعف الأجر للوالدين وللعامل أيضاً، ?وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ?6.حياة القلوب، سلسة الدروس الثقافية
------------------------------------------------
الهوامش:
1- مستدرك الوسائل - الميرزا النوري - ج 15 ص 176.
2- ميزان الحكمة - محمّدي الريشهري - ج 4 ص 2972.
3- بحار الأنوار - العلّامة المجلسيّ - ج 71 ص 75.
4- ميزان الحكمة - محمّدي الريشهري - ج 4 ص 3675.
5- م. ن. ج 4 ص 3675.
6- سورة البقرة: الآية 261.
source : تبیان